أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه

 

“النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس، ويجعلها فرحةً بالحياة، مترنمة باسم الروح”

“المحبة لا تعطي الا نفسها، ولا تأخذ الا من نفسها، المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد لان المحبة مكتفية بالمحبة”.

جبران خليل جبران

 

عندما غادر “جبران” أرض لبنان متجهاً لغربة أبدية نحو غرب العالم، كان متيقناً من اكتنازه برسالة كونية يخفيها في ذاكرته، سرية تتشي بها طفولته العسيرة، موهبة دعته للبحث هناك عن أمل صعب تبدى له، سيرورة محكمة دشنته بالحكمة لتبليغ كتابة لا تدعو للمحبة وحدها، لكنها تستحث الكون لتلاحم فريد، يشبه نبض القلب، نبض يتدافع بانسجام تام، دون أن يكترث بالفرق بين الدم والعدم.

لم يكن جبران شاعراً عادياً ذهب للمهجر ليرسم وهو يكتب الشعر، بل صار رائياً بامتياز الحنان الذي يشع من عينيه نحو العالم كله، بقدر ما اتقد بالميثولوجيا اليونانية والأدب العالمي، تأثر بكتابات “نيتشه” وفلسفة القوة في كتاب “زرادشت”، داوم على الاستنارة بفلسفة “ابن عربي” ومحاوراته حول “وحدة الوجود”، استلهم الفلسفة العربية والكتابات المسيحية واليهودية والثيوصوفية، ليوثق عراها ويسردها نحو هذا الغرب المعتم بصلافته وعنفه ضد الانسانية، ليعيد البهاء لتلك التعاليم نحو النور، نحو منشئها البكر، كتعازيم تحققت لهداية القلب نحو محبة أصغر ذرة تنتشي في هذا الوجود:

“كل ما في الوجود كائنٌ في باطنك، وكل ما في باطنك موجود في الوجود. وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها. ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة”.

 

صبي في الثانية عشرة من عمره، رأى ذاته البريئة تقف أمام عالم “نيويورك ثم بوسطن” المعقد، عالم متمدن، فاقد الدفء والحكمة، مكتظ بالعمارات الشاهقة، والجفاف المكدس في الأرواح، صبي لا يتقن اللغة، لا يعرف غير الغموض الذي يقتاد مصيره، واثق أن عليه العديد من التحديات ليسبر أغوار الذات، في عام 1895 من الصعب أن تحاور هذا الغرب الصناعي المادي، الواثق من معارفه المتكدسة في العقول، البعيدة كل البعد عن السمو الروحاني، تلك العقول المشبعة بنواهي التعصب الفكري المستبد بثقافته المادية والاستهلاكية، من الصعب ايضاً الاختلاف مع ما يراه، وهذا ما فعله بقوة المعرفة والمحبة الانسانية، بعمق التجربة الروحانية، هذا ما فعله جبران عندما بدأ مكاشفة ذاته ومحاورة أعماقه الخرساء:

“أنا غريب عن نفسي،

فإذا سمعت لساني متكلماً، تستغرب أذني صوتي

وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة، باكية، مستبسلة، خائفة.. فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي، ولكنني أبقى مجهولاً مستتراً، مكتنفاً بالضباب، محجوباً بالسكوت.

أنا غريب في هذا العالم

أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة،

وأنثر ما تنظمه،

ولهذا أنا غريب وسأبقى غريباً حتى تخطفني المنايا

وتحملني إلى وطني”.

“ما اشغفني بهذه الذات الصغيرة المحدودة. هي الذرة التي تحسب نفسها عالماً لا حد له ولا قرار.. هذه النواة المشغولة بقشرتها عن جمال الغاية وكمالها”.

كلما عاودنا قراءة كتابات جبران، نراها تحاورنا على مستوى معرفي مختلف في كل مرة، وتمضي معنا لاكتشاف معان مختلفة وتأويلات غير مستقرة، ان المتعة المصاحبة لإعادة اكتشاف حكمة جبران لا تنتهي، في كل مرحلة عمرية نتأمل المعنى بعمق مختلف كأننا نتهادى في أعماق بئر لا تنضب.

