قراءة ميثولوجية لمجموعة “الجواهر”


عبد الله جناحي

جريدة الايام البحرينية

مقدمة:

هذه الورقة بمثابة اختصار مكثف، وعناوين كبرى لدراسة نقدية مفصلة حول مجموعة نصوص (الجواهر) في ديوان آخر المهب للشاعرة فوزية السندي وهي دراسة سوف تصدر قريبا في كتاب.

فوزية السندي من الشاعرات المتأنيات في إصدار نصوصها، الأمر الذي يترك للمتتبع لهذه التجربة فرصة في تأمل كل ديوان باعتباره محطة لها ميزاتها وثيماتها وظروفها وهواجسها النفسية وتطور لغتها وصورها ودلالاتها.

ولكون تجربتها الشعرية طويلة وغنية وصعبة، فإن دراستها بحاجة إلى تمكن من النقاد ومتخصصين بل ومتفرغين لمشروع نقدي لشاعرة عاشت مخاضات سياسية واجتماعية وفكرية وعاطفية أثمرت هذا التراكم الكمي من الكتب الشعرية، ومن قفزات نوعية في النص واللغة والشعر.

الجواهر جزئية جميلة:

هي مجموعة من القصائد القصيرة (18 قصيدة) سميت كلها بعنوان رئيسي هو “الجواهر” في ديوان “آخر المهب”:

ياقوت- كهرمان- نحاس- رخام- لؤلؤ- فحم- بازلت- ذهب – جمشت – فيروز- عقيق- ماس- فضة – زبرجد- رصاص- لازورد- مرجان – زمرد.

من خلال إطلاعي المتواضع على نصوص بعض شعراء العرب في العصر الراهن، أستطيع أن أزعم بأن الشاعرة فوزية السندي قد تميزت في إبراز هذه الأحجار الكريمة والمعادن النارية وأعطتها دلالات ومعان خارجة عن إطار صفاتها الجيولوجية وتركيباتها الكيميائية، بجانب ربطها بمعادن وجواهر الإنسان ومواقفه، وكل ذلك ضمن مجموعة مترابطة من الممكن بالتالي إجراء مقارنات ومقاربات فيما بين كل معدن أو حجر وآخر.
أن بعض الشعراء قد وظفوا بعض الأحجار والمعادن في نصوصهم، إما كإشارات سريعة، أو ومضات للتعبير أو التشبيه أو كدلالة فلسفية ووجودية أو سياسية، حيث استخدم اللؤلؤ كثيراً، والماس والرصاص والفضة وأحجار نفيسة أخرى، ولكن كل ذلك في سياق الحدث الشعري.

ورغم ذلك فإنني لم اطلع على تجربة شعرية غير تجربة الشاعرة فوزية السندي في تجميع مجموعة من الأحجار والمعادن في سلة شعرية واحدة، الأمر الذي يعني بالنسبة لي أن وراء ذلك مقصد ورسالة ودلالة ما ضمن البنية الكبرى للديوان كله. ولذلك فإن مهمتي الأولى في هذه الورقة البحثية هي الكشف عن أسباب ذلك، لتأتي المهمة الثانية المتمثلة في الكشف عن دلالات وهواجس كل معدن وحجر على حدى.

 

مخاض ما قبل خلق الجواهر:

مجموعة ” جواهر” من ديوان (آخر المهب) في اعتقادي لم تظهر كخلق إبداعي من العدم، إنما هي نتيجة مخاضات وتراكمات هادئة سبقتها في نصوص الديوان، تراكمت رويدا رويدا إلى أن برزت كنصوص خاصة موجهة صوب إبراز جوهر الجواهر هذه.
ويبدو أن هذه القصائد المجمعة في سلة واحدة قد ولدت بعد خلق العديد من النصوص: رواق أول للأرض ليقين الوهم،رفاهية الأفعى، رسيس الهوى،عنف العنب،فيما بعد، ممر وأشياء أخرى،أنتظر ومظلة تسع العالم، أعذار اللؤلؤ، أرفع جثتي عاليا، سفراء المهب.
هذه القصائد احتضنت الهواجس النارية والمائية والترابية التي فرضت حالة ذهنية لخلق قصائد ركزت على الأحجار والمعادن، وهي القصائد التي مهدت نفسياً ولا شعورياً في خلق الثمرة النهائية التي عكست دلالات نفسية واجتماعية وإنسانية لأحجار جميلة وغالية الثمن وذات تأثير ميثيولوجي للإنسان، وبالأخص المرأة.

إذن منطلقاتي المنهجية في تحليل هذه المجموعة من القصائد هي

البحث عن مخاضات سابقة لما قبل تكوين هذه النصوص.

استخدام المنهج النفسي واللاشعوري على وجه الخصوص.
– استخدام منهج غاستون بشلار في الهواجس النارية والمائية والترابية مع استثناء الهاجس الهوائي الذي يبدو أنه لا علاقة مباشرة له مع الجواهر.

– وصولا إلى تحليل نفسي وميثيولوجي لتوظيف الشاعرة لهذه الأحجار والمعادن.

