فوزية السندي: منفلتة كقارب صيد في ليلة مقمرة


الشاعر/ علي الشرقاوي

جريدة الخليج – الامارات العربية المتحدة

 

“مفتوحة ولا تقبل غير ذلك

ولانها كالوديان المنداحة

والبراري الوعرة

والدهور الصقيعة

تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها”

هكذا هي القصيدة لدى فوزية السندي عوالم تتشكل عبر فضاء اللغة، وتنداح كالطيور المهاجرة الباحثة عن حلمها، لا يحدها سوى المزيد من التوغل في غير المحدود وغير المكتشف.

لغة تسحبك من المكرر لتلقي بك في أتون المختلف.

لغة لها طرواة العشب. تحتفي بالمغاير وتحملك على جناح الاسئلة.

لغة تتفجر فيها الحروف.لا لكي تتناسق ولكن لكي تتشاجر كأغوار الشاعرة بدون نسق.

هكذا جاءت تجربة فوزية السندي الجديدة(هل أرى ما حولي، هل أصف ماحدث) والتي صدرت مؤخراً في البحرين بعد مجموعتها الشعرية الأولى( استفاقات) والتي صدرت عام 1982م.

في هذه التجربة الجديدة لا نعرف من أين نبدأ، فكل قصيدة تحتاج إلى قراءة أو قراءات متعددة، لأننا في كل قراءة نكتشف شيئاً جديداً، نمسكه فيبتعد، هي علاقات بين الداخل والخارج، بين الواقع والحلم، بين الرؤية والرؤيا، لا نستطيع فصل هذه العلاقات، لوفعلنا لتحولت شظايا، لا لتتناثر في الفضاء تنتهي، انما لتقلق راحتنا.

من التساؤل الواعي تدخلنا في سفرها الجديد. السفر في أعماق الأنسان- الشاعرة. ومن أقصى هذه الأعماق ترى كل شيء بوضوح وجلاء، من هنا تصف رؤيتها لما كان وما هو كائن وماسوف يكون، تعي أن الرائي في زمننا هذا شخص غير مرغوب فيه، لذلك تؤكد الشاعرة لأحبابها.

” لا ريب من تحلق المكائد حولنا

مثل غبار يرصد الحدائق الباهية

بسمادها المبلل وغضاضة جوارها.”

فالغبار الفاجع، المدثر باليقين، حامل أنهار القش يعرف كيف يرصد الحدائق في نموها وتطلعاتها وطوحاتها الأزلية للعطاء، الغبار يضع الحواجز بين الوردة والجذر، بين الأوراق ورائحة الآتي، لذلك تحلم بإعادة الخضرة للورود.

” للأماكن التي تربكنا بقصد

والأشياء التي تواري ضيقها بعنف

كذلك الورق الذي يستضيف أحلامنا

برداءة طقسه،

أشد قبضتي عليها

لأعيد وردة النقاء وهدوءها المعتاد.”

هذا الغبار، الأزيز الفارغ، المصادرة البهية واليأس الذي يتحول إلى خراج، كلها تتآمر لتوقف حرية من يسير نحو تحقيق أحلامه، وفي مثل هذا الواقع العربي الذي ثقبت ثوراته ودوله ثيران هائجة كيف يجد الانسان طريقة؟ هل هناك شيء آخر غير المزيد من الحيرة أمام أداة الفعل.

“أيها النصل

كل الطرق المؤدية الى هناك مغلقة

كيف نصل؟”

انما نسأل النصل، رأس الورقة وأداة المحارب عن الطرق الجديدة، الطرق التي لم تكتشف بعد، فكل الدروب القديمة لم تعد آمنة، أغلقها الغبار وسورها برعونته، تسأل نصلها عن كيفية الوصول الى لحظة التفجر، اللحظة التي تستأصل الغبار كي تتنفس الجذور، وهي في بحثها لابد لها من أن تتسلح بما هو أقوى من الفضول.

” يلزمني ما هو أشد من الفضول

لأرش المسافة

أدنو في ضيقها

لا لأشهد ما أراه

بل لأحصي هول ما أتدبر.”

فالشاعرة ليست معنية هنا بأن تكون شاهدة على العصر الذي تعيش ، انما أن تكون الفعل المضاد المختلف الذي يمسح عن الحياة تقاليد الغبار وقيمه، من هنا ليس أمامها وهي الأرض، إلا الإغراء، وغواية الفعل ليمارس فعالية الإكتشاف، فقد ترى البهجة وتحزم الرأفة بالريح، وتكون الذات “زغللة ضوئية” توله لمجيء الزمن الآخر، لكن اغراء الشاعرة، الحديقة، الأرض ليس إغراء المتعارف عليه، بقدر ما هو إغراء مختلف، فالعاشق المغامر لا يغويه العادي إنما الخطر، ودخول الخطورة، دون توقف، هو الشيء الوحيد الذي يبقي شباب الروح.

