انهيال أعمى، يضيء الورق بحبر الروح

 

حوار جريدة الأيام – البحرين

– في أي اتجاه سوف تتحول تقنيات الكتابة الحديثة في مجاراة عصر الإعلام الرقمي؟ ما الذي يمكن أن تحدثه عملية الانتقال هذا، انتقال الكتابة الإبداعية من عوالم الحبر إلى إحداثيات ” النقاط الضوئية” pixels محققة نقلتها النوعية من طواعية القلم إلى غواية الحرف الإلكتروني على الشاشة؟ وما الذي يميز النص الرقمي عن مثله البكر على الورق؟ وهل تعتبر تجربة الكتابة على الكمبيوتر جواز سفر للكتابة إلى عالم الحداثة وما بعد الحداثة؟

– منذ أن بدأ الإنسان الاشتغال على ترجمة مشاعره و أحاسيسه بمختلف الطرق الفنية، لم ينشغل إطلاقا بماهية أدوات التعبير، بقدر قلقه البالغ على طبيعة تخليق طاقة النص الإبداعية بما تحتمل من رؤى مغايرة و جريئة، إن تطور أدواته التعبيرية منذ الحفر على جدران الكهوف و الكتابة المسمارية و النقش على المسلات الفرعونية حتى عهد الحبر و من ثم الكتابة على الكمبيوتر، كلها تشكل متغيرات تتعلق بآليات التحديث و العصرنه، شأنها شأن كل تفاصيلنا الحياتية التي تطورت أيضاً، لا أرى علاقة جوهرية، عمقيه، تصلها بتجربة الكتابة الإبداعية، بما تعنيه من تحد لصوغ رحى تجربة روحية، جوانية تطال كل الرؤى المعرفية و الفلسفية والوجدانية للمبدع، لذا قرأنا أجمل الشعر خارجاً من ظلمة السجون و هو مكتوباً على ما يشبه الورق، أو محفوراً على جدران المعتقل، متحدياً بذلك صلافة القهر. أمام القلم أو الكمبيوتر، أمام الورق أو بياض الشاشة، يحدق الجسد وحيداً، غارقاً في ظلام عوالمه الذاتية، ليشتعل فجأة أمام أول حرف تطرقه الأصابع على البياض الكريم، لينهال فيما بعد ما لم يكن يراه من خفايا رؤاه، انهيال أعمى، يضيء الورق بحبر الروح.

الكتابة لا تتصل بأدوات صماء لها أن تتغير وتتبدل، لكنها تتصل بخفق الحب وبمجرى الدم، الذي يصل القلب دوماً.

 

 

 

حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب

حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب

الشعر آخر من يعبأ بالصراخ والكرنفالات

الشاعرة: لينا الطيبي                 

 حوار “ألف ياء” جريدة الزمان

10-5-1999

“فوزية السندي” شاعرة اثرت القصيدة في عزلتها الجميلة على ضجيج الحياة، تكتب لتحيا، وتكتب أيضاً لأنها، ربما، لا تحسن مخاطبة الآخر عبر الكلام، تكتب أيضاً وأيضاً لأنها فقدت القدرة على التواصل مع محيط لا تستطيعه، فهو محيط يعجل بكتابة نهاياتنا ولا يسعفنا على الحياة.

في مجموعتها الشعرية ما قبل الأخيرة “آخر المهب” كتبت “السندي”:

“أحيا كالصمت

صوت الموت

مذبوحة بما يحدث

بما لا أقوى.. كالحديث عنه.”

 

هكذا أيضاً لجأت الشاعرة إلى عزلة، حيث تكتب قصيدتها بصمت، وتنشر بصمت، وتؤكد مع كل مجموعة شعرية صفاء صوتها الشخصي من دون ضجيج، كأنها تقول ان الضجيج الوحيد الذي تصنعه القصيدة هو ولادتها ووجودها بين دفتي كتاب.

وفي هذا الصمت يمتد صوت “فوزية السندي”، كشاعرة لها لغتها الخاصة ضمن مشهد شعري مترامي الاطراف فيه ما يتشابه وفيه ما يشذ ليكتب خصوصيته.

و”فوزية السندي” شاعرة من البحرين، أصدرت خمس مجموعات شعرية، كان أولها”استفاقات” في العام 1982، ثم ألحقتها ب “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث” و” حنجرة الغائب” و” آخر المهب” وأخيراً ديوانها الصادر مؤخراً والذي حاورناها حوله وهو” ملاذ الروح”.

تخاطب في قصائدها شفافية النفس باحثة عن الجميل، منتهرة عزلتها لتصنع من الكلمات رسائل حميمية إلى الآخر الذي تقول انها تهديه” ما انتصر وضج من هزائم تستولي على غنائم الروح” غير آبهة بردة فعله “يقرأ أو يهمل، يقترب أو يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي آن حرفة الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح”.

الحرية الصغيرة التي تمارسها “السندي” لحظة الكتابة تهديها للآخر، وهي تقف” أمام ضراوة المهب/ غير عابئة بأحد.” وتصرخ بالآخرين الذين اعتروا حياتها في “آخر المهب” قائلة:

 

“لن أغفر لكم

كل هذا الاجتياح”.

وتقول أيضاً:

“بينكم صرت أقل ألفة”.

 

هذه الشاعرة كتبت القسوة التي احاطت بها، وكتبت لؤم الحياة، وكتبت أيضاً، تلابيب الذاكرة وهي تستنجد بلحظة الشعر لتكتمل بها آن الحلم.

حاورتها عبر البريد، فكتبت نصاً أدبياً جميلاً، أشعل الكلمات بنار تشبه الشعر، وكشفت عن روح صغيرة تحاول أن تقاتل بمفردها حياة كاملة من الألم.

هكذا جاءت كلماتها لتشف عن روح شاعرة قبل الكتابة وقبل الكلمات. هنا نص الحوار.

 

1- في قصيدتك ” للغرفة. لبابها الموارى أبداً” تتساءلين:

“ممن تخافين” وأسألك السؤال نفسه.. في القصيدة وعلى مبعدة منها، مالذي يصنع الخوف، وهل لهذا الخوف قيمة إبداعية؟

  • منذ البدء.. شكل تماس الكائن مع الحياة منهلاً للخوف، تبدت هذه الغريزة المثلى بإحساس دائم بالتهديد الجسدي والروحي، اللامستقر الذي يلغي هدأة الكائن، ليلقيه وحيداً في ظلام الكهف محتمياً بأعضائه، لذا أجاد فن الحفر.. ونحت الذات على صخر وحشته بجدارة الغريب، حتى الآن كأنما نحيا الوقت كله متأهبين لمثل هذه المطاردة، النهار والليل يستويان في مدى تأهيلنا بجدارة لهذا الفزع، الأشد وطأة من الخوف ذاته، ومجرد نظرة بانورامية لمآلنا المعاصر من تدمير وعنف يتصاعد، كفيلة بحفر هذا الهلع عميقاً في بئر الروح.. ولكون الكاتب أكثر الكائنات عرضة للحياة، نراه يتبارى معها – كلما استعرت في جحيمها – مترجماً ما يعتريه من غور القلق الوجودي المستفحل في ذاته، واللا مفر الذي يدرك خطاه كلما حاول وهم النجاة.
  • تستدعي العملية الإبداعية كما أراها مثل هذا الخوف الكامن، بل تستثير كل الحواس والنوازع الغرائزية بمختلف تجلياتها، لكون الابداع فعل يكمن ويتجلى في حث وتصعيد كوامن الذات، خفاياها لتعرية المكبوت الشرس من قناعه الأصم، لنحت رؤاها بحرية على الورق، لإهدار صمت الأعماق، لمكاشفة الموارى، المؤجل، والغريق من حالات الروح، لذا تتمثل القيمة الإبداعية للحزن في مدى شفافية هذا التناغم بين ورق الكلمات ونبض الذات الذي تعتمل فيه كل الحواس والمشاعر المؤججة.. كل ذخيرة الحياة.
  • 2- وفي القصيدة نفسها يطل سؤال ” لمن تدفعين النبض عالياً ” وأسألك مرة أخرى، لمن؟

 

– سؤالك يحتمل سؤالين، الأول يتعلق بالنص، والآخر بي، مع كوني لا أرى الفرق بينهما، لذا أحتمل سؤال النص، الأكثر دلالة كما يبدو لي، دائما أري الشعر كفيل بأسئلته وإجاباته المضنية، لجرأة حرفه وحرية صمته، لرغبته في البوح والمواربة في آن، لذا إذا عدنا للنص ذاته سنقرأ معاً:

“لمن تدفعين النبض عالياً

كلما شارفت بعينيك ملامح تقذف القلب

ببهجة السهم من قوس لا يهجع

لتقتلين برهة ثم تعاودي النظر

ليكون القتل الأخير نصيبك الأبكم.”

يحدث – حين الكتابة أو الحياة – أن أدفع النبض عالياً حين تداهمني – وأنا على غفلة مني – رؤى تذبح القلب برعدة تطيل النظر، ذلك لاعتناق العين محنة القلب، كونها نافذة الروح التي تطل على الهول، وترتشف مما تراه، ما يفيد الأصابع حين الشهادة، وما يسري عن الروح أوان الحب.

 

3- منذ سنة 1982 حينما أصدرت ديوانك الأول “استفاقات” أطللت على المشهد الثقافي الشعري كشاعرة مختلفة لها لغتها وأيقونتها الكتابية الخاصة، لكنك بالرغم من هذا كنت هادئة وبعيدة، كأن بك تستكينين إلى عزلة دون ضجيج.. هل توافقين؟ ولماذا؟

– “الكتابة تركة العزلة” هكذا كنت أراها دوماً، منذ وقت قديم اتسمت علاقتي بالكتابة بحتمية الهدوء، وجلال البعد قدر المستطاع عن ضجيج المعدن بالذات وصخب الخارج، ليس لحظة الكتابة بل حتى عند الحياة، لا أدري لماذا.. ربما لطبيعة اعتدت عليها. منذ الطفولة كنت أحسد الليل والشجرة والغيمة والهواء على كل هذا الهدوء أبان الخلق، حتى الآن أخجل من علو الصوت البشري على لحن الحديقة الذي تريقة العصافير بفتنة بالغة، وتهدينا إياه الوردة بغنجها العصي على العطر، ربما أيضاً لاتصاف علاقتي بالآخر بخلل ما.. لا آمن له ولا أثق بهوله، لذا أميل للبعد.. للبيت.. للغرفة.. للورقة، ولثقتي بأن الشعر هو الخجل. الهامس دوماً.. هو مالا يصل إلا حين يراق الليل له حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب، الشعر آخر من يعبأ بهذا الصراخ والكرنفالات المحمومة التي تسعى لتسليع الكتابة مغتشة بمهارة الترويج.. الكتابة تستدعي مثل هذه العزلة التي تحميها كما المحارة تماماً من عنف الردم، حتى حين ينتهك الرمل خلوتها تداريه ببدعة الخلق لتحيل نفوذ الألم إلى لؤلؤة تتبلور بنقاوة لا تبارى.

