أسمى الأحوال عن التي تفيق كل ليلة لترى الليل.. عن فوزية السندي

الكاتب: سعد الياسري
21 أغسطس 2010

هتفَ (رامبو) بعد طوفانه الرؤيويّ المُلهَم: “لقد سالَ الدّمُ والحليبُ” (1). وكذا سأستعيرُ لسانَه وثنائيه؛ وأهتفُ بهما في وجه سابعِ جمراتِ الشّاعرة البحرينيّة (فوزيّة السّندي) أو ديوانِها السّابع (أسمى الأحوال)، حيثُ الّتسويقُ الماهرُ لجنّة الفرد حتّى وإنْ لاحَ (الآخرُ – الآخرون – الجماعة) بين طيّات النصّ مِرارًا بصيغة المخاطَب أو الغائب، وحيثُ الاشتغالُ الرّصينُ والأشدُّ وضوحًا على ثنائيّات تتلاقح مرّة وتتنافر أخرى؛ سأقف عند بعضها ما وسعني ذلك. هذا وقد صدر الدّيوان عام 2009 في 175 صفحةً من القطع المتوسّط عن (مؤسّسة الانتشار العربيّ (بيروت) بالاشتراك مع (وزارة الثّقافة والإعلام – البحرين). بين الشّعر والتّصوّف: منذ بدايات النصّ الشّعري الحديث – أعني قبل التنظير له أو فيه – وثمّة معركة يخوضها شعراء هذا النصّ للعثور على معنى الوجود الدّفين، معركة أسمتها النّاقدة الرّائدة (سوزان برنار) بـ (الطّموح الميتافيزيقيّ)، حيث الوعي بالماوراء واقتحام الأبواب الصّوفيّة التي تفصلنا عن المجهول سيعطيانِ للنصّ أبعادَه السّحريّة التي تصل به إلى القدرة على الحديث إلى الرّوح (2). وكما نرى فمنذ عنوان العمل (أسمى الأحوال) تتمّ إحالة القارئ إلى أجواء الرؤى والإشراقات الصّوفيّة.. أو أنّه – أي القارئ – سيفترض هكذا أجواء على أقلّ تقدير. حيث كلمة (الأحوال) ومفردها (حال) لها حضور وتأثير حاسمانِ في التّعبير الصّوفيّ؛ وتعني “كلّ ما يردُ على القلب دون تصنّع ولا اجتلاب”«3». والتي وردت مقترنةً بمصدر يفيد العلو والرّفعة (السّمو) الذي صيغَ على (أفعل) التفضيل (أسمى) ممّا لا يبقي مفرًّا من العبور حفاةً خفيفينَ على هذه الرّوح التي تتمدّد فوق الأوراق. نعم؛ لقد أحالتنا الشّاعرةُ – عبر العنوان – إلى أجواء العمل، إنّما خرجتْ بنا وأخرجتِ النصّ من سذاجاتِ التعبير الصّوفي المعتاد نحو جماليّات الشّعر الذي يشتغل مبدعُه على آلية ترضخ بكامل الأناقة إلى مبدأ (البحث) عن عنصر الإدهاش الأوّل والأهمّ على الإطلاق وإن لم يكن الوحيد؛ عن (لغة شِعريّة) بمفهومها المعاصر لا الإغريقي قطعًا (4). وبوسعي الإرشاد إلى بعض مظاهر هذا الاستعمالِ الصّوفيِّ غير المبتذل ولا المستهلك، والحريصِ قبل كلّ شيءٍ على نكهة الشّعر: «سمّهِ السّرَّ لأسميكَ السّراجَ» (صفحة 21). «لن أدركَ منتهاكَ مالم أدمني» (صفحة 67). «يا الله؛ امتحنّي بذخيرةِ قلبي» (صفحة 71). «أستحلفُ المستحيلَ؛ أن يراكَ ويعجزَ عنك” (صفحة 73). “مِشكاةٌ جموحةٌ أغرتني بما لم أقوَه» (صفحة 114). “غير الذي يراني أراهُ؛ غير الذي أراهُ يراني» (صفحة 123). «ثقْ بي؛ أيّها اللاّشيءُ.. فيكَ انطوى كلُّ شيءٍ» (صفحة 159). وغير ذلك الوفير ممّا لا يضيف حصره أكثر ممّا أبدينا وأوضحنا. اللّغةُ لأجل اللّغةِ أحيانًا: يرى (جوناثان كلر) وأنا معه فيما يرى؛ أنّ ثراء الأدب وقوّته يعتمدانِ على حقيقة أنّه ليس فعالية لتسلّق الجبال أو لعب الشطرنج حيث معايير النجاح والإخفاق واضحة، لذا فإنّ تقييمَه يبقى شخصيًّا ولا يخضع لتشريحٍ معياريٍّ من قبل منتحلي صفة الخبراء (5). وسأحاول – بعجالة – الدخولَ إلى تقييم اللّغة (الشّعريّة) من خلال فصلها عمّا قد يوحيه معمار (اللّغة) المحترفة؛ دون أن أنتحلَ صفة (خبير). تمتحُ الشّاعرةُ عبر هذا العمل الوقور من الثّراء الهائل للّغة العربيّة؛ إلى الحدّ الذي يغريها بخوض مغامرة (خطرة). ومكمن الخطورة – في تصوّري – أنّ الشّاعرة لا تخلق أو تحاول خلق الجديد فقط؛ بل أنّها تستخدمُ الشّعريّ واليوميّ والوحشيّ والمُهمَل والقاموسيّ مجتمعينَ، وتجتهد في أن تقولَ كلّ شيءٍ باستخدام كلّ شيءٍ تقريبًا.. لذا كان الكتاب – في تقديري – عبارة عن احتشاد لغويّ مسيّجٌ بالشّعر غالبًا ولكن ليس دائمًا، فيما تبقى الشّاعرة ناجحةً في تقديم لغة احترافيّة؛ حتّى حين يغيب الشّعر أو يتوارى قليلاً خلف أغراض فكريّة أخرى تستوجب اللّحظة تمريرها. وهنا سأوردُ مثاليْنِ سريعيْنِ مصداقًا على ما أدّعي من حيث استخدام اللّغة لأجل اللّغة واستخدام اللّغة لأجل الشّعر، وبجوارهما انطباعي: «حنكةُ الوردةِ؛ عطرُها الغريرُ» ـصفحة 24)؛ (لغةٌ وشعرٌ). «القشّ لا يعلّم الحقلَ؛ إنّما بقدرةِ القمحِ يتعلّم منه»

33) ؛ (لغةٌ). هكذا يمكن القياس على بعض مساحات العمل؛ ويبقى أنّ الفكرةَ برمّتها مجرّد انطباعٍ شخصيٍّ لحدود ما أراهُ شِعرًا. بين الحواسّ والحدوس:
أمّا (الحدوس) ومفردها (حدس) فهي «أدنى مراتب الكشف» (6). وها هي الشّاعرة تتقصّد إحالتنا إلى أجواء التّصوف مرّة أخرى؛ إنّما بطريقتها. فهذه الثّنائيّة المتناقضة ترد – كما أزعمُ – بشكلٍ غير عفويٍّ، أي تردُ كجزء من مُناخٍ أو فحوى يجب أن تعلق في ذهن القارئ. أمّا كيف جاز لنا القول بذا؛ فحين نستعرضُ بعض الأمثلة سيتكشّف للمتابعِ الحصيفِ علامَ بنينا زعمنا: الحواسّ: «تسربلتُ بهتفٍ يُلغي الحواسَّ» (صفحة 104). «من سبي الرّنين لتعطّلِ الحواسِّ» (صفحة 120). «خرسٌ أكيدٌ للحواسِّ» (صفحة 129). الحدوسُ: «آخر الجسد حدوس لا تتدارى» (صفحة 26). «حدوس اكتست بملامحَ خرّبت أعذارنا» (صفحة 150). «هطول السّياط لجرف أنّة الحدوس» (صفحة 155) . = إنّ «الحواسَّ» تأتي دومًا ملغاةً و معطّلةً بل وخرساءَ، فيما تجيءُ «الحدوسُ» واضحةً لا تتدارى وبملامح تخريبيّة، بل أنّ ثمّة مظاهر لها يجب إخمادها بالسّياط؛ حتّى وإنْ كانت على صهوة طليقة.. لا غير. نحن أمام نزوع عارمٍ إلى عالم الإيهام والتخيّل والافتراض ثمّ الشّك المريب.. الشّك الجميل، في مقابل التفريط بجوهر المدارك والتجربة المحسوسة ثمّ بالفكرة الماديّة برمّتها. بين النّور والعَتمة: خلافًا لـ (بورخيس) الذي يرى بأنّ الكلماتِ سحريّةٌ، وربّما كانت هناك لحظةٌ، كانت كلمة (نور) فيها تبدو ضياءً، وكلمة (ليل) ظلمة (7)؛ تقوم الشّاعرة بحشدِ اللّدوديْنِ معًا دون أن يعنيها المعنى القريبُ مطلقًا، حيثُ تعربُ عن علاقتها الوطيدة بكلٍّ منهما؛ إنّما تميّز واحدًا على آخرَ بدرجاتٍ.. فكأنّ الصوتَ الممسكَ بلجام القصيدة يريدُ القول: أنا الّليليُّ المحضُ! إنّ هذه الثّنائيّة واحدة من أمتع المقابلات التي تقصّدتُ إجراءَها يومًا؛ ولا أقولُ بقطعيّة صوابها ولكنّني أؤمن بمغزاها الأكيد والرّاسخ. لقد كنتُ – ومعي النصّ طبعًا – أمام نسفٍ كاملٍ لمعاني الكلمات المعتادة، حيث تمّتْ إعادة ترتيب اللّغة وفق لحظة (الإشراقة الشّعريّة)؛ تلك التي لا تعترفُ إلاّ بذاتها خالقة ومدمّرة في آن. وكي نفهمَ هذه الثّنائيّة.. علينا أن نطالعَ هذه الأمثلة: الأنوار: «ثياب النّور تُضني من يغشاها» (صفحة 20). «قنديلٌ خالٍ من اللّيل» (صفحة 22). «غير وميض ماضٍ.. تبدّد» (صفحة 63). “النّهار تكدّس بصحوهِ الشّقيّ” (صفحة 90). العَتمة: “أفيق كلّ ليلةٍ لأرى الليلَ” (صفحة 37). “اللّيلُ معي؛ أعرفه ولا أعرفني” (صفحة 70). “قبل أن يستنيرَ المساءُ” (صفحة 97). “نورٌ صافٍ؛ ما يُشبه اللّيل قبل الأوان (…) اللّيلةُ موغلةٌ في النّهار” (صفحة 148). في الواقع؛ نحن نلمسُ بأنّ “ثياب النّور” مُضنية. فيما يتمّ تدجينُ أحد أهم رموز النّور “القنديل” وجعله ابنًا أبكمَ في حضرة أبيه النّاطقِ: اللّيل. حتّى “الوميض” الـ كانَ يومًا.. ها هو قد تبدّدَ. أمّا “النّهار” فرغم إشراقته إلاّ أنّه ليس أكثر من “تكدّسٍ شقيٍّ”. وفي المقابل؛ نجدّ بأنّ صوتَ النصّ يهفو ويرفو ليطوي المسافة نحو لحظات العَتمة المُنيرة، تلك اللّحظات التي ينتظرها بصبرِ وشوق المريدينَ.. فثمّة من يفيقُ من نومه – هذا إنْ كان ينامُ باستغراقٍ أصلاً – ويحدّق في الحالِكِ، في الرّئيفِ الذي “نعرفه ولا نعرنا”، في الذي يشرقُ حتى لو كان مغزى فعلِه “مَغيبًا”. إنّه “النّور الصّافي” الذي يوغلُ في الشّقيّ.. أعني في “النّهار”. لذا علينا أن نفهم معنى أن يطلب هذا الصّوتُ وبجسارةٍ: “قُدني أيّها الأعمى!” (صفحة 22). تلميحات: أوّلاً: جاءتْ عناوينُ القصائد لافتةً ومحتفييه بذات الأجواء الرّوحيّة التي سادتْ غالب الدّيوان؛ كما نرى في: (تأبين المحبّة) (مسجد الجسد) (آماد) (جاهُ المسرّة) (مهاد) (حتوف الجرائر) (ابتهالات المحن) (شكايا اليقين) (مسرانا) (لها السرّ) (مِشكاة الكون). ثانيًا: بعضُ المقاطع والسّطور جاءَ كثيف المعنى والمبنى؛ راسخًا في أجواء الحكمة والتجرِبة الحياتيّة، محيلا أبدًا إلى المُطلق.. كما في: “معضلة المعرفة؛ تعاظم الدّليل دون يقين” (صفحة 24). “ما من حجر لم يسند القتلى بعدُ” (صفحة 116). “كلّ صمت داوٍ” (صفحة 117). “يئنّ كلّ بابٍ من غُصّة لا تزال” (صفحة 160). ثالثًا: ثمّة إيمانٌ واضحٌ بالشّعر وفعلِ الكتابة عمومًا؛ إنّها رسائل مُرّرتْ ضمن سياقاتها التي أثارت عنايتي.. كما في: “للشّعر قدرةٌ على التناهي” (صفحة 36). “قلمي: خشبة خلاصي” (صفحة 58). “كم كان الورق حديقة قلبينا” (صفحة 93). رابعًا: استعملتْ الشّاعرةُ صراحةً بعض الأسماء التي لها حضور هامّ (روحيّ أو أسطوريّ) في وعي البشريّة كـ (غاندي) و (شهرزاد) و(بنليوب)، وكان الاستعمال الرّمزيّ موفقًّا وخادمًا للمشهد بشكلٍ عامٍّ كما لمستُ. خاتمة: يرى (باشلار) ما روحه لا نصّه: أنّ الصّورة الشّعرية تنتمي إلى الكينونة، وأنّ الخيالَ هو ما يضعنا في قلب الطبيعة البشريّة، وأنّ الشّعر في إجماله ظواهريّة الرّوح لا الفكر، فيما تحليل كلّ هذا يخضعُ إلى طريقتنا في الإصغاء إلى العالم (8). وهذا تمامًا ما نجحتْ في فعلِه الشّاعرة (فوزيّة السّندي) حين أطلعتنا على كينونتها وفطرتها وقاسمتْنا أسرارها وعالم مخيالها وشاركتنا في محاولاتها لإدراك السرّ وما تهمسُ به الرّوح وما ينوءُ به الفكر. وهذا – أيضًا – ما اجتهدتُ أنْ أفعله أنا حين أخضعتُ كلّ تلك المعطياتِ إلى أدواتي وطريقتي في الإصغاء إلى العالم. يبقى أن أشيرَ بتجرّدٍ إلى أنّنا أمام كتابٍ يشعرُ المرء بامتنان بعد أن ينتهي من قراءتهِ. ثمّة حلم وخيال وواقع يستمدّ العمل مادّته البكر منها جميعًا، ليقومَ بطهوها على مِرجل يحلو للبعض – وأنا منهم – تسميته بـ (نموّ العلاقة)؛ وحين تنضجُ (طبخة النّص) ستخرج إلينا عاريةً من لعنة المفهوم وحرّةً إلاّ من سحرِ اللّحظة. هذا الكتاب أحد الأجوبة الممكنة على التّساؤل الخالد لـ (أنسي الحاج): “هل يمكنُ أن يخرجَ من النثر قصيدة؟” (9)، ونجيبُ: نعم يمكنُ.. جدًّا.

