فوزية السندي: نور الحبر وحده القادر على إضاءة ضراوة النفق

جوان تتر
العرب اونلاين
ولدت الشاعرة فوزية محمد عبد الرحمن السندي في المنامة عام 1957 وتخرجت من مدارسها الثانوية “توجيهي علمي” ثم التحقت بعدها بكلية التجارة بجامعة القاهرة حيث حصلت على الليسانس.. صدر لها مؤخرا عن مؤسسة الانتشار العربي كتاب ” أسمى الأحوال” من اصدارات النشر المشترك مع قطاع الثقافة والتراث الوطني في مملكة البحرين، وهو الكتاب السابع بعد “استفاقات”و” هل أرى ما حولي.. هل أصف ما حدث” و” حنجرة الغائب” و” آخر المهب” و”ملاذ الروح” و” رهينة الألم”…ترى أنها تعيش حالة غربة متفردة… للغربة مذاق أليم ناتج عن مختبرات البحث التي يشيدها الشاعر كل ليلة أمام بياض الورق، محن ممسوسة بطرائق البحث في مجاهيل النفس، رحى الروح…تقول: المهم أن يعترينا نبض النص ونحن نقرأ.. لنصاب برعدة المعنى التي لا مردّ لها…جالسنا هذه المبدعة فكان هذا الحوار.
– التصوف بمفهوم التجربة الروحية الفاعلة نحو السمو، والذاهبة لاستعادة النقاوة البدئية نحو الكون عبر الحفر المتفرد والاشتغال الفني غير المسبوق، لم تغب يوماً عن البشرية في سعيها نحو معرفة الذات واكتشاف العالم، التصوف المستعاد في راهننا الشعري يعمل للأسف على تكرار المفردات المستخدمة في التجارب الشعرية الصوفية الرائدة، إعادة ذات الجملة الشعرية بذات التصاوير، بحيث نشعر من خلالها بمدى السطحية والتماوه الجاف، الخال من طاقة السعي الحثيث نحو التحرر والتنقي والتبلر الشفيف، ذلك يتحقق لغياب التجربة الروحية الحقيقة بمآلاتها الراهنة وتحدياتها المختلفة بفعل التمايز الزماني والمكاني وبالتالي الرؤية الوجودية والأسئلة الفلسفية.
– ثمة التماعات بدأت في تجربتي الشعرية تنحى نحو تخليق علاقة بالمفردة الشعرية تشف عن تجربة روحانية، اسعى لتكثيف حضورها الجلي، لكونها تسعف روحي كثيراً، تسندها وتساعدني على كشف ومعرفة ذاتي، القرب مني، تسريح الأذى، العديد من المحتملات تراودني اثناء غمر الكتابة، كلها عتبات نيرة للوصول الى حيث لا أدري، ولكن الى مكان آخر سوف يرشدني الى نبل الأمل، نحو الكثير من النور والمحبة والحكمة. اتصالي بتجربة الريكي” العلاج بالطاقة” واعتكافي على دراسة هذا العلم حتى درجة الماجستير “المعلم”، ومن ثم ممارسة المعالجة وتنظيم دورات متخصصة للتدريب، أسهم في قربي من مكتشفات التجارب الروحية، وآلياتها المتعلقة بالبحث الدؤوب عن الحقيقة بمفهومها الأزلي النوراني.

تشكل الصحافة أحد الملامح المهمة لتنوير الحركة الثقافية وهي تتفاوت في مدى تقديرها للأدب والإبداع، من الصعب التعميم، ثمت صحف لديها ملاحق ثقافية رصينة في متابعتها للمشهد الثقافي، وفي سرد ورؤاها النقدية تجاه التجارب الجديدة حتى على المستوى الانطباعي، وثمت صحافة استهلاكية تسعى للترويج والاثارة التي لا علاقة لها بالحياة الثقافية، اما فيما يتعلق بخدمتها للشعر، فالسعي متفاوت حسب اجتهاد الصحيفة، مع ندرة الجدية في تلك المتابعة، هذا لطغيان الحياة الاستهلاكية التي اضحت تطحن برحاها كل شيء.
مع ثقتي بكون الشعر الحقيقي المحمول بطاقة تعبيرية صادقة ومعبرة عن ذات تسعى للكشف كفيل بذاته، النص الحر قادر على التواصل والآخر عبر ورق الروح لا ورق الصحف.
لا أميل لكل التصنيفات أمام الشعر بالذات، أراها عوائق وأوهام لتضيع الوقت والطاقة في هدر المهاترات حول فن رهيف لا يستحق كل هذا العنف، منذ بدء الخليقة اتقدت نحوتات معبّرة على الكهوف وأخرى ليست بذي شأن، لتمايز الطاقة الإنسانية التي كانت تنحت روحها على جدران الكهوف، تغير الجدار الى جلود ومن ثم إلى ورق، وذات اليد برعدتها الأبدية استمرت في البحث عن لغة تحتمل القدرة على تفسير غوامضها، كشف سواترها، مداولة معاناتها في هذه الحياة، تمثل منجى الخلاص في الكتابة وحدها.. كونها الوميض الخالد.. النور الخفي آخر النفق.
السؤال الأهم: هل ما نقرأ شعر أو لا شعر، حديث أو قديم لا يهمّ، المهم أن يعترينا نبض النص ونحن نقرأ.. لنصاب برعدة المعنى التي لا مردّ لها.
التسميات والمصطلحات ليست سوى حواجز رديئة لتصويب الهدف نحو الهاوية، لذا لا أصغ لها، وأنا أكتب بهدوء النبض وهو يهدهد القلب.
– الترجمة تعني التواصل مع قارئ آخر يجد صعوبة في فهم معنى الكلمات المكتوبة بلغتي، لست خاضعة لوهم الانتشار أو العالمية كما يصفون دور الترجمة، أو كونها تشكل أولى العتبات لسلالم المجد المزعوم المنشى بالنياشين والجوائز وضجيج المنصات. الترجمة جهد ابداعي نبيل يسعدني عندما يحدث لكتابتي.
أنظر إلى الورقة البيضاء لأكتب، لأحيا.

– من الصعب إطلاق توصيفات جاهزة حول راهنية التجارب الشعرية، لكل تجربة شعرية تألقها المتصف بمقوماتها الفنية، وفرادة طاقتها التعبيرية، ولكل زمان مواصفات تتعلق بطبيعة تجربته الثقافية والفنية، لذا لا يتوجب علينا عقد مقارنات حولها، قيمة الشعر التي كان يمتلكها قديماً تخضع لكونه إعلام القبيلة، تطور لاحقاً الى بوق الحزب أحيانا، أو ناي الروح، صوت النص المتفرد بذاته، الى أين وصل الشعراء لا أعرف، لكنا لا نزال نقرأ الشعر بمتعة لا توصف. الشعر وحده.
للغربة مذاق أليم ناتج عن مختبرات البحث التي يشيدها الشاعر كل ليلة أمام بياض الورق، محن ممسوسة بطرائق البحث في مجاهيل النفس، رحى الروح، غياهب المستقبل، وجع مستبد يعتني بعلاجه الشعر، حين يتقصى ضرورته ويعمل على تجسير الهوة المتجددة نحو الفراغ، غربتي تتحدر من حقيقة اقصاء ذاتي عني، غموضها، نور الحبر وحده الجدير بإضاءة ضراوة النفق، حين يراني جالسة امام الطاولة، أتفقد ما أضعت بمعاونة نبض قلبي وبياض الورق، أحنو برفق على السطور، أخطو لأحتمل ما هنالك من تحديات، لا يعنيني الوصول بقدر تقدير هول المسافة، كما كتبت ذات شعر:
كحصاة في منتصف الطريق
لا أصل،
ولا شأن لي بالعودة
لأصل.
– في كتابي “ملاذ الروح” ثمة نص يتعلق بتعريف الشعر أسميته:” فيما أحسه أو أحسبه الشعر” وهذا مقطع منه:
“حمى،
بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي انزياح كلي عن غفلة الجسد، ترويح للحواس، مجاهدة للنفس، طاقة للخوف، نهي مبجل عن أي شيء آخر، خجل يزعم القدرة على علة الجسد، خبث عميق، صلة بتاريخ يتحدى المجد، أنين، مجاهرة سرية لأقصى سر، تعر باهض على النفس، طريقة لتعريف الجسد وتعريضه في آن، فروغ الروح، حالة تختبر ما يختل من موازيين العقل، حلول نوارني يبعث للأصابع دهشتها الأخرى، عار على القبيلة، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك، أمومة الموت، صبر الثواكل كل يوم يأتي دونه، بأس اليتامى كلما مضى لساحة النشر، غرغرة القتل كلما استجاب العقل لناب النقد، كيد اليد، عزوف الأوصياء، نفضة الورق أمام اندفاع القلم، جسر بين الكون وجسد الأخرس، كل شيء، معنى اللامعنى، فتوة اللغة، فتك الصريح، كسوة المجهول،الخالب أناي،ما لا أنساه، ما يمحو وجهي كل مرآة، غفير الغرفة، مشتهي الطاولة وهي تتبرأ من ذاكرة الشجرة، عاتي الحبر كلما أجاز له الجفن بحر الدمع، شريك الرجفة كلما هدني الهلع وحدي، مزيج من عناق المذهل وخيبة التردي، القلق الآسر، ما يحدث وأنا أستبقي الوقت ليقف قليلاً، ما لا يحدث أحياناً، راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي، خليلي في خلوة القبر، نفوذ اللامرئي وحصول المعارف، دفعة القدر، نمرة المخيلة، النابذ جسدي حين أسهو عنه، الناده مبتغاي حين أعزف عني، الصاغي لعذابات تكتشف صدوعي، الجهل كله، جللي، من لا أخاف الموت إلا لفقده، رضعة بلا غدر،توأم الأم، من يوقظني كل الوقت، جن يسحن الروح كلما جار الجسد، لثغة الهواء الصعب، قهر الورق، ناهب الصحاف، رائي الكهوف، أزميل النبوءة، نحت المزار، محك الحجر، وصيف الكبرياء، نجل النهايات العاق، النبيل غاية الرفعة،
هديل العمر
تورية الموت
لم أنته بعد

 