 

خلق المعادن وعلاقتها بالصراع الإنساني:

يبدو واضحا من نصوص هذا الديوان السابقة عن نصوص (الجواهر)، بان الشاعرة قد تعاملت مع الحالات الإنسانية وطبائعها وصلابتها ومبدئيتها من خلال دلالات خلق الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة في أعماق الأرض أو البحار.
ومثلما هذه الأحجار والمعادن نتاج وثمرة تفاعلات البراكين وحرارة أعماق الأرض والمحيطات وعصارة الأشجار والغابات، فان هذه الثمرة تعكس أيضا سمات الصراع والحدية، كما تعكس تكوين الكائن النفسية من خلال النار كرمز للصراع والتكوين والتحول المستمر.
النار بدلالاتها وانعكاساتها من حيث الصلابة والتحدي والخلق والتحول هي تعكس أيضا حالات نفسية إنسانية ضمن الهاجس الناري حسب منهج غاستون بشلار.
الأمر ذاته ينطبق على تعامل الشاعر مع المعادن والأحجار المخلوقة من تفاعلات مكونات الماء أو التراب وضمن الهواجس المائية والترابية والهوائية حيث أعطى غاستون بشلار لكل هاجس في الحالة الشعرية دلالات وإشارات من الممكن من خلالها التقاط الحالة النفسية للمبدع في لحظة الخلق الإبداعي.
النصوص التمهيدية السابقة ( للجواهر) والهواجس الأربعة:

النصوص التمهيدية المتقدم ذكرها يتجلى فيها بوضوح الخطاب الشعري الحاد، ذو اللغة النارية، وهي لغة صالحة وتربة ضرورية لخلق الحجر الكريم.
كان الهاجس الناري طاغياً على المقاطع الأولى من هذه النصوص وذلك على النحو التالي:
قصيدة رواق أول للأرض ليقين الوهم:
تبدأ القصيدة بمفردة (الكهف) ثم (الأرض) ثم (الطين) ثم (الجذور) ثم (البراكين) ثم (النار) ثم (الحمم) وهي كلها دلالات تعكس المخاض الحراري للطبيعة وتعكس دلالة الولادة الجديدة تماما كولادة الحجر النفيس

“ما أضعت الكهف

لكنها الأرض

طين صعب يتلو أنين جذور عمياء”

“لتنجز نسلا مهدورا لا يخطئ الصواب

لا يكف عن بكاء البراكين

كلما انكسر النهار حول النار مراياه

طين صعب تمور في صلده مخلوقات في شراهة الحمم”

بجانب الصور الجميلة المكثفة والمعبرة عن حالة الخلق، فان أنين الجذور وبكاء البراكين ودموعها النارية من الحمم وتفاعلات الطين حيث تمور كل ذلك لتؤدي إلى خلق شيء صلب، صلد، إنسان ذو جوهر ومواقف ومبادئ قاطعة.
إن المقاطع التالية من النص المذكور أعلاه تكشف عن هذا الخلق، خلق الجواهر والوجه الآخر لها جواهر الإنسان.
كما تعكس ذلك إن هذه الحمم وبروز الكائن الصلب الصلد قد جاء حاملا معه الطهارة والصمود.
المقاطع التالية من القصيدة السابقة تبدأ بمفردات تحمل هذه المؤشرات: الصخور، الجبل، الرمل، الحجر.
ليتم تلقيح كل هذه المكونات الترابية بالنار والشهب والطهي لتكون النتيجة –الثمرة- الخلق الجديد- القفزة النوعية من هذا التلاقح بين المكونات الترابية والمكونات النارية في الرحم الرملي هي الرصاص أو فيما بعد الجواهر.

 

“ما أضعت شرنقة لغبار ولا صرخة الصخور”

وواضح أن الشرنقة والصرخة تعبران عن حالة المخاض ومكانه ويعطيان الإيحاء بالرحم لحظة خروج الخلق الجديد.

والمقطع التالي يوضح هذا الهاجس حيث تم إعطاء “الجبل” صفة الرحم المنتفخ بالولادة القادمة:

لكنها الأرض

طاهية الدخان، معلنة الخسائر

كرة الدم، مثوانا اليومي، رحم الرماد

إذا تميل لجهة النار، يزدهر الجفاف

وسواعد تعلن هيبة الرصاص

طين صعب

لا مفر من سلطة الحجر، راعية الصخب

حقل من الآجر والضجيج

إن تحليل هذا النص تحليلا بنيويا، وإبراز صوره ودلالاته التي تخدم تحليلنا النفسي واللاشعوري في أنه ( أي هذا النص) ما هو إلا المقدمة، المخاض، التلقيح الذي سيثمر ولادة خلق جديد.
إن هذا النص يوضح حالة ما قبل الولادة، فها هو الطين أصل الحياة، جذر الكائنات، المرتبط بأسطورة الخلق الأول، المحتضن مكونات الحياة. هذا الطين في حالة مخاض اليم، يصدر أنينا مقدسا.
هذا البركان يبكي حمما من المعادن وعصارة الأرض، دم الأعماق، أعماق الرحم، الذي بعده يظهر للوجود الخلق الجديد، ولادة لوعي جديد، إنسان بجوهر جديد.