 

فوزية السندي

فوزية السندي

بقلم: عائشة حسين

كانت بدايتها مع كتابة الشعر عام 1957, ثم أخذت تنشره بين عامي 1979-1980, في الصحف المحلية والخليجية وبعض الصحف العربية, وكان أول ما عرف لها من شعر يتسم بالنضج قصيدتها “وطن يزهو في القلب” التي نشرت مع مقالة تحليلية للقصيدة في مجلة الأقلام ضمن مواد العدد الخاص بالأدب في البحرين والكويت.

أصدرت الشارة مجموعتها الشعرة الأولى “استفاقات” عام 1984, ثم أعقبتها عام 1986 بمجموعتها الثانية “هل أرى ما حلوي, هل أصف ماحدث”.

ويلاحظ على البينة الإيقاعية في مجموعة “استفاقات” ترددها بين قصيدة النثر وبنية التفعيلة ضمن القصيدة الواحدة..وهو تردد لم يسلم منه أي نص في المجموعة المذكورة, مما كان يعكس قلق تجربة الشاعرة, إجمالاً, وتأرجحها بين بنية ثابتة تحرص على تجاوزها وبنية وليدة تهفوا إلى بلوغها أو الهجس بها. وقد تجسد هذا القلق على مستوى المضمون الفني في إطار ما دعوناه في بحوثنا بظاهرة “الهم الإبداعي”, بحيث شكلت عناصر مثل (القافية والوزن والصرف وغيرها من عناصر الإبداع) مفردات ذات أهمية خاصة في مجموعة “استفاقات” إلى الحد الذي استغرق الشاعرة في كثير من الحالات مما جعل من هذا الهم الإبداعي نفسه موضوعاً لعدد من القصائد كما يبدو من عناوينها مثل “وقت للقصيدة” التي نجترئ منها المقطع الآتي للتدليل على هذه الظاهرة:

صرت في البرد

وأحدس كالطيف بألوان القوس

في نشوة التخيل أطرق خدر الفعل

كما للوقت ظلال السنديات

للهذيان رجرجة الأفق

أزين انطلاقة الجحيم في شكل يتداخل في ظلي

فأرى بياض السماء قواف تسرجني

في ملهاة النعش

أستفرد بهزيع الحقول-المفردة

ألازم إزميل الروح

لست ساهياً

أهدهد المناجل, تجري مثل دمي

تيممت بهدير اللغات

أرى الكلمات وأرقب الحدائق

أتموسق في أوزان رهيفة تلد الأوزان

والجمرة ملهاة العاشق

فمن يقرأا؟

حرف يوازي وجع القصيدة

ومثل مجموعة الشاعرة الثانية مرحلة تطور واضحة في مسار تجربتها الفني. فقد اختفت بصورة واضحة حالة التردد الإيقاعية المذكورة, وحسمت الشاعرة موقفها لصالح “قصيدة النثر”, مما أتاح لها فرصة التركيز على لغة النص وبنائه الفني وإيقاعه الداخلي (إيقاع الصورة والكلمة والحرق) وهو تركيز أكسب تجربة الشاعرة تميزاً خاصاً وثراء ملحوظاً خاصة فيما يتصل بالتداعي الصوري الحر الذي يشبه حالة الحلم في القصيدة.

وقد خفت نتيجة لذلك ظاهرة “الهم الإبداعي” في هذه المجموعة الناضجة, ولم تعد طافحة على سطح القصيدة أو متجسدة في صورها ومفرداتها. بل نجد توظيفاً خفياً حياً لهذه الظاهرة خاصة على مستوى الموضوع والفكرة. وهو ما يمكن ملاحظته في قصيدة بعنوان “معلقة”, مثلاً, مما له دلالته على مستوى الموقف من التراث الشعري العربي. ولعل ذلك يعود إلى ضمور الحاجز اللغوي والفني الذي كانت تكابده الشاعرة في مجموعتها الأولى, خاصة بعد أن قررت تجاوز حالة التردد الإيقاعي مما كان يشرخ بنية قصائدها إيقاعياً في الأقل.

وتعتبر فوزية السندي الآن أبرز شعراء قصيدة النثر في البحرين بعد قاسم حداد الذي شق هذا الطريق فنياً. وبذلك يمثل كلا الشاعرين تجاوزاً حقيقياً لملامح هذه التجربة عند إيمان أسيري التي اعتبرناها أول من كتب قصيدة النثر زمنياً من بين شعراء البحرين المعاصرين. ويعفينا تركيز تجربة الشاعرة فوزية السندي على قصيدة النثر من حصر بنيتها الإيقاعية في جدول تفصيلي.

نماذج من شعر فوزية السندي

وطن يزهو في القلب

حبيبي,

ياهذا الزهر الشوكي النابت في قلبي

في ليل يحترف الحزن

وطن يحترف العزف على أجساد الموتى

غبار الهم النازف من جسدي

ياوشماً

محفوراً كإله الخصب على الدم

ياوطني,

هذي الأرض الحبلى العطشى

المحمولة ختماً في ذيل مماليك الوقت

تكاد تسمى وطني

أتحترق الدهشة في هذ الموال المأخوذ بسحر

الكلمات

دفء الجلسات

أتحترق الدهشة

وجه حبيبي حلم لاهث

عشق يجتاز ممرات الوهم المفزع

يبحث عن وقت يثمر نهم الدم,

رب يعطي الشجر الظامئ دفء الغيم,

دفءٍ يمتد ليحتضن العشاق

في وطن جلاد

يغتال حنين الشعراء لصوت الماء.

حبيبي,

صوتي آت من خلف ركام الكون

من وطن يتدحرج في ذاكرة الشمس

في عيني طفل

آت

ليعيد لهذا البحر قداسته

للحب طهارته

ويجلل ملحمة العشاق المنسية تحت عباءات

الكهان

ياوطني,

ياهذا الجرح الممتد من قلبي إلى تيه الحرف يا جسراً رسمته الأيدي

بقيود هرمت

مازالت قيداً لعيون الوطن الضوء

ياوطني,

ياهذا الجرح الممتد من قلبي إلى تيه الحرف ياجسراً رسمته الأيدي بقيود هرمت مازلت قيداً لعيون الوطن الضوء.

وطني,

أحمل حزني قنديلاً في صمت ليالي الغربة

حرفي إزميلاً للرغبة

مازال دمي ينساب ليرم في عينيك وجه حبيبي

والشمس

ينساب ليزهو في قلبي

حبيبي,

أيجئ الضوء المنفي إليك غداً

في ليل يلد الجرم

وطن يحتفل بأعراس النوم

أيجئ الضوء؟!

 

معلقة

تتدلى أمامي بزخارفها وبديعا

معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير وعاج الفتنة.

منسقة لا تقبل الظنون والتهتكات الشاكة

تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة

والقوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة

في شكوكها, للمراعي منبثة

مفصلة على نسق بديع كآنية

وفي عكاظ تؤرجح حرفها كجارية

محظية ولها دلال

أراها تساق هنا وهناك في الخلافة

مغلولة

معلقة ولم تزل.

 

قمر

لاشان لي بحدة استدارته

أو علو بياضه

أو هدوئه الشاهق

أو غطرسة عشاقه

أو غدائر الغيم المنشدة حوله

أشد ما يهتاجني

إنقضاض روحه

وغنائم الفضة من حولي

 

من(هل أرى ماحولي..هل أصف ما حدث)

 

شعر السندي: نسيج خاص بخيوط من أساليب متعددة

االكاتب/ جورج جحا:
2005 رويترز 25 مارس

يواجه القارىء في “رهينة الالم” مجموعة الشاعرة البحرينية فوزية السندي ما يمكن ان يوصف بانه اسلوب خاص منسوج بخيوط غير باهتة الالوان تذكر بأساليب شعرية مختلفة لكنه مع ذلك يبقى محافظا على شخصيته وتوتره. في قصائد السندي نواجه أجواء من التراث لعل من أبرزها ذلك النفس الخطابي الدائم الحضور الذي تضج موسيقاه مدوية على تنوع حالاتها واختلاف ألوان المشاعر التي تفيض منها.

ومما يلفت النظر اننا نجد ذلك مصوغا في أشكال تعبيرية غير تقليدية تطل حينا ببعض وجوه “الشعر المنثور” السابق لما صار يعرف باسم قصيدة النثر.. وحينا اخر باجواء هذه القصيدة وسماتها. ونجدها في مجالات اخرى تذكر بكتابات مسجعة من النوع الذي لا يطغى عليه التكلف.. لتشكل في مجموع صفاتها شخصية خاصة تطل على رغم تكاملها بملامح فيها غرابة ما يشبه مثلا اجتماع اللونين الاشقر والاسمر او اجتماع العينين الزرقاوين والسوداواين في وجه واحد عندما تتعدد اطلالاته. شخصية شعر فوزية السندي استطاعت صهر هذه السمات المختلفة فلم يبد على قصائدها تناقض يقلل من شانها.. ولم يؤد ذلك الصهر عامة الى اثقال الانساب الشعري او التوتر الدائم عندها على الرغم من “خطابيتها” البارزة وتوجهها “المباشر” في كثير من الحالات.

وقد حملت المجموعة 17 قصيدة معظمها طويل وتوزعت على 147 صفحة من القطع المتوسط في كتاب صدر في صورة مشتركة عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” وعن “وزارة الاعلام.الثقافة والتراث الوطني” في مملكة البحرين. وحمل الغلاف رسما تشكيليا معبرا للفنان السوري بشار العيسى. والمجموعة هي سادس اصدار شعري لفوزية السندي منذ سنة 1982.

في قصيدة “قسوة السواهي” توتر شعري وموسيقى متتابعة القرع في “شعر حر” غالبا.. مع انها تسهر بجدية على تقطيعه في احيان كثيرة تقطيعا يبدو كأوزان حرة بأسطر متفاوتة الطول.. كما تضمنه بين فترة واخرى ما هو أقرب الى قافية تتردد في كلمتين او اكثر.

الا ان هذه القافية تبدو لنا احيانا كأنهاعمل أقرب الى “التسجيع” في النثر منها الى القافية الشعرية. وهي في نصوصها لا تضيف الى موسيقى الشعر فتلك هدارة قوية النبض اصلا.. ويتراءى لنا أحيانا ان عمل تلك “القوافي” يشبه عمل “مكابح” لطيفة تخفف من دوي واندفاعة بعض قصائد السندي وهي دائما قصائد حافلة بالحزن الذي كثيرا مايكون حزنا لا يمكن كتم دويه طويلا حتى عندما يأتي تعبيرا عن الوحشة والفجيعة.

تبدأ الشاعرة القصيدة بهدوء مشبع بألوان حزن هادئة شاحبة قبل ان تدب “الحماوة” في القصيدة وتقول “وقفنا قليلا .. / ادرنا الهواء فيما بيننا / ثم ابتعدنا / لنداري ما استحل واردانا / كنعشين يعتصمان ببرد الوحشة / ضد بدء خنق استوى لهذا التراب / مشيئة الدرب الاعزل جريرة الازل الاعمى / غاو تفانين العذاب / لماذا كلما رانا نستهل لروع يجابه ارواحنا / راح يسترد هلعة الشغاف.”

تمضي السندي في كلام يغص بالمجازي والرمزي ولايتخلى عن اناقة لفظية حتى الغرابة في بعض المرات.. او عن عراقة تطل كأنها بنت تأثر بوقع كلام قراني تارة.. وعن منحى بلاغي طورا.. فتقول “ذهبنا لمفترق صعب / كل خطو انحى له ممرا غريبا / لندرك فيما بعدنا ان تشظت خطانا / كم اراق ذاك اللقاء القليل قسوة سواهي النظر / كم مسّد كل جفن برجفة رمش اسير سهو ما انتحب / كم سورتنا المساءات بخدوش حزت سرايا الذاكرة / كم تناهبتنا اضرحة الليالي مأسورين بانقاض تتألم / … / كم كنا معا/ كم وحدنا علينا / لا لنا.”
وتنتقل الى القول “يا عاهل القلب يا والي مسرات الالم / امام ضوء شريد يتغادى بك / اتسامى / سافحة جسدي ليتردم من رنيح لاخر / حتى يسندني مديد ظل كفحم الحبر لا يسهو عني.”

في قصيدة “لها” تتحدث عن امراة من نساء الاسى العميق فتقول “لامراة تناهت عنها ) مثقلة بحجر ميت ارتمى بين ضلوع تخسرها / مكتواة من صد تاريخ رماها/ تجرأت على برودة سرها ( لتغمد ذاتها نحو مغاليق عمياء.”