4- فوزية السندي داخل مشهد شعري مترامي الأطراف ينسج القصيدة الحديثة والمغايرة، كيف ترين هذا المشهد الشعري؟

– أرى هذا المشهد الشعري كالوردة الطالعة من صخر الصحراء الأشد رعونة وسخونة مما حولها ، تقف بثقة ضد كل – الشوك – التهاويل التي نقرؤها كل نهار حول أزمة الشعر ونهاية الشعر وموت الشعر، هذه المعتركات المسماة – نقدية – والتي  تبالغ في قتل أجمل الشرفات الإبداعية التي يتباهى بها  تاريخ حاضرنا  العربي، لكونها الوحيدة التي تؤهله لدخول القرن القادم بثقة اليتيم الذي ليس لنا حضناً سواها ، إن واقعنا العربي على المستوى الحضاري لم ينجز فعلاً مغايراً وحداثياً مقارنة بالحضارات الأخرى التي تشتغل على منجزاتها العلمية والاقتصادية والإبداعية التحديثية للعالم بأسره ، لم ينجز غير ما أبدعته الأصابع التي تحدت الحديد كله، وهذا ما جعلها تتصدر واجهة المباهاة الحضارية إبداعياً، والحديث هنا عن التجارب التأسيسية والمتفردة على صعيد المنجز الشعري والابداعي ، أيضاً التجارب الفنية المتوردة في حقول الابداع الأخرى، هكذا أرى المشهد الشعري العربي عمقياً ورؤيوياً دون الالتفات لشوائب هنا وهناك عادة تعتري كل التجارب الفنية وتعاصرها بشكل مؤقت وغير صادم .

5- لنتحدث عن تجربة الشعر من وجهة نظرك في الخليج العربي، هل من لغة مغايرة؟ هل من أفق مغاير؟

– في الخليج العربي هنالك بحراً وبشراً يحتدمون على هذه الجزيرة أو تلك الصحراء، ليسوا رعاة نفط كما يشاء لنا التنظير الدائم في صحافة الثقافة العربية أن نعرف، وهو يتحدر من اشتغال ينضد الابداع بين عواصم للمركز وأخرى للهامش، ليسوا رعاة نقد ولكنهم دعاة تاريخ وإرث ثقافي وحضاري أيضاً، تتصاعد فيه جذوة الشعر من أشد المنعطفات حدة – من ماض يعاصر دمه – ملتاذة ببريق يصف عزلته.. رغم قسوة الحياة – الوفرة النفطية هنا مدعاة للهلكة، وترف الاحتضار للمبدع على الأقل في حساب حرية الروح – رغم تهافت الحيرة على الصعيد الوجودي ونفوذ أسئلة الراهن وطغيان سيول الاستهلاك وهيجة صليل الردة وسيادة أعنه الكبت… ضيق الهواء.. كلها شكلت تحديات أمام رعب الجسد، ليزدهي بصيت الحناجر وقدرة الأصابع على النيل من كل ذلك.. هل من لغة مغايرة؟

الرصد البدئي لحركة الشعر في الخليج والجزيرة العربية، لا بد أن يصطدم بتجارب شعرية – ونقدية لافتة – استطاعت منذ زمن أن تعلن عن صوتها المتفرد- وهذا حتم، أمام وعر الرمل المالح أن نرى النبت يزهر عالقاً برائحة الصبار- كذلك هناك تجارب شعرية أخرى فتية تعتمل لبلوغ القدرة على تحدي ما حولها، تدوين كتابة تشبهها، هنالك هتف بين ملاغاة الموج ودلال اليابسة، أراها لغة مغايرة تشبه عناد أرض ذات أفق لا ينتهي بالبحر.

6- “آخر اليد.. رجفة تمّوه المعنى لتشتبك الحروف” هذا مقطع من قصيدتك “رجفة تلي اليد” والتي أهديتها “للحياة لتبدو أقل قسوة” هل هذا المعنى يتضمن كتابتك للقصيدة؟ بمعنى آخر هل تكتبين القصيدة ثم تموهينها؟

  • بعد كتابة القصيدة أقرأها فقط، هذا ما أفعله لأعرف ما حدث لي طيلة غدر من الوقت لن أشفى منه، وهذه هي الرجفة – التي تعتريني حين القراءة – التي تلي – الكتابة.. فعل اليد، لا مكان للحديث ونحن أمام الشعر عن – التمويه- كجرم عقلاني بغيض يلي الكتابة، لكونه فعل تشويه لا علاقة له بالشعر، آن الكتابة يطغى الشعر وحده، ويرتب كمائنه، ويطلق أعنة الذاكرة لحوافر الحروف، يبدد راية البياض، وحين ينتهي من ذلك، يدعنا لنصاب به، كل تدخل سوى القراءة يفسد شفافية العناق بين نفضة الحبر وريش الورق.
  • مقاربة النص ذاته قد توضح لماذا أهديت هذا النص للحياة، وكيف لتبدو أقل قسوة.

7- وسؤال إلى سؤال قبله.. تهدين قصيدتك إلى الحياة.. لتبدو أقل قسوة؟ من أين تأتي القسوة؟ من ذا الذي يمتلك مفاتيحها؟

– الحياة هنا لا أعنيها كمشكل وحيد وقدر يابس، ولكن بارتهانها لمرتكبات الإنسان، الإنسان هو منتج القسوة بجدارة لا تخضع للمنافسة من مثابرة كائن سواه، هو المشتغل الأول على صيرورة تدمير الأرض، ومن ثم إذا فاز أكثر بفضاء مكتشفاته قد يتحقق من محو الكون، الإنسان بثيمة النسيان الكامنة فيه، الملهمة له للانجراف في غيه أكثر.. سفاح تمرس تاريخياً برفقة السيف على جز الأعناق، ثمة علاقة مشينة ومخلة بشرف انتمائه البيولوجي للكائنات الأخرى، تراث طويل من بارود العنف يتفجر بذاته، ويستوي بين يديه، لتبدو كوارث الطبيعة الأزلية التي تحدث غصباً عنها وضمن توازنات جيولوجية لا يد لها فيها، لعبة بريئة إذا ما قورنت بسعيه الحثيث لتصعيد الدمار وتفعيل الحرب كل قتل.. لتدوين قداسة تاريخ يفيض بالجثث، اشتعال لا يكف ولا يهدأ، يطال كل شيء، والمفارقة التي – للأسف- تديم للقسوة نزوعها المتأجج، تتبدى في معترك أزلي وخاسر دوماً بين طرفي التناقض: الأول: مناهضة يومية ضد العنف تشمل الطبيعة حامية الإبداع الأول وفيمن يساندها من ذاكرة الناس التي تتماهى بفعل الطبيعة هذا، يرافقهم كل مبدع لا يرتضي ما يحدث لجسده وروحه في آن..

والآخر: طائفة من البشر يشفق على عنفها الوحش، موغلة في الدم تتصدى لكل ذلك.

هكذا تعيد القسوة إنتاج ذات الدمار كل نهار.

 

8- في شعرك تتعدد مفردات الموت، بل أن كلمة موت تبدو منتثرة بلا ريب بين سطور القصائد، مالذي يعنيه الموت لك.. هل تجدين فيه ملاذاً للروح؟

– الشعر ملاذ الروح الأول والأخير، الموت والولادة توأمان يبدآن معاً سيرة الكائن، ليحيا يلازمه الموت كنهاية مؤجلة، لها ذهل البغت وحضور الفزع كله، لذا تداوم مفردة الموت على حضورها شعرياً كأنها تعبر عن تمثلها المؤلم الدائم في ذاكرة تقسو على مخيلة ترتضي، وهذا يحدث – ربما لخوفي من فقد الشعر ذات موت، ويعزيني قولي في الشعر بأنه:

” راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي تراب القبر: من يواسي روحاً للهلكة ويضم جسداً للفزعة من بعده، خليلي في خلوة القبر”

هذا بشكل عام أما فيما يتعلق بكتابي “ملاذ الروح” فلقد تعرضت لغدر الموت وأنا أكتب آخر الشعر منه، كانت تجربة صادمة، تمثلت في احتضار وموت صديقة القلب الكاتبة والصحافية “عزيزة البسام” وبعدها بقليل موت أمي “موزة”: رهينة الألم،  ليتلوها بعد وقت قليل أيضاً  ذهاب أبي “محمد” وحيداً إلى عنف القبر، هجمة الحزن خلقت ثقلاً قاس للموت، طوح بأرجاء النفس كما لم أعرف من قبل، تعرفت عليه بدقة تفاصيل كنت أجهل هول نفوذها في رعب الذاكرة، وقسوة نحزها للروح، أشعر- الآن – بأني لم أتقن فن الموت شعرياً بعد، ولكنه تفلت في مشافهة ألمّت ببعض نصوص “ملاذ الروح “، هجساً بدئياً بعدائه الشفيف ليس أكثر ولكنه آت.