قصيدتي مندفعة ولا ترسو على ضفاف

الكاتب: حكيم عنكر
جريدة الخليج
2006-07-1
الشاعرة البحرينية فوزية السندي، من الأسماء الشعرية، التي تجاوزت الحضور المحلي إلى الأفق العربي والدولي، إنها اليوم تكتب قصيدة دالة عليها وعلى وعيها الشعري وعمق ما تجترح من آفاق، وهي إلى جانب القصيدة التي يكتبها قاسم حداد وعلي الشرقاوي وحمده خميس وايمان أسيري وأحمد العجمي وخالد الرويعي وغيرهم من شعراء القصيدة الحديثة في البحرين، تمتاز بعزفها المنفرد داخل هذه المجرة الشعرية الأكثر اقتحاما للمناطق الجديدة في مغامرة القصيدة.
فازت فوزية السندي في بداية الشهر الجاري بجائزة الكتاب في البحرين في حقل الشعر الفصيح، وهو تقدير يضعها أمام مسؤوليتها الإبداعية، ويرفدها بمزيد من القوة ل “علاج مسافة الشعر”.
هنا حوار معها حول أهمية الجائزة، ودرجة “تأهبها الشعري” للذهاب عميقا في قنص لا تراخيص له في غابة الكتابة:
لقد اعتادت وزارة الإعلام في مملكة البحرين ممثلة بإدارة الثقافة والتراث تكريم الكتاب والأدباء من خلال إقامة مسابقة سنوية للكتاب المتميز في حقول متعددة منها الشعر والرواية والدراسات النقدية في مجال الأدب والمسرح والسينما والتشكيل والدراسات الإنسانية والاجتماعية والعروض المسرحية، ويتم من خلال لجنة التحكيم تقدير الفائزين في المراتب الثلاث الأولى.
إن حصولي على الجائزة الأولى في الشعر لا يشكل بداية أو نهاية طور في تجربتي الشعرية كما تفضلت، بل يمثل تقديرا أدبياً من المؤسسة الثقافية للمنجز الشعري بشكل أساسي، ودعما أدبياً للمشتغلين في الحقول الأدبية والمعرفية بشكل عام.
طيلة الوقت كانت تجربتي الشعرية تمضي مكتنزة بذخيرة روحي، دون أن تنتظر ما يتقدم أو يتأخر، الشعر وحده هو جائزتي الحقيقية في هذه الحياة، لا تحتل الغبطة ذاكرتي وقلبي إلا أمام ما ينوع النص وحده، لم أنتظر يوماً تكريماً من أحد حتى يتأخر.
“رهينة الألم” تجربة شعرية أنجزتها في عام 2003 لتأتي مفعمة بالألم والأمل الإنساني وليس الأنثوي وحده، كما يراد عادة تخصيص كتابتي الشعرية بتضمينها البعد النسوي فقط، تلك الكتابة عاصرت من خلالها مشاعر الفقد لصديقة القلب الكاتبة عزيزة البسام ووفاة والدتي ووالدي تباعاً، خلال ما يقل عن بضعة شهور، فيها لقنني الألم طبيعة درس الحياة، وحكمة الموت، دونت ما استطعت شعراً، وما تبقى أراه يراوح في كل نص، أصغيت لحكمة أبي وجرأة أمي ونقاء روحها في مجابهة الحياة بكل شروطها المجحفة، امرأة استطاعت ببسالة أن تمنح الحياة كل المحبة، هذه المحن مست شغاف روحي، واثخنت حبري بالصور الشعرية التي شكلت رؤى “رهينة الألم” وهو عنوان القصيدة التي أهديتها لأمي، التي تمثل تحدي الروح الإنسانية عندما تتقد بالأمل دفاعاً عن الحياة رغم سطوة الألم وارتهاناته العديدة.
إن مفهومي للشعر يتجدد في كل تجربة حياتية احتدم بمبتغاها، كل رؤية تتناهض ضد كل هذا الظلام والظلم، أحاول من خلالها ترجمة عدة أحاسيس تعتريني كل نص.
يتشكل المشهد الشعري في البحرين من عدة تجارب أدبية تتجاور لتخلق حديقة بهية، تتناغم بتلاوينها الإبداعية، بحرية تتناغم وكل عطورها لتشبه البحرين، لكل تجربة شعرية رحيقها المتفرد، ولكل وردة تألقها الذي لا يكتمل إلا بتألق الآخرين، كل الأوهام التي تروج لها منصات الثقافة العربية في الآونة الأخيرة من تفخيمات لفظية وتصنيفات غير نقدية، تمثل بالنسبة لي غواية للشاعر أو الشاعرة نحو النرجسية والغرور، علينا أن نهتدي بتواضع الطبيعة وهي تسرد لنا أسرارها، لا ثمة وردة أكثر تألقاً من غيرها من الورود.
في البحرين العديد من الأصوات النسائية في شتى الحقول الفنية، كلها تستضيء بحفر تجربتها بفرادة تليق بهذا الوطن.
قصائدي لا ترسو على ضفاف بل هي منشغلة بالاندفاع نحو غياهب الأفق، نحو عطايا الحلم وعطر الأمل.
من الصعب أمام الشعر، الحديث عن ضفاف يرسو عليها النص الشعري وله كل هذه الأشرعة، حرية الروح، خفق القلب، رايات الحروف.
لا بد من الاختلاف لكي نكون جديرين بهذه الحياة، التي تعلمنا كل يوم معنى تجاور الأضداد ووحدة الوجود، ليس على المستوى الثقافي بل في كل شيء، المشكل الذي يثقل علينا راهننا الإنساني يتبدى في نزعة عدم قبول الآخر المختلف، عدم احترام حقه في المغايرة، وتقدير رؤاه المتخلقة من فرادته، هذا المأزق الحضاري يديم علينا نقمة العنف والنبذ وسطوة الاستبداد، لا بد من تجاور كل الثقافات والفنون، عبر شيوع قيم المحبة غير المشروطة التي نفتقدها في عالمنا الشرس.
في ما يتعلق بالمشهد الثقافي البحريني، أرى حدوث هذا التجاور والتحاور أيضا بين الأشكال الإبداعية المتنوعة، لقد أتقن الإبداع البحريني قدرته على الدفاع عن حريته منذ وقت طويل، جاهد من أجل حق الآخر في الاختلاف، وجهد من أجل استقلالية تنوعه، أما على مستوى الخليج فلا بد لهذه الظاهرة أن تتعمق أكثر، لكونها تمثل حكمة الحياة ذاتها، بالرغم من التناحر الذي نراه هنا وهناك، والتصدي الرافض لكل رؤية حديثة تتقد بمآلاتها، ومحاولات استيراد الماضي مرة أخرى، إلا ان صيرورة الحياة سوف تستمر في تلقيننا الدرس تلو الآخر حتى نتقن معناها.

 

فوزية السندي: هناك سعي لتسييد شعر عامي لا يتصل براهننا

عناية جابر
(لبنان)
بعد (آخر المهب) و(ملاذ الروح) ثمة (رهينة الألم) للشاعرة البحرينية فوزية السندي. السندي شاعرة، تسهم بكتاباتها في أكثر من مجال، في الإبداع والنقد وفي أكثر من منبر إعلامي عربي مقروء. مجموعاتها الشعرية مشغولة باللغة والإيقاع. في (مهرجان المرأة والإبداع) الذي انعقد مؤخرا في قصور الثقافة في القاهرة، التقينا الشاعرة السندي وكان هذا الحوار:
تتميزين بلغتك النثرية في نتاجك الشعري، هل من تباين ما، بين اللغة الفخمة ونجاح القصيدة الفني بمعنى ان الاعتناء باللغة على حساب عناصر القصيدة من صور وبناء؟
? لا أميل لتعبير (اللغة الفخمة) لكون لغتي الشعرية تخلقت ضمن تجربتي الحياتية وتناغمت لتصوير ما يعتريني من أحاسيس ورؤى تعبر عن طبيعة القلق الوجودي الذي أراني مسكونة به، العناية باللغة بالنسبة لي مسألة غير مفتعلة أو مقصودة لذاتها، بل هي تحقق لينوع مفردات وعلاقات لغوية تستوي في ذاكرتي ومخيلتي، كنتاج ضروري لرغبة الكتابة لدي، أو بتعبير آخر هي مكانيزمl ما تتصل بالمخيلة أجهل طرائقها تعمل على تخزين طاقة تعبيرية في ذاكرتي، لكونها متيقنة من حاجتي الشديدة الحساسية لحضورها في نصي.
لا أرى هذا الاشتغال العفوي الذي تخلّق لدي، يؤثر بشكل سلبي على عناصر النص الشعري الأخرى، بل بالعكس هو المصدر الوحيد لإثراء، وتأثيث هذه العناصر في النص الشعري، ان تأثير الصورة الشعرية، تشكيل البنية اللغوية، تفشي الامكانات الدلالية، حصول الإيقاعية البصرية والتكوينية في النص ترتكز بشكل أساسي على مدى ثراء اللغة الشعرية، القادرة على استكشاف علاقات دلالية ورؤيويه متفردة. آن الكتابة لا اجتهد لأفتعل ما أسميته بالتفخيم اللغوي أو غيره من المصطلحات، بل أستوي نحو القلب لئلا أتحقق بأقل من خفق الدم.
رهينة الألم
ما الذي أضفته، برأيك في نتاجك الأخير (رهينة الألم) على مجموع ما كتبت؟
? تجربتي الشعرية الأخيرة (رهينة الألم) تعبر عما اهتواني طيلة الوقت الذي امتد بعد كتابي (آخر المهب) و (ملاذ الروح)، فيها دونت القليل مما احتمل ضمن نصوص شعرية، ربما استطاعت ان تعبر عن تجربتي الحياتية ومدى تشظيها في روحي، لا أعرف ماذا أضفت، ولا أثق أيضا بغير ذلك، كل ما هنالك أني احتملت ترجمة صمتي، أغويت ذاكرتي لتسرد لي ما أثقل جسدي كل هذا الوقت، كنت في رهينة الألم.. اكتب الشعر لا لأكتشف الألم بل لأعرف مداه.. كما كتبت:
(دون حرير دمي أكاد كالغيمة اجف دون هتك بروق حبري أكاد لا أكون.)
(قبل الورقة قلما أرى)
(وبعدها يضل النظر.) (ربما ارتديت دربا لا أعرف آخرته
لكني انتضيت خطوي
مذ علمني الطوفان طبيعة الطفو.)
مختبر إبداعي
ما نوع قراءاتك، لمن تقرأين وبمن تأثرت بشكل غير مباشر؟
– فعل القراءة شديد التنوع بالنسبة لي، يستهويني التاريخ كثيرا، لكونه مفعم بطاقة الذاكرة، مكتنز بعمق الخسارات، أيضا أغلب العلوم الإنسانية، الأدب بشكل عام، يستهويني أبو تمام والمتنبي كذلك ليلى الأخيلة، في الرواية ميلان كونديرا، سليم بركات، ميشيما، في الشعر الراهن أدونيس وسليم بركات وآخرين، تأثرت كثيرا بتجربة الشاعرة سنية صالح، تلك التي لم تنل ما تستحقه روحها الشعرية الشديدة الرهافة، أيضا الشاعرة الاميركية اميلي ديكنسون ورامبو، التأثر بإبداع الآخرين كان بالنسبة لي بمثابة الالتحام بتجارب حياتية اخرى مكتنزة بمقدرات المخيلة التي تستفز قدرتي على محاورة مقترحاتها التخيلية، بل مقاربة روحها الانفعالية بذات الاندفاع والاحتداد، دون ان أغفل عن أهمية مراعاة المسافة النقدية التي اعتمل بها، ان مقاربة نص الآخر يستهويني بحدة لأشتغل عليه كمختبر إبداعي، منه اكتشف طرائقه في تفسير ملمات الروح وتسريح أذى الجسد، بل احتفي كثيرا بتمايزاته واشتعل بطموح غريب لأحاول ان أتعلم منه مدى مثابرته لتحقيق قسوة ذاكرته، لأكتب:
(للحرف جنون يستهوي محترف الجن لذا يديم الجسد ليستنزل به.) (مذعورةما جبرت كسرا بالغ في فسخ بياض العظم عن مبتغى الدم توالى على هيكلي هشيم التشظي.)
(مذعورة أعود جسدي
لئلا يعول علي.)
هل ما زلت تؤمنين بالشعر حيال مادية العالم المستشرية؟
? عندما يكون الشعر حصاري الوحيد الشاسع، عندما أكتب لئلا أموت، أثق كثيرا بي وبالشعر، لا تعنيني مدى شراسة العالم ما دمت قادرة على فضح شراسته، بل كلما ازداد شراسة تشبثت أكثر بالشعر لكونه سلاحي الوحيد، سلاح القتيل: هكذا:
(لأقسو.. لكم ان تزدادوا شراسة..
بلا اعتذار.. بذرة تعذر عليها الالتحام بذريعة الحياة تقود الأنياب إليها لتشفى من تفرس لا تعلم مداه تمادوا أيضا وأيضا متاحة لي خليفة الحبر.. شهوة البئر كل إغماءه توقظني لأحترف الحرف كما كنت أحيا أستحيل قشة إذ يراني الحقل أخوض معارك تغمرني بالجثث أحيا كالصمت.. صوت الموت مذبوحة بما يحدث بما لا أقوى كالحديث عنه..)
حدثينا قليلا عن محيطك الشعري؟
? تتعرض التجربة الشعرية في البحرين لهجمة الاستهلاك التي تشكل أقسى المعتركات، بمعنى حلول الاستهلاك الثقافي الذي هو نتاج حتمي للاستهلاك الاقتصادي التسليعي لكل شيء في هذا الوطن، بدءا من تسويق السلع حتى تسويق القيم الاستهلاكية، للعمل على إلغاء الذاكرة ومحو التاريخ وتدمير الهوية العربية، هذه الهجمة تعتري أغلب البلدان العربية وفي مقدمتها دول الخليج، هذا التفتيت لكل المنجزات الحضارية والمكتسبات التحديثية التي تحققت طيلة تلك السنوات، عبر كفاحية هذه الشعوب، نراها الآن تتعرض لتدمير بطيء يطال كل شيء، من الصعب إذلال الشعوب العربية سياسيا واقتصاديا دون إلغاء ذاكرتها الثقافية والإبداعية عبر كسرها واحتلالها بترهات لا تنتمي للحياة بل تعتنق الموت البطيء، هذا ما يحدث لنا الآن. فيما يتعلق بالشعر، هناك اهتمام محموم لتسييد الشعر العامي، الشعر الموسوم بالنبطي، الذي تم إعادة استيراده من تاريخ قديم اندثر بمعطياته وتدابيره الفنية، تم معاودته للعمل على تشويه ثراء تراثه، عبر تعميمه بتكلف باهظ، لمداولة أثاث الصحراء الغابر والكتابة بلهجة لا تتصل براهننا الثقافي أو الحضاري ولا تكترث أيضا بمشكلاته ولا أسئلته، كما تم تسطيح اغلب منابرنا الثقافية والمؤسساتية والإعلامية للترويج لهذا الشعر الاستهلاكي، بالرغم من صعوبة تلك التحديات، إلا ان هنالك العديد من التجارب الشعرية الرصينة والالتماعات الشعرية الجديدة، تعمل بجد من اجل التفلت من مؤثرات هذا التدمير، بل تجتهد لإيصال تجربتها المتميزة، بالرغم من كون الإصلاحات السياسية الأخيرة في البحرين حققت هامشا مهما لحرية التعبير والفعل الثقافي، إلا ان حلول هجمة الاستهلاك ببشاعتها الأخطبوطية تشكل إحدى أهم التحديات لمآلات الثقافة في البحرين، تلك التي أثق كثيرا بقدرتها على قبول بل مجابهة هذه التحديات.