وتختم القصيدة بقولها “لها / لوردة النهر / كبرياء الكتابة / موهبة أضاءت وميض احتضارها /و/ اتقنت / ايلام امراة اعتادت صمت انتحارها / الى حد / يخجل الموت منه / تعجز الحياة عنه / وينحني له الحبر.”

وفي قصية بعنوان هو “اقل من الحجر” تستمر هذه اللوعة وهذه النقمة الجريحة الثائرة فتقول “متعبة / داوني يا مرام الحصى / يا دربا يتبدد امام انغراس خطوي / داوني.. لئلا ابدو / كصارية تتهود امام قصف حبر يسال… / قل لي.. لماذا اصحو/ لصباح لا خير فيه / الكتابة كالنمرة / ملتاعة بموهبة تواتي براعة العضل / بغرور طيش يستحل هبوب المخالب / بطش عنيف ضد من لا يباريه / ومن لايهتال منه.”

وفي قصيدة عنوانها “لصمت البحر انتهر الموت.. لضوء الظل انتحب الحب” تقول السندي “مصباح بعيد تسمر على رصيف اخرس / كغرس حديد لايحترس وهو يوقد فحم حتفه/ لم يتعب وهو يبعث الضوء الشريد خارج جسده / بل تمرمر ليضاهي الاخرين بقدرة وميض خفقه / تناهض الضؤ ببطء شريد / كأنما مدية من الاقاصي تدميه/ انهمر وحيدا.. يستجلي انزياحه الذهيل / منحدر نحو بحر سارح / حليم بحب يتحدر نحو راحة يابسة / تحتضن جموح جسدين / يعتركان ببطء أليم.”

 

فوزية السندي: منفلتة كقارب صيد في ليلة مقمرة

الشاعر/ علي الشرقاوي

جريدة الخليج – الامارات العربية المتحدة

 

“مفتوحة ولا تقبل غير ذلك

ولانها كالوديان المنداحة

والبراري الوعرة

والدهور الصقيعة

تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها”

هكذا هي القصيدة لدى فوزية السندي عوالم تتشكل عبر فضاء اللغة، وتنداح كالطيور المهاجرة الباحثة عن حلمها، لا يحدها سوى المزيد من التوغل في غير المحدود وغير المكتشف.

لغة تسحبك من المكرر لتلقي بك في أتون المختلف.

لغة لها طرواة العشب. تحتفي بالمغاير وتحملك على جناح الاسئلة.

لغة تتفجر فيها الحروف.لا لكي تتناسق ولكن لكي تتشاجر كأغوار الشاعرة بدون نسق.

هكذا جاءت تجربة فوزية السندي الجديدة(هل أرى ما حولي، هل أصف ماحدث) والتي صدرت مؤخراً في البحرين بعد مجموعتها الشعرية الأولى( استفاقات) والتي صدرت عام 1982م.

في هذه التجربة الجديدة لا نعرف من أين نبدأ، فكل قصيدة تحتاج إلى قراءة أو قراءات متعددة، لأننا في كل قراءة نكتشف شيئاً جديداً، نمسكه فيبتعد، هي علاقات بين الداخل والخارج، بين الواقع والحلم، بين الرؤية والرؤيا، لا نستطيع فصل هذه العلاقات، لوفعلنا لتحولت شظايا، لا لتتناثر في الفضاء تنتهي، انما لتقلق راحتنا.

من التساؤل الواعي تدخلنا في سفرها الجديد. السفر في أعماق الأنسان- الشاعرة. ومن أقصى هذه الأعماق ترى كل شيء بوضوح وجلاء، من هنا تصف رؤيتها لما كان وما هو كائن وماسوف يكون، تعي أن الرائي في زمننا هذا شخص غير مرغوب فيه، لذلك تؤكد الشاعرة لأحبابها.

” لا ريب من تحلق المكائد حولنا

مثل غبار يرصد الحدائق الباهية

بسمادها المبلل وغضاضة جوارها.”

فالغبار الفاجع، المدثر باليقين، حامل أنهار القش يعرف كيف يرصد الحدائق في نموها وتطلعاتها وطوحاتها الأزلية للعطاء، الغبار يضع الحواجز بين الوردة والجذر، بين الأوراق ورائحة الآتي، لذلك تحلم بإعادة الخضرة للورود.

” للأماكن التي تربكنا بقصد

والأشياء التي تواري ضيقها بعنف

كذلك الورق الذي يستضيف أحلامنا

برداءة طقسه،

أشد قبضتي عليها

لأعيد وردة النقاء وهدوءها المعتاد.”

هذا الغبار، الأزيز الفارغ، المصادرة البهية واليأس الذي يتحول إلى خراج، كلها تتآمر لتوقف حرية من يسير نحو تحقيق أحلامه، وفي مثل هذا الواقع العربي الذي ثقبت ثوراته ودوله ثيران هائجة كيف يجد الانسان طريقة؟ هل هناك شيء آخر غير المزيد من الحيرة أمام أداة الفعل.

“أيها النصل

كل الطرق المؤدية الى هناك مغلقة

كيف نصل؟”

انما نسأل النصل، رأس الورقة وأداة المحارب عن الطرق الجديدة، الطرق التي لم تكتشف بعد، فكل الدروب القديمة لم تعد آمنة، أغلقها الغبار وسورها برعونته، تسأل نصلها عن كيفية الوصول الى لحظة التفجر، اللحظة التي تستأصل الغبار كي تتنفس الجذور، وهي في بحثها لابد لها من أن تتسلح بما هو أقوى من الفضول.

” يلزمني ما هو أشد من الفضول

لأرش المسافة

أدنو في ضيقها

لا لأشهد ما أراه

بل لأحصي هول ما أتدبر.”

فالشاعرة ليست معنية هنا بأن تكون شاهدة على العصر الذي تعيش ، انما أن تكون الفعل المضاد المختلف الذي يمسح عن الحياة تقاليد الغبار وقيمه، من هنا ليس أمامها وهي الأرض، إلا الإغراء، وغواية الفعل ليمارس فعالية الإكتشاف، فقد ترى البهجة وتحزم الرأفة بالريح، وتكون الذات “زغللة ضوئية” توله لمجيء الزمن الآخر، لكن اغراء الشاعرة، الحديقة، الأرض ليس إغراء المتعارف عليه، بقدر ما هو إغراء مختلف، فالعاشق المغامر لا يغويه العادي إنما الخطر، ودخول الخطورة، دون توقف، هو الشيء الوحيد الذي يبقي شباب الروح.

” أغريك

بأهوالي

كعاصفة.”

الانسان، عطر العالم وزهرة الحياة محاصر بأدوات الغبار، حيث الحرب في كل مكان، أشلاء وضحايا ورعب، الحراب تلهو، والمرارة تتوالد، والحيرة تتسع.

” لمن يحتكم؟

للحرب وسلالها المليئة بالدخان

للحراب الشارعة غيها نحوه ببسالة

أم للمرارة التي تلعق جراحه كحداء

صعب عليه أن يفهم

لم يحتكم.”

الخارج رعب والداخل ضعف وعجز، وبينهما يضيع وجه الانسان، اذن لا بد من البحث عن طرق أخرى، أغانيها مختلفة لا تعبأ بالغبار ولا بالأشواك التي تنبت، تدعو من تهوى.

” ادعوك

وحدك متشحاً أغوار الريح وغموض الغابات

ماداً رواق الصحائف المزيلة مجد الهزل

واضحاً ومحرضاً نوازل الشقاء.”

دعوة الحبيب-الرمز- سيد الأمكنة إلى الدخول في الفعل، حيث الفوضى فضة وحيث الخراب جنة، وهي “منفلتة” في أحلامها

“كقارب صيد في ليلة مقمرة” جذورها تواجه العطش، تدعوه لتوليه الروح وتمنحه خيلاء الجسد.

” مر بي عبر هطولك

موصداً نرجس المكابرة

كقارب في شيوع التذكر

حبق لخفق الأرصفة.”

وتظل الشاعرة فوزية السندي تتوغل في أعماقها لترى ما حولها، وتصف ما حدث وما المفترض أن يحدث، فكلما توغلت أكثر كلما رأت حالات من الوجع الانساني، الكوابيس الزرقاء، ضحايا الأضغاث والجماجم وعظام الأكتاف المنخورة، وترى عذاباتها كامرأة، المرأة التي تحاول اختراق الحصار، حصار الخارج وحصار الداخل، تتفتت الحروف وتتداخل معها في عذاباتها.

” يسورني تعب تاء التأنيث وعين العذاب وباء البطش.. تعب هائل منكب خلالي أنوء كترس مسنن لا يكف عن الدوران.

وأنا فوق القمة مكترثة بالعبء.”

وماذا تطلب الوردة في أزمنة الغبار، غير أن تكون مع حلمها.

” ألوان متباهية يمليها الشفق بدروعه الشفافة وأهازيجه المبللة بالندى كعرائش قديمة.”

وماذا تطلب الشاعرة والحصار حولها غير أن تعيش مع كلماتها في حرية الخلق وصحوة الابداع، لذلك تصرخ في وجه الحراب والحرب والمرارة.

” انتظروا

لا حاجة لي بكل هذا الوطن

رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي

لأحيا وكلماتي

اهرق في سرير الحلم

وتنهض في مجد الحكم.”

 

فزية السندي في (هل أرى ما حولي، هل أصف ماحدث) تحتفي باللغة الجديدة، بالانسان الجديد، بالحلم الذي تراه أمامها ومعها رفقاؤها الأوفياء.. شاهرين التباهي.

فالموت يكون جميلاً اذا كان فناء في ذات الآخر.

” خذني اليك

كم تمنيت رخاوة الموت جميلاً في انتفاضه بين يديك

كعصفور مبلل

أو

نغم وارف في جنازك.”

هذا العشق الصوفي الدافىء الناري، يحيل الشاعرة إلى جسد يبحث عن إعادة تشكيله. فقد كانت الحديقة والأرض والقارب والحلم ، كانت كل شيء في هذه الحياة. ومن هنا تدعو النار، رمز التكوين الأول والطهارة والاغتسال، تدعوها للتحرك في مساحات الجسد الممتد من الماء إلى الماء.

” أيتها النار المطلة في صهوة الأخيلة

يا ماكنة الوهج والتبدل

ميدي في حدود لا تتسع لسواك

ومجاهل لا تنجلي الا لأوارك

هذا هو الجمر

نزيل الحلم

شاهر الهتك

مستميل الفتوق

اديري جذوة اللغز

تشابكي كسلال ريفية في تصدع الهوادج

وابسطي النصل عميقاً في رئة المدائن.”

رموز كثيرة تتحاور وتتجاور لدى فوزية السندي، بعضها ينهض في القلب، رموز تحيلنا إلى الماضي وأخرى تنقلنا للمستقبل، ونحن القراء نحار من أين نبدأ.

هي القصيدة الجديدة

حالات الروح

تحولاتها

ليست للفهم، لا تقبل التفسيرات، كل تفسير للقصائد ليس سوى قطع أوراق الوردة،

كل محاولة لفهم القصائد ليس سوى خنق أنفاسها

لكن من يخنق القصيدة؟

من يخنق السؤال هذا الذي يرى ما حوله ويصف ما حدث؟!

 

وطن يزهو في القلب

قراءة في مقطعين من قصيدة: ” وطن يزهو في القلب”

للشاعرة فوزية السندي

مبارك حامدي/باحث من تونس

من فضول القول التذكير بأن الحركة الشعرية البحرينية واحدة من أهم الحركات الشعرية العربية الحديثة سواء نظرنا إليها من جهة الزخم الذي تجسد في كثرة المبدعين في هذا الصقع من الوطن العربي الكبير أو من جهة عمق التجارب الفنية وتراثها، فضلا عن العراقة التي اتسمت بها مقارنة بمثيلاتها العربيات، ولعل ذلك يعود، في بعض ما يعود، إلى استناد شعراء البحرين إلى تراث شعري متصل… ويكفي أن تصفح بسيط لكتاب الدكتور علي الهاشمي: شعراء البحرين المعاصرون للتأكد مما نذهب إليه…. ولنا في تجربة الشاعرة القديرة فوزية السندي دليل قوي آخر… هذه الشاعرة التي انعقد ما بينها وبين الشعر منذالسبعينات، وسنحاول في هذا الحيز المحدود تقديم قراءة لمقطعين من قصيدة لها بعنوان: وطن يزهو في القلب، وقد وردت ضمن مجموعتها الشعرية الأولى ” استفاقات ” الصادر سنة 1984.

النص

وطن يزهو في القلب

حبيبي،

يا هذا الزهر الشوكي النابت في قلبي

في ليل يحترف الحزن

وطن يحترف العزف على أجساد الموتى

غبار الهم النازف على أجساد الموتى

غبار الهم النازف من جسدي

يا وشما محفورا كإله الخصب على الدم

يا وطني،

هذي الأرض الحبلى العطشى

المحمولة ختما في ذيل مماليك الوقت

تكاد تسمى وطني

أتحترق الدهشة في هذا الموال المأخوذ بسحر

الكلمات

دفء الجلسات

أتحترق الدهشة

وجه حبيبي حلم لاهث

عشق يجتاز ممرات الوهم المفزع

يبحث عن وقت يثمر نهر الدم

ربّ يعطي الشجر الظامئ

دفء يمتدّ ليحتضن العشاق

في وطن جلاد

يغتال حنين الشعراء لصوت الماء.