إن جنوح فلسفة جبران نحو التأمل العميق لمسارات الروح ببعدها الكوني أسعفه بمحبة طاغية، تفشت في كل حرف، هكذا نتذكر وصاياه:

“قد ولدتم معاً وستظلون معاً الى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء.. أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها”.

وصايا كتبها قبل أن يفارق الحياة عن عمر لا يقل عن الثامنة والأربعين، حيث أعيد دفنه في مقبرة وطنه، قريته “بشرّي”، مترفاً بكلمات صغيرة أراد أن يراها محفورة على شاهد القبر:

“أنا حي مثلكم وأنا الآن الى جانبكم، اغمضوا عيونكم وانظروا حولكم، وسترونني”.

 

 

 

 

لا أخاف أحداً،  لكن ما الذي سأفعله هناك

المجد
”المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى
الذي يعني السيطرة لحظة ما
فيدفئ اسما مغموراً
لم يعرف حرارة الشمس،
لينقله بعد ذلك
برفق
نحو العدم!”
أيميلي ديكنسون

صار الشاعر الفرنسي”رامبو” يقول لصديقه” ديلاهاي” بعد أن صعقت قصيدته الأوساط الشعرية في باريس:
”آه نعم! لم يكتب أحد قصيدة مثلها من قبل، أعرف ذلك.. لكن.. ذلك العالم من أدباء وفنانين! تلك الصالونات الفخمة!  لا أعرف كيف أتصرف هناك، أنا سمج، خجول، لا أعرف ما أقول.. لكن حينما يتعلق الأمر بالفكر، لا أخاف أحداً.. لكن.. آه! ما لذي سأفعله هناك.”

هناك،
هناك.. المكان الذي اشتكى منه ”رامبو” يشكل قدراً صعباً لمن يكتب بفرادة روح لا تعرف معنى لنرجسية المكابرة أمام الابداع تحديداً، مكان عليه أن يتواجد فيه، ليغدو كائناً أليفاً، متسقاً، منسجماً بما يحدث هناك، ليرى ذاته، فيما بعد الذهاب إلى هناك، وحيدة، موحشة، لا تتقن لغة قوم يتشاكلون في مماحكات لا تنتهي، ذات لا تجيد لهجة المجاملات، طقوس التهاليل، لذا تراها وحيدة كظله، تتوسد بخوفها الرهيب أحدى الزوايا الرحيمة بها.

قدر صعب وأصعب منه، ضيافة الآخرين له، عندما يجتاحون صمته، بأسئلة تدين صمته، قلة معرفته بنواميسهم الطاغية، صعوبة انسجامه مع ”أجندتهم المتغيرة” بل المتفاوتة في تقديرها لمصالحهم.

هذا القدر بتحولاته، يعتري صاحب الموهبة في كل شأن فني، لكونه يمثل أبلغ التحديات الراهنة، كلما انزاح قليلاً عنهم، ليفتش عنه، في ظلال ورقة تحنو أو وتر مشدود لموسيقى ترأف بعزف أصابعه، لوحة بيضاء تنسكب عليها توازيع صباغه، تنادوا نحوه،: أينه؟
ليست مكابرة أوغلواً منه، أو سكناه في رفاهة برج عاجي كما يحلو لهم التفكه كل قول، جل ابتعاده عنهم، يشير لشفقة قليلة عليه، تنسرح نحوه، وهو يراهم يتلاهون بنزفه، غياب النص لا يشكل هماً لأحد، لكن غياب الجسد يدفعهم ليرتاعوا منه، بل يكيلوا عنف التهم تلو التهم عن ابتعاده وانعدام مشاركته في برامجهم و مهرجاناتهم.