هذا النص في بنيته البرانية يحمل كل هذه الدلالات وفي بنيته الجوانية يحمل جدلية الموت والحياة، الحق والظلم، الجمال والقبح، السالب والموجب، هواجس متداخلة متضادة موحدة تدفع نحو التحول والتغير الفكري أو النفسي.
لقد فضحت قصيدة “رفاهية الأفعى” كل هذه المكنونات اللاشعورية التي طفحت على شكل الكلمات الدالة عن هذا الشعور في التحول:

” سليلة الجحيم، برؤى الحمم

وآن أبدو أتحول:

للنهار رائحة النار

ولليل حريق القمر

وأنا حجر يتلوى بين رائحة وحريق

هات معولا،، معلقة”

 

وتقترب القصيدة رويدا رويدا من الجوهرة، فها هي بعد أن أفرغت كل شحناتها النارية العميقة المعبرة عن اللاشعور لبدايات الخلق، ولدلالات الطهارة والصلادة تبدأ القصيدة في كشف المعادن، الرسالة:
” أتمعن في الحجر”

لأقرأ قبر الفحم”

قبر الفحم صورة مكثفة ودلالة رائعة عن تحول موت- انطفاء، الفحم المخلوق أصلا من النار والحرارة الكامنة في أعماق المناجم القادم للوجود بعد معركة وصراع الرمل والحجر مع النار والحرارة.

هذا الفحم الراحل إلى قبره، فناءه وانطفاءه لا يثمر سوى الجوهرة- الماسة. ولذلك فان قبر الفحم ما هو إلا النار الشديدة العظيمة القادرة على “انصهار” أو “ذوبان” الفحم وتحوله وتغييره إلى مخلوق آخر أكثر صلابة وصلادة وطهارة ونقاوة وجمالا.

إذن النار (القبر) حولت أو حول (الفحم) إلى (جوهرة)

لتفضح القصيدة في إحدى مقاطعها عن كل هذه التحولات في صورة مكثفة

” ألوذ بالفحم سيد الماس.

الخلق الجديد بالهاجس المائي:

إذا كانت القصيدتين السابقتين قد احتضنتا المخاضات والتحولات المعبرة عنها من خلال مفردات ورموز ودلالات تحمل الهاجس الناري والترابي وهي المخاضات التي أنجبت الجواهر كالماسة، وهي إحدى القصائد الموجودة في سلة (الجواهر) من الديوان، فان القصائد التمهيدية التي ذكرتها سابقا تحمل من المخاضات والتحولات المعبرة عنها برموز ودلالات تحتضن الهاجس المائي.
الهاجس المائي هنا لا يختلف كثيرا عن الهاجس الناري من حيث عمق الصراع والألم ومن ثم الولادة أو الخلق الجديد.
فقصيدة (رسيس الهوى) والتي تعبر عن الهاجس المائي بشكل صارخ تحتضن النار الداخلية اللاشعورية، وتحتضن الألم-المخاض ليخلق بعدها الماء جوهرته المتمثلة (باللؤلؤة) وهي أيضا إحدى قصائد سلة (الجواهر).ََ

ومثلما القصيدة ذات الهاجس الناري وظفت فيها مفردات الطين، الجبل، البركان، الدخان،،،الخ. وهي مفردات تمثل مقدمات النار فان هذه القصيدة ذات الهاجس المائي وظفت فيها مفردات هي بمثابة مقدمات للماء ومن هذه المفردات المستخدمة في هذه القصيدة: المجداف- الصارية- الحبل- الرصيف -الطفو –الغرق.
الهاجس المائي يبرد الهاجس الناري:

– الظاهرة المتميزة في القصائد ذات الهاجس المائي هي أن دلالاتها ومفرداتها مرتبطة ارتباطا عضويا بالهاجس الناري ولكن ونظرا لتلازم هذه المفردات مع الهاجس المائي وأجواء الماء، فان هذا الهاجس المائي يحاول تخفيف نارية الدلالة أو العمل على انطفاء الهاجس الناري وحيث يتوضح بشكل جلي الصراع بين النار والماء، بين محاولة الهاجس الناري من تسخين مفردات الماء لدرجة أفرزت أو أنتجت أحاسيس ساخنة وحادة.

لنتأمل هذا المقطع من القصيدة:

” ووهبت مجاديف الغرق”

وكذلك لنتأمل هذا المقطع:

” لو حبك حبل يحتد بصارية العنق”

إنها صورة مائية ولكنها تعطي إيحاءات وأحاسيس بالموت أو الشنق، إنه الصراع بين المحيط المائي ومفرداته كالمجداف والصارية وأحاسيس نارية والتي تمكنت من تسخين المحيط ولتحول المفردات فجاءة إلى المفردات ذات الهواجس النارية

” يا حريقا ضاقت به الملمات”

وهنا تم التماثل بين الغرق المرتبط بضرورة وجود الماء، والحريق المرتبط بالضرورة بوجود النار، ليكشف هذا التماثل عن دلالة إنسانية نفسية وشعورية، وتمكن الهاجس الناري من السيطرة على البنية الكبرى للقصيدة، حيث استطاع الحريق أن يسيطر على الماء ويؤدي ذلك إلى الموت والألم المصاحب به.