يتعالق في هذين المقطعين – كما في سائر القصيدة – الهمّ الذاتي بالهمّ الجماعي فتتعانق الشكوى من الحبيب والشكوى من الوطن في قلب الشاعرة عناقا قاتلا ، وقد خيبت الشاعرة انتظار المتلقين بعد أن وسمت القصيدة بعنوان يستدعي الفرح والنشاط إلى البهجة: وطن يزهو في القلب، وتوسّلت الاستعارة سبيلا إلى الإيقاع بهم ( أي بالمتلقين ) . كما عدلت عن مألوف الشعراء و ذائقة القراء، فتسامت بجلال القصيدة عن معاني العشق والصبابة والشوق إلى الحبيب، ولعل في الإخراج الطباعي بعض ما يمكن أن ينهض دليلا على ما نذهب إليه ، إذ جمعت الشاعرة لفظ ( حبيبي ) في سطر شعري قائم بنفسه حتى إذا حلق القارئ معتمدا على ما اعتاد من معان نزل من شاهق أوهامه على زهر شوكي نابت في القلب. فبعد اللغة الهامسة تقريبا باسم الحبيب بدون أداة نداء ، انقلب الهمس صراخا من بعيد ( يا هذا ) غير أنه صراخ تلتبس فيه اللذة بالألم والحب بضده ، إذ هو زهر ولكنه شوكي ومحله القلب كناية عن شدة الألم ، وزمانه الليل ولكنه ليس الليل المتواطئ مع العشاق بظلمته ولكنه ليل أليل يحترف الحزن ، وقد تفننت الشعرة في تصوير هذا الحزن المجلل للقصيدة فغلبت على المقطع الأول ثلاثة معاجم تلتقي جميعها في رسم معاني الحزن والألم والموت ، وهي : – معجم الموت : الموتى x 2 ، الدم

معجم الحزن : الحزن ، الهم x 2
معجم الألم : شوك نابت في القلب ، نازف x 2 ، محفور على الدم
ومما يلفت الانتباه أن الشاعرة قد نسبت إلى الحبيب أفعالا تتسم بالعنف والسادّية ( نابت في القلب / وشم محفور على الدم ) فكان النفس اتهاميا صداميا عنيفا وقد عمق المستوى التركيبي هذا الاختبار الدلالي اذ وظفت أداة النداء ( يا ) الدالة على البعد وهو هنا بعد نفسي إضافة، إلى إسقاط المنادى الموصوف ( الحبيب ) والاستعاضة عنه بالصفة ( يا وشما ) .

وبانتقالنا إلى المقطع الثاني ننتقل مع الشاعرة إلى منادى جديد هو الوطن وقد وقع الإعلان منذ البداية عن القطيعة بين الشاعرة وبين الوطن ( يا وطني ) غير أن هذه القطيعة هي قطيعة ملتبسة مترددة … مجافية وحانية في الآن ذاته إذ تسترد الشاعرة بياء النسبة ما دفعته بياء النداء مما جعل الوطن قريبا بعيدا و بعيدا قريبا في الآن ذاته ( يا وطني ) …

وقد راكمت الشاعرة الأوصاف الموصولة بالوطن في عرض هجائي يكشف عن تبرم به وتبرؤ منه، فهو ( أرض حبلى عطشى / محمولة ختما من ذيل مماليك الوقت / شجر ظامئ / وطن جلاّد … )

وتنتظم هذه الأوصاف الهجائية حول معنيين هما معنى القسوة ومعنى الحرمان ومنه مفهوم العطش ( عطشى / لاهث / ظامئ ) بكل ما يحويه غياب الماء من انعدام للحياة ، ولم يذكر الماء أو إحدى متعلقاته إلا معدولا به أو للإشارة إلى فقدانه (نهر دم/الغيم/ حنين لصوت الماء..)

هكذا يتضح أن الوطن الذي تتبرأ منه الشاعرة هو وطن مصادر لحساب المماليك عدوّ للحلم والحب ..

وخلاصة القول فإن هذه القصيدة – فضلا عن المقطعين اللذين حللنا- تتسم بتفجر عواطف الشاعرة وعنف المواجهة بينها وبين العالم ، وقد تجسّد ذلك في مستوى المعجم والإيقاع على وجه الخصوص وقد يعزى ذلك إلى أن هذه القصيدة تنتمي إلى فتوة التجربة وفتوة الشاعرة زمن الكتابة، فضلا عن أن شعراء الحداثة قد درجوا على التمرد وانتهاك الطواطم.

 

استفاقات: كيف تكون البداية والرعب يسأل

الكاتب/ محمود محمد المدني

جريدة الاتحاد- 1986

في “استفاقات” المجموعة الشعرية للشاعرة البحرينية فوزية السندي من اصدار المطبعة الشرقية بالبحرين، قطع صغير في تسعين صفحة، شعر تكسبه دثارات اللغة وأخيلتها الشفافة موقعاً يتميز بصور شعرية مكثفة عبر معاناة تحاول اختراق حاجز الصمت العربي حيال هول الكارثة التي اما وقعت أو على وشك الوقوع و” حالة الشعر” من خلال قصائد المجموعة وجوها ومناخاتها والقضايا التي تثيرها عبر خروج”العام” الى”الخاص” وعبر تشابك العام والخاص في محاولة لعدم الانحناء للأمر الواقع في واقع فكري وسياسي واجتماعي مرير أصلاً، حالة الشعر معنا حالة كيفية مستمرة، التجربة تقود إلى التجربة والواقع المرير عنيد كالصخر ويبقى الانسان في دائرة المحاولة من أجل الفهم والرحمة ومشاركة الأخذ دون تماثل بالضرورة.

ففي” احتفالات الجسد” حضور للمرارة والعذوبة على طبق واحد ضمن مناخات وأجواء مختلفة، وكأن العذوبة والمرارة ثمرتان لنفس الشجرة فقط تختلف المواسم.

” لا تشهق في حضور الجناز المهيأ للعرس

هذه نار تفضح العائلة في احتمالات الرماد

فهرولت المداخل

ربما لهو راجع من جحيم المآتم

ربما قتل تسربل في شقوق الخوف

و أختار المدينة

ربما رنين يصعد الجماجم قبل أن يحرثها المد

أو تجثو لجسارة الطوفان

ربما…”

وفي الشعر، وفي التوجه المغاير من أجل البحث عن القصيدة التي هي (جديدة) بحق لابد من هذه، لابد من رج المياه الكامنة، لابد من الهجوم على الظلال والسفوح والمنحنيات للوصول الى القمة، اذن لابد من ارباك العلاقات السرية الداخلية لتاريخ الكلمة (المفردة) -الأدوات المستعملة في بنية القصيدة- ولذاكرتها الممتدة منذ ان قال الانسان ان للوردة عطراً فواح ومنذ ان بدأت المعرفة الانسانية تثري الشعر من خلال الالتقاطات البصرية التي تخزن في العين زماناً لتعطي في وقت الشعرالصورة والحركة.

” في رصيف كالبرد التقينا

سائلا حمى المسافة

أن يكون للقمر شراع من فضة الشهب

للغيم أرجوحة من زبد الفجر

لن تخيط السماء جراح الأرض

تسل الغمام من قوافل التعب

أن …

تهذي لقلب يتسع

كم كنت وحيداً.”

إن إعادة النظر في العلاقات الداخلية لجزئيات اللغة بواسطة القصيدة الجديدة لا يكون عملاً خارجياً على الاطلاق لان ذلك يوقع الشعر نفسه في اشكالية الشكلانية، اعادة النظر هنا عملية داخلية ايضاً، لان تجديد شباب المفردة في القصيدة الجديدة في تقابلها واشتباكها وتداخلها مع الجزئيات الاخرى لايجاد نسيج فني متكامل ومتماسك جمالياً، يكون بايجاد منسق جديد يهاجم النسيج القديم ويغرس السكين في قلب الدمامل لتنقية موجة البحر الزرقاء من كل شوائب الزبد، وهذا ما تحاول الشاعرة فوزية السندي أن تقوم به في مجموعتها الشعرية “استفاقات” فيكون ناتجه مستويات مختلفة من الأداء الشعري.

وفي قصيدة “حصاراً تسمى واسميك الوطن” تلجأ الشاعرة إلى اشراك المتلقي في تكوين قصيدتها بترك فراغات ومساحات بيضاء داخل علاقة المفردات ببعضها البعض.

” من يهادن طوفان الرعب

غير الهالك السالك خطو الملك

من يطرق الكلمة في باب الفعل

غير الواحد البالغ حد الحزن

من يمشي في طرقات جنوني

غير السائر المتوحد في اللغم

من ينحني للظلال

غير الضال الراكع في الجب.”

وهذا العمل رغم انه يتكون من عدة مقاطع الا انه تخيم عليه وحدة (الجو العام) المشغلة بالتوتر الحائرة بين الاضاءة والانطفاء وبين الميلاد ووحدة الجو العام هذه لا تمنع الشاعرة من اللجوء إلى أكثر من ايقاع داخلي لاثراء محاولتها الأساسية للاحداث هذه في العلاقات الداخلية لجزئيات اللغة.

” اقترب

ترقب قتال الفصول

اسميك المحارب الأخير

وأهيب بالمطر

أن يغسل المساء

ووقع خطاك

وصرير الكلمة،

يغتال الحذر القاتل

في هجس رؤاك.”

والواقع ان المفردة- في لحم العمل الشعري- عند فوزية السندي نجدها تخرج مشحونة ومعبأة إلى حد احتمالات الانفجار المباغت بالمعاناة الصعبة التي تجعل من التجربة الشعورية ليس حائطاً للبكاء وذرف الدموع وانما وجهة لاشتعال الرافض للانطفاء و”المتوحد في اللغم” ان نسيج الجزئيات اللغوية عند هذه الشاعرة غير مسموح له- بإرادة الشاعرة وقوة وحساسية التجربة- في السقوط في الترهل المؤدي بأشكال كثيرة الى الأنهيار الفني.

” أقسمت أن لا أحتار

وأن أختار نعاساًً

لا يملأ أحداقي الا أحلاماَ

تنثال..

بعينيك الواسعتين العمق كدفء

أحببت أن نغتال اللحظات الحب

وأن نصغي لعينيك.”

والشاعرة وهي تمضي قدماً في محاولتها ايجاد خط بياني جديد من الاستشعار والذبذبات والموجات الكهرومغناطيسية للمفردة في علاقتها مع المفردات الأخرى ومع الموضوع والفكرة والموسيقى الداخلية والايقاع اللاطبلي، يربكها في عدد من الأحيان تراث” الجاهزية الموسيقية” للشعر العربي التي تتسبب بشكل أو آخر في عملية التشويش على شكل وبنية القصيدة الجديدة، وهذه(الجاهزية الموسيقية) أعاقت كثيراً تقدم قصيدة النثر العربية على طريق ايجاد شكلها النهائي داخل امكانية التحول الفني المستمر، وهذا هو عين ما يجعل فوزية السندي تهتم أحيانا- ربما دون انتباه كامل لأن الأمر يتطلب درجة عالية جداً من اليقظة الفنية- بالموسيقى الخارجية( القديمة) التي تتعارض بأشكال تتعدد مع المناخ العام لتوجهها الشعري.

” لوليد

لاحتمالات المجيء

لأنفجار اللغة البكر

في عقم الوفت

لاستراحة الطفل المحاذر

في احتدام المجازر،

لوليد،

أنشودة الوطن المتألق

ولجيل يحتفي

موتاَ جميلاً.”

وفي قصيدة النورس تقترب الشاعرة من الشاطيء في محاولتها التي ترفض التخلي عنها لدخول العالم السري للمفردات واعادة النظر في العلاقات الداخلية للمفردات من خلال علاقتها بالخارجي، الذي هو في اللغة اما (منته) أو( متفق عليه) أو( لاشك فيه على الأطلاق) هنا تنبجس المفردة من حصار المتفق عليه والذي لاشك فيه اطلاقاً، فتتحول الى كائن يعمل الشك بذوره في تاريخه الشخصي وفي علاقته بجزئيات كامل النسيج اللغوي.

هكذا تأتي القصيدة

تأتي القذيفة

هكذا

تحتل البياض الحالم نار

والرمز نصل يحتال كالعرش

قواف تعدو

تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات

فأعرف،

أستشرف لون الأفق كنجمة برد

أهتف

من يكبو في البرد وحيداً

لا يدفأ”

(البياض) الحالم والنار(تحتل الحالم نار) المفردة هنا تخون تاريخها ولكنها تتمرد على المكان( المعنى المباشر أو المعنى المقابل والمتفق عليه والذي لا يقبل الشك اطلاقاً) والذي سجنت فيه طويلاً انه الانعتاق من المسبق الى الطازج الحار الخارج الآن فقط من رحم الحياة، من عذاب الانسان المعاصر في سبيل المعرفة والحرية والسلام، انه طائر النورس في بحثه الدائم عن موجة البحر الزرقاء النقية الصافية مثل المطر الشتائي.

ان جهداً كبيراً قد بذل خلال التقدم الهائل الذي احدثته حركة الشعر في العالم وفي الوطن العربي في مجال اخراج الكلمة من سجنها ومن العتمة التي وقعت فيها دهراً طويلاً والمغامرة بمنحها هوية جديدة تسبح فيها عكس التيار المتفق عليه ليضيف ذلك إلى الابداع الشعري نقلة نوعية (فنية) جديدة ترتفع إلى مستوى ما يحدث في الواقع (االنثري) من تناقش واستلاب وتتجاوب مع الخارج بالشروط التي تمليها معي ولا يمليها عليها الواقع الخارجي، وهذا ما يجعل الشاعرة فوزية السندي تستفيد بشكل حقيقي وموضوعي من تلك الانجازات مواصلة لمحاولتها.

ولعل قصيدة “استفاقات” المسمى الديوان بها هي ذروة ما انجزت الشاعرة في هذه المجموعة وفق المنظور الذي ظللنا نشير اليه منذ البداية.

” أفيقي

يا غصون الوله

أسرجي للريح أحرفك المتعبة

أفيقي،

كالجذور المتعطشة لطعم الملوحة

كالعيون الحزينة والصدى الهائم في ليلة المطر

أقرأي،

من هناك يلوح بالخدر المر في الطرقات؟

جمرات العمر الخطرة..

حدقي،

تجديني سرابا يفيق، يعاشر شمس الصحراء،

فأطرافي يتعبها البرد

وشمس البرد

اللهث وراء الحجر الميت

يا حجر البرد”

ففي هذه القصيدة تستل الشاعرة المفردات من تاريخها وتجعلها في حالة كمون جديدة في انتظار التجربة التي تفجر طاقاتها الدفينة وتسقط عنها أقنعة المتعارف والمتفق عليه، طفولة جديدة للمفردات الخارجة من مقر النسيان تتنفس هواء البرية المعبأ ضد الانهيار والاحباط وتحول الوطن إلى قبضة ريح في زمان الرعب والمجزرة يتخذ الشعر خندقه بين الدم والهواء ليقاتل، لأن حجم المجزرة يتسع كل يوم ليضيق الخناق على اخضرار العشب وعذوبة الأغاني .