لماذا ما يحدث له؟
ببساطة، لكون روح من يشتغل في مهابة الإبداع المغاير، أشد شفافة، رهواً، قلقاً و قابلية للخدوش من النص، لجسده قابلية للكسر، متأتيه من ضعف دفاعاته نحو متطلباتهم، من كونه يحتمي بإبداعه الكفيل بهم، النص يتضاد دوماً مع صانعه، لذا نراه يتشي بحزم بالغ، مضمد بخبرة الحبر، قدرة الحرف على المجابهة، متخثراً بعمق التجربة الحياتية والفكرية والنفسية، لجسد يفسر برد الورق بأتونه، يزج الكون نحوه، مجاهد يتحمل بصبر ودعة غياب العالم عنه، هجرة تلك الأحداق التي تترصد كل حرف يحتمي به.

من يجابه محنة المكاشفة الابداعية، بشتى تلاوينها، يتقن صعوبة صد المتربصين بعزوفه عن هواء لا يشبهه، عازفاً، عن مشهد عربي- كان ثقافياً- يراه يتصدع أمام ناظريه، محتلاً بشللية تدعى ثقافية، مرؤوساً من قبل زعماء النقد القبلي، معرضاً لاضطهاد دور نشر ترفع عاليا شعارها البائس: إدفع ثم أنشر، مذ تحولت من مؤسسات تتحمل مسؤولية حضارية ما، إلى بورصات علنيه لا يهمها فعلها الشائن ضد الثقافة، بقدر انغمار جيوبها بالنقد.

هذا حاله، لم ليس له؟ أن يطوي وريقاته على صمت ليله، دون اللجوء لغير ذاته، ما عادت المنابر الثقافية المدعومة بالمجاملات والعلاقات الخاصة والنفاق العلني تستهويه لا كلمات المديح والهجاء تسترضي نزوعه الدائم بعيداً عنهم.

قديماً كان القارئ ينتظر صدور الكتب التي تشتمل على حصافة الحرف، أسماء مذهلة كانت تترقب عينيه، أما الآن، حيث تم غمر المعارض بكتب الطناجر والشعوذة و التنجيم، دون أن يلتفت أحد، لمدى التخريب الثقافي الشاسع الذى لم يزل يتحدر.

لذا التاذ بهروبه المتسلح بفضائه الأزرق، بحرياته البعيدة ، عبوره هواء ”الانترنت”، أن نشر كتابة روحه على حنو هذه السماء، لهو أبلغ دليل على عنف هذه اليابسة.

العديد من الكتاب بدأ يلتجأ للنشر الإلكتروني، لئلا يخضع لاستبداد دور النشر، وعنف الهيئات الرقابية في بلادهم، بدأ الغالبية منهم تدشين المواقع لتعريف الآخر على سهوهم عنه هناك.

الكتابة وحدها، هي المواجهة الفعلية والعميقة، بين الأنا والآخر، سرد الذات، كشف السر الذي تأسى كثيراً في عزلته.

ذات ليلة، حدثني ابني ”وليد” بما يتوافق بمحنة ”صوت”:
” الكتابة متعة خالصة، لا تتحقق إلا حين عثورنا على الكلمة التي تفي بمبتغانا التعبيري، حين ننتهي من الجملة التي تفضحنا، وبالتالي  تعبر عن ذواتنا، حينها نكون استرحنا منا، للكتابة شأن خاص، بكل ما تحتمله من معرفة وحكمة وموقف إنساني وجودي وفلسفي أيضاً، لا علاقة لتجربة الكتابة بكل هذا اللغو المسمى حضوراً، مجداً، انتشاراً، مدحاً، ذماً، قبولاً أو رفضاً، إن سعي الآخرين نحو محافل الاحتفاء، أو مراودة وهم بلوغ العالمية في أفظع صورها، ما هو إلا تكريس لخديعة ”الإيجو”، نرجسية الذات، غرور التفرد، نزعة التسيد، المستحكمة فينا، يتوجب علينا الا ننصاع لها، ونحن نسرد ذواتنا نحوهم، علينا أن نكون بجدارة الحرف الذي لا يكترث إلا لقيامه.”