 

أكتب لا لأكتشف الألم.. لكن لأعرف مداه

الشاعر: محمد الحلواجي

جريدة الأيام 28 مارس 1999

 

لكي تقرأ شعر” فوزية السندي” عليك أن تتمتع بموهبة إيواء أدوات شعرية في داخلك لكي تسعفك في ورطة المعنى، كلما عاودت القراءة في فعل يشبه الكتابة، ولكي تقرأ شعرها عليك أيضا أن تذهب إليه بريئاَ من سطوة الشاعر الكامن في داخلك – نادراً- كي تنجو في آن معاً- من فعل الانسياق الأعمى خلف لغتها بعيون مفتوحة حتى أقصاها والحرص كل الحرص على عدم الزلل – خلال القراءة- إلى هاوية تأسيس كتابة أخرى أو – ثانية- كون فعل القراءة يشبه الكتابة، أهي أحجية إذن؟

ماذا يعني أن أقول كي تقرأ شعرها عليك الاستنجاد بأدوات الشاعر من جهة وطرده من جهة أخرى؟!

ما أعنيه، هو أن تترك لنفسك حرية القراءة.. حرية التأمل.. حرية التلمس الجمالي كلما باغتتك صورة شعرية أو تركيب لغوي على قدر آسر من الجمال أو استعصاء المخيلة والتركيب.. في قراءة كهذه.. عليك أن تستمتع بالألم والأمل.. بالحروف ذاتها من أجل المتعة لذاتها دون أي شيء آخر.. تلك المتعة التي لا تتحقق إلا بمعاينة الأشياء الأخرى والغور فيها.. وإذن مازال الكلام محيراً وملغزاً..

لهذا ارتأيت محاورة الشاعرة ” فوزية السندي” محاولاً النفاذ إلى “ملاذ الروح” كتابها الآخر أو الأخير عبر نصها الشعري المندرج في خاتمة الكتاب ذاته والموسوم ب “فيما أحسه أو أحسبه الشعر” ذلك النص الملتبس بجمالياته كونه ولوجاً للشعر بأدواته الملتبسة لا بأدوات النقد الذي يقترح منهجاً صارماً أو واضحاً أو غير مشوب بالتناقض الذي يقترحه أو يعلي من شأنه الخطاب الإبداعي بخيلائه الواثق.. هذه فاتحة للحوار عبر هذا النص الشعري كما أسلفت وعبر أشياء أخرى يقترحها السياق الخاص بالحديث:

 

1– ” ما أحسه أو أحسبه الشعر” محاولة للفصل في القول الشعري، تدخلين فيها بالتصريح أن الشعر” حمى، بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي، انزياح كلي عن غفلة الجسد، ترويح للحواس، مجاهدة للنفس، طاقة للخوف، نهي مبجل عن أي شيء آخر، ” هل في هذا إشارة إلى عدم الاتساق مع المحيط أو العالم.. بمعنى النظر إلى الكتابة كونها مرضاً يطلب الحياة وعيشها بأسباب الخلل من وجهة نظر الشاعر.. أو وجهة النظر الجمعية في محيطه الحياتي؟

– في هذا النص بالتحديد ثمة إلتفات لهاجس أو معترك ظل يطاردني طويلاً في ليل الشعر، في كل كتابة تنتابني رغبة في مشافهة هذا السحر، يغشاني نزوع ملح نحو الكتابة عن الشعر كذات بدت تتخلق وتندغم بذاتي منذ وقت طويل، كحلم حنون صار يوقظ الظلمة رأفة بي، لذا كنت أتوق لمحاورته، التماس معه، المجاهدة من أجل مقاربته، معرفته بشكل أسمى وملاغاته بحميمية الحياة ذاتها. هكذا بدأت الكتابة عنه ولم أنته بعد. أما بالنسبة لعدم “الاتساق” حسب تعبيرك بين الشاعر والعالم، فهذه المعضلة لا تمس الشعر وحده، ولكنها تعبر عن إشكالية عقابية يحياها المبدع، تحديداً حسب اتصاله ببراثن تدعي الحياة.. وهنا لا بد من تحديد طبيعة هذا الاتصال، هناك من يمارس الفعل “الإبداعي” بانسجام تام مع متطلبات وشروط الراهن لكونه مرتهن أساساً لغاية تمارسها التجربة “الفنية” لديه وهذا خارج حديثنا، ولكن من يكتب لتأسيس حساسية تؤصل حالة الصدق الإبداعي بمعناه البدئي لا الأخلاقي، لا بد أن يتعرض لمثل هذا الاصطدام والتناقض المبرم سلفاً، منذ إنسان الكهف الأول الذي بدأ الحفر على الصخر ليبلغ العالم وحشته، ليحتمل الحياة ضد ضواريه، تعارض تام بينه و بين جسد يتوصى برهافة الهواء ولا يرض عما يراه من دم يبالغ في نفضة الأعضاء، لا بد من عدم الاتساق والانسجام بين المبدع وكارثية العالم، هذا التضاد بيني والعالم يمثل المسعى الوحيد أمام هذه القدم، والمبرر الأقل قتلاً للخروج على هذا العالم، الاحتماء بحياة أخرى أقل إيلاماً وأقسى أملاً، يشكل مشهدها البهي حرية التجربة الشعرية، وذلك لمواجهة الخلل المتمثل في عالم عنيف لا يكف عن هوى التدمير وجناية الكبح لحياة لا يرضاها المبدع لروحه وجسده في آن.

 

2– ترين الشعر “المكتوب” أيضاً كونه “عار من القبيلة، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك، متهتك كما الرغبات” ما لذي يرمي إليه فيضان الحرية هذا؟ ألم يخطر في هواجسك مثل هذا السؤال؟ أعني ما غاية الكتابة في صورها جميعاً.. البعيدة والقريبة والآنية الراهنة؟

– قسوة الاخرين تبدو يشكل صارخ في منازعة المبدع من جهة والفعل الإبداعي من جهة أخرى على حرية الأقاصي هذه، وهنا يتجلى الرهان العاصف، رهان الكتابة على حافة النفي – كلاماً أو قتلاً لا يهم – لذا قبل الورقة تأتي شهقة الهواء الحر، قبل الكلمة الأولى تصل رفة الجناح، لنرى الجسد يستحيل شرفة تتسع وجمر النظر عصف يتصاعد، لا مكان لحديد قيد الآخر، لا وقت لاستلاب النفس أو عسف يصل العظم، وحده الشعر هواء الروح.. هكذا تفيض الحرية.. مبتغاي آن الكتابة، كما لا أعرف، أكتب دون إلتفات لحد هنا أو هناك.. لذا أرمي دوماً لبلوغ هذا الفيض وأبالغ في إنهدار مداه..

صعب هو الحديث حول غاية للكتابة، لكونها معنى كل شيء وتطال كل شيء ولهاذا لا تعرف من البدء غير المنتهى.. ما لا تراه.

 

3– حسبك أنت كيف يمكن للكتابة أن تكون “غرقاً لا يليه الموت وملاذاً للروح” في الحين ذاته؟

– يمكن ذلك عندما يأتي الشعر، وأراني أعتاد ذلك الغرق البطيء الذي يمهل الموت ليتأخر موجة أخرى لئلا أفقد متعة الغياب في زرقة أعماق لا تصل طراوة القاع ولا تشرف على يباس الرمل، يمكن أن يحدث ذلك أو أكثر من ذلك.. في حضور مغامرة الحروف التي لا ترجو منك غير الانسياب المبجل واللاحذر أمام سطوة المخيلة، وأيضاً تستحيل الكتابة ملاذاً للروح حين تحتدم وحيداً إلا منك وكل هذا الليل.. ماذا تفعل وجمراتك تكاد أن تذبل والعصف يشتد.. غير الإلتياذ بحضن رحيم كالكتابة مثلاً.. من سواها توأم الأم.

في هذا النص الكثير من المفارقات ليس أولها مفارقة الموت والحياة ولكنها حالة تستدعيها طبيعة التضاد في اعتمال مشافهة التجربة الشعرية ولا محل هنا للمنطق ولا صلة للتفسير.

 

4– في المحاولة ذاتها تقولين عن الشعر – والقول هنا مجتزأ- أنه: “فروغ الروح، حالة تختبر ما يختل من موازيين العقل، حلول نوراني يبعث للأصابع دهشتها الأخرى، كلمات مصابة بالخبل” أليس ممكناً أن تستقيم الكتابة دون استعداء الألم واستدعاء القسوة على الذات بهذه الصورة؟

وهل هو قدر على الذات الشاعرة أن تظل أسيرة لهذا الاختبار لإختلال موازيين العقل من أجل اكتشاف الدهشة الأخرى للأصابع أو بالأحرى “الفعل الإنساني” كما يبدو من ايحاءات السياق وتعطف المعنى الموارى في الخطاب السابق؟

– قبل الموت، في كلمات راعشة تكتب الشاعرة الأمريكية “إميلي ديكنسون“:

“فخورة أنا بقلبي الكسير. طالما أنني لم أكسره ” وهذا يستوفي موضوعة “استعداء الألم، القسوة على الذات” التي كثيراً ما تطال الحديث النقدي عندما يتم تأويل كتابة الشاعرة بكونها مازوشية أو تستجدي الألم أو تسعى لجلد الذات الشاعرة.

لا مفر من أن تحقق الشعر ضمن النص هو الوحيد القادر على تحديد طبيعة هذا الأيلام، دائما أكتب لا لأكتشف الألم ولكن لأعرف مداه، وهذا المدى يكشف مدى حساسية صلتي بالحياة التي تبالغ كثيراً في ضراوة عنفها اليومي، وأمام الشعر بالذات من الصعب تصوير ما يحدث من مشاهد شعرية على انها “استدعاء للألم” لكون المشاعر لحظتها تحتدم بمنأى عن الشاعر حيث يتحول من كائن مهدور إلى أصابع تتصاعد لتجسد ما ينهدر، لتبلغ العالم كم هذا الجسد وحيداً، عبر كلمات تكاد تلغي الماحول لتشعل الماوراء.

لتصاب الأصابع بدهشتها الأولى وإكتشاف مشاهد شعرية لم ترها من قبل، لا بد من حدوث إختلال عمقي في كل الموازين التي تعلمها العقل من قبل الآخرين، والبدء بمغامرة أكثر بدئية وشفافية بعيدة كل البعد عن قوانين ارتضاها الخلق الأول.

 

5– “كأنك” تلمحين بخجل إلى وظيفية غير مألوفة للكتابة كأن تكون “تعريفاً غريباً لقلة الصبر، سخرية القدر العاجز عن تفسير نواياه، امومة الموت، صبر الثواكل كل يوم يأتي دونه؟” هل تلمحين إلى الكتابة كونها عزاءً لمحنة أن ” يوجد المرء”؟

–لا أميل لتعبير “وظيفية للكتابة” تجاه تمثل لحالة شعرية أحسها تجسد حالات الشعر المتنافرة والمتسقة في آن، وكونها غير مألوفة، هذا ما كنت أسعى دوماً إليه وهذا ما تحقق لي.. وأنا ممتنة لذلك.

وجود الكائن وحيداً على هذا الكوكب الوحيد، محنة لا مرد لها، ولاعزاءً أيضاً، كما كتبت ذات وقت مضى: “لا عزاء لعزلة “

خلال كل الإحالات التي تعرضت لها في هذا النص لا أشعر أبداً بحلول الكتابة كعزاء، لم يرد هذا التعبير إطلاقاً، ذلك لرفض الذات لهذه التعزية التي تشي بالشفقة، والتي لا تعبر عن علاقة الشاعر بالشعر.. حرية بهذه الخطورة لا تبدو عزاءً بل حفاوة بالغة تجيزها موهبة كالهول مثلاً، كثيراً ما يبتعد الشعر – عن أي عزاء- لتألق خاص يعتريه، لذا نراه دوماً زعيم يقود كتائب الدم لحرب لا تهزم ولا تنتصر بل تتتالى هكذا.. جريمة موعودة بالغلبة.