” في خلايا صوتي انبجست كالماء

وكنت البداية

ليل وأنت مناري

سماءاً وصحواً

عبرت الطفولة

هذا صباي المدثر في خجل

كيف أكون البداية

والرعب يسأل؟”

ورغم أن المستوى الفني لما حاولت الشاعرة بصدق وحساسية عاليتين يتفاوت من عمل شعري الى آخر الا أن المجموعة تعتبر رصيداً للقصيدة الجديدة التي – بعيداً عن الجاهزية الموسيقية- تثير الأسئلة وترش الملح على الجراح المنسية وتحاصر الغفلة في زمان المجزرة وتستجير بالطفولة في وجه الغدر والزلزال المرتب.

 

قراءة ميثولوجية لمجموعة “الجواهر”

عبد الله جناحي

جريدة الايام البحرينية

مقدمة:

هذه الورقة بمثابة اختصار مكثف، وعناوين كبرى لدراسة نقدية مفصلة حول مجموعة نصوص (الجواهر) في ديوان آخر المهب للشاعرة فوزية السندي وهي دراسة سوف تصدر قريبا في كتاب.

فوزية السندي من الشاعرات المتأنيات في إصدار نصوصها، الأمر الذي يترك للمتتبع لهذه التجربة فرصة في تأمل كل ديوان باعتباره محطة لها ميزاتها وثيماتها وظروفها وهواجسها النفسية وتطور لغتها وصورها ودلالاتها.

ولكون تجربتها الشعرية طويلة وغنية وصعبة، فإن دراستها بحاجة إلى تمكن من النقاد ومتخصصين بل ومتفرغين لمشروع نقدي لشاعرة عاشت مخاضات سياسية واجتماعية وفكرية وعاطفية أثمرت هذا التراكم الكمي من الكتب الشعرية، ومن قفزات نوعية في النص واللغة والشعر.

الجواهر جزئية جميلة:

هي مجموعة من القصائد القصيرة (18 قصيدة) سميت كلها بعنوان رئيسي هو “الجواهر” في ديوان “آخر المهب”:

ياقوت- كهرمان- نحاس- رخام- لؤلؤ- فحم- بازلت- ذهب – جمشت – فيروز- عقيق- ماس- فضة – زبرجد- رصاص- لازورد- مرجان – زمرد.

من خلال إطلاعي المتواضع على نصوص بعض شعراء العرب في العصر الراهن، أستطيع أن أزعم بأن الشاعرة فوزية السندي قد تميزت في إبراز هذه الأحجار الكريمة والمعادن النارية وأعطتها دلالات ومعان خارجة عن إطار صفاتها الجيولوجية وتركيباتها الكيميائية، بجانب ربطها بمعادن وجواهر الإنسان ومواقفه، وكل ذلك ضمن مجموعة مترابطة من الممكن بالتالي إجراء مقارنات ومقاربات فيما بين كل معدن أو حجر وآخر.
أن بعض الشعراء قد وظفوا بعض الأحجار والمعادن في نصوصهم، إما كإشارات سريعة، أو ومضات للتعبير أو التشبيه أو كدلالة فلسفية ووجودية أو سياسية، حيث استخدم اللؤلؤ كثيراً، والماس والرصاص والفضة وأحجار نفيسة أخرى، ولكن كل ذلك في سياق الحدث الشعري.

ورغم ذلك فإنني لم اطلع على تجربة شعرية غير تجربة الشاعرة فوزية السندي في تجميع مجموعة من الأحجار والمعادن في سلة شعرية واحدة، الأمر الذي يعني بالنسبة لي أن وراء ذلك مقصد ورسالة ودلالة ما ضمن البنية الكبرى للديوان كله. ولذلك فإن مهمتي الأولى في هذه الورقة البحثية هي الكشف عن أسباب ذلك، لتأتي المهمة الثانية المتمثلة في الكشف عن دلالات وهواجس كل معدن وحجر على حدى.

 

مخاض ما قبل خلق الجواهر:

مجموعة ” جواهر” من ديوان (آخر المهب) في اعتقادي لم تظهر كخلق إبداعي من العدم، إنما هي نتيجة مخاضات وتراكمات هادئة سبقتها في نصوص الديوان، تراكمت رويدا رويدا إلى أن برزت كنصوص خاصة موجهة صوب إبراز جوهر الجواهر هذه.
ويبدو أن هذه القصائد المجمعة في سلة واحدة قد ولدت بعد خلق العديد من النصوص: رواق أول للأرض ليقين الوهم،رفاهية الأفعى، رسيس الهوى،عنف العنب،فيما بعد، ممر وأشياء أخرى،أنتظر ومظلة تسع العالم، أعذار اللؤلؤ، أرفع جثتي عاليا، سفراء المهب.
هذه القصائد احتضنت الهواجس النارية والمائية والترابية التي فرضت حالة ذهنية لخلق قصائد ركزت على الأحجار والمعادن، وهي القصائد التي مهدت نفسياً ولا شعورياً في خلق الثمرة النهائية التي عكست دلالات نفسية واجتماعية وإنسانية لأحجار جميلة وغالية الثمن وذات تأثير ميثيولوجي للإنسان، وبالأخص المرأة.

إذن منطلقاتي المنهجية في تحليل هذه المجموعة من القصائد هي

البحث عن مخاضات سابقة لما قبل تكوين هذه النصوص.

استخدام المنهج النفسي واللاشعوري على وجه الخصوص.
– استخدام منهج غاستون بشلار في الهواجس النارية والمائية والترابية مع استثناء الهاجس الهوائي الذي يبدو أنه لا علاقة مباشرة له مع الجواهر.

– وصولا إلى تحليل نفسي وميثيولوجي لتوظيف الشاعرة لهذه الأحجار والمعادن.

 

خلق المعادن وعلاقتها بالصراع الإنساني:

يبدو واضحا من نصوص هذا الديوان السابقة عن نصوص (الجواهر)، بان الشاعرة قد تعاملت مع الحالات الإنسانية وطبائعها وصلابتها ومبدئيتها من خلال دلالات خلق الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة في أعماق الأرض أو البحار.
ومثلما هذه الأحجار والمعادن نتاج وثمرة تفاعلات البراكين وحرارة أعماق الأرض والمحيطات وعصارة الأشجار والغابات، فان هذه الثمرة تعكس أيضا سمات الصراع والحدية، كما تعكس تكوين الكائن النفسية من خلال النار كرمز للصراع والتكوين والتحول المستمر.
النار بدلالاتها وانعكاساتها من حيث الصلابة والتحدي والخلق والتحول هي تعكس أيضا حالات نفسية إنسانية ضمن الهاجس الناري حسب منهج غاستون بشلار.
الأمر ذاته ينطبق على تعامل الشاعر مع المعادن والأحجار المخلوقة من تفاعلات مكونات الماء أو التراب وضمن الهواجس المائية والترابية والهوائية حيث أعطى غاستون بشلار لكل هاجس في الحالة الشعرية دلالات وإشارات من الممكن من خلالها التقاط الحالة النفسية للمبدع في لحظة الخلق الإبداعي.
النصوص التمهيدية السابقة ( للجواهر) والهواجس الأربعة:

النصوص التمهيدية المتقدم ذكرها يتجلى فيها بوضوح الخطاب الشعري الحاد، ذو اللغة النارية، وهي لغة صالحة وتربة ضرورية لخلق الحجر الكريم.
كان الهاجس الناري طاغياً على المقاطع الأولى من هذه النصوص وذلك على النحو التالي:
قصيدة رواق أول للأرض ليقين الوهم:
تبدأ القصيدة بمفردة (الكهف) ثم (الأرض) ثم (الطين) ثم (الجذور) ثم (البراكين) ثم (النار) ثم (الحمم) وهي كلها دلالات تعكس المخاض الحراري للطبيعة وتعكس دلالة الولادة الجديدة تماما كولادة الحجر النفيس

“ما أضعت الكهف

لكنها الأرض

طين صعب يتلو أنين جذور عمياء”

“لتنجز نسلا مهدورا لا يخطئ الصواب

لا يكف عن بكاء البراكين

كلما انكسر النهار حول النار مراياه

طين صعب تمور في صلده مخلوقات في شراهة الحمم”

بجانب الصور الجميلة المكثفة والمعبرة عن حالة الخلق، فان أنين الجذور وبكاء البراكين ودموعها النارية من الحمم وتفاعلات الطين حيث تمور كل ذلك لتؤدي إلى خلق شيء صلب، صلد، إنسان ذو جوهر ومواقف ومبادئ قاطعة.
إن المقاطع التالية من النص المذكور أعلاه تكشف عن هذا الخلق، خلق الجواهر والوجه الآخر لها جواهر الإنسان.
كما تعكس ذلك إن هذه الحمم وبروز الكائن الصلب الصلد قد جاء حاملا معه الطهارة والصمود.
المقاطع التالية من القصيدة السابقة تبدأ بمفردات تحمل هذه المؤشرات: الصخور، الجبل، الرمل، الحجر.
ليتم تلقيح كل هذه المكونات الترابية بالنار والشهب والطهي لتكون النتيجة –الثمرة- الخلق الجديد- القفزة النوعية من هذا التلاقح بين المكونات الترابية والمكونات النارية في الرحم الرملي هي الرصاص أو فيما بعد الجواهر.

 

“ما أضعت شرنقة لغبار ولا صرخة الصخور”

وواضح أن الشرنقة والصرخة تعبران عن حالة المخاض ومكانه ويعطيان الإيحاء بالرحم لحظة خروج الخلق الجديد.

والمقطع التالي يوضح هذا الهاجس حيث تم إعطاء “الجبل” صفة الرحم المنتفخ بالولادة القادمة:

لكنها الأرض

طاهية الدخان، معلنة الخسائر

كرة الدم، مثوانا اليومي، رحم الرماد

إذا تميل لجهة النار، يزدهر الجفاف

وسواعد تعلن هيبة الرصاص

طين صعب

لا مفر من سلطة الحجر، راعية الصخب

حقل من الآجر والضجيج

إن تحليل هذا النص تحليلا بنيويا، وإبراز صوره ودلالاته التي تخدم تحليلنا النفسي واللاشعوري في أنه ( أي هذا النص) ما هو إلا المقدمة، المخاض، التلقيح الذي سيثمر ولادة خلق جديد.
إن هذا النص يوضح حالة ما قبل الولادة، فها هو الطين أصل الحياة، جذر الكائنات، المرتبط بأسطورة الخلق الأول، المحتضن مكونات الحياة. هذا الطين في حالة مخاض اليم، يصدر أنينا مقدسا.
هذا البركان يبكي حمما من المعادن وعصارة الأرض، دم الأعماق، أعماق الرحم، الذي بعده يظهر للوجود الخلق الجديد، ولادة لوعي جديد، إنسان بجوهر جديد.

هذا النص في بنيته البرانية يحمل كل هذه الدلالات وفي بنيته الجوانية يحمل جدلية الموت والحياة، الحق والظلم، الجمال والقبح، السالب والموجب، هواجس متداخلة متضادة موحدة تدفع نحو التحول والتغير الفكري أو النفسي.
لقد فضحت قصيدة “رفاهية الأفعى” كل هذه المكنونات اللاشعورية التي طفحت على شكل الكلمات الدالة عن هذا الشعور في التحول:

” سليلة الجحيم، برؤى الحمم

وآن أبدو أتحول:

للنهار رائحة النار

ولليل حريق القمر

وأنا حجر يتلوى بين رائحة وحريق

هات معولا،، معلقة”

 

وتقترب القصيدة رويدا رويدا من الجوهرة، فها هي بعد أن أفرغت كل شحناتها النارية العميقة المعبرة عن اللاشعور لبدايات الخلق، ولدلالات الطهارة والصلادة تبدأ القصيدة في كشف المعادن، الرسالة:
” أتمعن في الحجر”

لأقرأ قبر الفحم”

قبر الفحم صورة مكثفة ودلالة رائعة عن تحول موت- انطفاء، الفحم المخلوق أصلا من النار والحرارة الكامنة في أعماق المناجم القادم للوجود بعد معركة وصراع الرمل والحجر مع النار والحرارة.

هذا الفحم الراحل إلى قبره، فناءه وانطفاءه لا يثمر سوى الجوهرة- الماسة. ولذلك فان قبر الفحم ما هو إلا النار الشديدة العظيمة القادرة على “انصهار” أو “ذوبان” الفحم وتحوله وتغييره إلى مخلوق آخر أكثر صلابة وصلادة وطهارة ونقاوة وجمالا.

إذن النار (القبر) حولت أو حول (الفحم) إلى (جوهرة)

لتفضح القصيدة في إحدى مقاطعها عن كل هذه التحولات في صورة مكثفة

” ألوذ بالفحم سيد الماس.

الخلق الجديد بالهاجس المائي:

إذا كانت القصيدتين السابقتين قد احتضنتا المخاضات والتحولات المعبرة عنها من خلال مفردات ورموز ودلالات تحمل الهاجس الناري والترابي وهي المخاضات التي أنجبت الجواهر كالماسة، وهي إحدى القصائد الموجودة في سلة (الجواهر) من الديوان، فان القصائد التمهيدية التي ذكرتها سابقا تحمل من المخاضات والتحولات المعبرة عنها برموز ودلالات تحتضن الهاجس المائي.
الهاجس المائي هنا لا يختلف كثيرا عن الهاجس الناري من حيث عمق الصراع والألم ومن ثم الولادة أو الخلق الجديد.
فقصيدة (رسيس الهوى) والتي تعبر عن الهاجس المائي بشكل صارخ تحتضن النار الداخلية اللاشعورية، وتحتضن الألم-المخاض ليخلق بعدها الماء جوهرته المتمثلة (باللؤلؤة) وهي أيضا إحدى قصائد سلة (الجواهر).ََ

ومثلما القصيدة ذات الهاجس الناري وظفت فيها مفردات الطين، الجبل، البركان، الدخان،،،الخ. وهي مفردات تمثل مقدمات النار فان هذه القصيدة ذات الهاجس المائي وظفت فيها مفردات هي بمثابة مقدمات للماء ومن هذه المفردات المستخدمة في هذه القصيدة: المجداف- الصارية- الحبل- الرصيف -الطفو –الغرق.
الهاجس المائي يبرد الهاجس الناري:

– الظاهرة المتميزة في القصائد ذات الهاجس المائي هي أن دلالاتها ومفرداتها مرتبطة ارتباطا عضويا بالهاجس الناري ولكن ونظرا لتلازم هذه المفردات مع الهاجس المائي وأجواء الماء، فان هذا الهاجس المائي يحاول تخفيف نارية الدلالة أو العمل على انطفاء الهاجس الناري وحيث يتوضح بشكل جلي الصراع بين النار والماء، بين محاولة الهاجس الناري من تسخين مفردات الماء لدرجة أفرزت أو أنتجت أحاسيس ساخنة وحادة.

