فوزية السندي ما حولها وما حدث


الكاتب/ محمد زين جابر

جريدة النهار.

بعد مجموعتها الشعرية الأولى”استفاقات”1882، تطل الشاعرة البحرانية فوزية السندي بمجموعتها الجديدة”هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث”# حاملة غربتها وثورتها و”كوابيسها الزرقاء”

المقلقة وشعورها المشحون بالثقل والاختناق.

القصائد-النصوص الأربعون في المجموعة، غرق في الهاوية المحفورة عميقاً داخل الذات، واكتساب الشمولية التي تقود الى استنباط الارهاف الشعري، وهي في معظمها تتأرجح بين الوصف والاحتمال، بين الحقيقة والتأويل، بين المعلن والخفي، بين الخارجي والداخلي، كما خلال هذه القصائد خطان متساويان: الشعر والقصة وتحاول الشاعرة بهما التمكن من موضوعها والتجاوب مع رؤاها، كاشفة رغبة جامحة في الثورة على الواقع(ربما واقعها)، هادفة عالماً أكثر صفاء واماناً مما تراه أو تعيشه، وما فرارها الى الماء(الشاطىء،البحر،الغرق) الا صورة حقيقية عن غموض امانيها وضبابيتها الكثيفة المحجبة:

“نعكف معلقين هكذا بين تماس الشاطىء وثوب البحر

بأحيائه الأليفة والمشدوهة

نغرق معاً باحلامنا

في جدولة المساء الفضي”

“أنت وأنا حولك” ص60″

يتساوى عند الشاعرة النص والمعنى، ويصبحان مترافقين،ويصير الخارجي والداخلي واحداً يساهم في الخلق الفني ويكشف ما يختبىء في داخلهما، ويتحول العالم في قصائدها إلى ذات، ويصعب الفصل بينهما. كما يصبح عالم الشعر رمزاً للحركة المتفجرة، ومركز الارهاف الذي هو قوي وضعيف في آن، ينبوع ومصب تمحى الفوارق والفواصل وتزال السدود. ومن هنا تتميز قصائد المجموعة بفضاء شاسع، محرر، مضيء، ومعبر صاف لطيف محبب، وتجهد في الافلات من أسر السرد الممل، والتفاصيل المفرغة، والبوح المفتوح والهدر اللغوي، وفي تجسيد ايقاع الشاعرة ومقدرتها على رصد الحياة وتطورها وهمومها.

تبدو في قصائدها واثقة من نفسها، تنتمي إلى قضيتها، جماعية المشاعر والأحاسيس حاملة هم المرأة العربية واعباءها.

” أتسول حصى الكلام الكامن في سعة الأخيلة وشواذها الصقيلة التي لا تفتأ عن مراودتي وإلهائي والتغرير بي وهتكي ومزاولتي وإيذائي، يسورني تعب تاء التأنيث وعين العذاب وباء البطش.. تعب هائل، منكب خلالي، أنوء كترس لا يكف عن الدوران…

و أنا فوق القمة مكترثة بالعبء.”

(هل أرى ما حولي ص111)

و برغم ان الرؤيا المتغلغلة في النص عامة وشاملة من حيث تطرقها الى القضايا المصيرية (الوطن)، وبرغم ان الشاعرة ثائرة على الواقع المعيوش،وانها تحاول الخروج من دائرة الاستنساخ الواقعي بما انها تمتاز بقوة ايحائية لافتة، وحالة ابداعية واعدة، وخيال فسيح منعزل حاملة همها المفترض ووعيها التام خصوصية الكلام الشعري:

” أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

اطلق رغوة الأفق

امرغ قوس قزح بحرية ألواني

أعج بالفضاء

وكعادتي

أفيق”

(نوافذ ص24)

وحين تهدف الشاعرة الى اعادة التوازن الى نفسها المرهفة المضطربة ، وحياتها القاسية المطبقة، تحاول قصائد تبرز فيها عملية التفاف الذات على الذات حيث في آن شعور بالألفة:

” مفتوحة ولا تقبل غير ذلك

ولأنها كالوديان المنداحة

والبراري الوعرة

والدهور الصقيعة

تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها.”

(نوافذ للفتح ص21).

وللزمن في قصائد المجموعة انعكاس سلبي، تعاني خلاله فوزية السندي فكرة متسلطة ناتجة عن شعور بالعداء لهذا الزمن الراعب، وكره له. ومانلمحه من مفردات مثل”الوقت،الليل،النهار، الدقائق ،الثواني، الانتظار” ينبيء ببعبث الشاعرة الوجودي، والانقطاع الاستمتاعي، اللذين يطغيان على قصائدها، ما جعلها في هاجس مستمر، وخوف متصل من الرحيل ووداع الحياة الهانئة(المتمثلة في الاستمتاع بالحب وجمال الطبيعة) ويتحول الغد عندها الى رمز للظلام والضياع، ويؤكد هذه المفردات “الزمانية” قصيدتها”خفايا الكلام” (ص13) وفيها:

” أيها السيد لا تخف، داركت الوقت”

وقصيدتها” ماكان رؤيا كان شركاً وغبطة”(ص 88) وفيها:

“الباحة مقفرة والوقت يماطل منتهى الأعذار”

و”لو ترفع عينيك المثقلتين…/ لامتزجنا في ثوان”

وقصيدتها “متواليات” (ص91)

وفيها ايضاً:

“أشك خيوط الدقائق المنفلتة ببرودي”

“مولعة بانتظارك/كأنك الليل”

و”أسال الليل عن سر بكائه وعزلته/ وأنت معي”

إلى ذلك، فاللغة عند فوزية السندي استسلام للعفوية وشغف بها، ورضوخ للقلق وحالاته. ليس لها رواسب او التزامات فاضحة أو تكايا( شأن معظم الكتاب البحرنيين)، بل هي مغامرة جريئة، محببة، في قفز فوق الذهنية أو الذاتية ( بالمعنى الكلاسيكي) أو العرض الرخيص. كما هي عندما تفكر ولا تتحرك، تطيع ولا تتمنع، تعصرنها إلى أقصى الحدود عندما تشغل مخيلتها الخصبة الواسعة. وحين تحاول تجديد الصورة، تستخدم لغة مبتكرة، تنتقي مفردات حية، بسيطة، تعبر عن الشعور الخاص وتدرك المغزى الداخلي.

 

 

“هل أرى ما حولي، هل أصف ماحدث” مجموعة نصوص وقصائد واعدة كنت قرأت معظمها في مجلة “كلمات”( تصدرها أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، ويتحمل القسط الأكبر من جهود اعدادها وتحريرها الاديب القاص عبدالقادر عقيل) مابين 1982 و1986، حتى خيل لي أن صاحبتها السندي قد تكون(مع قاسم حداد) الشاعرة البحرينية المتميزة، والصوت النسوي الفريد، الذي استطاع بجرأة وجهد لافتين، اختراق حدود وطنه، إلى حركة الحداثة في الشعر العربي.