“وأضنى صريعا استطاب الألم”

هذه الحالة تكررت مع الصارية التي وان كانت ترمز للصمود والتحدي ولكن في هذا المقطع وظفت كرمز لعمود الموت، حيث ترادفت معها مفردة الشنق لتتحول الصورة من حالة الحياة إلى حالة الموت.
إن الصارية المرتبطة بالسفينة التي هي أيضا مرتبطة بالماء وضرورة وجوده، تمكن الهاجس الناري من تحويل هذه المفردة المائية إلى مفردة نارية حين ترادفت معها مفردة (الاكتواء)، بل ازداد الهاجس الناري عنفوانا وسيطرة لتبرز مفردة (الجمر) وذلك في المقطع التالي
” لغير عينين في جمر”

رغم ذلك فان الهاجس الناري وهو يحاول اقتحام عوالم ومفردات الماء والسيطرة عليها فان وجوده في عالم ومفردات ليس من مكوناته الجوهرية أدى إلى تبريره أو تلقيح الضدين (النار) و(الماء) للوصول إلى وحدة الضدين. ومن خلال خلق جديد هو نتاج هذا التلقيح، وكان ذلك خلق الجوهرة – اللؤلؤة.
ولذلك نشاهد القصيدة تنحى صوب المفردات التي تفسر وتعطي الأسباب العلمية لخلق اللؤلؤة، ابتداء من حبة الرمل المتسربة في جوف المحارة، وانتهاء بتكوين تلك الحبة اللامعة المعروفة (باللؤلؤة) ولكن عبر ولادة وألم وصراخ المخاض الشبيه بولادة جوهرة نارية (كالماسة).
” لأصرخ: يا ساكنات الجحيم

تمهلن بي ليضطرم الرماد”

ثم تواصل

” محارة تحار بين عنف المد وسهو الرمل”

إن هذا الخلق الجديد الخارج من ألم وصراع وصراخ، سواء كان من أعماق الأرض وتفحم الصخور والأحجار وتحوله إلى ماسة، أو من أعماق البحار و اقتحام حبة رمل صغيرة في جوف محارة وتحولها إلى لؤلؤة. إن هذه الولادة الجديدة هي الرسالة الكبرى لهذه القصائد، ولادة كائن إنساني جديد، وولادة معرفة ووعيا جديدين من صراع الوجود الذي يصلب الذات ويطهرها ويصلدها ليخلق الجديد.
القصائد التمهيدية لخلق معادن وجواهر أخرى:

لقد أوضحنا في النموذجين السابقين كيف أن قصيدة (الماس) وقصيدة (اللؤلؤ) في مجموعة (الجواهر) قد جاءتا بعد مقدمات وقصائد مهدت لخلق هذين النصين.
الأمر ذاته تحقق في قصائد تمهيدية في هذا الديوان لخلق المعادن والجواهر الأخرى (كالزمرد) في قصيدة (فيما بعد)، وهناك حضور (للياقوت) في قصيدة (ممر وأشياء أخرى) وحضور (للمرجان) في نفس القصيدة، وحضور (للكهرمان) في قصيدة (ارفع جثتي عاليا).
وهكذا أوصلنا هذا التحليل والتشريح المعتمد على منهج الهواجس واللاشعور بان مجموعة (الجواهر) في ديوان (آخر المهب) هي نتاج رغبات مكبوتة تطفح بين الحين والآخر وعبر اللاشعور في العديد من النصوص السابقة لهذه المجموعة، تكون بعضها قوية وواضحة وبعضها الآخر متناثرة هنا وهناك، لتتراكم تراكما كميا وتصل إلى قفزتها النوعية التي أدت إلى أن تخلق قصائد مخصصة فقط لهذه المعادن والجواهر التي كانت تبرز كإشارات أو كدلالات للحالة الإنسانية ضمن رؤية الشاعرة وهدفها ورسالتها، ما لبثت وأن نظمت فيما بعد في مجموعة (الجواهر) التي أجبرت الشاعرة أن توظف فيها الرؤية العلمية لخلق هذه المعادن والجواهر، وتوظف بجانبها رؤية ميثيولوجية سائدة تجاه بعض هذه المعادن والجواهر، وتوظف ثالثا رؤية وظيفية استهلاكية لاستخدامات هذه المعادن والجواهر، لتندمج جميع هذه الرؤى لتوصيل الرسالة الفكرية والاجتماعية وربط هذه الولادات الطبيعة بولادات الكائن البشري ونوعية المعادن الإنسانية المرتبطة بالقيم الأخلاقية وقيم الجمال والقبح أو قيم الخير والشر أو قيم البطولة والطهارة والصمود والتحدي والثبات على المبادئ.
نماذج من مجموعة (الجواهر):