لنتأمل هذا المقطع من القصيدة:

” ووهبت مجاديف الغرق”

وكذلك لنتأمل هذا المقطع:

” لو حبك حبل يحتد بصارية العنق”

إنها صورة مائية ولكنها تعطي إيحاءات وأحاسيس بالموت أو الشنق، إنه الصراع بين المحيط المائي ومفرداته كالمجداف والصارية وأحاسيس نارية والتي تمكنت من تسخين المحيط ولتحول المفردات فجاءة إلى المفردات ذات الهواجس النارية

” يا حريقا ضاقت به الملمات”

وهنا تم التماثل بين الغرق المرتبط بضرورة وجود الماء، والحريق المرتبط بالضرورة بوجود النار، ليكشف هذا التماثل عن دلالة إنسانية نفسية وشعورية، وتمكن الهاجس الناري من السيطرة على البنية الكبرى للقصيدة، حيث استطاع الحريق أن يسيطر على الماء ويؤدي ذلك إلى الموت والألم المصاحب به.

“وأضنى صريعا استطاب الألم”

هذه الحالة تكررت مع الصارية التي وان كانت ترمز للصمود والتحدي ولكن في هذا المقطع وظفت كرمز لعمود الموت، حيث ترادفت معها مفردة الشنق لتتحول الصورة من حالة الحياة إلى حالة الموت.
إن الصارية المرتبطة بالسفينة التي هي أيضا مرتبطة بالماء وضرورة وجوده، تمكن الهاجس الناري من تحويل هذه المفردة المائية إلى مفردة نارية حين ترادفت معها مفردة (الاكتواء)، بل ازداد الهاجس الناري عنفوانا وسيطرة لتبرز مفردة (الجمر) وذلك في المقطع التالي
” لغير عينين في جمر”

رغم ذلك فان الهاجس الناري وهو يحاول اقتحام عوالم ومفردات الماء والسيطرة عليها فان وجوده في عالم ومفردات ليس من مكوناته الجوهرية أدى إلى تبريره أو تلقيح الضدين (النار) و(الماء) للوصول إلى وحدة الضدين. ومن خلال خلق جديد هو نتاج هذا التلقيح، وكان ذلك خلق الجوهرة – اللؤلؤة.
ولذلك نشاهد القصيدة تنحى صوب المفردات التي تفسر وتعطي الأسباب العلمية لخلق اللؤلؤة، ابتداء من حبة الرمل المتسربة في جوف المحارة، وانتهاء بتكوين تلك الحبة اللامعة المعروفة (باللؤلؤة) ولكن عبر ولادة وألم وصراخ المخاض الشبيه بولادة جوهرة نارية (كالماسة).
” لأصرخ: يا ساكنات الجحيم

تمهلن بي ليضطرم الرماد”

ثم تواصل

” محارة تحار بين عنف المد وسهو الرمل”

إن هذا الخلق الجديد الخارج من ألم وصراع وصراخ، سواء كان من أعماق الأرض وتفحم الصخور والأحجار وتحوله إلى ماسة، أو من أعماق البحار و اقتحام حبة رمل صغيرة في جوف محارة وتحولها إلى لؤلؤة. إن هذه الولادة الجديدة هي الرسالة الكبرى لهذه القصائد، ولادة كائن إنساني جديد، وولادة معرفة ووعيا جديدين من صراع الوجود الذي يصلب الذات ويطهرها ويصلدها ليخلق الجديد.
القصائد التمهيدية لخلق معادن وجواهر أخرى:

لقد أوضحنا في النموذجين السابقين كيف أن قصيدة (الماس) وقصيدة (اللؤلؤ) في مجموعة (الجواهر) قد جاءتا بعد مقدمات وقصائد مهدت لخلق هذين النصين.
الأمر ذاته تحقق في قصائد تمهيدية في هذا الديوان لخلق المعادن والجواهر الأخرى (كالزمرد) في قصيدة (فيما بعد)، وهناك حضور (للياقوت) في قصيدة (ممر وأشياء أخرى) وحضور (للمرجان) في نفس القصيدة، وحضور (للكهرمان) في قصيدة (ارفع جثتي عاليا).
وهكذا أوصلنا هذا التحليل والتشريح المعتمد على منهج الهواجس واللاشعور بان مجموعة (الجواهر) في ديوان (آخر المهب) هي نتاج رغبات مكبوتة تطفح بين الحين والآخر وعبر اللاشعور في العديد من النصوص السابقة لهذه المجموعة، تكون بعضها قوية وواضحة وبعضها الآخر متناثرة هنا وهناك، لتتراكم تراكما كميا وتصل إلى قفزتها النوعية التي أدت إلى أن تخلق قصائد مخصصة فقط لهذه المعادن والجواهر التي كانت تبرز كإشارات أو كدلالات للحالة الإنسانية ضمن رؤية الشاعرة وهدفها ورسالتها، ما لبثت وأن نظمت فيما بعد في مجموعة (الجواهر) التي أجبرت الشاعرة أن توظف فيها الرؤية العلمية لخلق هذه المعادن والجواهر، وتوظف بجانبها رؤية ميثيولوجية سائدة تجاه بعض هذه المعادن والجواهر، وتوظف ثالثا رؤية وظيفية استهلاكية لاستخدامات هذه المعادن والجواهر، لتندمج جميع هذه الرؤى لتوصيل الرسالة الفكرية والاجتماعية وربط هذه الولادات الطبيعة بولادات الكائن البشري ونوعية المعادن الإنسانية المرتبطة بالقيم الأخلاقية وقيم الجمال والقبح أو قيم الخير والشر أو قيم البطولة والطهارة والصمود والتحدي والثبات على المبادئ.
نماذج من مجموعة (الجواهر):

لقد أوضحنا في مقدمة هذه الورقة أن مجموعة (الجواهر) تحتوي على (18) قصيدة مخصصة كل واحدة منها لنوعية واحدة من المعادن أو الجواهر أو الأحجار، لذلك ستقتصر هذه الورقة في تبيان نماذج من المجموعة وبشكل مختصر، حيث المقام لا يسمح للتوسع والتفصيل وسرد جميع مكونات المجموعة.
إن هذه المجموعة تعاملت معها الشاعرة برؤية جمالية أبرزت من خلالها صفات هذه المعادن وارتباطها بالصفات الإنسانية.
كما وظفت الشاعرة من أجل توصيل رؤيتها الأسباب العلمية لنشؤ وتكوين هذه المعادن لذلك كانت بعض هذه القصائد وخاصة في مقاطعها الأولى مباشرية واضحة وتفسيرية فاضحة.
ووظفت الشاعرة في بعض قصائد المجموعة الأفكار الميثيولوجية (الأسطورية) المرتبطة بالأحجار والمعادن ولكن كان هذا التوظيف يخدم جمالية النص وتفجير الصور المكثفة والمعبرة ودلالات إنسانية عميقة المعنى، وكانت رؤيتها المثيولوجية هذه نقدية من جانب وفنية من جانب آخر.
تمكنت الشاعرة من تجسيد الإسقاطات الإنسانية والصفات والجواهر الإنسانية والإبداعية وهي توضح الصفات والمكونات والصور المرتبطة بهذا المعدن أو ذاك الحجر.
وحيث أن هذه المجموعة من القصائد في الديوان تحتوي على (18) قصيدة، الأمر الذي يصعب أن نتناولها بالتفسير والتحليل في هذه الأمسية، لذا سأقتصر فقط على أربعة نماذج من الجواهر، الأولى منها يحتضن وبكثافة الهاجس الناري، والثانية منها يحتضن الهاجس الترابي وأحيانا الهاجس الهوائي، والثالثة متشربة بالهاجس المائي، أما النموذج الرابع فهو يحتضن الهاجس الناري والترابي. محاولين التكثيف والاختصار في التفسير الميثولوجي أو التشريح الجمالي، مؤكدين بأن هذا الاختصار قد يشوه التفصيل الذي نطمح أن يوضح جملة من الأبعاد والدلالات من خلال استخدام المنهج النفسي أو التفكيكي، تاركين باقي الجواهر مع هواجسها وأبعادها للدراسة الشاملة المتقدم ذكرها في بداية هذه الورقة.

أولا: ياقوت

أولى قصائد هذه السلة هي قصيدة ياقوت، حيث تبدأ الشاعرة مباشرة في وصفه ومكان وجوده

هو إذن من اصل غير مائي، صحراوي، بركاني، تكون عبر تلك الحالات التي تمت الإشارة إليها في القصائد التمهيدية السابقة. وواضح انه حجر ذو هيبة وإبهار، فهو

” يقود شهوة الأصابع”

وكذلك قادر على خنق عضو مرتبط بالكبرياء والكرامة (الرقبة) التي تحمل راس الكائن الإنساني، فإما توصله إلى العلياء والشموخ وإما الركوع والانحناء، هو بالتالي بمثابة رافعة ودلالة للكرامة والكبرياء أو بمثابة قوة هابطة لهما، وهذا الحجر وبإرادة الكائن_ بالأخص الأنثى_ وبلا شعورها تسلم رقبتها لهذه الجوهرة.

” يقود شهوة الأصابع لخنق سطوة العنق”

غير أن القصيدة تحتضن آراء مرتبطة بالفكر ما قبل العلمي، أي الفكر الأسطوري خاصة تلك المتعلقة بالمثيولوجيا وببعض الآراء القديمة التي كانت تربط مستقبل الإنسان وحاضره النفسية والصحية والحياتية بالأبراج والمعادن والأحجار الكريمة، وفي تراثنا الإسلامي العديد من المقولات والآراء والمواقف التي تشجع مثل هذا الطرح، لقد تم التطرق إلى الياقوت في بعض الآيات القرآنية كتشبيهات، ففي وصف الحور العين في الجنة أشار القران الكريم في سورة الرحمن- الآية (58) ” كأنهن الياقوت والمرجان”، غير أن هناك أحاديث منسوبة إلى الرسول محمد بن عبد الله (صلعم) وبعض الصحابة مثل هذا الحديث ” تختم باليواقيت فإنها تنفي الفقر”، وهناك أحاديث غير مسندة تعطي أوصاف لمكونات الجنة والعرش والصحابة وآل بيت الرسول مرتبطة أشد الارتباط بالأحجار الكريمة ومنها الياقوت. وهناك العديد من الكتب التراثية التي تحلل أوصاف كل معدن وحجر كريم وعلاقته بالأمراض و الفقر والغنى والوجاهة والشجاعة وإزالة الخوف والتأثير على الآخر كالعدو أو الحبيب والعاشق وغير ذلك.

وعلى الصعيد الفلاسفة تطرق أرسطوطاليس إلى الياقوت واعتبره منقذا لمن تختم به من الأمراض ومن دخل ” بلد فيه الطاعون لم يصبه ما أصاب الناس، ومن تختم بالأحمر منه شجع قلبه وجل في أعين الناس وسهلت عليه أموره، ونفذ أمره في كل ما يحاوله ولم يرى في منامه أحلاما رديئة” . ولابن سينا في كتابه القانون في الطب يعطي وصفا مثيولوجيا لهذا الحجر، فخاصيته التفريح وتقويه القلب ومقاومة السموم، وإنه ” إذا أمسك في الفم فرح القلب”، كما أنه يمنع حدوث الصرع، ويمنع الخوف الشديد، كما انه يعتبر (رسول سلام وشعار الحب الملتهب، والغيرة الشديدة، ويعطي لابسه الشجاعة ويمنع الغرق ولا تقع الصاعقة على من تختم به ويقلل متاعب النفس ويساعد على صفاء الروح ويشحذ الذهن ويساعد على التفكير الهادئ المتزن. بل يتفق معظم كتب المثيولوجيا الإسلامية والإغريقية بان حجر الياقوت إذا ما وضع تحت اللسان يمنع العطش.

هو إذن بمثابة إكسير الحياة والدواء الشافي لمعظم الأمراض والرافعة التي تدفع المرء نحو النجاح والتأثير على الآخرين، فضلا عن صلابته وصلادته التي لا تضاهيه سوى (الألماس) لذلك ينهزم أمامه الأزميل والحديد والنار.

لقد كثفت هذه القصيدة مجمل هذه الصفات المثيولوجية:

” حاسرا، يقرأ ظلام المنجم

ضد الظمأ ومأواه الجحيم

قبل أن يتهدم يصعق عداء الأزميل

يتصاعد منه وميض القيامة

موقوتا يفتُ نير الحديد

ملعونا”

بيد أن صفة (أللعنة) بعد هذا الوصف الأسطوري لهذا الحجر قد قلبت الرسالة الموصولة إلى المتلقي، وتحول الموقف إلى موقف نقدي وإبراز رؤية الشاعرة لكل ما سبق حينما تمكنت من التلاعب مع المثيولوجيا والفكر الأسطوري تعاملا فنيا، واستمتعت بهذه الصفات السريالية ذات القدرة الهائلة التي تحتضنه، فإذا بها تعتبرها لعنة لمن آمن بكل هذه واعتبرها بديلاً عن العلم، إلا أنها تمكنت من توظيف هذه الصورة الغرائبية لهذا الحجر للهدف النهائي لها حينما قالت

“مكتنزة بذخيرة الوقت

كالشعر، لا ينسى لئلا يموت”

إنه الشعر، إذن، الحاضر السرمدي في ذهن الشاعرة، السيد المطلق، الهاجس الأول، فهو المضئ دوماً في ظلام المنجم/ العالم، وهو الذي يروي العطش ويمنع الظمأ، وهو النار وحاضن القيامة، وهو الذي يتحدى الحديد والأزاميل الموجة إليه، هو الملاذ والمنقذ للروح، هو الصلب الصلد كالياقوت، لذلك هو يتحدى كل البدائل، هو الباقي الذي لا يموت.