 

6– قلت أيضاً أن الشعر هو في أحد وجوهه الكثيرة أنه “قدرة البكاء على نسج أمثولة له” و”جسر بين الكون وجسد الأخرس” وأنه “كل شيء”، “معنى اللامعنى” “فتوة اللغة” كيف يستقيم الخرس مع فتوة اللغة وكيف يستقيم معنى اللامعنى مع الأمثولة؟ هل تنزع كتابتك نحو إغواء الفلسفة؟

-الإغواء الوحيد الذي يستهويني هو الشعر لذاته التي تتسع لتحتويني كموجة منداحة لأفق بعيد، أما كيف يستوي أو يستقيم.. أتركها لمن يراها أو لا يراها كذلك، فالخرس هنا بمعناه الأقسى من الصمت، هو المحرض الشرس لينوع فتوة اللغة، عندما تعجز عن مشافهة الآخر لخلل في لغة التواصل معه.. خلقها شعور الغربة والغرابة العميق بداخلك.. دائماً تلجأ لك.. ورقة.. ورقة تسقط عنك.. هكذا أكتب ما تعجز عنه الشفاة، وهنا تبدأ اللغة الفتية في النهوض، يتخلق الجسر الوحيد بين الكون وجسد الأخرس، تعبير أن يكون الشعر “معنى اللامعنى”.. مجاز تعبيري لاستنفار تحدي حقيقي للشعر لقدرته على تحقيق هذا المستحيل وأيضاً تحدي قدرة البكاء على كتابة تماثله تماماً.. ما أصعب ذلك.. كيف لكلمات من وريد الحبر أن تتحدر على وجنة الورقة فيالتماع الحزن ذاته.. كأنها مطر الروح.

 

7– أيضاً قلت إن الشعر هو ” القاسي حين لا يصل، كاره المجد، صديق الدم، ما لا أنساه” هل يمكن للشعر أن يوجد في الظل بعيداً عن الكتابة “الموثقة” وهل لا جدوى الحياة دون الشعر.. احتمال قائم لديك وبضراوة؟

– أغلب وأجمل الشعر يكون بعيداً عما كتب منه، القليل هو الذي يصل الورقة.. لذا يظل الكاتب يكتب حتى الموت، لذا لا أبالغ حين أقول عنه: ” تراب القبر: من يواسي روحاً للهلكة ويضم جسداً للفزعة من بعده”، “خليلي في خلوة القبر”، أو كما يعترف “نيكوس كزانتزاكيس”: “سأموت وكتب كثيرة بداخلي” الشعر ينمو ويتشجر في الجسد ليرتشف من نافذة العين ما تراه من مشاهد، ليعيد التعرف عليها، ليعتري بها كتابة ربما تشبهه، فيما بعد آن الورقة أو فيما يحدث والشاعر جالساً في “شاعرية أحلام اليقظة” ذات مساء هالك، نراه ينحت الهواء بعينيه ليعلو زفير روحه في فضاء عزلته.

أما حول احتمال لا جدوى الحياة من دون الشعر كما يقترح السؤال، كأنك تسألني عن احتمال الحياة – كما نراها الآن بالتحديد – دون حياة أخرى لي – حنونة كحياة الشعر – وهذا ما لا يحتمل.. ليس السؤال فقط بل مجرد التفكير في الإجابة، كيف هو التخلي عن حرية السماء مقابل الرضوخ لرضة الأرض.

 

8– ترين أيضاً أن الشعر “دليل الكوابيس، مالا يحدث أحياناً، نفوذ اللامرئي وحصول المعارف، محيا الأمل، رقيق اليأس، حاشية الجرح، الجهل كله، مكان آخر، كتابة لا تشبه شيئاً، إغواء بطبعه، الخالي من التصانيف” تعريف كهذا يبدو كأجابة كاملة.. لا يمكن أن يبدو من خلفها سؤال، ومع ذلك أقول لك برتابة لا أكاد أحبها: لماذا يريد المرء أن يكتب دائماً، ألا ترين في ذلك ثمة معنى يشي بالعبودية للكتابة؟

-هناك تملك وأخذ يفعله الشعر بشكل مطلق، حضور طاغ، له كل الوقت داخل أو خارج متعة الكتابة، ما أحيا به.. فهو كالحب لا يتخلى عن رعدة الخفق أبداً.. ولي غريب يستحوذ على الذات ولا يقبل حتى شراكة الروح.. أمام نفوذ بديع كهذا، أشعر بنفور من تعبير “عبودية” مثلما أرى، العبودية تتصل بانهدام الصلة بين طرفي المذلة، ثمة سيد وعبد وسوط، أما هنا بين طرفي الحرية: ثمة جسد وشعر وصوت، هائل الفرق يلغي الحوار بينهما، بين العبودية والحرية.

 

9– كتابة المرأة العربية تصطدم بعوائق صعبة.. كيف ترين هذا المنحى في تجربتها؟

– راهن المرأة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي متضافراً بأبعاد الموروث وصليل الردة اللاحضارية، سيادة الكبت واستعداء ذاكرة الفحول على الصعيد الإبداعي. كل هذا يستدعي مشاق لا آخر لها تصطدم بها كل الوقت، كل كتابة أو محاولة للتفلت من هكذا انحدار، وأعني هنا محاولات الخروج بتوقها الإبداعي وتنفيذ المنجز الذي يتحدى قديم القول أو جاهزية التعبير الآني، المشكلة تبدو أشد تعقيداً عندما يتم التعامل ليس مع كتابة المرأة والمنجز الإبداعي كذات مستقلة بل مع المرأة ذاتها بخصوصية تبعث على السأم لا اليأس وحده، بابتذال لا يغتفر نقدياً وحضارياً، الأدهى أن كل ذلك من قبل من يتسيدون منصة الفصل في القول، ممن يدعي الدفاع عن إبداع المرأة، كأن لا يكفيها كل هذا التهميش المبالغ به، مقاربة كتابتها عبر المقارنة النقدية الدائمة بكتابة النسوة من مثيلاتها فقط، دون التجرؤ على الحديث عنها بشكل متفرد أو على الأقل التعامل مع تجربتها بطريقة ـ للأسف – تخلو من كونها امرأة تكتب، وهذا يكفي في رأيهم لإدراجها ضمن خصوصية بائسة حسبما أرى في أغلب الكتابات – ومنها بقلم كاتبات -التي تتصدى لكتابة المرأة وتنساق لمصطلحات مفرطة بمجانيتها من أنوثة الكتابة وجنسانية إبداع المرأة ،،الخ من التوريات التي لا تكرس سوى عزل هذا الإبداع عن مثيله المتحقق لدى الرجل، التحدي قائم ولم تزل تجارب عديدة تتباهى بقدرتها على قراءة ما يكتب عنها آن الحياة ولا تنسى كل ذلك الألم حين الكتابة

 

فوزية السندي: ليتقد الحرف بحبره وتنهض الكلمة بجرأتها

حوار: رفعت بو عساف

 

الطبيعة، السكون، الانفراد، الرؤى والهموم الانسانية اللامتناهية المتعدية خطوط الزمان والمكان. معان بديعة تصنع مشهدية إبداع نواميسه تقاسيم شيقة تلهم طريق الخوض والتفتيش في تلافيف الواقع المعاش من أجل قضية سامية.

هذاهو حال الشاعرة والاديبة البحرينية فوزية السندي التي تؤمن ان تلك الدرر سر التميز وبوابة ابداع من نوع خاص حيث تجسد في نتاجها الابداعي خير نموذج يؤكد ان تلك القيم والمكونات ليست متاحة وسهلة أمام شتى الاشخاص، بل أنها فقط من نصيب خامات إنسانية تملك الى جانب الاحساس الصادق، القدرة على المزج بين عوامل عدة أبرزها حالة التأمل والرؤية الفلسفية مع روح الشعر والادب المبني على دعائم راسخة عنوانها الايمان بقيمة الابداع من هذا القبيل وضرورة إذكائه المتواصل.

حوار” الشروق “مع الشاعرة السندي كان له رونق خاص أضفاه أولا تشديدها على دور اللغة العربية كوعاء فكري في ظلم المرأة وتسييد ذكورية المجتمع، وثانيا عمق وخصوصية نظرتها للقضايا الانسانية والمجتمعية التي تعرضها بروح شعرية مرهفة دفاقة يزيدها بهاء ورفعة ذاك الكم المعرفي المكثف والمتداخل في نسق فلسفي براق يلج ادق التفاصيل والمواضيع:

– هل ترين ان الشاعر والاديب محكوم باعتبارات المكان والزمان المحددين، وإذا كان ذلك كيف له ان يكون خادما للهم الانساني وهواجس الناس في شتى المجتمعات؟

  • الكتابة فعل اختراق للصمت واكتشاف للذات، ذاكرة تنصت للحياة وترصف السطور بحروف لا تنشغل الا بحوافها الصعبة وأسئلتها النادرة، حرية لا تحد، الزمان والمكان مكونان يتقاطعان ويؤثران عمقياً في أتون الموهبة، لكنهما لا يحكمان تلك الجذوة المتقدة بجرأة الكلمات وجنة الرؤى، فهي دائمة البحث عن مكان يتسع لأقاصي حريتها، وزمان يحتمل آفاق رؤيتها، الكتابة وهي تكتشف مغاوير الذات الانسانية وهمومها، تجتهد لتتقن نحتها بفرادة تدوم على الورق.

– اين انت شخصيا من هذا؟

  • لا أعرف غير أنى اجتزت تجربة شعرية دونتها على الورق خلال مراحل مختلفة من حياتي، حاولت من خلالها ان أرى ما حولي.. أن أصف ما حدث، أن اشهد على كل ما اهتواني، ومازلت.

– كيف تشرحين تصورك لمهمة الشاعر والاديب في مجتمعه؟

  • مهمة الشاعر والاديب في مجتمعه أن يكتب عما يراه في كثيف اعماق روحه، أن يرأف بما يمس قلبه، ان يضيء خطوه الكفيف بقناديل رؤاه، ان يكتشف بدء الطريق لعله يدرك ما يعنيه.

– كثيرا ما كانت المرأة العربية تحتج بان المتكلمين بلسانها من ادباء وشعراء عززوا النظرة الجسدية والغرائزية اليها، ما الذي قدمته واصلحته الاديبة والشاعرة العربية في مسيرة تغيير واصلاح هذه النظرة بعد ان ولجت مجال الادب والشعر في وقتنا الراهن بقوة ومن اوسع الابواب؟

  • ان سيادة أنماط الهيمنة الذكورية في ثقافة المجتمعات العربية اسهمت في اثقال اللغة بمضامين ذكورية حولت المرأة من ذات مستقلة وفاعلة الى موضوع للإثارة وقابل للتسليع  في كل المجالات الفنية، وبالتالي تم تشيئ المرأة ضمن معطيات ومنهجيات هجمة الاستهلاك الطامحة لتكديس السلع على جسدها وروحها ومحو هويتها الفاعلة، مما انعكس على صورتها في العديد من النصوص الأدبية التي عملت على تعزيز تلك النظرة الدونية، سيادة أنماط الهيمنة الذكورية في ثقافة المجتمعات العربية هكذا انفلتت المرموزات الغرائزية عبر سيل من المفاهيمية التميزية والاستلابية التي سيطرت على حضور المرأة في النص الادبي وفق صيرورة هذا التداعي.

أن المرأة العربية عندما غادرت صمتها واعلنت صوتها عبر الكتابة الادبية، لم تطرح رؤيتها ضمن توجه موحد متفق عليها كما يشير السؤال، بل تنوعت رؤى التجارب الادبية، كل تجربة عبرت عما تحتمله من طاقة تعبيريه وانساق معرفية وتحررية تميزها، بل منهن من اسهمت في تعميق الخلل الذكوري ذاته، وزادت عليه تشبها به كنسق قيمي منحاز، عندما اشاعت في كتابتها عناوين ومواضيع مثيرة بغية احداث صدمة في مجتمعات مكبوتة، راهنت عليها لتسويق كتابتها تحت يافطات انثوية لا علاقة لها بمحتوى النص الذي تهافتت عليه دور النشر، كما وللأسف روجت له بعض الكتابات النقدية، أما بعض التجارب الادبية الأخرى تميزت بمقاومتها لحمى تسليع كتابة المرأة وتحدت هذا العنف والانتهاك اللاإنساني بتعميق رؤيا شعرية أكثر انسانية ومحبة ونور.