9- كشاعرة أنثى في ثقافة عربية، كيف ترين إلى مشهد المثقفة العربية داخل أطار حركة ثقافية تجمع العديد من المتناقضات؟

– المرأة العربية بشكل دائم – لا المثقفة وحدها – تحيا في نزاع يبدو أبدياً لإثبات حقها في الحياة كإنسان، نزاع والآخر الذي لا يراها كذلك، للأسف هذه هي الحقيقة الأشد إيلاما من كل الادعاءات حول حقوق الإنسان وقضية المرأة وحرياتها المصادرة، إن افتقادها لأدنى هواء الحرية، الحضور الإنساني بمعناه البدئي والبديهي، رآكم حواجزاً لا آخر لها، أمام إي اجتهاد منها لبلوغ تحقيق ذاتها، ابداعياً لإيصال صوتها، لا فرادة حضورها فحسب، على الأقل لمزاولة الحياة بحرية كائن يتنفس الهواء على الأكثر مثل طائر.. لا أن تبقى عاطلة عن الحياة، وهذا ما يحدث كل وطن، لا كل غصن، المثقفة والمبدعة العربية تكتوي بذات الأتون بل للمغالاة في نير  التهميش ورجولة الصد وشهامة الكبح لمحاولات التفلت الإنسانية هذه، نراها مرتهنة لتاريخ السبي بامتياز الغزو، كلما احتالت بجرأة أكثر كلما نالها مبتغى القمع بقدرة أشد، وما نشهده الآن – للحسرة على صعيد الإبداع – من إلغاء وتهميش لصوتها كافياً عن التدليل، أقلها التهاء الحديث الثقافي والنقدي بفوضى المصطلح الأشد ابتذالا لكتابة المرأة، ما أتفق على تسميته “الأدب النسائي، نسوية أدب المرأة” وكل التخصيص الذي ينال منها عندما يتم مقاربة قولها من خلال حياتها بمعناه التلصصي، لا كتابتها بقليل من الاحترام لحقها الإنساني في التعبير، وما يرسل اليأس لا السم وحده..  عزلها المدمن على إلغاء حضورها – من قبل سادة المؤتمرات والملتقيات الأدبية – لامتيازها بأنثوية تجعلها جديرة بملتقيات النسوة الأدبية دون أن تصل لمحترف واحد يدعها لتقف والشاعر على منصة واحدة بينهما حرفة القول وحرية الروح لا اختلاف جنس الجسد..

 

10- في قصيدتك “دوني هل حتم” تسألين نفسك: “ماذا تفعلين غير الكتابة في ثوب يضيق” هل فعلاً يضيق الثوب؟ ومالذي تفعلينه سوى ذلك ؟

  • فعلاً يضيق الثوب والفضاء أيضاً أمام الشعر، هذا الشاسع الذي لا يماثله فضاء الكون، هذا الهواء الذي لا يحد، عندما أكتب: “الشعر حصاري الوحيد الشاسع” أعني ما أحس به من حرية تفيض أمام ضيق الرئة، في كتابي “آخر المهب” وقصيدة “الهواء الضيق” ثمة إحالات لتجارب شعرية صغيرة متشظية تشي بهذا القيد الذي يلم الرسغ حين الكتابة، وكلما حاولت كسره تبدى لي أكثر عنفاً، لا أعرف لماذا عليَّ أن أكتب وأكسر ما يلجم حنجرتي في ذات الوقت، منحازة لأجنحة الحلم ورفيف القلب وحده؟ ربما لكوني امرأة وتحيا في وقت عربي امتاز تاريخياً ببلوغه أقصى حالات الردم… كل هدم أُضاءُ له، معاصرة لأحلام تتهشم لتستفحل قمم الهزائم، لا بد من خلعة العظم، تشظي مآل الذاكرة، ضد ندرة الحرية التي وهبتنا إياها شظية الحياة هذه.. تلك التي أعطتنا جحيم المجد هذا، لذا آن الكتابة أتشبث بالشعر: حريتي الوحيدة، رئة الذاكرة، كما أصفه: “عار من القبيلة، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك” كما أخاله الآن: أجنحة أضاهي بها الأفق، ومع ذلك أراها تضيق على نبل الشعر وملائكية روحه التي تغالب برفيفها هواء الكون.

 

11- ومن قصيدتك “رجفة تلي اليد” مرة أخرى.. تقولين ولا أقول تتساءلين “كدت.. كالشعر.. ترهقين الحياة بحنو اندفاعك”.. هل أن الشعر يرهق الحياة؟

  • -الشعر توأم الأم، حامي الرحم.. المدافع الأول والأخير عن إبداع الحياة الجميل وعطاؤها اللامتناهي فيما حوله.. الشعر يد الكائن وهو يحاول أن يضارع الحياة في خلقها البهي، ويرتقي كفراشة تحتضن نقاوة كائنات تتقدمهم الوردة بثقة الآلهة، الشعر ذاكرة القتيل يمضي مندفعاً ضد ما تعلمه الجسد طيلة طفولة بكماء من قوانين الخلق الأول: نواميس درس الإنسان، الكلمات حديقة الشعر وبينوعها على الورق تثق الروح بقدرتها على مضاهاة الحياة بحقول تلاغي الغيم وموج يلهج بسحر البحر.. بكل تلك الحريات المنبثة هنا وهناك كل هذه الرياح والعواصف والرمال، كائنات الحياة التي تخلقت بحرية باذخة ولم تزل ترضع شفاهة الحب..
  • الشعر يرهق الحياة عندما يتصدى – كسر وحيد يصيب ذاكرة الجسد ويبلي حنو الأصابع بمحتواه – بأسئلته اللامتناهية.. بحضوره كطفل ذاهل، باعتمال القتيل المشفق – ضد قاتله – دفاعاً عنها، يرهق الحياة والناس باندفاعه.. ضد بلوى اليقين، شبه نبي منحاز للشك، راو ينقب عن الأسئلة، صعلوك يدين ما يحدث وهو يصفُ ما يراه: عندما يرى الليل كله مباحاً لكوابيس لا تهدأ ولا تغادر، تذكرهُ بحصاد نهارا لا يكف عنه، لا ينسى ما يحدث لهذه الحياة من تشويه لا يرحم رعدة عصفور على غصن وحيد..
  • ماذا على الشعر أن يفعل غير ذلك؟

12- ختمت ديوانك “ملاذ الروح” بقطعة نثرية أسميتها “في ما أحسه أو احسبه الشعر” وافتتحت مقولتك بكلمة “حمى. بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي “..”نزوع شرس نحو فعل يشبه الاغتصاب “.. ” ما لا أنساه، ما يمحو وجهي كل مرآة “.. ” بيت بيتي، عندما أنام ينام بي، يكرهني كلما رآني أبكي دونه.. ”

الشعر هنا يتخذ شكل الحياة نفسها، إذا قلتُ إن الشعراء يبالغون أحياناً في صفة الشعر، في وصفه، ماذا تقولين أنتِ؟

– طيلة هذه الكتابة كنت أحاول أن أكتب ما أحس أنه الشعر، كذات تشيئت برهيب المسَّ، وإندغمت بعبء روحي كملاك صديق منذ وقت طويل، كحياة أخرى أحياها كل كتابة، أنفصل فيها عن عته الحياة بتفاصيلها المرعبة، لأدون ما أشعر به ذات اللحظة.. آن عزف الأصابع،  أيضاً عندما أحيا في ملمات الآخرين، يظل الشعر كطفل جميل يحيا وهاد العمر معي، ويترصد خطوي، ويهمس لي كلما اتقدت على مقعد وحيد ذات مساء أنحت الهواء بوميض يحتدم في ظلام الروح، لا أعرف ماذا يحدث للشعراء والشعر، وهل يبالغون أو لا، ولكني أتحدث هنا عن حميم علاقة كالنبض الذي ينغرس عميقاً في دمي، صداقة تمثلت حيرتها في آخر النص نفسه وبعد كتابة طويلة، تتالى فيها الورق ليكتب عنه قلت: “لم أنته بعد”، وفي هذا الإحساس محتمل يدل على عجزي عن بلوغ ماهية الشعر الذي يشبه كل شيء ويشمل كل شيء، ومهما كتبت عنه لن أصل إليه.. شأن الحياة.. هل لنا أن نصف معتراها أو ننتهي من هول ذلك؟

13- مالذي يعتمل في نفس “فوزية السندي” بعيداً عن القصيدة؟

– من الصعب أن تبتعد النفس عن القصيدة عندما تحيا حتى -الآن – في ملازمة دائمة لحرية لا يبدو الجسد حياً دونها، مع ذلك – للإجابة على هذا السؤال – تعتمل نفسي: بالأسى لما يحدث على أرض تخاف، بتوق الأمل: مدُّ اليأس، بالحب شاهر الحضن ورفيق القلب، بالحنان اللازم لينوع صبية ثلاثة، أحتمل الحياة بفوضى حراك أعضاءهم: وليد وخالد ويوسف صاحب الذئب، بعائلة تتعدد فيها خمسة أخوة وأربعة أخوات، هن زادي من رحم أمي وحكمة أبي، بصديقات وأصدقاء يشبهون ندرة الأصابع، بالبيت حارس الآجر.. صديق الحديقة، بالحبر: جابي عداء الكتابة حين تستعصي وواهب عزلتي جمهرة الصمت، برعدة القلب قدري، بالشعر خالب أناي، بالحياة هواء بخيل وتراب جدير ببراءة البذرة..

بماء قدير كغفوة الغيم سادر المطر، بجسد قد يبدو بعيداً عن بغت صعقة الموت.

14- ختاماً.. لمن تكتبين؟ لماذا تكتبين؟

– لمن أكتب: كل ليلة أكتب ما تراه صراحة الروح، لأكتشف ما يحتد هناك في الغامض القديم من ذات تتصدع كل حنان، أكتب ما يفسر لي ما أنا مصابة به، كل انتهاك تعرضت له ذاكرتي، كل خدش طاغ أعترى روحي، مالم يرضاه جسدي من براثن تدعي الوقت، بعد أن أقرأ ما يمتحن قدرة القلب على مواجهة ذات الهجم وحرفة الغزو، أهدي – ما انتصر وما ضج من هزائم تحتفل وسيوف تستولي على غنائم الروح – لهذا الآخر ليقرأ أو يهمل، يقترب أو يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي آن حفر الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح.