لقد أوضحنا في مقدمة هذه الورقة أن مجموعة (الجواهر) تحتوي على (18) قصيدة مخصصة كل واحدة منها لنوعية واحدة من المعادن أو الجواهر أو الأحجار، لذلك ستقتصر هذه الورقة في تبيان نماذج من المجموعة وبشكل مختصر، حيث المقام لا يسمح للتوسع والتفصيل وسرد جميع مكونات المجموعة.
إن هذه المجموعة تعاملت معها الشاعرة برؤية جمالية أبرزت من خلالها صفات هذه المعادن وارتباطها بالصفات الإنسانية.
كما وظفت الشاعرة من أجل توصيل رؤيتها الأسباب العلمية لنشؤ وتكوين هذه المعادن لذلك كانت بعض هذه القصائد وخاصة في مقاطعها الأولى مباشرية واضحة وتفسيرية فاضحة.
ووظفت الشاعرة في بعض قصائد المجموعة الأفكار الميثيولوجية (الأسطورية) المرتبطة بالأحجار والمعادن ولكن كان هذا التوظيف يخدم جمالية النص وتفجير الصور المكثفة والمعبرة ودلالات إنسانية عميقة المعنى، وكانت رؤيتها المثيولوجية هذه نقدية من جانب وفنية من جانب آخر.
تمكنت الشاعرة من تجسيد الإسقاطات الإنسانية والصفات والجواهر الإنسانية والإبداعية وهي توضح الصفات والمكونات والصور المرتبطة بهذا المعدن أو ذاك الحجر.
وحيث أن هذه المجموعة من القصائد في الديوان تحتوي على (18) قصيدة، الأمر الذي يصعب أن نتناولها بالتفسير والتحليل في هذه الأمسية، لذا سأقتصر فقط على أربعة نماذج من الجواهر، الأولى منها يحتضن وبكثافة الهاجس الناري، والثانية منها يحتضن الهاجس الترابي وأحيانا الهاجس الهوائي، والثالثة متشربة بالهاجس المائي، أما النموذج الرابع فهو يحتضن الهاجس الناري والترابي. محاولين التكثيف والاختصار في التفسير الميثولوجي أو التشريح الجمالي، مؤكدين بأن هذا الاختصار قد يشوه التفصيل الذي نطمح أن يوضح جملة من الأبعاد والدلالات من خلال استخدام المنهج النفسي أو التفكيكي، تاركين باقي الجواهر مع هواجسها وأبعادها للدراسة الشاملة المتقدم ذكرها في بداية هذه الورقة.

أولا: ياقوت

أولى قصائد هذه السلة هي قصيدة ياقوت، حيث تبدأ الشاعرة مباشرة في وصفه ومكان وجوده

هو إذن من اصل غير مائي، صحراوي، بركاني، تكون عبر تلك الحالات التي تمت الإشارة إليها في القصائد التمهيدية السابقة. وواضح انه حجر ذو هيبة وإبهار، فهو

” يقود شهوة الأصابع”

وكذلك قادر على خنق عضو مرتبط بالكبرياء والكرامة (الرقبة) التي تحمل راس الكائن الإنساني، فإما توصله إلى العلياء والشموخ وإما الركوع والانحناء، هو بالتالي بمثابة رافعة ودلالة للكرامة والكبرياء أو بمثابة قوة هابطة لهما، وهذا الحجر وبإرادة الكائن_ بالأخص الأنثى_ وبلا شعورها تسلم رقبتها لهذه الجوهرة.

” يقود شهوة الأصابع لخنق سطوة العنق”

غير أن القصيدة تحتضن آراء مرتبطة بالفكر ما قبل العلمي، أي الفكر الأسطوري خاصة تلك المتعلقة بالمثيولوجيا وببعض الآراء القديمة التي كانت تربط مستقبل الإنسان وحاضره النفسية والصحية والحياتية بالأبراج والمعادن والأحجار الكريمة، وفي تراثنا الإسلامي العديد من المقولات والآراء والمواقف التي تشجع مثل هذا الطرح، لقد تم التطرق إلى الياقوت في بعض الآيات القرآنية كتشبيهات، ففي وصف الحور العين في الجنة أشار القران الكريم في سورة الرحمن- الآية (58) ” كأنهن الياقوت والمرجان”، غير أن هناك أحاديث منسوبة إلى الرسول محمد بن عبد الله (صلعم) وبعض الصحابة مثل هذا الحديث ” تختم باليواقيت فإنها تنفي الفقر”، وهناك أحاديث غير مسندة تعطي أوصاف لمكونات الجنة والعرش والصحابة وآل بيت الرسول مرتبطة أشد الارتباط بالأحجار الكريمة ومنها الياقوت. وهناك العديد من الكتب التراثية التي تحلل أوصاف كل معدن وحجر كريم وعلاقته بالأمراض و الفقر والغنى والوجاهة والشجاعة وإزالة الخوف والتأثير على الآخر كالعدو أو الحبيب والعاشق وغير ذلك.