هكذا- أيضاً- باحت الشاعرة الأمريكية ” إيميلي ديكنسون”:
أنا لا أحد
من أنت؟
هل أنت لا أحد أيضاً؟
إذن فنحن اثنان من نوع واحد
لا تخبر أحداً
لأنهم سيعاقبوننا، كما تعلم
كم هو كئيب أن يكون المرء معروفاً
كم هو أمر عمومي مثل ضفدع
أن تردد أسمك طوال يوم يحيا
لمستنقع متأمل.

 
   

 

واقف يشهد نفسه

 

هكذا اعترى ” فريد رمضان ” شغف الكتابة ليشهد ما رأى بنفسه، هالكا من تصاعد المشقة منذ مرتع الطفولة ” فريق البوخميس” لذا صاحب وقتا لإضاءة الكامن في ذاكرته، المهاجر في وطنه، وأنه المرتد في زمنه.

” التنور” نص يتعرض لسرد القهر العالق بحداثة الألم. إطلاق لعناصر البنية الروائية بموازاة الهمس من “عسلوه” حتى ” المحرق” لطمأنة الغربة والوحدة بأمل انتظار القوارب.

حاك ” التنور ” ليروي تفاعل الرؤى وتقنيات العرض الروائي، وما يتحقق من مشاهد جديرة بالتنصت والمساءلة، حضور للاستحواذ الشعري عبر لغة تحطم الفواصل، وتلغي الضفاف أمام نهر الإبداع. ليجهر بحذر المكتشف نبض الشعر – سر اللغة:

” أيها التنور يا واهب هذا الحب. أي شيء كان يمكنه أن يوقف ذلك العذاب غير هذه النار الحنون التي تستقبل طراوة العجين من أيدينا المفترسة في اكتشاف دروب جديدة لأسمائنا المفجوعة بالغياب، سنابل الطحين تنشد نعمتها وهي تختمر في دفئنا. توقظنا النار..”

أعلن ” فريد رمضان” تجربته ” البياض” وتلاها بـ ” تلك الصغيرة التي تشبهك” والآن ” التنور “.. ليحقق من مدى عنايته بفضح أوار التجربة، وليسأل: هل حقق حضور الروح بصقل ما يتجسد منها وينبري بالهتف شاهدا على ما يحدث.

لتقرأ ” التنور” لك أن تتمهل وطبيعة الحدث حيث تتوازى لوحة العرض وهدير تداعيات لأقنعة تشبهنا، لنرى ونصغي في آن. لضحايا تسرد بطولاتها ليصل العويل.

وأيضا لك أن تتمعن برعاية اللغة ما يضيء الحدث ويفاجئ الصمت، ترصد حميمية التواصل وعناصر روائية استطاعت أن تشمل معاناة ما قلت الجمر وهي تلهو بتنور الأرغفة.

ومن الصعب إغفال المراهنة التي تعرض لها ” فريد رمضان” وهو يكتب نصا روائيا، أراد من خلاله تقديم تجربة تعبر عن الواقع المعاش، دون الإخلال بجمالية العناصر الإبداعية الأخرى، والتي تأتي الصورة الفنية واللغة الشعرية في مقدمتها، دعوة مكونات الحياة لأفق النص بسماتها المحلية من ملامح وأصوات، بيوت، غبار، نباح وحسّ إنساني يتدفق كل صباح ليضيف دفئا لمشاهد الرواية دون تعطيل لطبيعة التناول الذي يسعى لتحقيق اتزان ما بين شاعرية البوح وتلقائية السرد، ليكتمل المشهد المنسي في تجربة الكتابة.

هكذا: ” خضوعا هذه أرض صغيرة تزهو بدمها، خضوعا، خضوعا، تحمل في فيئها سنينا مغمورة بالحلي، بالأحجار الكريمة، بسبائك اللؤلؤ، بعويلها الفاحم. خضوعا، خضوعا، ها هي تفتح رخام عزلتها لبطش الغزاة”.

لنرى ” التنور” إضافة تمثل تحد فني يراوغ بين لغة منتقاة برفاهية وتداعيات عنف المجابهة الإنسانية بين كائنات تغزوها قسوة المنفى الذي يقاول بانكسارها المؤقت وكيد العالم.