لماذا أكتب: لأحيا

لجأت للكتابة وأنا صغيرة بما يكفي لأدرك خسارة المصاب، ربما لتعثري بطفولة شابها تلعثم مهيب، عجز قاس عن التخاطب والآخرين، كنت صغيرة بما لا يقاس لأعاني من صعوبة في نطق الحروف وقذف الكلام بشكل يراه الآخرين سوياً.. كما يحلو لهم، وهذه المعضلة التي جابهتني منذ رهافة الأعضاء أربكت إلى حد بعيد قدرتي على التواصل والآخر – أشفاني منها الشعر فيما بعد وأصبحت حين صرتُ امرأة تكتب أكثر قدرة على الصمت لا الحديث وحده – ولكنها ظلت عالقة بذاكرتي، لكونها كما أراها المبرر الكفيل – عدا الحياة بطبيعة سطوتها – لكتابة الشعر كجسر وحيد بين الكون وجسد الأخرس، أمام الشعر أشعر بحرية وقدرة على مشافهة كل شيء، محو الألم أو استنفاذ وجعه، الغدر به، التباهي بقدرة الحقل كلما رأيت سنبلة تتألم وتميل، أكتب مصابة بعناد – يبلغ اليد لا القدم وحدها – على عدم مغادرة الحياة ولا احتمال الموت دون البوح بما مس القلب وانتضى قبر الروح منهم ومنها.

 

لتتقد وتشعل ذاكرة هذا الوطن بحبرها وحريتها في آن

 

 

 حوار الكاتب خالد الرويعي

جريدة الوقت

 

اذا افترضا أن الحركة الابداعية النسوية في البحرين – توثيقاً ومعرفة- بدأت منذ 40 عاماً تقريبا، وهنا ستخذلنا التواريخ، ومن هذا كله نشعر أن ثمة ضعف هنا وهناك على مستوى الحضور الابداعي للمرأة.. اذ يمكننا ان نضع معادلة بسيطة وعليه فإننا سنجد أن مقابل 15 رجلا هناك امرأة في الحقل الابداعي، وسنغض الطرف هنا عن التباين في مستوى الكتابة ومدى تأثيرها.. ولكن الأمر برأي يستدعي حوارا بشكل مختلف، إذ علينا ان نسأل لماذا هذا الحضور الضعيف.. بالتأكيد سنرجع هنا إلى الخلفيات الاجتماعية التاريخية من جهة و وأد المرأة ذهنياً.. ولكن كل ذلك لا يعفينا من السؤال لماذا؟


ففي حضور الشعر ثمة تجربة أو تجربتين أو حتى ثلاث؟ وهذا يشمل أيضا مستوى التنظير.. في المسرح والتلفزيون ثمة حضور هامشي فقط.. واقصد هنا أن الساحة الفنية تكاد تخلو من عناصر نسائية جادة على مستوى الطرح والنقاش والفكر؟ في التشكيل ايضا ثمة فقد.. لماذا؟ نعرف ان الوضع الثقافي له دور مؤثر – وهذا الوضع – هو ايضا ضعيف؟ ولكن لماذا ايضا؟

والكثير الكثير من الحديث:

–     كيف ترين حضور المرأة في التجربة الابداعية؟

–   ا المسألة الابداعية مسألة جادة لا تقبل بأنصاف الحلول.. وما نراه في 90% من تجارب النساء يعد ترفاً في حين أو استجداء لصوت الرجل.. ثمة تقاعس نسوي وثمة ضيق أفق.. ما رأيك؟

–  ف  في حالة مثل حالات المسرح مثلاً.. عدد الممثلات في المطلق قليل.. وعلى مستوى الجدية والنضوج والطرح يبدو شحيحاً.. أليس هذا وضعا يرثى له.. ام ان الوقت كفيل باخراج الجديد؟

–        إذا افترضنا أن ثمة (لوبي) ذكوري وقائم على الفطرة.. ألا تعتقدين أننا بحاجة إلى (لوبي) نسوي وقائم على القصدية.. أم ترين أن ذلك ايضا تحجيم ويضيق الفجوة أكثر؟

 

 –  من الصعب عند الحديث عن مساهمة المرأة البحرينية في التجربة الابداعية، أن نغفل عن مواطن الخلل التي تواجهها كمواطنة أولاً،على المستوى القانوني والسوسيو اقتصادي،عن تعسف الواقع الحياتي، ومدلولاته التراكمية التي عمقت فعل التغييب الذي تعرضت له فيما مضى، وفيما يشتد الآن، من تنامي لكوابح قيميه تتصاعد ضد صوت المرأة، المتخفي منه والمعلن ايضاً.

أحد أهم هذه التجليات تمثلت في المواطنة المنقوصة التي عملت على اقصاء المرأة من المشاركة الفعلية في مراكز صنع القرار، وبالتالي في كافة أنشطة الحياة الأخرى، كما تشير لذلك الوهن، كل تقارير “برنامج الأمم المتحدة الانمائي” و أحد أهم المؤشّرات التي تعكس بوضوح ضعف مشاركة المرأة العربية في الحياة السّياسيّة هو نسبة تمثيل النّساء في البرلمانات العربيّة، الذي يشكل أضعف نسبة تمثيل برلمانيّ للنّساء في العالم على الإطلاق، ويدلنا مؤشر تمكين المرأة والذي هو حصيلة عدة مؤشرات، على أن البلدان العربية بالرغم من ثرائها تصل إلى مرتبة ماقبل الأخيرة من بلدان العالم.

 يضاف الى ذلك، نفوذ “ثقافة التمييز” الفاعلة في المنظومة التعليمية والاعلامية، العاملة على تغييب صورة المرأة، وإحلال الصورة النمطية التقليدية، كل هذه المحددات يدعمها نفاذ التابو الاجتماعي، ترسيخ الأبنية الأبوية ومواريث سلطتها الذكورية، كما لا يغيب عن أحد، مدى المصاعب الأسرية، وتبعاتها التي أثقلت بشكل محموم كاهل المرأة وحدها، كل عائلة تتعدد في مجتمع يرزح تحت هجمة طوفان استهلاكي مدمر، كا أدلهمت العديد من الضغوطات النفسية والإستلابية، لتؤازرهذه القسوة كلها.

عندما نقترب من المشهد الثقافي، لنقتفي تجربة المرأة، حتماً سنصطدم بتسلط “إزدواجية ذكورية” تنساح على المشهد كله، هذه الظاهرة المستفحلة تجاه كتابة المرأة، نراها تستبد في كل دول العالم مع نسبية ما، في تجليها هنا أوهناك، أغلب الكاتبات – حتى في الغرب- يعانين من تلك الإزدواجية التي تحرص على تعميق دونية المرأة ، التعامل معها بتمييز جنساني بشع، حيث لا أحد يحتكم للنص الابداعي أوالتجربة الفنية، مهما اتقدت، وانشغلت بنحت الذات، يظل المعيار الراسخ هو النظر للمرأة كموضوع لا كذات مستقلة، إذا كان هذا البلاء قد تحقق في دول عززت مفهوم المواطنة منذ قرون، فما بالنا ببلاد لم تزل تحبو نحو ذلك.؟

ترتسم هذه الإزدواجية في كل معطيات المشهد الثقافي، المستمد تداعياته من حركة الثقافة العربية المثخنة هي الأخرى بكل تلك الاستلابات نحو تجربة المرأة.

أتحفظ على تعبير (لوبي ذكوري)، لكون المتنفذ هو منظور ازدواجي ذكوري يتخلل النظر المتاح لكتابة المرأة، وبالتالي بقدر ما هوتعبير(لوبي) مرفوض مبدئياً، لا أرى مواجهته بتشكيل (لوبي نسوى، كما يتم استدارج العديد من الكاتبات لذلك المبتغى)، حينها نكون قد أستوردنا أسوأ مفردات العمل السياسي نحو شرفة ابداعية، أشد شفافة و ملائكية من كل تلك المداهنات، خطورة كتابة المرأة تشتعل بما تشتمل عليه من قدرة على الفضح، الكشف، المغايرة، إعلاء الصوت، المجابهة بقوة الحرف وحرية الحبر.

بالرغم من كل تلك المثاقيل التي مضت، استطاعت المرأة البحرينية أن تواجه معترك الحياة بفاعلية منتجة، ومتميزة أيضاً، من خلال مشاركتها في العملية التنموية، أثبتت قدرتها واستقلاليتها على مجابهة تلك الصعاب، حتى على صعيد الابداع بشكل عام، نشهد الآن أغلب التجارب الجديدة في الشعر لأقلام نسائية، كما تنامت المواهب في التمثيل والفن التشكيلي تحديداً، ولكن ضعف هذه المشاركة يعبر عن مدى سيادة النظم الأبوية التي تواجه حضورها، بالذات الآن، فقد صرنا نتعرف على مواهب شعرية تكتب بأسماء مستعارة، خوفاً من نفوذ الأهل، ناهيك عن المحذورات الاجتماعية التي تصطدم بها، والتي لم تكن بهذه القسوة طيلة زمان مضى.

لقد برزت العديد من التجارب النسائية في الآونة الأخيرة، و لقد أسهم مشروع النشر المشترك بين “ادراة الثقافة” و”المؤسسة العربية للنشر”، في دعم العديد من المواهب الجديدة، كما أن تعدد المنابر الثقافية سوف يلعب دوراً في اضاءة تلك التجارب.

أن التحديات الراهنة أمام النص الابداعي، اضحت أشد صعوبة، مذ تحولت إلى رهان مع الذات، مذ تمحورت لسبر أسئلة الهوية، تخليق أتون التجربة، تحقيق فرادة النص، تحول التنافس بين المبدعين، لتحد آخر بين المبدع وذاته، فردانية مطلقة، لها أن تتقد وتتقدم بمنجزها، وحدها. ينهال هذا الملمح، في عموم المشهد الابداعي العربي، مذ سقطت المتكئات الحزبية والأسانيد السياسية، المجلات والمؤسسات المسيسة، تلك التي كانت تعمل على تسييد التجارب الادبية ضمن مفهوم متهالك لاعلاقة له بالابداع، بل للترويج لحمى الشعارات، بعدما انتهى كل ذلك، اتقد التحدي الوحيد الذي تبقى للمبدع مع ذاته وحدها، أمام النص وحده، حيث الموهبة وحدها.

أمام هذه التحولات، شهدنا تراجعاً لأسماء عديدة وتقدم لمواهب استطاعت مواجهة تلك التحديات، لم يعد الابداع ذا انتشار افقي بل عمقي، معني بأسئلة الابداع وحدها.

فيما يتعلق بندرة الاصوات الشعرية النسائية، نراها تتحقق في بلدان بتعداد سكاني ضخم مثل مصر والمغرب، نراها تعد على اصابع اليد، فما بالك ببلد صغير مثل البحرين.