وعلى الصعيد الفلاسفة تطرق أرسطوطاليس إلى الياقوت واعتبره منقذا لمن تختم به من الأمراض ومن دخل ” بلد فيه الطاعون لم يصبه ما أصاب الناس، ومن تختم بالأحمر منه شجع قلبه وجل في أعين الناس وسهلت عليه أموره، ونفذ أمره في كل ما يحاوله ولم يرى في منامه أحلاما رديئة” . ولابن سينا في كتابه القانون في الطب يعطي وصفا مثيولوجيا لهذا الحجر، فخاصيته التفريح وتقويه القلب ومقاومة السموم، وإنه ” إذا أمسك في الفم فرح القلب”، كما أنه يمنع حدوث الصرع، ويمنع الخوف الشديد، كما انه يعتبر (رسول سلام وشعار الحب الملتهب، والغيرة الشديدة، ويعطي لابسه الشجاعة ويمنع الغرق ولا تقع الصاعقة على من تختم به ويقلل متاعب النفس ويساعد على صفاء الروح ويشحذ الذهن ويساعد على التفكير الهادئ المتزن. بل يتفق معظم كتب المثيولوجيا الإسلامية والإغريقية بان حجر الياقوت إذا ما وضع تحت اللسان يمنع العطش.

هو إذن بمثابة إكسير الحياة والدواء الشافي لمعظم الأمراض والرافعة التي تدفع المرء نحو النجاح والتأثير على الآخرين، فضلا عن صلابته وصلادته التي لا تضاهيه سوى (الألماس) لذلك ينهزم أمامه الأزميل والحديد والنار.

لقد كثفت هذه القصيدة مجمل هذه الصفات المثيولوجية:

” حاسرا، يقرأ ظلام المنجم

ضد الظمأ ومأواه الجحيم

قبل أن يتهدم يصعق عداء الأزميل

يتصاعد منه وميض القيامة

موقوتا يفتُ نير الحديد

ملعونا”

بيد أن صفة (أللعنة) بعد هذا الوصف الأسطوري لهذا الحجر قد قلبت الرسالة الموصولة إلى المتلقي، وتحول الموقف إلى موقف نقدي وإبراز رؤية الشاعرة لكل ما سبق حينما تمكنت من التلاعب مع المثيولوجيا والفكر الأسطوري تعاملا فنيا، واستمتعت بهذه الصفات السريالية ذات القدرة الهائلة التي تحتضنه، فإذا بها تعتبرها لعنة لمن آمن بكل هذه واعتبرها بديلاً عن العلم، إلا أنها تمكنت من توظيف هذه الصورة الغرائبية لهذا الحجر للهدف النهائي لها حينما قالت

“مكتنزة بذخيرة الوقت

كالشعر، لا ينسى لئلا يموت”

إنه الشعر، إذن، الحاضر السرمدي في ذهن الشاعرة، السيد المطلق، الهاجس الأول، فهو المضئ دوماً في ظلام المنجم/ العالم، وهو الذي يروي العطش ويمنع الظمأ، وهو النار وحاضن القيامة، وهو الذي يتحدى الحديد والأزاميل الموجة إليه، هو الملاذ والمنقذ للروح، هو الصلب الصلد كالياقوت، لذلك هو يتحدى كل البدائل، هو الباقي الذي لا يموت.

ثانيا: رخام:

هذه القصيدة بمثابة الصاعقة التي تصيب الذهن، قصيدة الصدمة، الصفعة، جملة من المتناقضات في دلالة (الرخام) كلها تتحملها وظائف هذا الحجر. وإبداع الشاعرة فيها هو قدرتها الجميلة في إصابتنا بهذه الصدمات (المتناقضات) في كل سطر من سطور هذه القصيدة، وتمكنها من تحويل حجر أصم يستخدم بكثرة في حياتنا (منازلنا) ونراه في كل لحظة إلى صورة شعرية جمالية لذيذة الإحساس عميقة المعنى.

فهو حجر يحتضن من الألوان والأشكال والعروق بما توحي لك بسريان الماء في شفيف الزجاج، وهو حجر استخدم ككؤوس شرب منها العشاق، ولكن رغم هذه الأجواء الجميلة والرائعة، هو حجر يغطي به القبر!.

ولقد تمكنت الشاعرة حقا من زلزلة الأحاسيس وهبوطها إلى الأسفل بعد أن كانت تطير بنا مع الحب والحياة والمتعة واللذة، فإذا بها وفي لحظة تسقطنا إلى القاع والموت والحزن:

” له الماء فسقية الخيال

ساقي العشاق، عاهل المقابر”

إن جمالية هذه الصورة الشعرية ورائها رسالة سياسية وفلسفية ناضجة، بجانب قدرتها المكثفة في تقديم معنى (وحدة الأضداد) في الذات الواحدة، بل تبيان المقولة التي تؤكد بان لكل شي ظاهرة/ حدث/ موقف، أبعادها الإيجابية والسلبية في آن واحد، فهذا الرخام، الحجر الأملس، الجميل الذي هو بين المنزلتين، حيث عروق الحياة تتكون من جماد الرمل وهو عبر الاحتراق يتخلق الجديد.