كتابة تسلك غمار المسكوت عنه، والملغي من ذاكرة المنفى.

” أعرف أيها الأصدقاء لأنكم لا تصدقون هذه الحكاية، لكم أن تسألوا مصطفى ابن الصياد حسين، الذي يقرأ لي رسائلهم. ماذا تريدون أن أقول لكم؟ أي خبر منذور لموتهم في غربة بعيدة، أي ريح قاسية تعصف بهم؟”.

-2 –

” أي فتنة تدعو للارتياب في هذه اللحظة؟”.

 

شيخ الوقت

 

هو شيخ الوقت “أبو يزيد البسطامي” المتصدر لمعارج الحكمة والرؤى التي لا تضاهى، في وقته حيث عمت الفتن والمهالك، وفي كل الأوقات حيث لا تزال، هو العارف المفتتتن بالمجاهدة الغنية بالوصل، كما يصف درجة العارف حين سئل عنها فقال: ليس هناك درجة بل أعلى فائدة العارف وجود معروفة. العابد يعبده بالحال والعارف الواصل يعبده في الحال، كما قال عنه ” الجنيد بن محمد”:

الناس يرتاضون في ميادينهم،
فإذا بلغوا ميدان أبي يزيد هملجوا

قول فيه الكثير من العمق في وصف حال الشيخ الذي”صارت أنملته عريضة من كثرة ما كتب” في عصر تلاونت فيه الملل والأحزاب، وقت اتصفت فيه الكتابة الملازمة للتجارب الصوفية بالبعد الفلسفي الغائر في تفنيد المعنى، المعنى بمعنى عدم المعرفة (كلية المعنى) وليس المعرفة المجانية المتعارف عليها، اجتهاد نحو البحث عن صيغة أخرى لليقين، مداولة الشك، كشف المستور، تنوير الرؤى الباطنية بالهتك الدائم، هكذا كان الحال، عندما تتحول الحياة بأكملها لأتون حي لصهر التجارب الانسانية بحمى البحث عن النور الأزلي.

كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
تكلموا ممزوجاً وأتكلم صرفاً.
الناس كلهم يقولون به، وأنا أقول منه.
من نظر إلى الناس بالعلم مقتهم، ومن نظر إلى الناس بالحقيقة رحمهم.
من باع نفسه كيف تكون له نفس.
العارف لا يكدره شيء، ويصفو له كل شيء.

في رؤى مكثفة، مقطرة بالصبر والصقل المنير، تبدأ الكتابة مسراها، حيث التجربة أزهى من النتيجة والطريق أبهى من الوصول، تجربة الشعر الآتي من حكمة التصوف يتباهى بقدرته على إدهاشنا في كل حين، لا نمل من معاينة تدابيره بل نتواصى على إعادة معاينته، التجربة الشعرية لا تصدر من الذاكرة الثقافية أو الاشتغال الذهني كما يحدث الآن، هي ليست رصف حروف تتشابك في مصادفات الكلمات، بل تجربة روحية عميقة، هي مبتلى الجسد المتشظي برؤى الروح، جسد مهلوك من شدة الحدوس، محنة التصاوير الذي تتوارد على شفتيه ما أن يبدأ تلاوة الأعماق.

كيف الطريق إليك
قال: دع نفسك وتعالَ.
لا يشكونَّ قلب العارف وإن قطع بالمقراض.
كن فارس القلب، راجل النفس.
أنا كل السبعة.
دق رجل الباب على أبي يزيد فقال أبو يزيد: ماذا تطلب! فقال: أبا يزيد. قال أبو يزيد: وأنا كذلك في طلب أبي يزيد منذ عشرين سنة.
إن لوائي أعظم.

البحث الحثيث في أسرار النفس هو مسلك العارف، وهذه التقانة هي التي تنير طريق اليقين والمعرفة المبشرة بالحكمة والمحبة، عندما نقرأ ما كتبوا لنا، لا نتوه في البحث عن المضامين المراد سردها لنا كما نفعل الآن مع الحديث من الشعر أو السرد، لكننا نقرأ.. بصمت الممسوس بالذهل، ثمة كشوفات أنيرت لهم غلفت الكلمات بسحر الرؤية اللامتناهية الحضور:
من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل.