هناك منحى آخر، أثر على الحضور الابداعي للرجال والنساء معاً، في الأدب، المسرح، الفن التشكيلي، الدراما، الغناء، المؤسسات الثقافية، وإن أحدث خللاً أعمق لدى التجارب النسائية، لطبيعة التحديات التراكمية التي أشرت لها، هنا، لا أشير لضعف الدعم المؤسساتي الحكومي تحديداً، طيلة الوقت الماضي، لكن لدوره في تهميش تلك التجارب والمواهب، الاحتفاء وحده، كان يتحقق لكل تجربة عربية تصل إلى البلاد، لحد ذهول هذه التجارب مما تلاقيه من مكانة مبالغ بها، وكثيراً ما كنا نصغ لها، وهي تشير لتغييب التجارب البحرينية عن تلك المحافل، تميز هذا الفعل في كل قنوات الإتصالات الأخرى، ثمة مكنة اعلامية آخر ما تكترث به الموهبة البحرينية.

أن التجربة الابداعية في البحرين، لم تتكل يوماً، أو تنتظر مساندة من أحد، بل اتقنت مواجهة تحدياتها، في أصعب الظروف القامعة، لتتقد وتشعل ذاكرة هذا الوطن بحبرها وحريتها في آن.

 

 

تأتي القصيدة وحدها، كنورس لا يمل البحر

حوار مع مجلة بانوراما – البحرين

1 ـ حين تكتب فوزية السندي قصيدتها. كيف يتسنى لها هذا الفيض من الكم اللغوي حتى تصل الى بؤرة الحالة الشعرية؟

 عند الكتابة ثمة استعداد فطري يحرض المخيلة لتمد اليد بما تستهويه الروح من كلمات قادرة على تجسيد الحالة النفسية لتتخلل الصورة الشعرية بنشيج الخفايا، وتلعب القراءة – بمعنى محاذاة ابداع الآخر كتابة أو تعبيراً فنياً كتشكيل اللوحة أو هيام الموسيقى نعمة الاستغراق في تقصي الدلالات الإبداعية – دوراً في شحذ المخيلة ومدها بمعين لا ينضب من الصور الفنية والعلائق التأويلية لإثراء اللغة، وهذا ما أطمح لتحقيقه، لئلا أنساق لنمطية اللغة التعبيرية ومراودة ذات الكلمات.

كذلك تشكل الحياة شلالاً من الدفق التصويري يسعف المخيلة التي لا تنسى أن تخزن كل ما نتعرض له من ملمات لتتحول على الورق إلى كلمات تشكل طريقاً آخر أقل تعثراً وحياة أخيرة أكثر رحمة.

2- كيف ترين وضعية الثقافة عندنا، وهل لك تصوراً ما لمعالجة هذه الوضعية الثقافية؟

 الحركة الثقافية معيار حضاري لحال الأمة ، فازدهار الفعل الثقافي يعكس طبيعة المجتمع الذي يقدر شأن الفعل الإبداعي و يحترم عطاء و حقوق مرتاديه، حيث تتوالى الأنشطة الفنية، المعارض التشكيلية، العروض المسرحية و الموسيقية، كذلك تقوى المؤسسات الأدبية و الفنية في تقديم أدوارها المتفاعلة مع الحراك الثقافي،  تنتشي حركة النشر و حرية التعبير ليصل صداها إلى الصحافة الثقافية التي تعبر عن الزخم المتمثل في الحياة الثقافية ، هذا ما نشهده عبر متابعة أصداء العواصم العربية و الغربية التي لا تفشل – كغيرها – امام تحد حضاري كهذا .

ولكن هنا وما وصلت إليه (حالة) الحركة الثقافية يعبر عما يتداعى منذ سنوات طويلة، كحصاد للتصدع العام، بالرغم من محاولات رفقة من المبدعين استطاعوا طيلة تلك السنوات أن يؤجلوا هذا التداعي على صعيد العمل المؤسساتي على الأقل، والأهم من هذا كله استمرارهم وفعل الكتابة الإبداعية، رغماً عن العنف المضاد تجاه تجاربهم التي تحظى بتقدير من الأوساط الثقافية في الخارج

يبدو حال الثقافة وتدهور فعلها شأناً ينسجم وتصاعد الانفتاح، تبعية السوق لرأسمال عالمي لا يكف عن النهب، المد الاستهلاكي والأرث الماضوي وعموم التراخي تجاه كل جهد فكري، ذلك للانحياز العام تجاه التسالي وكرة الرأس لا القدم وحدها، بالإضافة لنبذ العقل وشغر فضاءه بالقنوات وحدها.

أمام حال كهذه صعب أن تطلب الصعب من طاقات إبداعية جل ما عليها تخليق تجارب فنية جديرة بهذا الوطن، وهل يستهان بهذا الجلل؟ ولكن الأصعب يصل عند ادانتها وتحميلها مسؤولية ما يتردى.

يرتهن النهوض الثقافي بنهوض (واقع) مجتمعي يعي أهمية وحتمية الثقافة كرهان حضاري لا على مبادرات فردية – وهنا لا أقلل من شأنها وأهمية اضطلاعها بدورها الريادي – ولكن الحوار بصدد نهوض ثقافي   يعم الوطن بكل تجلياته.  

3- تنوعت الأساليب الأدبية، وكثرة الأسئلة حول كل إرهاص يحط فوق هذه الساحة الأدبية عندنا في البحرين، فأين موقع المجازفة والمغامرة عند شعراؤنا حيال بقعة الضوء؟

منذ البدء و (الكلمة من أجل الأنسان) شكلت التجربة الشعرية في البحرين انحيازها العارم لأسئلة المستقبل، لم تسقط في مهلك التقليد، وطحن ذات الدقيق، واجهت سمو السنابل لتتعرف على ذهب القمح، لذا اقتحمت أشكالاً وأساليبا تعبيرية متنوعة الأصداء، فصدور كتاب شعري يعني بالضرورة طباعة تجربة شعرية تختلف عما سبق له النشر، وما عليك سوى تداول المنجز الشعري لتتحقق من موقع المجازفة والمغامرة حيال بقعة الضوء، كم كانت عسيرة.

          

4-أحياناً نوغل في الشطط والتجني على كل حركة أدبية تأتي مزاملة لنا، متناسين بعدنا المتعجرف في لم هذه الحركات واحتضانها، فكيف ترين صحة هذا المثلب؟                              

ثمة خلل ينتاب هذا المثلب، أولاً المبالغة بشأن تزامل حركات أدبية وكأننا نحيا في متسع جغرافي يتعدى هذه الجزيرة ليأوي حركات أدبية، ثانياً يحتمل هذا المثلب تعابير لا تليق به كمثلب يسعى لطرح إشكالية (رعاية واحتضان) المواهب الأدبية الجديدة، وهنا لا أعول كثيراً على محاورتها آن صدورها من منطلق حساسيات شخصيه وحسابات فردية تتوهم التجني، ولكن أرى أهمية تواصل التجارب الجديدة وذاكرتها الأدبية، ما سبقها من نتاج إبداعي يوازي هذا اهتمام الكتاب الذين رسخوا موهبتهم الأدبية بمتابعة نتاج هذه التجارب والتعرف على مشروعها الجديد.

لكن لابد من تشكل التحدي بين الموهبة وذاتها، هذا التحدي الذي يفترض رفضها لأي (احتضان أو رعاية) عدا احترام حضورها، وحقها في التعبير وفق ثراء الموهبة، لا مديح المداهنة من قبل الآخرين الذي لا يقل عنفاً عن قسوة تسمى نقداً أيضاً، لما لهما من شأن تدميري، مخرب قد لا تقوى عليه موهبة لم تشتد حصانتها بعد. 

أرى أهمية التعامل بحذر من قبل الكتاب تجاه المواهب الجديدة – ما أراه الغالب لدى الأغلب – قراءة العمل وإبداء الرأي بتوجيه ملاحظات عامة قد تستفيد منها الموهبة، حيث من الصعب إبداء رأي أخير تجاه موهبة جديدة في طور التخلق، لا توصيات ولا نصائح، لكل تجربة فرادتها التي عليها اكتشافها من خلال الكتابة لا الوصاية، المفارقة ان بعض المواهب لا تقبل بهذا المنحى الذي يحترم حريتها واستقلالية عطاءها وتنتظر كالضرير (من يأخذ بيدها).

5- الشباب براعم الحركة الأدبية الجديدة، يشتكون من قلة النقد، ومن لم الشمل، فما هو رأيك؟

 ليست وحدها البراعم من يفتقد للنقد، حتى الأشجار التي تداوم على الكتابة والنشر لا تراه، اما (لم الشمل) فهناك أسرة الأدباء والكتاب، بالرغم مما تتعرض له من صعاب، فلا بديل آخر جدير بالحركة الأدبية سواها، ولكن هل لي أن أسأل البراعم: لماذا يبتعدون كثيراً عن هذا البيت، ثم يتكدرون بالشكوى من لم الشمل؟

6ـ- لو قلت لك كيف تقرأين الساحة الأدبية عندنا، ماذا تقولين؟                                                                       

أقول  تتنامى في الساحة الأدبية عطاءات إبداعية هامة تشكل رافداً لحركة الأدب العربي وهذا ما يلتمسه المتابع من احتفاء بتلك الأسماء الأدبية، هناك مواهب والطماعات جديدة تواصل حفر مسارها، كل هذا مع افتقاد هذه الساحة للعديد من المؤثرات التي تثرى الحركة الأدبية، كدعم وتفعيل المؤسسة الأدبية، مساحة للكتابة دون التعرض لسطوة المقص، توافر امكانات للنشر لا ترهق رزق الكاتب، حفظ حقوق المؤلف حقاً لا على الورق، إيجاد منافذ لتوزيع الكتاب المحلي محلياً على الأقل.

7- كيف تجسدين معاناتك وتربطينها من وضعية الهم الخاص الى الهم العام في رؤية شعرية؟

من الأوهام التي عمت تجربة الشعر العربي بالتحديد خضوعها لدرامية الثنائيات التي لا تنتهي، من الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الشكل والمضمون، إلى آخر القائمة، وذلك لتفنيد الشعراء كل حسب خانة النقد، في حين تصوغ الرؤية الشعرية جماليات النص الأدبي بمعزل عن هذه المتعارضات.