– كيف يمكن ان تكون اللغة العربية كوعاء فكري ومضمون مفاهيمي قد ساهمت في تهميش المرأة العربية وتنميط وتسطيح صورتها؟؟

  • اللغة كوعاء فكري ومضمون مفاهيمي ترتكز على منظومة قيمية يتعهد نفوذها التابو المجتمعي، وتتعزز في مجتمعاتنا العربية بانحيازها نحو القيم الذكورية التسلطية، وهذه القيم ليست معزولة عن وضعية المرأة بل تؤكد دونيتها ومواطنيتها المنقوصة رغماً عما يكفله لها الدستور من حقوق على الورق، هكذا تتسيد تلك اللغة المحملة بالمفاهيم الذكورية التي تنتقص من قيمة وحرية المرأة، وهناك العديد من المؤثرات التي تسهم في تنميط وتسطيح صورة المرأة العربية في ثقافتنا اهمها الجانب الاعلامي بكل تنويعاته، وايضا تعميق وتكرار الخطاب التمييزي ذاته المتكئ على الفارق البيولوجي خلال اغلب الاشتغالات الثقافية، وحوارنا هذا يشي بذلك، حيث أن غالبية الاسئلة تستند على كوني امرأة شاعرة، وأغلب الاسئلة معنية بالمرأة العربية، ولو كان الحوار مع شاعر فلن توجه له الأسئلة بصفته رجل، وتسأله عن حال الكتابة الشعرية الرجالية، لكنها حتماً ستركز على تجربته الشعرية.

– ما تقييمك لواقع ومستوى نجاح الادب النسوي العربي ومنه الخليجي خاصة، واريد رأيك في مستوى حركة الادب النسوي الاماراتي راهنا؟

  • أمام التجارب الشعرية لا اميل الى تقييم أو رصد مستويات ومعايير نجاحها، لأننا بصدد تجارب انسانية وروحية مكتنزة بذخائرها الفردانية وغير خاضعه للمنافسة بل ثمة تجاور وتناغم لتشكيل مشهد ابداعي حضاري، تجربة المرأة العربية متفاوتة من حيث الحضور والتفرد من تجربة الى اخرى ومن نص لآخر أيضاً، وهناك تجارب عديدة استطاعت ان تعلن تحدياتها بجرأة وتألق، كتابة المرأة في الامارات تخضع لذات التحدي وهناك تجارب شعرية متميزة مثل الشاعرة ظبية خميس ونجوم الغانم وميسون صقر القاسمي وغيرهن، ولقد عزز فضاء الانترنت بحريته الشاسعة امكانية التواصل مع التجارب الادبية.

– ما تفسيرك لتميز وقوة المرأة العربية في شعر الحداثة؟

  • ثمة خلل في طبيعة السؤال، لكونه يعمم ويؤكد على وجود ظاهرة تتعلق بتميز وقوة المرأة العربية فيما يسميه شعر الحداثة، ان تميز الموهبة في النص الشعري هو تحد ذاتي، سواء كان من يكتب رجلا ام أمرأه، ثمة نص شعري جريء ومتألق، ولا أتفق مع مثل هذا التعميم، هناك تجارب شعرية فريدة لشاعرات عربيات نتيجة سريان فعل المواجهة والتحدي الفني بشكل اساسي، كتابة اسهمت في تخليق شرفة شعرية تليق بهذا الوطن وذاكرته الابداعية.

– كيف تشرحين لنا مفهومك للحظات الابداع الشعري، هل هي الهام لحظي يتوارد بغتة في ساعات واوقات معينة، ام انه نتاج لسلسة افكار ومناقشات وتساؤلات انسانية متتابعة ومتكررة تتمخض نهاية في قالب القصيدة او النص الادبي؟

  • من الصعب الاتيان بتفسير محدد للحظة الابداع الشعري، كل ما أحياه من مشاعر واحاسيس وتجارب حياتية تتضافر لتخليق الومضة التي تشعل لحظة الكتابة، ثمة غموض هائل.. يفسده التفسير.

– نلمس في كتاباتك حزنا نوعا ما مجبولا بنبرة تحد وتمرد، ما هي خلفية ذلك ولماذا تتمسكين بهذه الشاكلة الابداعية؟

  • هذه ليست شاكله ابداعية اتمسك بها، بل رؤيا وجودية تستبطن فتوى الألم وتستفز حدوده، الألم مصدر تكويني مهم لتأويل مآلات وجودنا، الألم مكمن لحساسية ابداعية نتاج عنف المكابدات، أسى لا يستهان به، بالذات في حاضرنا المأزوم المثقل بالانكسارات التي نتعرض لها كل لحظة، وهي تنكل بهويتنا وحريتنا وكرامتنا وكل ما تبقى لنا. التحدي الوحيد الذي اميل لتقصيه هو مجابهة غموض الذات لتخليق النص الشعري المتشح بالحكمة والمحبة والنور، ليومض قلبي بضياء الفتنة وحدها.

– البحر، الاشجار، الصحراء.. (مفردات الطبيعة عموما)، طالما اكدت انها تبث لك العبر وتبعث في نفسك حب الهدوء والعزلة، هل ترين ان الطبيعة فعلا خير معلم وملهم للشاعر والاديب؟؟ وماذا قدمت هذه الطبيعة في دول الخليج – بما تحويه وتتصف به – للمبدعين الخليجيين؟

  • الطبيعة هي المعلم الأول القدير لتدريسنا معنى الحكمة والحب والحنان بلا تقتير، للشعر مذاق عليم بحال المتوحد بعناصرها وكائناتها، آن نصغي لها.. ننصت لصمتها الجدير بلغة الأمل، وهو يلهمنا لنكف عن ضجيج أوهامنا ونرجسيتنا، الطبيعة في الخليج سخية الى حد لا يرد، تبدأ بالبحر ولا تنتهي به، بل تمتد نحو كل غيمة نادرة أو قطرة مطر نادرة هي الأخرى، نحو جنة الصحراء ورملها البهي، هذه العناصر قدمت روحها ورائحتها للتجربة الابداعية في الخليج واسهمت في شفافة الشعر ورهافته.

–  تؤكدين دائما على أهمية الوحدة او الاختلاء بالنفس بمعنى اخر، ماذا يمكن ان تشكل وتضيف هذه المعاني الحياتية للشاعر والاديب في ابداعاته؟

  • شاعرية التأمل طريقة لاستعادة الروح لاتزانها وسكونها بعيداً عن ضجيج العالم، للعزلة بمعنى الانفراد بالروح ضرورة بالغة لتشريف الشعر لضيافة الورق، بطبعي أحب الهدوء والصمت، الشعر زاد من توقي لمشاغلة الذات ومحاورتها، سواء عبر الكتابة أو خارج الكتابة، لدى عناية فائقة لترتيب المكان ليبدو أكثر ليلاً، لتهيئة الروح لتغدو اشد اشتعالاً.

– هل نستطيع القول بانك تأثرت في هذا المنهج بجبران وايليا ابو ماضي؟

  • ما اسرفت الحديث عنه، لا يعني تأثراً بأحد، بالرغم من شغفي ومعاودتي المستمرة لمقاربة تجربة الشاعر جبران خليل جبران الحكيمة والمستنيرة بتعاليم شعرية جليلة.

–  انت ميالة لتذخير وتكليل كتاباتك بمضامين فلسفية جدلية معمقة، هل يوفر ذلك القدرة على ايصال رسالتك بشكل ابلغ ؟، وهل يمكن للقارئ العربي ان يتقبل تكثيف الحضور الفلسفي في النتاج الادبي والشعري بتصورك؟

  • كتابتي تعبر عما يتوافد في اعماقي من اسئلة وحوار دائم، وعما يتدافع نحوي من تجارب حياتية مكتومة بمقاديرها، عندما أكتب تتقدم تلك الاعتمالات الفكرية والفلسفية بتلقائية وتندغم في صور شعرية تتراكض نحو نهب المنتهى، ثمة تجربة شعرية تتخلق بذخائرها التي احتدت وهي تصطك في اعماق روحي قبل ان ترى نور البياض.

فيما يتعلق بقبول القارئ العربي لم تعد هناك ذائقيه متفق عليها نسم بها القارئ كما حاولوا أن يوهمونا بذلك، لا يوجد قارئ عربي، ثمة قراء لهم استعدادات معرفية متباينة وذائقيه متمايزة، فلا مكان اذن لسؤال القارئ العربي إذا ما كان يتقبل ذلك أم لا؟

– كيف يمكن ان نجتذب الجيل العربي الجديد (نساء ورجالا) الى التعمق في الادب والشعر العربي وعدم هجره او الاتساق مع حالة التغريب المستعرة في مجتمعاتنا بفعل مكنونات وتأثيرات العولمة؟

  • الجيل العربي الجديد له مطلق الحرية في اختيار ما يشاء ان يتعمق به، فعل التغريب وسياسة التجهيل وهجمة الاستهلاك الاعمى عبارة عن انماط تخريبية تتبنى تسويقها مجتمعاتنا بثقة لا تضاهى نحو تدمير ما تبقى من حضارتنا وتاريخنا، الجيل الجديد يواجه تحديات ثقافية أقلها عدم التعمق في الأدب والشعر العربي، تحديات وجودية تتعلق بحريته وحضوره الانساني امام حضارات العالم.

– ما تقييمك للحالة النقدية الادبية في الواقع الثقافي العربي؟ هل هي في الاتجاه السليم والخانة الصحيحة؟

  • لم يعد هناك تجسير رصين بين النقد الادبي والنص الادبي، مازالت أغلب البحوث النقدية تعمل بذات الطرق النقدية القديمة، بينما الاجتهادات الشعرية والادبية تتقدم نحو المغايرة والتفرد الفني، يتغافل النقد متعثراً بأدواته النقدية القديمة، ويتلهى بما تيسر له من مؤلفات أدبية اشبعت بحثاً ونقداً طيلة عقود غابرة.

– كيف ترين واقع ومستقبل الحركة الثقافية الادبية العربية وما الاشتراطات اللازمة لتعزيز اطر حضورها وقوتها؟

  • الحركة الثقافية والادبية العربية ليست معزولة عما يتهدم فيها وما يتردى من مهالك حولها، ليست بمنأى عن مرحلة تاريخية تشظي أمام تحدياتها الحضارية.. ليس لها غير هواء الحرية وحدها.. ليتقد الحرف بحبره وتنهض الكلمة بجرأتها.

بمناسبة الفوز بجائزة الكتاب في البحرين

حوار جريدة الأيام البحرينية

 

1- ماذا يمثل لك الفوز بجائزة الكتاب في البحرين في حقل الشعر العربي الفصيح، هل هو نهاية طور أم أنه بداية طور جديد في تجربتك؟

لقد اعتادت وزارة الإعلام في مملكة البحرين ممثلة بإدارة الثقافة والتراث تكريم الكتاب والادباء من خلال اقامة مسابقة سنوية للكتاب المتميز في حقول متعددة منها الشعر والرواية والدراسات النقدية في مجال الأدب والمسرح والسينما والتشكيل والدراسات الانسانية والاجتماعية والعروض المسرحية، ويتم من خلال لجنة التحكيم تقدير الفائزين في المراتب الثلاث الأولى.

أن حصولي على الجائزة الأولى في الشعر لايشكل بداية أو نهاية طور في تجربتي الشعرية كما تفضلت، بل يمثل تقديرا أدبياً من المؤسسة الثقافية للمنجز الشعري بشكل اساسي، ودعما أدبياً للمشتغلين في الحقول الأدبية والمعرفية بشكل عام.

2-هل تأخرت هذه الجائزة قليلا عليك بالقياس إلى عمر تجربتك الشعرية وغناها؟

طيلة الوقت كانت تجربتي الشعرية تمضي مكتنزة بذخيرة روحي، دون أن تنتظر ما يتقدم أو يتأخر، الشعر وحده هو جائزتى الحقيقية في هذه الحياة، لا تحتل الغبطة ذاكرتي وقلبي إلا أمام ينوع النص وحده، لم أنتظر يوماً تكريماً من أحد.. حتى يتأخر.

3- “رهينة الألم” فيه اوجاع الأنثى وتباريحها، هل مفهومك للشعر هو جزء مم تكتبين؟

“رهينة الألم” تجربة شعرية انجزتها في عام 2003 لتأتي مفعمة بالألم والأمل الإنساني وليس الأنثوي وحده، كما يراد عادة تخصيص كتابتي الشعرية بتضمينها البعد النسوي فقط، تلك الكتابة عاصرت من خلالها مشاعر الفقد لصديقة القلب الكاتبة عزيزة البسام ووفاة والدتي ووالدي تباعاً، خلال ما يقل عن بضعة شهور، فيها لقنني الألم طبيعة درس الحياة، وحكمة الموت، دونت ما استطعت شعراً، وما تبقى أراه يراوح في كل نص، اصغيت لحكمة أبي وجرأة أمي ونقاء روحها في مجابهة الحياة بكل شروطها المجحفة، أمرأه استطاعت ببسالة أن تمنح الحياة كل المحبة، هذه المحن مست شغاف روحي، واثخنت حبري بالصور الشعرية التي شكلت رؤى رهينة الألم وهو عنوان القصيدة التي اهديتها لأمي، التي تمثل تحدي الروح الإنسانية عندما تتقد بالأمل دفاعاً عن الحياة رغم سطوة الألم وارتهاناته العديدة.