” أغريك

بأهوالي

كعاصفة.”

الانسان، عطر العالم وزهرة الحياة محاصر بأدوات الغبار، حيث الحرب في كل مكان، أشلاء وضحايا ورعب، الحراب تلهو، والمرارة تتوالد، والحيرة تتسع.

” لمن يحتكم؟

للحرب وسلالها المليئة بالدخان

للحراب الشارعة غيها نحوه ببسالة

أم للمرارة التي تلعق جراحه كحداء

صعب عليه أن يفهم

لم يحتكم.”

الخارج رعب والداخل ضعف وعجز، وبينهما يضيع وجه الانسان، اذن لا بد من البحث عن طرق أخرى، أغانيها مختلفة لا تعبأ بالغبار ولا بالأشواك التي تنبت، تدعو من تهوى.

” ادعوك

وحدك متشحاً أغوار الريح وغموض الغابات

ماداً رواق الصحائف المزيلة مجد الهزل

واضحاً ومحرضاً نوازل الشقاء.”

دعوة الحبيب-الرمز- سيد الأمكنة إلى الدخول في الفعل، حيث الفوضى فضة وحيث الخراب جنة، وهي “منفلتة” في أحلامها

“كقارب صيد في ليلة مقمرة” جذورها تواجه العطش، تدعوه لتوليه الروح وتمنحه خيلاء الجسد.

” مر بي عبر هطولك

موصداً نرجس المكابرة

كقارب في شيوع التذكر

حبق لخفق الأرصفة.”

وتظل الشاعرة فوزية السندي تتوغل في أعماقها لترى ما حولها، وتصف ما حدث وما المفترض أن يحدث، فكلما توغلت أكثر كلما رأت حالات من الوجع الانساني، الكوابيس الزرقاء، ضحايا الأضغاث والجماجم وعظام الأكتاف المنخورة، وترى عذاباتها كامرأة، المرأة التي تحاول اختراق الحصار، حصار الخارج وحصار الداخل، تتفتت الحروف وتتداخل معها في عذاباتها.

” يسورني تعب تاء التأنيث وعين العذاب وباء البطش.. تعب هائل منكب خلالي أنوء كترس مسنن لا يكف عن الدوران.

وأنا فوق القمة مكترثة بالعبء.”

وماذا تطلب الوردة في أزمنة الغبار، غير أن تكون مع حلمها.

” ألوان متباهية يمليها الشفق بدروعه الشفافة وأهازيجه المبللة بالندى كعرائش قديمة.”

وماذا تطلب الشاعرة والحصار حولها غير أن تعيش مع كلماتها في حرية الخلق وصحوة الابداع، لذلك تصرخ في وجه الحراب والحرب والمرارة.

” انتظروا

لا حاجة لي بكل هذا الوطن

رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي

لأحيا وكلماتي

اهرق في سرير الحلم

وتنهض في مجد الحكم.”

 

فزية السندي في (هل أرى ما حولي، هل أصف ماحدث) تحتفي باللغة الجديدة، بالانسان الجديد، بالحلم الذي تراه أمامها ومعها رفقاؤها الأوفياء.. شاهرين التباهي.

فالموت يكون جميلاً اذا كان فناء في ذات الآخر.

” خذني اليك

كم تمنيت رخاوة الموت جميلاً في انتفاضه بين يديك

كعصفور مبلل

أو

نغم وارف في جنازك.”

هذا العشق الصوفي الدافىء الناري، يحيل الشاعرة إلى جسد يبحث عن إعادة تشكيله. فقد كانت الحديقة والأرض والقارب والحلم ، كانت كل شيء في هذه الحياة. ومن هنا تدعو النار، رمز التكوين الأول والطهارة والاغتسال، تدعوها للتحرك في مساحات الجسد الممتد من الماء إلى الماء.

” أيتها النار المطلة في صهوة الأخيلة

يا ماكنة الوهج والتبدل

ميدي في حدود لا تتسع لسواك

ومجاهل لا تنجلي الا لأوارك

هذا هو الجمر

نزيل الحلم

شاهر الهتك

مستميل الفتوق

اديري جذوة اللغز

تشابكي كسلال ريفية في تصدع الهوادج

وابسطي النصل عميقاً في رئة المدائن.”

رموز كثيرة تتحاور وتتجاور لدى فوزية السندي، بعضها ينهض في القلب، رموز تحيلنا إلى الماضي وأخرى تنقلنا للمستقبل، ونحن القراء نحار من أين نبدأ.

هي القصيدة الجديدة

حالات الروح

تحولاتها

ليست للفهم، لا تقبل التفسيرات، كل تفسير للقصائد ليس سوى قطع أوراق الوردة،

كل محاولة لفهم القصائد ليس سوى خنق أنفاسها

لكن من يخنق القصيدة؟

من يخنق السؤال هذا الذي يرى ما حوله ويصف ما حدث؟!