سراج، بالفعل، يحتاج الذاهب في طريق المجاهدة الروحية للبحث عن الحقيقة الكامنة في أقاصي الروح عن سراج، ضوء الحكمة، مشكاة النور.. نور بكل ما في القلب من خبرة الروح.

في مقال كالذي نحن ببابه، من الصعب أن اكتب أكثر، من الجلي أن نصغي معاً:

المحبة هي استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك
العارف ما فرح بشيء قط، ولا خاف من شيء قط.
غلّقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح.
العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
الزاهد يقول كيف أصنع، والعارف يقول كيف يصنع.
لولا اختلاف العلماء لبقيتُ متحيراً، واختلافهم رحمة.
قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟
فقال: ببطن جائع وبدن عارٍ.

 

 

 

أرجو أن تعتبرني حلماً

 

قال قبل الموت:

“أرقد على الشرفة وكأنني أرقد على طبل يقرع المرء عليه من الأعلى والأسفل، بل من كل الجهات. وأفقد الإيمان بأنه ما زال يوجد هدوء في أي مكان على سطح الأرض.

لا أقدر أن أسهد، ولا أقدر أن أنام، وحتى لو ساد مرة هدوء بشكل استثنائي، لا أقدر أن أنام بعد الآن، لأنني محطم للغاية. كما أنني لا أقدر أن أكتب ولا أن أشرب، ولا أقدر أن أتحدث مع أحد”.

 

عندما دفن جثمان “فرانز كافكا” في “براغ” عام 1924 لم يكن قد سمع بهذا الاسم سوى أفراد قلائل، وبعد وفاته بعشر سنوات بحثت عنه الدائرة الحكومية كي تسلمه وثيقة تثبت إنهاء وضعه بالنسبة للخدمة العسكرية.

– لقد أبدع أدبه الذي جعله: “الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن لا نستطيع فهمه من دون كافكا”. وأهم روائي في القرن العشرين خلال أحد عشر عاما فقط ونصف العام.

في عام 1988 بيعت مخطوطة “المحاكمة” في المزاد العلني في لندن بمبلغ 1،1مليون جنيه ، وقد ابتاعتها حكومة المانيا الاتحادية بعد أن كانت قد رصدت مبلغ 2،3 مليون جنيه من أجل شرائها ، وكان الألمان يعتبرون الحصول على هذه المخطوطة مسألة كرامة وطنية.

 

“ذات مرة أيقظت “دورا” في المصحة “كافكا” الذي كان ينتحب وهو نائم، فهمس إليها قائلاً: من الحياة يمكن للمرء بسهولة نسبية أن يخرج كتباً كثيرة، لكن من الكتب لا يمكن للمرء أن يخرج سوى قليل من الحياة، قليل جداً”.

عندما وصلتني ترجمة” الآثار الكاملة” التي أنجزها عن الألمانية الكاتب والمترجم السوري إبراهيم وطفي، خفت من قراءة الكتاب الذي – وهو الجزء الأول- يناهز الثمانمائة وخمسين ورقة، تعتني بإيراد كل ما وجد وحقق لغاية النشر من كتابة حول إبداع “كافكا”، بل حول كل شيء عانقه طيلة حياته.

عادة يحدث أن تقرأ رواية ما، وتتأثر بها، وتظل تثير دواخلك بعض الوقت، حتى تنتقل لتفاصيل الحياة التي سوف تلهيك عنها بتراكم الأعباء، هذا عادة ما يحدث، لكن عندما تقرأ رواية واحدة لكافكا، عليك أن تودع ذاتك قبل الرواية، لأنها لن تكون ذاتها بعد القراءة، لسبب يكمن في عنف موهبته القادرة على تغييرك من الداخل، إعادة صياغة أفكارك، خلخلة رؤاك، شحذ أحاسيسك، تحريف الجهات، هز ميزان النظر، العديد من التبدلات تخضع لها، فما بالك إن كنت أمام تحد خارق يضعك في مواجهة كل شيء يتعلق بكافكا الذي يقول:

– “إن لم أنقذ نفسي في عمل، فإنني سأهلك”.