ان مفهومي للشعر يتجدد في كل تجربة حياتية احتدم بمبتغاها، كل رؤية تتناهض ضد كل هذا الظلام والظلم، أحاول من خلالها ترجمة عدة أحاسيس تعتريني كل نص

4- أنت الصوت النسائي البحريني الأكثر حضورا وقوة، ماهي الضفاف التي ترسو عليها قصيدتك؟

يتشكل المشهد الشعري في البحرين من عدة تجارب أدبية تتجاور لتخلق حديقة بهية، تتناغم بتلاوينها الابداعية، بحرية تتناغم وكل عطورها لتشبه البحرين، لكل تجربة شعرية رحيقها المتفرد، ولكل وردة تألقها الذي لا يكتمل الا بتألق الآخرين، كل الأوهام التي تروج لها منصات الثقافة العربية في الآونة الأخيرة من تفخيمات لفظية وتصنيفات غير نقدية، تمثل بالنسبة لي غواية للشاعر أو الشاعرة نحو النرجسية والغرور، علينا أن نهتدى بتواضع الطبيعة وهي تسرد لنا أسرارها، لا ثمة وردة أكثر تألقاً من غيرها من الورود.

في البحرين العديد من الأصوات النسائية في شتى الحقول الفنية، كلها تستضئ بحفر تجربتها بفرادة تليق بهذا الوطن.

قصائدي لا ترسو على ضفاف بل هي منشغلة بالاندفاع نحو غياهب الأفق، نحو عطايا الحلم وعطر الأمل.

من الصعب أمام الشعر الحديث عن ضفاف يرسو عليها النص الشعري وله كل هذه الأشرعة، حرية الروح، خفق القلب، رايات الحروف.

5- كيف تقيمين وجود الحق في الاختلاف الثقافي في المشهد البحريني، وهل هذا يمكن من إنتاج ظاهرة ثقافية على مستوى الخليج العربي؟

لا بد من الاختلاف لكي نكون جديرين بهذه الحياة، التي تعلمنا كل يوم معنى تجاور الأضداد ووحدة الوجود، ليس على المستوى الثقافي بل في كل شيء، المشكل الذي يثقل علينا راهننا الانساني يتبدى في نزعة عدم قبول الآخر المختلف، عدم احترام حقه في المغايرة، وتقدير رؤاه المتخلقة من فرادته، هذا المأزق الحضاري يديم علينا نقمة العنف والنبذ وسطوة الاستبداد، لابد من تجاور كل الثقافات والفنون، عبر شيوع قيم المحبة غير المشروطة التي نفتقدها في عالمنا الشرس.

فيما يتعلق بالمشهد الثقافي البحريني، أرى حدوث هذا التجاور والتحاور أيضا بين الاشكال الابداعية المتنوعة، لقد أتقن الابداع البحريني قدرته على الدفاع عن حريته منذ وقت طويل، جاهد من أجل حق الآخر في الاختلاف، وجهد من أجل استقلالية ينوعه، أما على مستوى الخليج فلابد لهذه الظاهرة أن تتعمق أكثر، لكونها تمثل حكمة الحياة ذاتها، بالرغم من التناحر الذي نراه هنا وهناك، والتصدي الرافض لكل رؤيا حديثة تتقد بمالاتها، ومحاولات استيراد الماضي مرة أخرى، الا ان صيرورة الحياة سوف تستمر في تلقيننا الدرس تلو الآخر حتى نتقن معناها.

 

الريكي والطاقة الايجابية

أخبار الخليج

الكاتبة: هناء المحروس

 

*ما هو تعريف الريكي من الناحية العلمية وهل يعتبر أحد العلاجات الحديثة أم أنه كان مستخدما في العلاجات من قبل؟

– الطاقة عبارة عن مجموعة من الموجات والذبذبات الكهربائية والكهرومغناطيسية والحرارية والضوئية والصوتية التي يتم التفاعل بينهما لتوليد حقل الطاقة حول وداخل جسم الانسان وغيره من مخلوقات الله، هذه الطاقة هي المحرك لقوة الحياة لكل شيء في هذا الكون، ويعتبر (العلاج بالطاقة) الريكي من أقدم العلاجات الطبية اليابانية منذ 4000 عام تقريباً، الريكي كلمة يابانية مكونة من كلمتين ري تعني الطاقة الكونية وكي هي الطاقة الحيوية الداخلية في جسم الأنسان، هي هبة من الله سبحانه وتعالى يمنحها الانسان منذ ولادته لتجعل جسمه متوازناً وصحياً وبالتالي فان اى خلل او مرض يصاب به يكون ناتجاً من خلل في هذه الطاقة. يعمل الريكي على تنشيط جهاز الطاقة في جسم الانسان ومن ثم يحفز الجهاز المناعي ويسهم في تقويته، ومن ثم تعزيز قدرة الجسم على الشفاء الداخلي من جميع الأمراض. كذلك يعمل الريكي على توازن الطاقة الداخلية وإيصالها عبر المسارات إلى كافة الأعضاء الداخلية بجسم الإنسان لبلوغ التناغم الصحي وتحقيق الانسجام بين العقل والروح والجسد، والتوازن الداخلي والخارجي للإنسان مما يعمل على تفجير الطاقات الكامنة لديه ليصبح منتجاً وسعيداً ونافعاً لنفسه ومجتمعه، الريكي طاقة نور تسهم في إضاءة القلوب بالمحبة نحو الله والحياة والأرض والكون.

*هل للريكي تأثير في العلاجات عن الحالات العضوية والنفسية التي يعاني منها البعض مثل أمراض السرطان أو الحالات النفسية؟ وهل مرت حالات علاجية تثبت هذا التأثير وما هي؟

– طاقة الريكي الشافية تعتمد بشكل أساسي على علاج جهاز الطاقة في جسد المريض عبر رفع مستوى فعاليته وكفاءته من خلال تنشيط مراكز الطاقة وقنواتها، ومن ثم وبشكل تلقائي يتم تنشيط وتقوية جهاز المناعة الذي يسهم في مقاومة أسباب المرض وبالتالي الشفاء منه، الريكي أو العلاج بالطاقة يسهم في علاج جميع الأمراض لكون المرض ينتج أساساً من انخفاض أو خلل في مستوى الطاقة، هناك العديد من الحالات العضوية والنفسية شفيت تماماً، ومن بعد ذلك اتجهت لتعلم الريكي من أجل الاستمرار في مساعدة ذاتها والآخرين، أما بالنسبة لأمراض السرطان فالحالات التي خضعت للعلاج وهي في بداية اكتشاف المرض حدث تحسن كبير لها وهناك حالات شفيت تماماً منه، وحالات أخرى أخذت العلاج وهي في مراحل متقدمة من المرض، حدث تحسن على صعيد معاناتها مع الأعراض الناتجة عن المرض ومن أهمها الألم والاكتئاب، وايضا الأعراض الناتجة عن العلاج الكيماوي والاشعاعي.

*هل الريكي منتشر في الكثير من دول العالم أم أن بعض الدول تحظر اللجوء إليه؟

– العلاج بالريكي منتشر في أغلب دول العالم، ولقد لعب دوراً كبيراً في اليابان أبان الحرب العالمية الثانية لعلاج ضحايا قنبلة هيروشيما، ولقد بدأت العديد من المستشفيات الأمريكية والأوروبية أدخال العلاج بالريكي لفاعلية هذا الاستشفاء من الأمراض مثل النظام الوطني للخدمات الصحية في بريطانيا:

National Health Service NHS

وكذلك (Medicare) وهي شركة تأمين حكومية في الولايات المتحدة الأمريكية تدفع تأمين صحي لعلاج الريكي للمواطنين، يكفينا إلقاء نظرة على علاج الريكي عبر الأنترنت لنتأكد من مدى الحجم الفعلي لتداول الريكي في المنظمات الصحية الحكومية والخاصة في العالم، ولم أسمع عن أي دولة حظرت تداول علاج الريكي.

وفي دول الخليج هناك مراكز لتدريب وعلاج الريكي في دبي والكويت، وفي البحرين ثمة أقبال كبير على العلاج بالريكي وعلى التعلم أيضاً، وذلك للنتائج الصحية التي تحقق منها المرضى بشكل عملي من خلال جلسات العلاج، كما أن هناك القانون الخاص بالعلاجات البديلة/الطب التكميلي الذي سيصدر قريباً، والذي سوف يسهم في تنظيم العلاج بالريكي وزيادة الوعي بأهميته، فالمرء عدو ما يجهل.

*يقال إن المعالجين بالريكي يمتلكون القدرة على مزج الطاقة الكامنة في الإنسان بالطاقة الخارجية لإحداث العلاج، هل لك أن تشرحي ذلك بالتفصيل؟

– العلاج بالطاقة (الريكي) علاج متاح للجميع من أجل الاستفادة منه وتعلمه لعلاج الذات والآخرين وذلك من خلال دورة تدريبية للمستوى الأول يتم من خلالها عمل دوزنة لمراكز الطاقة في جسم المتدرب بواسطة معلم (ماستر) مؤهل، عملية الدوزنة هذه تعتمد على ضبط مراكز الطاقة لاستقبال وتدفق الطاقة الشفائية عبر مساراتها في جهاز الطاقة، وبعد ذلك يتم التدريب على طريقة معالجة الذات والآخرين بالإضافة لتعلم تأملات أخرى.

كما أشرت سابقاً العلاج يتم من خلال تدفق الطاقة الكونية الموجودة في كل مكان من حولنا عبر مراكز الطاقة ثم مسارات الطاقة في جسد المعالج، ومن ثم انتقالها الى جسد المريض عبر الضغط أو وضع اليد على نقاط محددة تشبه الى حد كبير نقاط العلاج بالأبر الصينية، مما يعمل على تدفق الطاقة وتنشيط مراكزها ومساراتها في جسد المريض وتقوية جهاز المناعة الذي يبدأ في علاج أسباب المرض الجذرية وشفاء المريض من الأعراض الناتجة عنه.

*هل توجد علاقة بين الريكي واليوجا؟ وما هو وجه التشابه أو الاختلاف بين الأسلوبين؟

– الريكي واليوجا من الرياضات التأملية والروحية التي تعمل على خلق التوازن بين الجسد والعقل والروح من أجل تحقيق تكامل الفرد مع ذاته وتحقيق هدفه المنشود نحو الصحة والتحقق الروحي، الأختلاف يكمن في كونهما طريقتين مختلفتين في طبيعة التأملات المستخدمة والممارسة العلاجية، اليوجا تعتمد على القيام بتمارين محددة، والريكي عبر القيام بجلسات التأمل والجلسات العلاجية للذات وللآخرين.

 

مظاهر العملية الابداعية في تجربة الكتابة الأدبية في البحرين

الكاتبة: أنيسة فخرو

كتاب صدر في عام 1993

تضمن حوارات مع كل من: الشاعر قاسم حداد، الشاعر علي الشرقاوي، الكاتب محمد عبد الملك، الكاتب عبد القادر عقيل، الشاعرة فوزية السندي، الكاتب أمين صالح، الشاعر علي عبد الله خليفة.

1- ما هو العمل الذي يمكن أن نعتبره أفضل ما كتبت وأنتجت حتى الآن؟

– لا أميل لطبيعة المفاضلة بين تجاربي المنجزة، هنالك تجارب تحاول أن تكتمل وتتقدم لتكون الأفضل، لكنها دائماً تتعثر أمام تجارب جديدة تسعى هي الأخرى لتكون الأفضل. الأفضل بالنسبة لي يتشكل في الغياب.. لذا أتوق إليه.

لكل كتابة مذاق ورائحة ما، تؤسس دواخلها في حميمية الاتصال بي، لذا تعودت أن ألجأ دائماً لا للمفاضلة بل لأسر الوقت الذي كانت فيه التجربة تشكل الملاذ الوحيد والحضن الحنون.

2- هل تشعرين بأن هناك تمايزاً في درجة الرضا عن نتاجك؟ أي هل يوجد نتاج لك تقيمنه بأنه جميل وقوي، وآخر تقولين عنه عادي، وآخر تقولين عنه ضعيف مثلاً؟

– حتماً.. هنالك تمايز بين التجارب، عندما أعود إليها عبر قراءة نقدية، عادة ما تكون شديدة القسوة وحتماً بحساسية مختلفة، لاختلاف طبيعة اتصالي بالشعر بعد كل وقت يمضي ولا ينسى أن يدهشني بالكثير. أرى بعضها شديد التشبث بي، البعض الآخر ينزوي بعيداً..