 الشاعر كائن يحيا الحياة على أرض تمده بكل ما يعتريها من قسوة تؤسسها حضارة الحرب.

الكتابة لغة تعبيرية عن طريقها يتصل الكاتب بذاته ليتعرف على ما يضنيه، لذا تتخلق الصورة الشعرية بمعزل عن وهم التضاد بين (الخاص والعام) لكونها تجسد ما يفيض في أعماق الشاعر من ألم التكوين وتعبر عن حساسية اتصاله بعالم شرس لا يُحتمل لما يشتعل فيه من هوى التدمير، لذا لا لتعسف الفصل بين (الذات والعالم) هناك التحام بين الشاعر والحياة لا مفر منه لتخلق الشعر، الحديث هنا يطال الإبداع لا النظم أو التدوين.

تتجسد هذه المعاناة في رؤية شعرية عندما تتقمر بالفعل في ذات الشاعر، لا عندما يتم تصنع حضورها، حينها يسقط الشعر وتظل الحروف بلا روح على الورق.

هكذا أرى السؤال، وأتوق للقدرة على تقصي نص شعري يتقد بما أراه والحياة تمضي.  

                                       

 8- يقولون إن الرواية قصيدة العالم العصرية، فكيف ترين صحة هذه المقولة؟

دائماً كانت الأشكال التعبيرية تتزامن و تتقاطع لاكتشاف قدرتها على ترجمة مشاعرها المصابة بوقتها الراهن ، كل فن يتطور لمجايلة المتغيرات التي تعصف بالذات ، لذا تم  انتقال الرواية من النمطية الحكائية المتشبثة بإلزامية المكان و الزمان ، الحبكة ، مقتضيات السرد وغيرها من التقنيات التي تصادر حرية الكاتب المعاصر في تدشين تجربة روائية  تلبي تشظي ذاته أمام سقوط الحلم و تعثر الأمل ، لذا جاءت التجارب الروائية الجديدة بقدر حميم من استنزاف مقدرات الذاكرة ، لتغدو الرواية عالماً مشحوناً بكل عناصر المقترحات الفنية ، جاءت فضاءاً قابلاً للتعامل و قارئ جديد يتعرف على هذه الاحتمالات .

كما تشير الناقدة (يمنى العيد): (الخطاب الروائي يستجيب بتطوره وترقيه للتعبير عن تعقدات الحياة المتزايدة، ولخلق عالم متخيل قابل بطبيعته التخيليه لأن يتفاوت فيه الكلام وتتعدد أصوات المتكلمين وتختلف رؤاهم وانماط تشكلها لتستوي بنية صراعية أو بنية تكاملية منسقة.) 

 متغيرات كتلك لم تقتصر على الرواية وحدها ولكنها تبدت في الشعر والقصة والمسرح والفن التشكيلي، ولكن على صعيد الرواية   تزامنت واسهامات عربية ملفتة، كذلك نهضة الترجمة لنتصل بأعمال روائية حداثية هامة، استرعت وطغت على اهتمام القراء، مما دفع محبي التكهنات وإثارة طواحين الإشكالات لترديد مثل هذه التوقعات: انتهى زمن الشعر، الرواية ديوان العرب وإلى آخره.

الشعر ماس يتبلر من عتمة الروح، كالفحم تماماً، له صيت النار، ما يظل متقداً، بئراً للبوح شديد الغور، غير قابل للنفاذ، دام هذا الكون يحتمل كوكباً يشبه الأرض.

9- عندما يقدم لك النقد، وتكون اللغة السلبية هي الطاغية على لغة نقده لك.. كيف تفعلي حيال هذا النقد؟

لا أفعل أكثر من قراءة طريقة تعامله والنص.

10-عبد الله خليفة أجرى و لا يزال يجري بعض اللقاءات مع الوجوه الشابة عندنا في البحرين.. تركز على هموم الكتابة الشابة والموانع التي تقف حيالها.. وأكثر الشباب يشكو الوحدة، وقلة اللقاءات والندوات، ويعتب على المهتمين بالأدب، لكونهم بعيدين عن هؤلاء الشباب، فكيف ترين وتفسرين لغة الأدباء الشباب وهمومهم؟

– سبق أن تحدثنا في جوانب تتصل بذات السؤال، إن الشكوى من قلة الأنشطة الثقافية لا تنحصر في الكتاب الجدد ولكنها تكاد تكون ظاهرة عامة تنتاب كل من يحرص على استنهاض الواقع الثقافي في البلاد.

اما حول (العتب) على المشتغلين بالأدب لابتعادهم، سأكتفي بدعوة من يعتب للاجتماع الأسبوعي في أسرة الأدباء والكتاب ليرى من يشغل المقاعد ساعياً لتحقيق اللقاء، من غير المهتمين بالأدب؟

من يشتكي نادراً ما نراه.     

11- كيف تضع الشاعرة فوزية السندي قصيدتها؟

لا أعرف كيف؟ ما أن أبدأ الكتابة تأتي القصيدة وحدها، كنورس لا يمل البحر أراها تستوطن مكيدة الورق، فأعرف انها هنا.

  12- من خلال تجربتك الطويلة في التعامل مع الشعر، هل تستطيعين أن تضعي رؤيتك حول هموم الشعراء والقصيدة الشعرية في وطننا العربي؟

هل أستطيع ذلك؟

ان وضع رؤية حول هموم الشعراء في الوطن العربي وكذلك هموم القصيدة الشعرية في الوطن العربي أيضاً، تتطلب وهماً بذلك.

13- ظاهرة الشاعرات عندنا في انحسار ماعدا بعض الوجوه النسائية ممن يكتبن اللغة العامية والنبطية، أما مجال القصيدة الفصحى فمن الملاحظ انحسار ملحوظ، كيف ترين هذا الانحسار ولم ترجعين ذلك؟

كتابة المرأة للشعر لا تشكل (ظاهرة الشاعرات) انما تجربة فنية وإنسانية تعتمل ليكتمل المشهد الأدبي، تجربة تضاف للإسهامات الأخرى، بالفعل هناك عدم تواصل من قبل الكاتبات وحديثي يتعلق بالكتابة الأدبية لا العامية أو النبطية، أميل لتعبير عدم التواصل على تعبير السؤال (انحسار) فالحركة الأدبية البحرينية لم تشهد زخماً وكتابة المرأة لتنحسر الآن، هناك تجارب بدأت باندفاع وعبرت عن حضور موهبة متألقة، البعض لم يزل يكتب والأغلب فقد التواصل والاستمرارية.

فيما يتعلق بالمسببات، فمن الجائر أن نستكين لأسباب محددة لأن المسألة تبدو أشد تعقيداً، تكاد تشكل ظاهرة عربية في كتابة المرأة بالذات، فالتحديات هنا لا تخضع لطبيعة الكتابة الجديدة ومتطلبات التجديد من مثابرة على ممارسة الهم الإبداعي، لكنها تتجاوز ذلك لتصطدم بمنظومة فكرية إرهابية تكبل حريات التعبير وتتضاعف تجاه المرأة – ضلعها المعوج – أضف على ذلك عبء العائلة والعادات والتقاليد التي ترى عورة الصوت فما بالك بوعر الكتابة.

14- حنجرة الغائب، تداخلت الرؤى الكثيرة لهموم الشاعرة من خلال قصائد الديوان ووقف الغائب في حظوة التيه، فهل للشاعرة أن تدخلنا ولو بصيصاً في فك حلم الغائب؟

بعيداً عن التباس السؤال فيما يتعلق (بتيه الغائب) و (فك حلمه)، جاءت تجربة (حنجرة الغائب) كتعبير لمدى الاغتراب الذي نقع تحت وطأته، كلما حاولنا مشافهة الذات وكتابة ما يحتدم من رؤية إنسانية.

 هذه الكتابة حنجرة لا تزعم القدرة على نحت الصوت ليشبه كلمات تسعى إليها القصيدة و لكنها حنجرة حاولت أن تشبه صوت امرأة أخرى ، غريبة ، مغتربة عنها و تلوذ في أعماقها ، فهي حنجرة الكاتبة الغائبة لا الحاضرة ، و بعيداً عن خلل تاء التأنيث أو تاء التذكير التي لم تكن تعنيني بقدر عنايتي بالتعبير ذاته جاء الكتاب معنوناً بالغائب ، فهي كتابة أردت من خلالها التعرف على البعد الملغي في ذاكرتي كامرأة عربية و المتحفز للبوح في آن  ،  لأنها حنجرتي .  

                                                                                

                                                              

 

حول مصطلح الأدب النسائي

 

حوار جريدة الخليج

 

  • ما رأيك في مصطلح الأدب النسائي
    إن حلول التصانيف والمصطلحات غير النقديه، بل المتعسفة في شأن مقاربتها للأبداع الإنساني، يضعف التجربة الأدبية، منها ” الأدب النسائيالذي تم استثماره بشكل غير حضاري، لا فكاك لنا من تداعيه نحونا، أراه تعبيراً مضللاً، يعمل على تكريس منظومة قيمية تحفل بالتمييز الجنساني بين المرأة والرجل حسب النوع الاجتماعي “الجندر”، الذي تقاوم تداعياته كل المنظمات الدولية وهيئات حقوق الانسان، مما يشكل فضيحة كبرى عندما يرتبط بالتجربة الابداعية ذات الرسالة الإنسانية في تعميق الرؤية الجمالية والروحية المندغمة في أفق المستقبل.
    لم على تجربة المرأة الأدبية وحدها، طيلة تاريخها القامع، أن تتزيا بهذا التصنيف الفاشي لماذا لا نحتكم للنص وحده، وننسى قليلاً جسد من يكتب، ليس بين الجسد المذكر أو المؤنث، لكن بين كل كائن وآخر، التجربة الأدبية تتمايز بالفرادة وحدها بين البشر كلهم، ضمن منظورها وفعلها الحسي والجمالي.

يكفينا كنساء ما نتعرض له كل هذه الحياة، من فحولة وقت طاغ، الكتابة شرفتنا الوحيدة الأنيقة بأرواحنا، حتى هذه يريدون تهميشها عبر “تخصيصها ” ليظلوا في مأمن منها، وليتفاخروا بأمجاد نرجسية خائبة، لماذا عليهم أن يكسروا كتابة المرأة التي ما زالت تتناهض بصعوبة بالغة؟
للأسف، أقولها بثقة تامة: لا أحد.. يحتكم للنص وحده، لا أحد.