ثانيا: رخام:

هذه القصيدة بمثابة الصاعقة التي تصيب الذهن، قصيدة الصدمة، الصفعة، جملة من المتناقضات في دلالة (الرخام) كلها تتحملها وظائف هذا الحجر. وإبداع الشاعرة فيها هو قدرتها الجميلة في إصابتنا بهذه الصدمات (المتناقضات) في كل سطر من سطور هذه القصيدة، وتمكنها من تحويل حجر أصم يستخدم بكثرة في حياتنا (منازلنا) ونراه في كل لحظة إلى صورة شعرية جمالية لذيذة الإحساس عميقة المعنى.

فهو حجر يحتضن من الألوان والأشكال والعروق بما توحي لك بسريان الماء في شفيف الزجاج، وهو حجر استخدم ككؤوس شرب منها العشاق، ولكن رغم هذه الأجواء الجميلة والرائعة، هو حجر يغطي به القبر!.

ولقد تمكنت الشاعرة حقا من زلزلة الأحاسيس وهبوطها إلى الأسفل بعد أن كانت تطير بنا مع الحب والحياة والمتعة واللذة، فإذا بها وفي لحظة تسقطنا إلى القاع والموت والحزن:

” له الماء فسقية الخيال

ساقي العشاق، عاهل المقابر”

إن جمالية هذه الصورة الشعرية ورائها رسالة سياسية وفلسفية ناضجة، بجانب قدرتها المكثفة في تقديم معنى (وحدة الأضداد) في الذات الواحدة، بل تبيان المقولة التي تؤكد بان لكل شي ظاهرة/ حدث/ موقف، أبعادها الإيجابية والسلبية في آن واحد، فهذا الرخام، الحجر الأملس، الجميل الذي هو بين المنزلتين، حيث عروق الحياة تتكون من جماد الرمل وهو عبر الاحتراق يتخلق الجديد.

“تنور أبيض يألف طغيان الرمل، ليبدوا صلدا مثله،

متشعبا يهزه السواد”

بيد أن الإضاءة الإبداعية في هذه القصيدة تتمثل في قدرة الشاعرة على التلاعب بالمشاعر ودلالات (الرخام) المرتبطة بالحياة والصعود والغناء وفي الوقت نفسه المرتبطة بالموت والهبوط والانطفاء.

ساقي العشاق يساوي الحب والعشق والتفكير في اللذة واللحظة والانتعاش والانغماس في قادم الأيام، المستقبل، صعود نحو الآتي. وكل ذلك والرخام له دور أساسي في هذه الحياة الجميلة. وفجأة وفي ذات الفقرة تهبطنا الشاعرة نحو القاع، نحو الموت، نحو الانطفاء، نحو المجهول، نحو اللا لذة، نحو الحزن، حينما تقول ساقي العشاق، عاهل المقابر.

ولكن رغم هذا الهبوط الأرضي نحو الموت بدل الحياة، هي تشفق على الموتى وتعتبرهم ناس لهم الحقوق ذاتها كما الأحياء في أن نوفر لهم وسائل الراحة والمتعة أيضا، فتواصل حيث تقول:

” عاهل المقابر،

استراح إليه الموتى بما قَد القلب لهم”

هي إذن إنسانية النظرة والموقف من الوجود المحيط بنا، من الأحياء والعشاق والملوك الظالمون وكذلك الأموات. كل هذا الحشد يتعامل مع الرخام، حجر الإنسان وهو حي وكذلك وهو ميت.

فهو: ” نزيل القصور” ولكنه أيضا ” يواسي الجثث كحرير الكفن”. ولنتأمل الفقرة الأخيرة هذه ومدى جمالية الصورة فيها، بل مدى رقة وإنسانية الشاعرة تجاه الأموات، فهذا الجسد، المنطفيء، جثة في طريقها إلى الانحلال والاختفاء بحاجة إلى من يواسيها، ليس فقط حجر راق وجميل وغال وصامد بقوة أمام عوامل تعرية الطبيعة، بل أعطتنا الشاعرة معنى لم يكن في بالنا بشان الكفن، حيث تطالب هذه القصيدة أن يكون هذا الكفن من الحرير الناعم الذي ينعش الجسد ولا يخدشه أو يجرحه، هو إذن حرير يواسي الموتى تماما كما جلالة الرخام، حيث للموتى حقوق علينا أن نوفر لهم كافة الوسائل الكفيلة في أن يستمروا في أحاسيسهم وبأنهم ليسوا وحدهم وليسو معزولين في القبر المظلم دون بياض الكفن ولمعان الرخام!.

ثالثا: اللؤلؤ:

“رصاص الأصداف” تشبيه جميل للؤلؤ قابع في جوف الصدفة، فهو بمثابة رصاص، كرات صغيرة في رحم حيوان بحري.

غير أن الشاعرة وفي الفقرة الثانية من هذه القصيدة انحازت للتفسير العلمي لخلق هذا الكائن، الحجر الجامد الذي يخلقه كائن حيواني بحري حي.

فالصدفة الساكنة في عمق البحار تواجه أعدائها من حبات الرمل التي تتسرب في جوف الصدفة الرخوة، فإذا بهذا الحيوان يفرز مادة لمقاومة العدو الدخيل ويغطيه لتخلق من هذه الافرازات قشرة وراء قشرة، لؤلؤة جميلة.

إلا أن مقابل هذا التفسير العلمي لخلق اللؤلؤ، هناك تفسيرا آخر قد يكون مثيولوجي إلا أنه تفسير إبداعي جميل.

فإخوان الصفا في موسوعتهم المعروفة قد صوروا خلق اللؤلؤ تصويرا فنتازيا رائعا ومبهرا. يقول كتاب (إخوان الصفا خلان الوفاء) في رسالتهم الخامسة حول الجسمانيات والطبيعيات في بيان تكوين المعادن.

(اللؤلؤ هذه الجوهرة إنما هي ماء ورطوبة، هوائية عذبة، ودهنية جامدة، منعقدة بين صدفين، ظاهرهما خشن وسخ، وباطنها أملس نقي، في جوفها حيوان كأنه قطعة لحم، خِلقتُه خِلقُة الرحم، مسكنه في قعر البحر المالح وهو قد ضم ذينك الصدفين على نفسه من جانبيه.”

غير أن الشاعرة اقتربت كثيرا من وصف وتشبيهات إخوان الصفاء حيث تم تشبيه الصدفة برحم امرأة تحتضن طفلا وتدافع عن بقائها ضد كل جرثومة تقتحم هذا الرحم:

” جنين لا يغفل

في رحم أخرس يتبلر”

” محارة تتحدى قبضة الكون

وترسل العويل عاليا كل انتهاك

كامرأة تذود عن براءة الرحم”

رابعا: فحم:

قصيدة نارية، حيث أن الفحم كحجر، والفحم كخالق لجواهر أخرى، والفحم كخالق لأحد أهم أدوات المبدع (القلم) وهو يستخدمه منذ القدم كحجر وشرارة ونار الخلق الإبداعي، ورغم أن القصيدة تنقسم إلى قسمين: الأول هو بمثابة حالة ووصف هذا الحجر وما يتخلق منه من الماس أو أي تبلور لاعتى الجواهر، والقسم الآخر له ارتباط مباشر بالقلم والكتابة، إلا أن في كلا القسمين هناك حضور ناري كبير وطاغ.

النص يبدأ بصورة في غاية الانبهار

” رضيع النار”

هو إذن تم تحويله من حجر أصم إلى طفل ينمو ويعيش كلما رضع نارا تلو نارا، ومثلما الطفل الصغير الذي يخرج للحياة ويمارس المحيطين به أقصى الرعاية والاهتمام به، رغم انه لا يقدم لهم شيئا سوى المراهنة على المستقبل وقادم الأيام، حيث البهجة والسعادة والأمل، فكذلك هذا الحجر الأسود، فعبر رضاعته لهذه النار، يتحول إلى مصباح لظلام الليل.

” رضيع النار

هو الأسود مصباح الليل”

هي صورة مبهرة أخرى تحتضن المتناقضات بشكل جميل، فالسواد يتحول إلى رمز للإضاءة والنور، ليحول هذا الأسود، سواد الليل المماثل له إلى بياض ونور، حيث يحمل في داخله ضده، من حيث اللون أو الغاية.

غير أن المقطع التالي يبعد المتلقي تماما عن حالة الصورة الأولى المرتبطة بالطفل والحياة.

” رضيع النار

هو الأسود مصباح الليل

شهيد التـنور”

فلقد تحول هذا الحجر وبشكل مفاجئ من طفل ينمو بالنار إلى كائن يضحى بنفسه من أجل حياة الآخرين. فهو إذن انتقال من مرحلة الاعتماد على الآخر إلى حالة اعتماد الآخر عليه. فالشهيد كرمز ودلالة هو مرتبط بحالة إنسانية شديدة التعقيد حيث المجتمع بحاجة إلى أبطال مؤمنين بقضية شعبهم إيمانا مطلقا وروحيا، ناكرين للذات في أقصى درجات النكران، وما أن يقدم على الشهادة حتى ترجع الروح والأمل والحياة في عموم الشعب والأمة، وكأنه رسول يذكر أمته بضرورة الصمود.

وها هو الفحم، ذلك الحجر الأسود يتحول في التنور إلى خبز وحياة للآخرين، إلى شهيد يقدم ذاته حيث بدونه لا يمكن للآخرين أن يعيشوا.

حيث أن الفحم هو أصل الماس، وكذلك فان من خلال نيرانه وحرارته وعذاباته يتبلور أعتى الجواهر.

غير أن القسم الثاني من هذا النص والمتعلق بالكتابة هو القسم المبهر لدى المبدعين فهذا الحجر الأسود أصبح :

” راعي الحرف”

وهو مقطع يفجر صورة شعرية ودلالية جميلة، حيث تتحول الحروف إلى كائنات يقوم هذا الفحم الأسود برعايتها كرعاية الأب لأبنائه ورعاية الراعي لأغنامه، ورعاية أي رسول – مسئول – حاكم لشعبه. وهل بمقدور الجامد أن يكون راعيا للمتحرك؟ وهل بمقدور الحجر الميت أن يكون منقذا للأحياء والحروف؟ غير هذا الفحم الذي يجسد الحروف ويحولها إلى خلق ونص ورواية ورسم وفن، يحول الحروف إلى حياة مبدعة!؟

لتأتي المقاطع التالية لتوضح كل ذلك:

” راعي الحرف

ما أن يقدح شرر الخيال

حتى يتقد فاضحا مكر الرماد( خائن اللهب)”

فهذا الحجر، رضيع النار، وشهيد التنور، هو ذاته خالق شرارة الخيال الإبداعي، هذا الحجر الشهيد الذي ينصهر – يذوب – يضمحل – ينتهي – يموت ليتحول إلى رماد، غير أن هذا الرماد يصبح خالقا وراعيا وملهما للحروف، لحياة جديدة. هو إذن حتى عند مماته يصبح ماكرا وخائنا لنوره وشرارته ليتحول رصاص الرماد إلى خلق جديد.

هو إذن حجر حر، منذ بدء خلقه وحتى مماته، لذلك ينتهي النص بهذه الحكمة الجميلة ” حجر حر”.

إن هذه الحرية التي تطمح الشاعرة تحقيقها عبر الفحم هي دلالة عن حرية المبدع وإصراره على تحقيق ملكوت الحرية على هذا الكوكب ومقارعة ملكوت الضرورة.

 

فوزية السندي ما حولها وما حدث

الكاتب/ محمد زين جابر

جريدة النهار.

بعد مجموعتها الشعرية الأولى”استفاقات”1882، تطل الشاعرة البحرانية فوزية السندي بمجموعتها الجديدة”هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث”# حاملة غربتها وثورتها و”كوابيسها الزرقاء”

المقلقة وشعورها المشحون بالثقل والاختناق.

القصائد-النصوص الأربعون في المجموعة، غرق في الهاوية المحفورة عميقاً داخل الذات، واكتساب الشمولية التي تقود الى استنباط الارهاف الشعري، وهي في معظمها تتأرجح بين الوصف والاحتمال، بين الحقيقة والتأويل، بين المعلن والخفي، بين الخارجي والداخلي، كما خلال هذه القصائد خطان متساويان: الشعر والقصة وتحاول الشاعرة بهما التمكن من موضوعها والتجاوب مع رؤاها، كاشفة رغبة جامحة في الثورة على الواقع(ربما واقعها)، هادفة عالماً أكثر صفاء واماناً مما تراه أو تعيشه، وما فرارها الى الماء(الشاطىء،البحر،الغرق) الا صورة حقيقية عن غموض امانيها وضبابيتها الكثيفة المحجبة:

“نعكف معلقين هكذا بين تماس الشاطىء وثوب البحر

بأحيائه الأليفة والمشدوهة

نغرق معاً باحلامنا

في جدولة المساء الفضي”

“أنت وأنا حولك” ص60″

يتساوى عند الشاعرة النص والمعنى، ويصبحان مترافقين،ويصير الخارجي والداخلي واحداً يساهم في الخلق الفني ويكشف ما يختبىء في داخلهما، ويتحول العالم في قصائدها إلى ذات، ويصعب الفصل بينهما. كما يصبح عالم الشعر رمزاً للحركة المتفجرة، ومركز الارهاف الذي هو قوي وضعيف في آن، ينبوع ومصب تمحى الفوارق والفواصل وتزال السدود. ومن هنا تتميز قصائد المجموعة بفضاء شاسع، محرر، مضيء، ومعبر صاف لطيف محبب، وتجهد في الافلات من أسر السرد الممل، والتفاصيل المفرغة، والبوح المفتوح والهدر اللغوي، وفي تجسيد ايقاع الشاعرة ومقدرتها على رصد الحياة وتطورها وهمومها.