“تنور أبيض يألف طغيان الرمل، ليبدوا صلدا مثله،

متشعبا يهزه السواد”

بيد أن الإضاءة الإبداعية في هذه القصيدة تتمثل في قدرة الشاعرة على التلاعب بالمشاعر ودلالات (الرخام) المرتبطة بالحياة والصعود والغناء وفي الوقت نفسه المرتبطة بالموت والهبوط والانطفاء.

ساقي العشاق يساوي الحب والعشق والتفكير في اللذة واللحظة والانتعاش والانغماس في قادم الأيام، المستقبل، صعود نحو الآتي. وكل ذلك والرخام له دور أساسي في هذه الحياة الجميلة. وفجأة وفي ذات الفقرة تهبطنا الشاعرة نحو القاع، نحو الموت، نحو الانطفاء، نحو المجهول، نحو اللا لذة، نحو الحزن، حينما تقول ساقي العشاق، عاهل المقابر.

ولكن رغم هذا الهبوط الأرضي نحو الموت بدل الحياة، هي تشفق على الموتى وتعتبرهم ناس لهم الحقوق ذاتها كما الأحياء في أن نوفر لهم وسائل الراحة والمتعة أيضا، فتواصل حيث تقول:

” عاهل المقابر،

استراح إليه الموتى بما قَد القلب لهم”

هي إذن إنسانية النظرة والموقف من الوجود المحيط بنا، من الأحياء والعشاق والملوك الظالمون وكذلك الأموات. كل هذا الحشد يتعامل مع الرخام، حجر الإنسان وهو حي وكذلك وهو ميت.

فهو: ” نزيل القصور” ولكنه أيضا ” يواسي الجثث كحرير الكفن”. ولنتأمل الفقرة الأخيرة هذه ومدى جمالية الصورة فيها، بل مدى رقة وإنسانية الشاعرة تجاه الأموات، فهذا الجسد، المنطفيء، جثة في طريقها إلى الانحلال والاختفاء بحاجة إلى من يواسيها، ليس فقط حجر راق وجميل وغال وصامد بقوة أمام عوامل تعرية الطبيعة، بل أعطتنا الشاعرة معنى لم يكن في بالنا بشان الكفن، حيث تطالب هذه القصيدة أن يكون هذا الكفن من الحرير الناعم الذي ينعش الجسد ولا يخدشه أو يجرحه، هو إذن حرير يواسي الموتى تماما كما جلالة الرخام، حيث للموتى حقوق علينا أن نوفر لهم كافة الوسائل الكفيلة في أن يستمروا في أحاسيسهم وبأنهم ليسوا وحدهم وليسو معزولين في القبر المظلم دون بياض الكفن ولمعان الرخام!.

ثالثا: اللؤلؤ:

“رصاص الأصداف” تشبيه جميل للؤلؤ قابع في جوف الصدفة، فهو بمثابة رصاص، كرات صغيرة في رحم حيوان بحري.

غير أن الشاعرة وفي الفقرة الثانية من هذه القصيدة انحازت للتفسير العلمي لخلق هذا الكائن، الحجر الجامد الذي يخلقه كائن حيواني بحري حي.

فالصدفة الساكنة في عمق البحار تواجه أعدائها من حبات الرمل التي تتسرب في جوف الصدفة الرخوة، فإذا بهذا الحيوان يفرز مادة لمقاومة العدو الدخيل ويغطيه لتخلق من هذه الافرازات قشرة وراء قشرة، لؤلؤة جميلة.

إلا أن مقابل هذا التفسير العلمي لخلق اللؤلؤ، هناك تفسيرا آخر قد يكون مثيولوجي إلا أنه تفسير إبداعي جميل.

فإخوان الصفا في موسوعتهم المعروفة قد صوروا خلق اللؤلؤ تصويرا فنتازيا رائعا ومبهرا. يقول كتاب (إخوان الصفا خلان الوفاء) في رسالتهم الخامسة حول الجسمانيات والطبيعيات في بيان تكوين المعادن.

(اللؤلؤ هذه الجوهرة إنما هي ماء ورطوبة، هوائية عذبة، ودهنية جامدة، منعقدة بين صدفين، ظاهرهما خشن وسخ، وباطنها أملس نقي، في جوفها حيوان كأنه قطعة لحم، خِلقتُه خِلقُة الرحم، مسكنه في قعر البحر المالح وهو قد ضم ذينك الصدفين على نفسه من جانبيه.”