لا أخضع لمعيار المفاضلة، ومن الصعب القبول بتقديرات مختلفة للقصائد، كأن تكون قوية أو ضعيفة..

هناك ما يشبه الحب والرغبة في إعادة قراءة بعض القصائد عن سواها.

أما الشعور بالرضا فلا أتمثله، بل أبحث عنه، ولا رغبة لي بالوصول إليه.

3- ما معيارك لأفضل نتاج لك؟ أي ما هو معيارك لنتاجك الشخصي الأدبي الابداعي؟ وما هو معيارك لإبداع الآخرين في الكتابة الأدبية؟

أن تكون الكتابة كالهواء. أراه ولا أراه.
أن تكون حنونة وقريبة، تداعب الروح والجسد، دفء لا يبتعد، مالا يوصف في حساسية الاتصال بالنص، ثمة احتضان لا يعرف الغربة ينتشل الكائن من صقيع الوقت، وقسوة ما حوله لمنتهى حافل بالغرابة، يجن فيه ويحن عليه.

في أسر هذه الحالة، عندما أقرأ لي أو ما يكتب الآخرين..

أكتشف الابداع، حرية الهواء.

4- هل يأتي النتاج الأدبي الابداعي فجأة أم يأتي على مراحل؟

في تجربة الكتابة لا مكان لنمطية التحقق، لأن الكتابة تشكل ذاتها في كل طقس بشكل مختلف، أحياناً تكتمل القصيدة في ذات الوقت بلهاث لا يهدأ.. وفي تجارب أخرى تكتمل في أوقات مختلفة، وذلك لطبيعة التجربة الفنية التي يمتثل الكاتب لمهارة تحققها
5- ماهي المراحل التي يسلكها النتاج الأدبي لكي يخرج الى الوجود؟
– لا أعرف كيف..

فالكتابة تبدأ وتستمر في تناغم وتشظي يأخذ مداه، لتنتهي ولا تنتهي، مفتوحة على الأفق، كموجة تعانق رمل الحيرة لترتد مأسورة بجلبة الأعماق وتنداح.. لتعاود العناق.

هكذا بلا مراحل..تحتدم في الروح بصمت مذهل..صمت يكتب ولا يكتب..

وفي ظل هذا التأمل.. أنجز بعض القصائد وأدونها ليراها من يراها..

لكن الأجمل يظل غائماً في الروح..أعجز عن تدوينه وأظل بانتظاره..

من الصعب تحديد مراحل لتطور العمل الفني في اللحظة الابداعية، لأنها تفترض غياباً عن الوقت والمكان والذات معاً.. لضرورة استمرار وميض الفتنة الذي يقود القول.

لقدسية وهج الخلق ونقاء الأمل الذي ينبض في رحيق الورقة.

6- ماهي أكثر مراحل النتاج الابداعي صعوبة والتي تحدد مسار العمل الأدبي

والتي تعانين فيها كثيراً؟ وما شكل المعاناة؟

وقت البدء..
لحظة اختبار الذات لقدرتها على حماية الجسد وحصانتها أيضاً.

هنا تتجلى- بالنسبة لي- الصعوبة التي لابد منها لاجتياز مكر البياض.. غواية الألم.

أما شكل هذه المعاناة، التي لا أفترض كونها معاناة، بل ما يشبه التحدي الممتع والغبطة المحيرة التي تستبد بالبدء..

7- بماذا تشعرين أثناء الكتابة؟ أي ما هي حالتك الجسمية والنفسية لحظة الكتابة؟

طبيعة الحالة الجسدية والنفسية أثناء الكتابة تؤسسها أيضاً طبيعة التجربة.. فكلما احتدت هذه العلاقة واتسمت بحالة عالية من النشوة والتناغم، كلما انسل الجسد بعيداً وتناهى، ليكون للكتابة حضورها المطلق.. فهي سيدة الوقت التي تحتضن دلال الجسد، لتعيد اكتشافه ومساءلته.. لتتحول الكتابة ذاتها إلى جسد آخر، أكثر رأفة، شفافية، قدرة على مواجهة الذات والآخر، من هذا الهيكل، من هذا الجسد المستباح، المباح لكل انتهاك.
هكذا.. تتحقق فعالية الذهاب في ذهب الكتابة.

من مغادرة حصار الآخرين، رفض نفوذ السطوة التي تمارسها الذات، ويمارسها الآخر على حدود الجسد.

كل هذا ما أتوق إليه دائماً.. وما أشعر به أحياناً.

8- هل تتنبأين بالنتاج القادم؟

– لا، ولكني أرى كتابة تلوح لي من شرفة الروح، وتعدني أن تكون الأبهى.

9- كيف تبقين وتحافظين على استمراريتك في النتاج الأدبي الابداعي؟

– عندما تتحول الكتابة إلى مبرر وحيد للحياة.. تتماهى بشروط الحياة ذاتها لتتحول الحياة إلى شعر والشعر إلى حياة..

حتى عندما لا أكتب الشعر، فإني أشعر بتدفق الروح وإيقاع الجسد، أرى في اليقظة والحلم ما أعجز عن تدوينه.

هو الشعر يحافظ علي ويسعى إلى استمرارية بقائي.. لا أناي. لكن أناة، لأنه الأقوى والأجمل والأعمق.

هو الحرية الوحيدة المتاحة لي..

فكيف لي أن أرعاه وأحافظ عليه، وعلى استمراريته.

فعل القراءة والتأمل لمنجزات المبدعين والحياة معاً، تزودني برغبة البقاء قربه ليغويني أكثر.

10- ما هي العوامل الأساسية التي تؤثر في النتاج الابداعي؟

– الإنتاج الإبداعي عملية معقدة تخضع لمؤثرات عديدة، من الصعب تحديد الأساسي من الثانوي فيها، هذا إن وجد مثل هذا التمايز.

هي تخضع لطبيعة الفنان ذاته، بما يشتمل برؤاه الفنية والفكرية وإرثه الثقافي وذاكرته وتجربته الإنسانية والفنية.

كل هذا وكل ما يتشكل ويحتدم في دواخله من رغبة في اكتشاف ذاته عبر كتابة ترى مالا يراه.

11- هل الابداع من وجهة نظرك مسألة فردية أم جماعية؟

– الابداع شحنة فردية وجماعية في آن، فردية عندما تتحقق التجربة في ظل ذات تكتشف فرادتها وتسعى إليها، لتضيء التجربة الفنية بملامح خاصة وذاك لتمايزها، لخصوصية اشتغالها الحثيث مع الماضي، الحاضر، المستقبل.

أما الجماعية فبمعنى حضور الفعالية الابداعية للتاريخ والحاضر، أي لكل التجليات التي تمثلها التجارب الابداعية الأخرى والتجارب الحياتية المؤثرة بالمبدع.

12- هل تنتقين فكرة معينة من عدة أفكار للكتابة عنها؟ وكيف تختارين الفكرة؟

– لا أنتقي شيئاً.

كل ما هنالك أني أكتب والتجربة نفسها تقودني لاكتشاف ما أكتب عنه.

هكذا تكون الكتابة أكثر نقاءاً وبوحاً وحرية.

إن مسألة اختيار المواضيع للكتابة تكون أقرب للكتابة الصحافية لا الابداعية.

13- كيف يأتي الإلهام أو الحدس؟ وماهي اللحظة التي تقولين عنها بأنها لحظة الإلهام؟

– لا أعرف كيف يأتي.. لكنه يأتي.. هكذا.

عندما أبدأ الكتابة، لا أعرف طبيعة الشعور الذي يقودني لهذا الفعل، ولكني أشعر بأن هنالك ما ينبغي على أن أكتبه.

ربما شحنة انفعالية لا بد لها لأن تفتح الطريق لتدفق من الصور الشعرية أشد وضوحاً منها، وقدرة على خلق القصيدة.

لا أدري.

14- كم مرة تكرر الحدس أو الإلهام في أعمالك الأدبية؟

– من الصعب الإجابة على هذا السؤال.

15- هل يمكن أن ندرب أي فرد على الكتابة الابداعية؟ وكيف؟

– الكتابة الابداعية ليست ورشة عمل ميكانيكي يتطلب لإنجازها تدريب عاملين ليتحولوا من متدربين إلى مبدعين.

هي حياة تحتمي بحريتها.

هي ذات المبدع الذي يتشبث بها لئلا يموت.

الكتابة هي الهواء الوحيد له.

16- هل تحددين لنفسك وقتاً ومكاناُ وظروفاً معينة للبدء في الكتابة؟ وماهي عاداتك المتبعة أثناء الكتابة؟

– لا توجد لي عادات محددة للكتابة، ولا أختار وقتاً أو مكاناً محدداً، الكتابة تختار وقتها ومكانها عندما تلح على بتدوينها..

حينها أحتمي بالورقة والقلم، أما الوقت والمكان فلا يشكلان عائقاً أمامي، ولا أتذرع بطقوس معينة لابد منها لأكتب، الهدوء والوحدة هما فقط ما ينبغي تحققه لأمتثل بحرية التجربة.

17- هل تمارسين أحياناً عملية التحول الفكري المتعمد؟ أي هل تتركين العمل الأدبي بتعمد وتسترخين مثلاً وتذهبين إلى عمل آخر ثم ترجعين إليه؟

– أحياناً يحدث ذلك، عندما أتعب وأشعر برغبة البعد عن الكتابة، لا للاسترخاء، لأن هذا لن يحدث إلا عندما أنتهي منها، ولكن للفرار منها لبعض الوقت والعودة إليها فيما بعد، عندما أكون قادرة على مواجهة التحديات الفنية التي تؤرجحها لي الكتابة.

18- هل لك تجربة حاضرة في الكتابة بالنسبة لك، آثار لتجربة ماضية قديمة؟

– لابد من حضور التجارب الماضية في التجارب الجديدة التي تليها، للتجربة الفنية ذاكرة تمتد لتشمل كل التجارب، ما أنجز ومالم ينجز، ولكن طبيعة هذا الحضور تختلف من كاتب لآخر ومن تجربة لأخرى.. أحياناً يتمثل هذا الحضور بتكرار في المفردات أو الصور الفنية أو الإحساس الإيقاعي والدلالي.. وأحياناً يختلف العمل الفني عما سبقه، لكن القارئ، وحده، يشعر بأن هناك تواصلاً لا يستطيع تحديد سماته مع ما سبقه من أعمال فنية للكاتب.

19- هل هناك تنافر وتباعد بينك وبين الواقع، أم هناك تقارب وما تأثير الواقع على الفعل الابداعي عندك؟

– أميل إلى استبدال تعبير الواقع بالحياة.. التي لا سبيل للتنافر أو التقارب معها، هي نبض الكتابة، أحاول فهمها واكتشافها من خلال الأسئلة التي يبتدعها النص لي.

لذا لابد أن يكون للحياة تأثير على الفعل الابداعي، لأنه يحيا بحريته من خلال فعل التماس وهذه الحياة.

ولكن إلى أي حد هو جدير بها أو هي جديرة به..

هذه الجدلية التي لا بد منها لاستمرارية فعل تحقق العمل الابداعي في الحياة،

وتحقق الحياة في العمل الابداعي.

20- ما هو هدفك من الكتابة؟

– الكتابة بالنسبة لي، ليست وسيلة. بل حياة مضاءة بحريتها.

 

الحرية هي الرهان الاساسي

مسقط – عمان

أزمة النشر في العالم العربي تشكل الدول المتقدمة حوالي20% من مجموع السكان في العالم، وقد أصدرت أكثر من 70% منالكتب في العالم، بينما العالم الثالث يشكل حوالي 80% من سكان العالم لكنه مع ذلكينتج وينشر أقل من 30% من الكتب في العالم، بهذه المفارقة يجب علينا أن ندرك حجمالمشكلة التي يواجهها العالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص ويعد النشر هوأحد تلك الأوجه التي تحتاج إلى أن نقف على العوامل التي تحد من عملية النشر فيالوطن العربي، حول هذه الموضوع قررت المسار أن تناقش هذا الموضوع من خلال هذاالملف.