هل ترين من المبالغة إطلاق هذا المصطلح على بعض الكتابات أم هي ضرورة لأنه أدب يعبر عن المرأة فسيولوجيا وسيكولوجيا؟

الأدب يعبر عن تجربة الذات الانسانية، ليست المرأة وحدها من تصدر عن مغايرة فسيولوجية أو سيكولوجيه، بل كل من يكتب، وإذا كان هذا يشكل مبرراً، فلماذا لا نسمي كتابة الرجل بأدب رجالي؟ لا أرى في إطلاق هذا التصنيف مبالغة ما، بل عاراً على من يطلقه ويسعى لتكريسه.
تقول “هيلين سيكسوس”:” أدعو إلى تأكيد الاختلافات بين الجنسين وتحريضها ليحصل التقابل والتكامل، لكن بعض مبدعات “الأدب النسوي” يحولن النساء إلى أسطورة وهذا الجنوح نحو الأسطرة يحولها من كائن متكامل مع كائن يوازيه إلى مجرد (خرافة) عائمة


هل ترين في إطلاق هذه التسمية على هذا الأدب، اجحافاً وانقاصاً من شأن هذه الكتابات ؟

المسألة تتعدى ذلك بكثير، كما أشرت سابقاً، لكونها ترسخ لمدلول قيمي متهالك الى أبعد حد، كل التنظيرات التي انساقت لتفسير هذا المصطلح المهين، اعتمدت في دفوعاتها على صدور كتابة المرأة من حساسية ذات انثوية متميزة، لها ملامحها الخاصة التي تعتني بتفاصيل حياتها، وعلاقتها بالآخر بحكم تهميشها في المجتمع. كلها تهويمات لا تسند المصطلح اطلاقاً، كل نص أدبي، حتماً يتخلق من أتون ذات شعرية متفردة، محمولة بكل تمحوراتها حول تجربة الجسد المعترك مع الحياة، لذا لكل نص سمات تفصله عن النص الآخر، حتى للكاتبة نفسها، كل نص يحيا بشكل مستقل عن الآخر، المسألة أكثر تعقيداً من تسطيحها هكذا، لا يمكن اشراك النساء كلهن ضمن سمات متفق عليها تؤثث النص الادبي، ولا الرجال أيضا، أحياناً نقرأ تجربة مرهفة في مخيالها الحلمي بأنثوية ماهرة لدى كاتب ما، أبهى بما لا يطاق، من حلول منظور ذكوري وتسلطي لدى كاتبة ما.

من تداعيات هذا المصطلح المشينة، انها خربت العديد من التجارب الأدبية، أغرت العديد من الشاعرات لتوظيف مفتعل لمفردات الأنوثة – أشير هنا لأهمية الجرأة والمكاشفة لكن ضمن التجربة الشعرية الحميمية و ليست التسويقية – مما أدى إلى تسليع النص الشعري بشكل استهلاكي فج، حضور الإغواء المرتبط  بمغريات الشهرة، وأسهم النقاد و دور النشر في تعميق هذه الظاهرة، ذلك للنهل من برامج تسويقية مربحة، لا علاقة لها بالأدب.

وحده “رولان بارت “يدعو إلى لغة “مزيج من الذكورة والأنوثة” وهو معروف بموقفه المميز من المرأة التي يقول عنها أنها المعمل الثقافي، ويعلن أن الموقف من المرأة هو موقف من الحضارة، يقول بارت:
عندما تكون المرأة تحت الصفر- لا مجال إطلاقاً للحديث عن أمة بل ينبغي لفت الانتباه بقوة إلى مأساة يواجهها قطيع بشري“.
الهجمة الاستهلاكية الراهنة ستنال من كل شيء يتردم ببطء قاتل، مالم نتصدى لما يحدث، ما لم نقل ما له أن يقال

 

 

 

 

2- الشاعرة البحرينية فوزية السندي بين الكتابة والحياة

 

حاورتها: رولا قباني

جريدة الزمان (الجزء الثاني)

 

حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب..

الشعر آخر من يعبأ بالصراخ والكرنفالات

 

فوزية السندي شاعرة آثرت القصيدة في عزلتها الجميلة على ضجيج الحياة، تكتب لتحيا، وتكتب ايضاً لأنها، ربما، لا تحسن مخاطبة الآخر عبر الكلام، تكتب أيضا وأيضا لأنها فقدت القدرة على التواصل مع محيط لا تستطيعه، فهو محيط يعجل بكتابة نهاياتنا ولا يسعفنا على الحياة.

 

في مجموعتها الشعرية ما قبل الأخيرة ((آخر المهب)) كتبت السندي:

((أحيا كالصمت

صوت الموت

مذبوحة بما يحدث

بما لا أقوى.. كالحديث عنه))

 

هكذا أيضاً لجأت الى عزلة، حيث تكتب قصائدها قصيدتها بصمت، وتنشر بصمت، وتؤكد مع كل مجموعة شعرية صفاء صوتها الشخصي من دون أي ضجيج، كأنها تقول ان الضجيج الوحيد الذي تصنعه القصيدة هو ولادتها ووجودها بين دفتي كتاب.

 

وفي هذا الصمت يمتد صوت فوزية السندي، كشاعرة لها لغتها الخاصة ضمن مشهد شعري مترامي الأطراف فيه ما يتشابه وفيه ما يشد ليكتب خصوصيته.

 

وفوزية السندي شاعرة من البحرين أصدرت أربع مجموعات شعرية كان أولها ((استفاقات)) في العام ١٩٨٢، ثم الحقتها ((هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث)) و((حنجرة الغائب)) وأخيراً ديوانها الصادر مؤخراً والذي حاورناها حوله وهو ((ملاذ الروح)).

 

تخاطب في قصائدها شفافية النفس باحثة عن الجميل، منتهزة عزلتها من الكلمات رسائل حميمية الى الآخر لبذي تقول انها تهديه ((ما انتصر وما ضج من هزائم تحتفل وسيوف تستولي على غنائم الروح)) غير آبهة بردة فعله ((يقرأ أو يهمل، يقترب او يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي أن حرف الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح)).

 

الحرية الصغيرة التي تمارسها السندي لحظة الكتابة تهديها للأخر، وهي تقف ((أمام ضراوة المهب غير ضارعة لأحد))، وتصرخ بالأخرين الذين اعتروا حياتها في ((أخر المهب)) قائلة:

((لن اغفر لكم

كل هذا الاجتياح))

وتقول ايضاً: ((بينكم صرت أقل آلفة)).

هذه الشاعرة كتبت القسوة التي أحاطت بها، وكتبت لؤم الحياة، وكتبت، أيضاً، تلابيب الذاكرة وهي تستنجد بلحظة الشعر لتكتمل بها أن الحلم. حاورتها عبر البريد، فكتبت نصاً أدبياً جميلاً، أشعل الكلمات بنار تشبه الشعر، وكشفت عن روح صغيرة تحاول أن تقاتل بمفردها حياة كاملة من الألم. هكذا جاءت كلماتها لتشف عن روح شاعرة قبل الكتابة وقبل الكلمات. هنا نص الحوار:

 

في قصيدتك ((للغرفة.. لبابها الموارى ابدا)) تتساءلين: ((ممن تخافين)) واسألك السؤال نفسه.. في القصيدة وعلى مبعدة منها، ما الذي يصنع الخوف، وهل لهذا الخوف قيمة إبداعية؟

 

-منذ البدء.. شكل تماس الكائن مع الحياة منهلاً للخوف، تبدت هذه الغزيرة المثلى بإحساس دائم بالتهديد الجسدي والروحي، اللامستقر الذي يلغي هدأة الكائن ليلقيه وحيداً في ظلام الكهف محتمياً بأعضائه، لذا اجاد فن الحفر.. ونحت الذات على صخر وحشته بجدارة الغريب، حتى الآن كأنما نحيا الوقت كله متأهبين لمثل هذه المطاردة، النهار والليل يستويان في مدى تأهيلنا بجدارة لهذا الفزع الأشد وطأة من الخوف ذاته، ومجرد نظرة بانورامية لمآلنا المعاصر من تدمير وعنف يتصاعد كفيلة بحفر هذا الهلع عميقاً في بئر الروح.. وليكون الكاتب أكثر الكائنات عرضة للحياة نراه يتبارى معها – كلما استعرت في جحيمها – مترجماً ما يعتريه من غور القلق الوجودي المستفحل في ذاته واللامفر الذي يدرك خطاه كلما حاول وهم النجاة.

 

تستدعي العملية الإبداعية كما أراها مثل هذا الخوف الكامن، بل تستثير كل الحواس والنوازع الغرائزية بمختلف تجلياتها لكون الإبداع فعلاً يكمن ويتجلى في حث وتصعيد كوامن الذات وخفاياها لتعرية المكبوت الشرس من قناعه الأصم ولنحت رؤاها بحرية على الورق، لإهدار صمت الأعماق، لمكاشفة الموارى والمؤجل والغريق من حالات الروح، لذا تتمثل القيمة الإبداعية للحزن في مدى شفافية هذا التناغم بين ورق الكلمات ونبض الذات الذي تعتمل فيه كل الحواس والمشاعر المؤججة.. كل ذخيرة الحياة.

 

-وفي القصيدة نفسها يطل سؤال ((لمن تدفعين النبض عالياً)) وأسألك مرة أخرى، لمن؟

 

-سؤالك يحتمل سؤالين الأول يتعلق بالنص والآخر بي، مع كوني لا أرى الفرق بينهما لذا احتمل سؤال النص الأكثر دلالة كما يبدو لي، دائماً أرى الشعر كفيل بأسئلته واجاباته المضنية، لجرأة حرفه وحرية صمته، لرغبته في البوح والمواربة في آن، لذا إذا عدنا للنص ذاته سنقرأ معاً:

((لمن تدفعين النبض عالياً

كلما شارفت بعينيك ملامح تقذف القلب

ببهجة السهم من قوس لا يهجع

لتقتلين برهة ثم تعاودي النظر

ليكون القتل الأخير نصيبك الابكم))

 

يحدث – حين الكتابة أو الحياة – أن ادفع النبض عالياً حين تداهمني – وانا على غفلة مني – رؤى تذبح القلب برعدة تطيل النظر، ذلك لاعتناق العين محنة القلب، كونها نافذة الروح التي تطل على الهول وترتشف مما تراه ما يفيد الأصابع حين الشهادة وما يسري عن الروح أوان الحب.

