حجرة مثخنة بالهدوء كله

 

” وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي. ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.

وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.

وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.

وتذكرت قول الصديق الحكيم. ” قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان”.

نجيب محفوظ

 

رحم الله الروائي المصري “نجيب محفوظ” الذي أشعل ذاكرتنا طيلة طفولتنا وصبانا بالعديد من الروايات والقصص التي تحمل عذوبة نهر النيل لا الحبر وحده.

يا لها من مفارقة مؤلمة، أن يكون زعيم الاخوان المسلمين “سيد قطب” أول من تحدث بفخر عن روايات نجيب محفوظ الأولى “القاهرة الجديدة” و”بداية ونهاية” و”زقاق المدق، عندما قال:

” لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة (كفاح طيبة) في يد كل فتى وفتاة ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان ولأقمت لصاحبها الذي لا أعرفه حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر.. للمستحقين وغير المستحقين.”

ليعلق نجيب محفوظ على هذا النسيان المتعمد من النقاد طيلة خمسة عشر عاماً:

“لقد انفعلت بأول مقال كتب عني حوالي عام 1948 ربما بقلم سيد قطب. الصمت لا يطاق.”

منذ عام 1948 حتى موته، تعرض لسجالات وحملات تكفير عنيفة تصاعدت حتى بلغت محاولة الاغتيال، وتعرضت روايته “أولاد حارتنا” للمصادرة ومنعت من النشر في مصر، وتم تكفيره على أيدي أحفاد أخوان المسلمين الأوائل، تلك الرواية التي كانت ضمن أربعة أعمال روائية حاز من خلالها على جائزة نوبل في عام 1988، والتي عرضته أيضاً للنصل الذي انغرس عميقاً في عنقه عام 1994، بغدر صبي مصري قال: “انهم” قالوا له أن هذا الرجل (محفوظ) مرتد عن الاسلام.

كما قال الغزالي عن انتشار الرواية في مصر:

 “السموم أيضا تنشر خلسة والناس تقبل عليها”

وبعد بدء نشر الرواية على حلقات في جريدة الأهرام عام 1959، حث بعض رموز التيار الديني المحافظ على وقف النشر استناداً الى تأويل الرواية تأويلاً دينياً يتماس مع قصص بعض الانبياء. الا أن ذلك لم يتسبب في وقف النشر ولكنه تسبب في عدم طبعها في كتاب داخل مصر الى اليوم. “

ثم تجدد الجدل حول “أولاد حارتنا” نهاية عام 2005 حيث أعلنت مؤسسة دار الهلال انها قيد الطبع حتى لو لم يوافق محفوظ بحجة أن الابداع بمرور الوقت يصبح ملكا للشعب لا لصاحبه. وحالت قضية حقوق الملكية الفكرية التي حصلت عليها دار الرشوق دون ذلك. وأعلنت دار الشروق مطلع عام 2006 أنها ستنشر الرواية بمقدمة للكاتب الاسلامي أحمد كمال أبو المجد. ونشرت مقدمة أبو المجد التي أطلق عليها “شهادة” في بعض الصحف لكن الرواية لم نفسها لم تصدر الى الان.”

 

أليست مفارقة غريبة أيضا أن ينهى “نجيب محفوظ” حياته الروائية برواية ” أحلام فترة النقاهة” تلك التي تتحدث عن مجريات محاكمة يقرر حضورها، ليشهد محاكمة لمجموعة من الزعماء والسلطة، ليتحقق من عدالة هذا المجتمع وكيف سيحدد التهمة بينهما، لكن تراجيديا هذا العصر تنتصر عندما يقرر القاضي أن يتهمه هو الذي حضر المحاكمة، فبدلاً من حصوله على الحقيقة يتحول فجأة إلى متهم، وتضيع صرخاته وسط تكالب الجميع ضده، وتواطؤ الأضداد أيضاً.

هكذا فضح ” محفوظ” طبيعة الاستبداد حين يتحول إلى تعسف يصادر حرية التعبير، هكذا أدان مصدر الشرور التي عانى منها طيلة حياته الروائية، هل أراد نجيب محفوظ قبل الذهاب الأخير أن يودعنا الحقيقة كما تراها العدالة الحاكمة.؟

هل أراد أن يصوب حروفه نحو الخلل؟

حسبنا ذلك، عندما نرتاد بذاكرتنا أغلب رواياته وقصصه عبر لمحة بانورامية ونحلل رؤاه الفنية والانسانية، المدافعة دوماً عن حرية الانسان وحقه في التعبير، تلك التي حولها لشهود على ما حدث ويحدث وسوف يحدث

رغم ذلك كله،

لم يتعب من الكتابة..

حتى آخر اللحظات التي أودت بجسده الناحل، واصل الكتابة، مستنداً على قدرة سكرتيره الشخصي الحاج “صابر” عبر الإملاء المستمر، بعدما تدهورت أصابعه وأضمحل بصره، اتقدت بصيرته وطاله العناد الابداعي البهي، لم تعد قدرة الامساك بالقلم أو النظر إلى الكلمات مهمته، بقدر ما كانت الذاكرة تحيك له الصور الابداعية وتحبك له الحب كله كل نص.

في حي الحسين بمصر، ينفرد مقهى “الفيشاوي” بوجود حجرة خاصة للروائي” نجيب محفوظ”، حجرة قديمة، تشتمل على طاولة وكرسي، وما لا أتذكر من الصور أو الأثاث الآخر، لكنها تمتاز برائحة التاريخ المصري الذي رافق حروفه وكلماته، وسط الصخب البشري في تلك الأمكنة المحتلة بالضجيج كله، الغريب في الأمر، أن هواء تلك الحجرة مثخن بالهدوء كله، كأنه أغلق العالم الصاخب رأفة بالتعب المصاحب لأصابع “نجيب محفوظ” وهي ترتقي بياض الورق، تغزل الحروف، تدون تجربته المندغمة بتجربة الوقت الذي ينبض في عروقه ويحتل القلب مشتعلاً بحب مصر.