فوزية السندي تعبر عن هواجس المرحلة وعذابات الوعي


جريدة الوطن الكويتية

9 يناير 1993

في ديوانها الأخير “حنجرة الغائب” سنة 1992 عن أسرة الأدباء والكتاب، تطور فوزية السندي لغتها الشعرية الأولى، متجهة لبلورة قصيدة غنية الصوروالظلال، نارية المذاق، مدهشة في ألوانها، متخلصة، بشكل واسع من قصيدة الأنا وشرنقة الذات، لتعبر بقوة عن هواجس المرحلة وعذابات الوعي.

تعتمد فوزية السندي في بنائها الشعري على صورة جديدة مبتكرة، غنية بالظلال، ذات وقع موسيقي خاص، مثل هذه الجمل الشعرية:

” كلما مدت الأرض جراحها في مرايا مهدك

انهدت يداك”

“ها أنت شعب في راية تحتدم”

“منذورة لمهالك الممالك التي لا تفيق من الغدر

تقيس الوقت المفعم بطعنات الخناجر”

“تسعى وحيدة

و نهر الدم رفيق لا يصحو”

“مثل كأس مهدور لا يصل السهرة

طفل مبهور برعدة الطين”

“دم يرصد النشيج

خفيفاً

خفيفاً

كالخلية الخرساء ترخيه في حسرة الروح”

ان كل جمله شعرية تعتمد على نحت صوري، متألق، منفرد، انها تحاول أن تجعل”الصورة” بؤرة القصيدة المشعة المتنامية، وهذه الصورة الغريبة الجديدة، لا تجثم لوحدها، بل تتراكم فوقها بذات النحت، الغريب، الذي يحيل تركيب الأشياء بضوء ولون جديد.

ان قدرتها الشعرية الأساسية تكمن في تفجير هذه الصورة، التي تكفي بذاتها، لتكون شعراً، عبر هذه الكثافة التصويرية الغنية، فصورة:

“كلما مدت الأرض جراحها في مرايا مهدك

انهدت يداك”

تجسد حواراً خارجياً- داخلياً غنياً، حيث الرجل المنتمي تمتد فيه الأرض، تمزيقاً وشظايا، منذ المهد، لكن ما يجعل هذا المعنى شعرياً، هي اللغة المكثفة التي زاوجت بين الأرض والذات والانتماء والجراح، بين الطفولة والنضج، عبر هذا الاسلوب الشرطي، والخارج عن أي شرط ميكانيكي، وهذا الجرس الذي يحدثه حرف الميم المتوزع في البدء وحرف “الدال” المتوزع أخيراً، وفي جرس القافية، لكن التشكيل الشعري لا يعتمد فقط على كثافة وظلال الصورة المبتكرة، بل وعلى نغمها الداخلي، الذي يحفل بالكثير من الأدوات التعبيرية والموسيقية، فهناك استخدام موسع للطباق والجناس، عبرهذا الولع بأشكال المشابهة في الأشياء، وتناقضها وحفيفها الموسيقي وظلال صورها، مثل جملة:

“دم يرصد النشيج

خفيفاً

خفيفاً

كالخلية الخرساء، ترخيه في حسرة الروح”

محتدماً فاستخدام حرف”الخاء” يتنويعات جميلة ثم انهاء الجملة يتنويعات لحرف “الحاء” المشابه دون أن يقود هذا الاستخدام الى تدمير المعنى وشل طاقته، وكذلك استخدام التضادات الحادة، جعل “الدم” و”النشيج” يتحولان الى شخصيتين تتوغلان في الاناء لينتقل الدم بعد هذه المعاناة الى الخفوت الى الثورة. هذه اللغة المنحوتة، ذات الصور المكثفة النامية عبر تضادات لونية ومادية واسعة، لا تبنى فوق تداعيات محضة لتتناثر بلا هيكل فني، كما كانت فوزية تفعل في تجارب سابقة، حيث تتحول التداعيات الى تداعيات في ذاتها، بل نجدها هنا تنسج التداعيات في معمار فني متصاعد، مطوراً الحالات الشعرية الى لغة درامية عالية، وأساس بناء المعمار الفني يعتمد على نسقين، في ديوانها هذا النسق الأول هو في التعبير عن موضوع عام بغنائية درامية عنيفة، والنسق الثاني هو في تشكيل لغة حوارية صراعية مع المخاطب، الرجل الرمز، وبناء محاور متعددة حوله، ويتسع هذا النسق ليعبر عن عوالم واسعة ورؤى تاريخية أو حالات شخصية عاطفية، ان جانبي اللغة، الصورة الجديدة، والمحور البنائي للقصيدة لا ينفصلان، بل هما يتضافران تضافراً شديداً، حيث يمتلك المحور البنائي دور المحرض، والمفجر للصورة، فمن غناه، ودراميته، وسخونته تنمو لصورة وتثري المحور.