تبدو في قصائدها واثقة من نفسها، تنتمي إلى قضيتها، جماعية المشاعر والأحاسيس حاملة هم المرأة العربية واعباءها.

” أتسول حصى الكلام الكامن في سعة الأخيلة وشواذها الصقيلة التي لا تفتأ عن مراودتي وإلهائي والتغرير بي وهتكي ومزاولتي وإيذائي، يسورني تعب تاء التأنيث وعين العذاب وباء البطش.. تعب هائل، منكب خلالي، أنوء كترس لا يكف عن الدوران…

و أنا فوق القمة مكترثة بالعبء.”

(هل أرى ما حولي ص111)

و برغم ان الرؤيا المتغلغلة في النص عامة وشاملة من حيث تطرقها الى القضايا المصيرية (الوطن)، وبرغم ان الشاعرة ثائرة على الواقع المعيوش،وانها تحاول الخروج من دائرة الاستنساخ الواقعي بما انها تمتاز بقوة ايحائية لافتة، وحالة ابداعية واعدة، وخيال فسيح منعزل حاملة همها المفترض ووعيها التام خصوصية الكلام الشعري:

” أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

اطلق رغوة الأفق

امرغ قوس قزح بحرية ألواني

أعج بالفضاء

وكعادتي

أفيق”

(نوافذ ص24)

وحين تهدف الشاعرة الى اعادة التوازن الى نفسها المرهفة المضطربة ، وحياتها القاسية المطبقة، تحاول قصائد تبرز فيها عملية التفاف الذات على الذات حيث في آن شعور بالألفة:

” مفتوحة ولا تقبل غير ذلك

ولأنها كالوديان المنداحة

والبراري الوعرة

والدهور الصقيعة

تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها.”

(نوافذ للفتح ص21).

وللزمن في قصائد المجموعة انعكاس سلبي، تعاني خلاله فوزية السندي فكرة متسلطة ناتجة عن شعور بالعداء لهذا الزمن الراعب، وكره له. ومانلمحه من مفردات مثل”الوقت،الليل،النهار، الدقائق ،الثواني، الانتظار” ينبيء ببعبث الشاعرة الوجودي، والانقطاع الاستمتاعي، اللذين يطغيان على قصائدها، ما جعلها في هاجس مستمر، وخوف متصل من الرحيل ووداع الحياة الهانئة(المتمثلة في الاستمتاع بالحب وجمال الطبيعة) ويتحول الغد عندها الى رمز للظلام والضياع، ويؤكد هذه المفردات “الزمانية” قصيدتها”خفايا الكلام” (ص13) وفيها:

” أيها السيد لا تخف، داركت الوقت”

وقصيدتها” ماكان رؤيا كان شركاً وغبطة”(ص 88) وفيها:

“الباحة مقفرة والوقت يماطل منتهى الأعذار”

و”لو ترفع عينيك المثقلتين…/ لامتزجنا في ثوان”

وقصيدتها “متواليات” (ص91)

وفيها ايضاً:

“أشك خيوط الدقائق المنفلتة ببرودي”

“مولعة بانتظارك/كأنك الليل”

و”أسال الليل عن سر بكائه وعزلته/ وأنت معي”

إلى ذلك، فاللغة عند فوزية السندي استسلام للعفوية وشغف بها، ورضوخ للقلق وحالاته. ليس لها رواسب او التزامات فاضحة أو تكايا( شأن معظم الكتاب البحرنيين)، بل هي مغامرة جريئة، محببة، في قفز فوق الذهنية أو الذاتية ( بالمعنى الكلاسيكي) أو العرض الرخيص. كما هي عندما تفكر ولا تتحرك، تطيع ولا تتمنع، تعصرنها إلى أقصى الحدود عندما تشغل مخيلتها الخصبة الواسعة. وحين تحاول تجديد الصورة، تستخدم لغة مبتكرة، تنتقي مفردات حية، بسيطة، تعبر عن الشعور الخاص وتدرك المغزى الداخلي.

 

 

“هل أرى ما حولي، هل أصف ماحدث” مجموعة نصوص وقصائد واعدة كنت قرأت معظمها في مجلة “كلمات”( تصدرها أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، ويتحمل القسط الأكبر من جهود اعدادها وتحريرها الاديب القاص عبدالقادر عقيل) مابين 1982 و1986، حتى خيل لي أن صاحبتها السندي قد تكون(مع قاسم حداد) الشاعرة البحرينية المتميزة، والصوت النسوي الفريد، الذي استطاع بجرأة وجهد لافتين، اختراق حدود وطنه، إلى حركة الحداثة في الشعر العربي.

فوزية السندي ..الشعر والرؤية النقدية

جعفر الجمري

جريدة الوسط السبت 20 فبراير 2016م الموافق 12 جمادى الأولى 1437هـ

 

في استئناف تناولات «بورتريهات النصوص»، تحضرنا فوزية السندي، ولا نستحضرها: تلك التي «تؤبِّن المحبة»، وهي منشغلة بامتداداتها. تلك التي ترى «فضيلة للخطأ» الذي لا يحشر صاحبه في مدارات من ندم. الندم في أردأ صوره. جميل أن تندم، والأجمل ألَّا تفعل في كثير من الأحيان.

واحد من الأصوات المُؤسِّسة التي أحدثت نقلات في النص الشعري، ليس ضمن فضاء التجربة البحرينية فحسب؛ بل لتلك النقلات امتدادها إلى المشهد الشعري الخليجي، من دون أن نتورَّط في تصنيفات ذكورته وأنثوته، كما يحلو لكثيرين.

في «تأبين المحبة»، نقف على تلك اللغة الفارقة والسيَّالة، والرؤيا المشدوهة بمدى يتيح للشعر أن يتوغَّل ويتاخم فضاءات يلتحم فيها الحلم بالواقع بالغرابة؛ وحتى بالكوابيس.

«لم نشأ أن نغدو مثقلين بحطام أكثر/ يصب جهاته كلها على أحياء مثلنا/ مترب وثقيل هواء هذا الحب ومنزو/ الغرابة كلها في حصى الممرات الدخيلة/ التي أودعتها على كفي ظلال قلبك/ انتظرت مراراً/ أن تنزَّ الحقول غضبها/ سيّجت رحى البنفسج بعمري كله/ أرديت للورد ضريحاً».

لم تتورّط السندي بذلك التوحُّش في اللغة بإقامتها سدوداً لا مدى للنظر فيها، ولم تُحِط نفسها بمتاريس تغلق فرص التقاط وإمساك القارئ بحصته من الدهشة التي لا يُعاد إنتاجها واستنساخها، وبالتالي لا تدخل ضمن قدرة وطاقة وفعل الدهشة بكل الأثر العميق والجذري الذي يمكن أن تُحدثه؛ حتى في استدراج العادي ليكون مادتها الخام. العادي الذي يظل مهملاً؛ لكن طاقة الشعر تملك قدرتها التي تحيله إلى الحضور الأول والسحْر الأول.

في نصها «فضيلة الخطأ»، لا تقدم درساً أخلاقياً بقدر ما تقدم رؤيتها المُخربة. المُخرِّبة للسائد في النظر إلى الخطأ باعتباره تهديداً للعالم بإطلاق. كثير من الأخطاء عملت على تصحيح العالم. الأهم من كل ذلك، عملت على تصحيح نمطية التفكير والمواقف لدى البشر؛ وخصوصاً أولئك الذي لم يُخفوا هوسهم بالصدارة باسم الإصلاح! رؤية تذهب في نسف تلك النمطية بثقة بالغة.

«أخطأت/ عندما أدركت خطيئتي/ كحصاة في منتصف الطريق لا أصل/ ولا شأن لي بالعودة لأصل/ تحاكم المخيلة الجسورة من يضنيها أكثر/ لتأسره بضلاله دوماً».

ليس بورتريها للنص الشعري الذي عُرفت به فحسب؛ إذا بالحديث عن اللغة التي بدأنا بها هذه الكتابة، لا تتوقف السندي عند نصها الشعري الذي تسهر عليه بحساسية بالغة، إذ لها من قبل ومن بعد رؤيتها العميقة، وتناولها الذي يكشف عن امتلاك لأدوات نقدية لم تتورط أيضاً في المنهجيات التي كثيراً ما تُوصد الأبواب أمام تلقيها؛ بل برؤية وأدوات وحساسية الشاعر تكتب هنا. تكتب عن عديد التجارب الجديدة مشيرة إلى أنها «لا تدرك عمق هذا المنحى وهي تصوغ إطلالتها المعرفية على العالم، لذا نراها تتدافع نحو التجارب التي سبقتها ونالت ألقاب التفخيم، والتعظيم، والتكبير، كعادة العرب في التبجيل، تتسابق المواهب نحوهم من أجل تقييم تجاربها الحديثة، بمعنى منحها صك الاعتراف أو المصداقية الشعرية، بمعنى آخر منحها شهادة النجاة من الخطأ».

ذلك الوعي والتناول النابع من الممارسة والتجربة، يدعها في حِلٍّ من اعتناق تلك المنهجيات المليئة بـ «التضبيب»، والمناورة في كثير من الأحيان.

 

 

فوزية السندي تعبر عن هواجس المرحلة وعذابات الوعي

جريدة الوطن الكويتية

9 يناير 1993

في ديوانها الأخير “حنجرة الغائب” سنة 1992 عن أسرة الأدباء والكتاب، تطور فوزية السندي لغتها الشعرية الأولى، متجهة لبلورة قصيدة غنية الصوروالظلال، نارية المذاق، مدهشة في ألوانها، متخلصة، بشكل واسع من قصيدة الأنا وشرنقة الذات، لتعبر بقوة عن هواجس المرحلة وعذابات الوعي.

تعتمد فوزية السندي في بنائها الشعري على صورة جديدة مبتكرة، غنية بالظلال، ذات وقع موسيقي خاص، مثل هذه الجمل الشعرية:

” كلما مدت الأرض جراحها في مرايا مهدك

انهدت يداك”

“ها أنت شعب في راية تحتدم”

“منذورة لمهالك الممالك التي لا تفيق من الغدر

تقيس الوقت المفعم بطعنات الخناجر”

“تسعى وحيدة

و نهر الدم رفيق لا يصحو”

“مثل كأس مهدور لا يصل السهرة

طفل مبهور برعدة الطين”

“دم يرصد النشيج

خفيفاً

خفيفاً

كالخلية الخرساء ترخيه في حسرة الروح”

ان كل جمله شعرية تعتمد على نحت صوري، متألق، منفرد، انها تحاول أن تجعل”الصورة” بؤرة القصيدة المشعة المتنامية، وهذه الصورة الغريبة الجديدة، لا تجثم لوحدها، بل تتراكم فوقها بذات النحت، الغريب، الذي يحيل تركيب الأشياء بضوء ولون جديد.

ان قدرتها الشعرية الأساسية تكمن في تفجير هذه الصورة، التي تكفي بذاتها، لتكون شعراً، عبر هذه الكثافة التصويرية الغنية، فصورة:

“كلما مدت الأرض جراحها في مرايا مهدك

انهدت يداك”

تجسد حواراً خارجياً- داخلياً غنياً، حيث الرجل المنتمي تمتد فيه الأرض، تمزيقاً وشظايا، منذ المهد، لكن ما يجعل هذا المعنى شعرياً، هي اللغة المكثفة التي زاوجت بين الأرض والذات والانتماء والجراح، بين الطفولة والنضج، عبر هذا الاسلوب الشرطي، والخارج عن أي شرط ميكانيكي، وهذا الجرس الذي يحدثه حرف الميم المتوزع في البدء وحرف “الدال” المتوزع أخيراً، وفي جرس القافية، لكن التشكيل الشعري لا يعتمد فقط على كثافة وظلال الصورة المبتكرة، بل وعلى نغمها الداخلي، الذي يحفل بالكثير من الأدوات التعبيرية والموسيقية، فهناك استخدام موسع للطباق والجناس، عبرهذا الولع بأشكال المشابهة في الأشياء، وتناقضها وحفيفها الموسيقي وظلال صورها، مثل جملة:

“دم يرصد النشيج

خفيفاً

خفيفاً

كالخلية الخرساء، ترخيه في حسرة الروح”

محتدماً فاستخدام حرف”الخاء” يتنويعات جميلة ثم انهاء الجملة يتنويعات لحرف “الحاء” المشابه دون أن يقود هذا الاستخدام الى تدمير المعنى وشل طاقته، وكذلك استخدام التضادات الحادة، جعل “الدم” و”النشيج” يتحولان الى شخصيتين تتوغلان في الاناء لينتقل الدم بعد هذه المعاناة الى الخفوت الى الثورة. هذه اللغة المنحوتة، ذات الصور المكثفة النامية عبر تضادات لونية ومادية واسعة، لا تبنى فوق تداعيات محضة لتتناثر بلا هيكل فني، كما كانت فوزية تفعل في تجارب سابقة، حيث تتحول التداعيات الى تداعيات في ذاتها، بل نجدها هنا تنسج التداعيات في معمار فني متصاعد، مطوراً الحالات الشعرية الى لغة درامية عالية، وأساس بناء المعمار الفني يعتمد على نسقين، في ديوانها هذا النسق الأول هو في التعبير عن موضوع عام بغنائية درامية عنيفة، والنسق الثاني هو في تشكيل لغة حوارية صراعية مع المخاطب، الرجل الرمز، وبناء محاور متعددة حوله، ويتسع هذا النسق ليعبر عن عوالم واسعة ورؤى تاريخية أو حالات شخصية عاطفية، ان جانبي اللغة، الصورة الجديدة، والمحور البنائي للقصيدة لا ينفصلان، بل هما يتضافران تضافراً شديداً، حيث يمتلك المحور البنائي دور المحرض، والمفجر للصورة، فمن غناه، ودراميته، وسخونته تنمو لصورة وتثري المحور.