ماهي العوامل التي تحد من عملية النشر في الوطن العربي؟

يتعرض الوطن العربي للعديد من الاشكاليات التي تعيق عملية التنمية الثقافية وتحد من التعددية الثقافية التي تشكل أهم التحديات في راهننا الحضاري، اهم تلك المصاعب سيادة الانظمة التوليتارية-الفردية- التي تسهم في غياب الديمقراطية بمعناها الجذري الفاعل، مما يؤدي الى شلل مؤسسات المجتمع المدني ومرتكزاته الثقافية، ناهيك عن التردي العام على مستوى الإرادة السياسية المستقلة للعديد من الدول العربية، وما تحقق من احتلال عسكري للأرض بعد العمل على محو الهوية العربية.كل هذه المناحي تؤثر بشكل عمقي في المشهد الثقافي، بما انتجه نهج الاستبداد من تفشي لثقافة الاستهلاك الناجمة عن التعاطي المجتمعي مع عملية التنمية الاقتصادية من منظور تعزيز المنتوجات الاستهلاكية، وتدوير رغائب التسويق، دون العمل على تخليق بنية انتاجية راسخة.إطلاق الهجمة الاعلامية التي تروج للإسفاف والتهريج على حساب معالم حضارتنا الابداعية.ان مهمة نشر الكتاب وتوفيره للقارئ هي مهمة حضارية بالدرجة الأولى، أتقنت تأسيسها الحضارة الغربية التي تعي طبيعة نفوذ تاريخها الثقافي، ودوره في تأسيس شعب واع، ومدرك لتحدياته المستقبلية والراهنة، شعب قادر على التعاطي مع مشكلاته بجدية منتجة ومسؤولية بالغة، تلك الحضارات، لم تعمل على نشر الكتاب فقط، بل اسهمت في ترسيخ والدفاع عن حقوق المؤلف، واحترامها كحق أنساني اوصت عليه كافة الشرائع والقوانين الدولية، أسست معارض الكتاب الجادة، قدمت الدعم الكافي لطباعة المؤلفات، وإعادة ترجمة ونشر المخطوطات، استضافة الأدباء والمفكرين- حتى العرب- لإغناء مؤسساتها الادبية والفكرية.أما البلدان العربية فسعت لأهدار حقوق المؤلف المصانة على الورق فقط، وفي أغلفة الكتب، عممت المعارض لتسويق كتب الطبخ والوعيد والتنجيم، شددت الرقابة على الكاتب بل تم اهدار دمه وتكفيره لحرف هنا أو جملة هناك، عززت الدرك على الحدود لمنع دخول الكتب التي تختلف مع رؤاها، انشئت صحافة ثقافية استهلاكيه تسطيحيه لا تهتم بالفكر الرصين أو النقد الجاد أو النصوص الأدبية المبدعة بل اسرفت في استضافة الكتابات الاستهلاكية والنقود الصحافية الانطباعية التي تهاجم الأدب الحداثي، وتصفه بالغموض لأنها لا تفهمه لذا حرض الناس ضده، ضمن شعارات قديمة ومتهالكة، بكونه يكتب لذاته وليس للجماهير العريضة، منساقة لذات الشعارات التي اهلكتنا طيلة الماضي الذى حضرنا لحاضر مهزوم بذات الشعارات.تشكل غياب الرؤيا الاستراتيجية للثقافة في بلداننا العربية ضمن مرتكزات الثقافة الحكومية والخاصة، عبء لا يستهان به تنوء به الثقافة، وما يتصل بها من معيقات لعملية النشر، غياب الترجمة أيضا، كمصدر مهم لعملية الحوار الحضاري، طغيان التوجه الاعلامي الاستهلاكي المسموع والمقروء والمرئي، كل هذه العوامل تتحد لتحقيق الاشكال المتعلق بالحد من عملية النشر.تتبدى معضلة دور النشر في تحولها من مؤسسات ثقافية، تتحمل مسؤوليه مهمة كما كانت تفعل في الخمسينيات والستينات من القرن الماضي، إلى اخطبوط شرس يرفع شعاره الأزلي في وجه المبدع: ” أدفع ثم انشر”، ناهيك عن دورها المخرب في نشر الكتب الفضائحية والترويجية لتسليع كل شيء، لغمر جيوبها بالنقد فقط. ضمن ما سبق، تعتبر تفشي الامية الابجدية والثقافية، وسيادة الفقر، من أهم العوامل التي تواجه فعالية النشر وتداول الكتاب، لكونها من المصائب المسكوت عنها، بل العمل على مضاعفة بلوها عبر تسييد الجهل ضمن المنابر التربوية التي لا تعمل على تحديث المناهج المدرسية والأكاديمية ايضاً، ليظل الطالب في حصار من البدائل التعليمية القديمة والتي لا تواكب الحداثة التنويرية.ان مسألة اشكالية نشر الكتاب العربي، تشكل الجزء المتفاقم من هذا المشهد المتردي، لإصلاحها لابد من تقويم التوجه الاستراتيجي الحضاري نحو الثقافة العربية، بالرغم من الاجتهادات الجادة التي تتناهض هنا وهناك في بعض العواصم العربية، الا ان المشهد الثقافي العام لا يشي بنهضة حقيقة نابعة من.ان العالم اليوم تحول الى شبكة اتصالية معقدة ضمن ثورة المعلومات، لا مكان فيه لشعوب تتعثر نحو الحرية، الحرية هي الرهان الاساسي نحو انتشال حالنا تجاه المستقبل، لن ينتظرنا احد من هذه الشعوب الفاعلة نحو تعزيز منجزها الحضاري، ولقد تحول فضاء الانترنت الرحيم بنا من قسوة اليابسة الى منفذ مهم لا يستهان به، تجاه تواصلنا والحضارات الأخرى، نشر اباعنا بحرية بالغة، تعرف العالم بقدرة حرفنا العربي على التحاور معها، كما فعل اسلافنا من المفكرين والفلاسفة والادباء، اولئك الذين ادركوا دورهم الفاعل والمؤثر في حضارة الآخر وحواره عبر التواصل معه واحترامه وترجمة آثاره الفكرية.

 

للشعر من طاقة تعبيرية قادرة ملامسة أعماق الروح

حوار جريدة القبس – الكويت

 

أن اشكالية التواصل بين المتلقي والعمل الفني تتمحور في كل مناحي الابداع، كل هذه المظاهر تتعلق بتداعيات قيم الاستهلاك على الصعيد الثقافي، المسألة لا تتعلق بالشعر وحده، لكنها تتأسس لتدمير تاريخ وحضارة عربية، محو هوية وشرفة ابداعية تتباهى بها الأمم. هل هناك تداول جاد للكتاب الإبداعي في فوضى معارض الكتاب خارج كتب الطبخ والفضائح والأدلجة بتنويعاتها العقائدية والفكرية، هل ثمة متابعة رصينة للمسرح أو الموسيقى أو الفن التشكيلي، المصاب يتعلق ببنية مجتمعية قائمة على ترويج ثقافة استهلاكية بلغت من الهشاشة والانهزام حد تسييد التجهيل في كل وسائلنا الإعلامية ومؤسساتنا التعليمية، محو الهوية، تعميم العامية، هكذا تنهج دوائر الفعل الثقافي والاعلامي في مجتمعاتنا بتيسير أطماع المؤسسات الصناعية الغربية برساميلها الطاغية لإعادة تدوير عائدات النفط واسترجاع مدفوعاتها من هذه الشعوب عبر السيطرة على رغباتهم الاستهلاكية، تغييب “الجمهور” وتوجيه رغائبه نحو اهتمامات بعيدة عن تحدياته الإنسانية والحضارية.

منذ إنسان الكهف الأول الذي حفر على الصخر أول حرف ليبلغ العالم مدى وحشته، ليحتمي بكتابة شبه حياة أخرى أقل إيلاماً وأقسى أملاً، منذ آنذاك وحتى الآن يشكل الشعر مشهدنا العربي البهي الوحيد في مواجهة الخلل المتمثل في عالم عنيف لا يكف عن هوى التدمير وجناية الكبح لحياة لا يرضاها المبدع لروحه وجسده في آن.

الإبداع على مر العصور كان ولم يزل خط الدفاع الأول عن حرية الكائنات، بدئا من ذاك الكائن الرخوي المحتمي في صدفته وهو يحول انتهاك الرملة لطراوة عزلته الى لؤلؤة فاتنة، في تجربة الشعر العربي الراهن لا توجد إشكاليات تتعلق بتفرده أو بحضوره المتميز، ولنا أن نسأل: بماذا تحتفي المؤسسات الثقافية الغربية من نتاجات العرب الإبداعية؟ هل تحتفي بالمنجزات العلمية أو الاكتشافات التقنية أو الفكرية والنقدية والفلسفية، تلك المؤسسات تستضيف وتترجم وتحاور الابداع العربي بما يشتمل عليه من شعر ورواية وتشكيل وموسيقى، وغيرها من الفنون التراثية والمعاصرة، لكونه المنجز الوحيد الذي أتقنه المبدعين العرب وهنا أشير للأبداع المتميز الذي استطاع أن يفرض فرادته على الآخر.

أن ضعف التواصل مع التجارب الإبداعية تحقق نتيجة ضعف فعل القراءة وليس انعدام الكتابة، الشعر الحديث غير موجود في مناهجنا التعليمية ولا وسائلنا الإعلامية بما يليق به، ما عدا ندرة من امسيات خجولة، كما لعبت الهجمة التي تعرض لها الشعر الحديث على كل المنابر والتي ما زالت رحاها مستمرة دوراً مشيناً في تعميق الهوة بينه وبين القراء، وهذه من مصائب ثقافة الاستهلاك تجاه واقعنا الثقافي المتأسس على جملة من الانهيارات القيمية والرؤيوية تجلت في سيطرة الثقافة الواحدية، غياب مكونات المجتمع المدني المتحضر المشتغل على لغة الإبداع ومحاورة الآخر لتحقيق الشراكة في صناعة العالم، مما أدى لتخلق واقع استهلاكي شل حياتنا بأكملها، ضمن اقتصاديات غير منتجة، هكذا تعرض الابداع المنشغل بدفوعاته وبتميزه لصعوبات بالغة للتواصل والآخر، هذا الذي تم إشغاله وإلهائه بالابتذال الاستهلاكي السلعي والثقافي عبر سياسات إعلامية قائمة على التجهييل المستمر.

ضد كل ذلك يتقد التحدي الابداعي، لما للشعر من طاقة تعبيرية قادره على الكشف وملامسة أعماق الروح لا أوجاع الناس فحسب بل نبض الكون، هذا هو الشعر، اما الهذر المتمثل في اللغو السائد واستسهال الكتابة فلا يسمى شعراً، ثمة شعر يتلو ما تراه الروح بهدوء بالغ، وثمة شعر تحتشد له الأكف وهو يهدر على المنصات، وللمتلقي حرية الاختيار بينهما.

أما أن يكون للشعر شأناً “جماهيرياً” فأعتقد بأن هذا المفهوم الديماغوجي أتقنت تسويقه حمى الشعارات، عندما كان الشاعر يستند لترويج قصيدته النارية على الحزب أو المؤسسة الأدبية التي تدعمه، عندما كان الدعاة يسندون ضجيجه بالتصفيق وحماس الهتافات، حيث لا صوت يعلو على صوت المعركة التي رفعت راياتها المهترئة مبكراً.

منذ ذلك الوقت والشعر يتعرض لتحديات فنية لا تتكئ على نحت الحرف بحرية بالغة، تضفير الصورة الشعرية بابتهالات حكيمة، جريئة في تصديها للحدوث، مضامين متغايرة، تحديات غير مرتهنة للآخر، بل للذات في انشطارها نحو الآخر.

عودة الشعر لمعتركه الحقيقي هذا، أذاب الضلال المغوي المتعلق بجماهيريته وصخب الكفوف، أعاده لقارئ وحيد مثله، يلتذ بقراءة الحروف دون وهم واحد يتعلق بذرى المجد وندهة الخلود.

ان علاقة الشعر كمعطى ثقافي حضاري ابداعي مع “الجمهور” يتأثر بعوامل عديدة منها مستوى العمل الفني والذائقة الفنية والمعرفية للمتلقي التي تستطيع مواكبة الرؤية الشعرية. أما فيما يتعلق باهتمام النخب فهي مسألة متاحة لهم بحرية وتندغم ضمن ذائقيتهم الفنية، كل فن له بؤر نخبوية تتسع شيئا فشيئاً مع ارتقاء الشعوب الحضاري.

إذا اتفقنا على تماهي الإبداع بالحياة ذاتها وتحديداً الشعر، نصل لماهيته: الدفاع عن قيم الإنسانية والحرية والعدالة ووحدة الاختلاف، كماهية وصيرورة الحياة ذاتها، الحياة هذه المدافعة الشرسة عن نقاوة الأرض وبراءتها، ضد ما يحدثه الشر الكامن في البشر من حروب وتدمير وقتل ودخان كل نهار.