المخيف في هذا الكتاب، هو اشتماله على بلورات معرفية لا متناهية في الصغر، تلتئم شيئا فشيئا بفعل القراءة والتفحص لدلالات الحالات التي نشهدها، ويشير لها كافكا ورفقته، وكلما تحصلنا على بلورة كبيرة الحجم تكفي ليتحصن بها الوعي، شاهدناها تتهشم ثانية، أمام معلومة أخرى تتضاد وحصيلة المعنى الذي كدنا أن ننجزه.

ذلك لقدرة كافكا المذهلة على إثارة الشك وتقليب اليقين، إدراكه ومحاورته لعوالمه الحياتية، والكتابية التي تحدث شروخاً عديدة في ثوابت المعارف، إن فعل تحدياته الإبداعية لا يكمن في مجابهته للإبداع أو الحياة، بل بينهما كضدين متحدين، وبينه كجسد وحيد.

في يومياته كان حريصا على تدوين مراحل كتابته الإبداعية، كل ليلة:

الكتابة: “لا يزال الليل ليلاً أقل من اللازم، من أجل الكتابة أحتاج إلى عزلة، ليس مثل زاهد، هذا لا يكفي، وإنما مثل ميت”.

العائلة:” هي الصلة القسرية الوحيدة التي لا يمكن فسخها”.

البيت:” سجن أقيم لي خصيصاً، وهو أكثر قساوة لأنه يماثل بيتاً عادياً لا يرى فيه أحد- غيري- سجناً”.

قلقه الإبداعي وندرة النوم:” صحيح أني أنام، لكن أحلاما قوية تدعني مستيقظاً في الوقت نفسه، إلى جانب نفسي أنام، بكل معنى الكلمة، في حين أروح أنا نفسي أتصارع مع الأحلام، لا أفعل شيئا غير مشاهدة الأحلام، وهذا أمر متعب أكثر من اليقظة. عند الفجر أطلق تنهيدة في الوسادة لأن كل أمل قد ضاع بالنسبة لهذه الليلة”.

محاولاته للانتحار: “قفت طويلاً إلى النافذة، وكان يطيب لي مراراً أن أفزع الجابي على الجسر بسقوطي”.

حين يحيا كافكا، يكاد أن يتحول إلى فعل الكتابة ذاتها، بمعنى قدرته على التشيؤ والتحول الذي يزيح خصائص الكائن عنه، ويهبه لطقس إبداعي سحري وسري في آن، من الصعب تفسيره أو الإندغام الكلي به، هذا ما يتكشف لك، عندما تتابع سيرته ويومياته بالذات، تتيقن من كونه لا يعرف معنى له دون الكتابة، ولا يتعلق أو يكترث بحقيقة أخرى غيرها، ثمة تجاسد كلي بينهما، هذا الاشتراط والاحتراس الإبداعي، بلور موهبته لتنجز التحول العميق في وقت قصير جداً لا يتجاوز أحد عشر عاماً.

كتب صديقه روبرت:” يمثل هذا العمل جهداً هائلاً، ليس روحياً فحسب، وإنما هو نوع من معاودة لقاء ذهني يؤثر فيه ويهزه، بحيث تسيل دموعه طويلاً على وجنتيه، ورغم حالته الرهيبة، فإنه يرغب في مواصلة تصحيح “فنان الجوع” وإن كان مقتنعاً بأن هذا العمل سوف يثير الاضطراب في نفسه. لقد قال لي: ينبغي على أن أعيش الحالة من جديد، إن حالته الجسدية، التي يموت فيها جوعاً مثل بطل قصته البائس، هي فعلا حالة أشباح”.

كما قال له:” أرجو أن تعتبرني حلماً”.