غير أن الشاعرة اقتربت كثيرا من وصف وتشبيهات إخوان الصفاء حيث تم تشبيه الصدفة برحم امرأة تحتضن طفلا وتدافع عن بقائها ضد كل جرثومة تقتحم هذا الرحم:

” جنين لا يغفل

في رحم أخرس يتبلر”

” محارة تتحدى قبضة الكون

وترسل العويل عاليا كل انتهاك

كامرأة تذود عن براءة الرحم”

رابعا: فحم:

قصيدة نارية، حيث أن الفحم كحجر، والفحم كخالق لجواهر أخرى، والفحم كخالق لأحد أهم أدوات المبدع (القلم) وهو يستخدمه منذ القدم كحجر وشرارة ونار الخلق الإبداعي، ورغم أن القصيدة تنقسم إلى قسمين: الأول هو بمثابة حالة ووصف هذا الحجر وما يتخلق منه من الماس أو أي تبلور لاعتى الجواهر، والقسم الآخر له ارتباط مباشر بالقلم والكتابة، إلا أن في كلا القسمين هناك حضور ناري كبير وطاغ.

النص يبدأ بصورة في غاية الانبهار

” رضيع النار”

هو إذن تم تحويله من حجر أصم إلى طفل ينمو ويعيش كلما رضع نارا تلو نارا، ومثلما الطفل الصغير الذي يخرج للحياة ويمارس المحيطين به أقصى الرعاية والاهتمام به، رغم انه لا يقدم لهم شيئا سوى المراهنة على المستقبل وقادم الأيام، حيث البهجة والسعادة والأمل، فكذلك هذا الحجر الأسود، فعبر رضاعته لهذه النار، يتحول إلى مصباح لظلام الليل.

” رضيع النار

هو الأسود مصباح الليل”

هي صورة مبهرة أخرى تحتضن المتناقضات بشكل جميل، فالسواد يتحول إلى رمز للإضاءة والنور، ليحول هذا الأسود، سواد الليل المماثل له إلى بياض ونور، حيث يحمل في داخله ضده، من حيث اللون أو الغاية.

غير أن المقطع التالي يبعد المتلقي تماما عن حالة الصورة الأولى المرتبطة بالطفل والحياة.

” رضيع النار

هو الأسود مصباح الليل

شهيد التـنور”

فلقد تحول هذا الحجر وبشكل مفاجئ من طفل ينمو بالنار إلى كائن يضحى بنفسه من أجل حياة الآخرين. فهو إذن انتقال من مرحلة الاعتماد على الآخر إلى حالة اعتماد الآخر عليه. فالشهيد كرمز ودلالة هو مرتبط بحالة إنسانية شديدة التعقيد حيث المجتمع بحاجة إلى أبطال مؤمنين بقضية شعبهم إيمانا مطلقا وروحيا، ناكرين للذات في أقصى درجات النكران، وما أن يقدم على الشهادة حتى ترجع الروح والأمل والحياة في عموم الشعب والأمة، وكأنه رسول يذكر أمته بضرورة الصمود.

وها هو الفحم، ذلك الحجر الأسود يتحول في التنور إلى خبز وحياة للآخرين، إلى شهيد يقدم ذاته حيث بدونه لا يمكن للآخرين أن يعيشوا.

حيث أن الفحم هو أصل الماس، وكذلك فان من خلال نيرانه وحرارته وعذاباته يتبلور أعتى الجواهر.

غير أن القسم الثاني من هذا النص والمتعلق بالكتابة هو القسم المبهر لدى المبدعين فهذا الحجر الأسود أصبح :

” راعي الحرف”

وهو مقطع يفجر صورة شعرية ودلالية جميلة، حيث تتحول الحروف إلى كائنات يقوم هذا الفحم الأسود برعايتها كرعاية الأب لأبنائه ورعاية الراعي لأغنامه، ورعاية أي رسول – مسئول – حاكم لشعبه. وهل بمقدور الجامد أن يكون راعيا للمتحرك؟ وهل بمقدور الحجر الميت أن يكون منقذا للأحياء والحروف؟ غير هذا الفحم الذي يجسد الحروف ويحولها إلى خلق ونص ورواية ورسم وفن، يحول الحروف إلى حياة مبدعة!؟

لتأتي المقاطع التالية لتوضح كل ذلك:

” راعي الحرف

ما أن يقدح شرر الخيال

حتى يتقد فاضحا مكر الرماد( خائن اللهب)”

فهذا الحجر، رضيع النار، وشهيد التنور، هو ذاته خالق شرارة الخيال الإبداعي، هذا الحجر الشهيد الذي ينصهر – يذوب – يضمحل – ينتهي – يموت ليتحول إلى رماد، غير أن هذا الرماد يصبح خالقا وراعيا وملهما للحروف، لحياة جديدة. هو إذن حتى عند مماته يصبح ماكرا وخائنا لنوره وشرارته ليتحول رصاص الرماد إلى خلق جديد.

هو إذن حجر حر، منذ بدء خلقه وحتى مماته، لذلك ينتهي النص بهذه الحكمة الجميلة ” حجر حر”.

إن هذه الحرية التي تطمح الشاعرة تحقيقها عبر الفحم هي دلالة عن حرية المبدع وإصراره على تحقيق ملكوت الحرية على هذا الكوكب ومقارعة ملكوت الضرورة.