 

 

 

 

 

تركة العزلة

 

-منذ سنة ١٩٨٢ حينما أصدرت ديوانك الأول ((استفاقات)) أطللت على المشهد الثقافي الشعري كشاعرة مختلفة لها لغتها وايقونتها الكتابية الخاصة، لكنك بالرغم من هذا كنت هادئة وبعيدة، كأن بك تستكينين الى عزلة دون ضجيج.. هل توافقين؟ ولماذا؟

 

– ((الكتابة تركة العزلة)) هكذا كنت أراها دوماً، منذ وقت قديم اتسمت علاقتي بالكتابة بحتمية الهدوء وجلال البعد قدر المستطاع عن ضجيج المعدن بالذات وصخب الخارج، ليس لحظة الكتابة بل حتى عند الحياة، لا أدري لماذا.. ربما لطبيعة اعتدت عليها..

 

منذ الطفولة كنت أحسد الليل والشجرة والغيمة والهواء على كل هذا الهدوء أبان الخلق، حتى الآن اخجل من علو الصوت البشري على لحن الحديقة الذي تريقه العصافير بفتنة بالغة وتهدينا أياه الوردة بغنجها العصي على العطر، ربما ايضاً لاتصاف علاقتي بالآخر بخلل ما.. لا آمن له ولا اثق بهوله، لذا أميل للبعد.. للبيت.. للغرفة.. للورقة، ولثقتي بأن الشعر هو الخجل.. الهامس دوماً.. هو ما لا يصل الى حين يراق الليل له.. حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب، الشعر آخر من يعبأ بهذا الصراخ والكرنفالات المحمومة التي تسعى لتسليع الكتابة مغتشة بمهارة الترويج.. الكتابة تستدعي مثل هذه العزلة التي تحميها كما المحارة تماماً من عنف الردم، حتى حين ينتهك الرمل خلوتها تداريه ببدعة الخلق لتحيل نفوذ الألم لؤلؤة تتبلور بنقاوة لا تبارى.

 

الفعل الحداثي والمغاير

 

-فوزية السندي داخل مشهد شعري مترامي الأطراف ينسج القصيدة الحديثة والمغايرة، كيف ترين هذا المشهد الشعري؟

 

-أرى هذا المشهد الشعري كالوردة الطالعة من صخر الصحراء الأشد رعونة وسخونة من حوله، تقف بثقة ضد كل – الشوك – التهاويل التي نقرأها كل نهار حول أزمة الشعر ونهاية الشعر وموت الشعر، هذه المعتركات المسماة – نقدية – والتي تبالغ في قتل أجمل الشرفات الإبداعية، التي يتباهى بها تاريخ حاضرنا العربي لكونها الوحيدة التي تؤهله لدخول القرن القادم بثقة اليتيم الذي ليس له حضن سواها، ان واقعنا العربي على المستوى الحضاري لم ينجز فعلاً مغايراً وحداثيا مقارنة بالحضارات الأخرى التي تشتغل على منجزاتها العلمية والاقتصادية والابداعية التحديثية للعالم باسره، لم ينجز غير ما ابدعت الأصابع التي تحدت الحديد كله، وهذا ما جعلها تتصدر واجهة المباهاة الحضارية ابداعيا، والحديث هنا عن التجارب التأسيسية والمتفردة على صعيد المنجز الشعري والابداعي ، ايضاً التجارب الفتية المتوردة في حقول الابداع الأخرى، هكذا أرى. المشهد الشعري العربي عمقيا ورؤيويا من دون الالتفات لشوائب هنا وهناك عادة تعتري كل التجارب الفنية وتعاصرها بشكل مؤقت وغير صادم.

 

المشهد الشعري الخليجي

 

-لنتحدث عن تجربة الشعر من وجهة نظرك – في الخليج العربي، هل من لغة مغايرة؟ هل من أفق مغاير؟

 

-في الخليج العربي هنالك بحر وبشر يحتدمون على هذه الجزيرة. أو تلك الصحراء، ليسوا رعاة نفط كما يشاء لنا التنظير الدائم في صحافة الثقافة العربية ان نعرف وهو يتحدر من اشتغال ينضد الابداع بين عواصم للمركز وأخرى للهامش، ليسوا رعاة نقد ولكنهم دعاة تاريخ وارث ثقافي وحضاري ايضاً، تتصاعد فيه جذوة الشعر من أشد المنعطفات حدة – من ماض يعاصر دمه – ملتاذة ببريق يصف عزلته.. رغم قسوة الحياة – الوفرة النفطية هنا مدعاة للهلكة وترف الاحتضار للمبدع على الأقل في حساب حرية الروح – وبالرغم من تهافت الحيرة على المستوى الوجودي ونفوذ أسئلة الراهن وطغيان سيول الاستهلاك وهيجة صليل الردة وسيادة أعنة الكبت.. ضيق الهواء.. كلها شكلت تحدياً أمام رعب الجسد. ليزدهي بصيت الحناجر وقدرة الأصابع على النيل من كل ذلك.. هل من لغة مغايرة؟

 

الرصد المبدئي لحركة الشعر في الخليج والجزيرة العربية لابد ان يصطدم بتجارب شعرية – ونقدية لافتة – استطاعت منذ زمن ان تعلن عن صوتها المتفرد – وهذا حتم أمام وعر الرمل المالح ان ترى النبت يزهر عالقاً برائحة الصبار – كذلك هناك تجارب شعرية أخرى فتية تعتمل لبلوغ القدرة على تحدي ما حولها لتدوين كتابة تشبهها، هنالك هتف بين ملاغاة الموج ودلالة اليابسة، أراها لغة مغايرة تشبه عناد ارض ذات افق لا ينتهي بالبحر.

 

الشعر والتمويه

 

– ((أخر اليد.. رجفة تموه المعنى لتشتبك الحروف)) هذا مقطع من قصيدتك ((رجفة تلي اليد)) والتي أهديتها ((للحياة لتبدو اقل قسوة)) هل هذا المعنى يتضمن كتابتك للقصيدة؟ بمعنى أخر هل تكتبين القصيدة ثم تموهينها؟

 

-بعد كتابة القصيدة أقرأها فقط، هذا ما افعله لأعرف ما حدث لي طيلة غدر من الوقت لن أشفى منه، وهذه هي الرجفة – التي تعتريني حين القراءة – التي تلي – الكتابة فعل اليد، لا مكان للحديث ونحن أمام الشعر عن – التمويه – كجرم عقلاني بغيض يلي الكتابة لكونه فعل لا تشويه لا علاقة له بالشعر، آن الكتابة يطغى الشعر وحده ويرتب كمائنه ويطلق أعنة الذاكرة لحوافر الحروف.. يبدد راية النبض وحين ينتهي من ذلك.. يدعنا لنصاب به.. كل تدخل سوى القراءة يفسد شفافية العناق بين نفضة الحبر وريش الورق..

 

ومقاربة النص ذاته قد توضح لماذا اهديت هذا النص للحياة وكيف لتبدو أقل قسوة.

 

-وسؤال الى سؤال قبله.. تهدين قصيدتك الى الحياة.. لتبدوا اقل قسوة؟ من أين تأتي القسوة؟ من ذا الذي يمتلك مفاتيحها؟

 

-الحياة هنا لا أعنيها كمشكل وحيد وقدر يابس، ولكن بارتهانها لمرتكبات الانسان، الانسان هو منتج القسوة بجدارة لا تخضع للمنافسة من مثابرة كائن سواه، هو المشتغل الأول على صيرورة تدمير الأرض ومن ثم إذا فاز أكثر بفضاء مكتشفاته قد يتحقق من محو الكون، الانسان بثيمة النسيان الكامنة فيه والملهمة له للانجراف في غيه أكثر.. سفاح تمرس تاريخياً برفقة السيف على جز الأعناق، ثم علاقة مشينة ومخلة بشرف انتمائه البيولوجي للكائنات الأخرى، تراث طويل من بارود العنف يتفجر بذاته ويستوي بين يديه، لتبدوا كوارث الطبيعة الأزلية التي تحدث غصباً عنها وضمن توازنات جيولوجية لا يد فيها لعبة بريئة إذا ما قورنت بسعيه الحثيث لتصعيد الدمار وتفعيل الحرب كل قتل.. لتدوين قداسة تاريخ يفيض بالجثث، اشتعال لا يكف ولا يهدأ يطال كل شيء، والمفارقة التي – للأسف- تديم للقسوة نزوعها المتأجج تتبدى في معترك أزلي وخاسر دوما بين طرفي التناقض: الأول: مناهضة يومية ضد العنف تشمل الطبيعة هذا يرافق هم كل مبدع لا يرتضي بما يحدث لجسده وروحه في آن..

والآخر: طائفة من البشر يشفق على عنفها الوحش، موغلة في الدم تتصدى لكل ذلك..

هكذا تعيد القسوة انتاج الدمار ذاته كل نهار.

 

الموت في القصيدة

 

-في شعرك تتعدد مفردات الموت، بل ام كلمة موت تبدو منتثرة بلا ريب بين سطور القصائد، ما الذي يعنيه الموت لك.. هل تجدين فيه ملاذا للروح؟

 

-الشعر ملاذ الروح الأول والأخير، الموت والولادة تؤام يبدأن معاً سيرة الكائن، ليحيا يلازمه الموت كنهاية مؤجلة لها ذهل البغت وحضور الفزع كله، لذا تداوم مفردة الموت على حضورها شعرياً كأنها تعبر عن تمثلها المؤلم الدائم في ذاكرة تقسو على مخيلة ترتضي، وهذا يحدث – ربما – لخوفي من فقد الشعر ذات موت، ويعزيني قولي في الشعر بأنه:

((راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي تراب القبر: من يواسي روحا للهلكة ويضم جسدا للفزعة من بعده، خليلي في خلوة القبر)).

 

هذا بشكل عام أما فيما يتعلق بكتابي ((ملاذ الروح)) فلقد تعرضت لغدر الموت وأنا اكتب  آخر الشعر منه، كانت تجربة صادمة تمثلت في احتضار وموت صديقة القلب الكاتبة والصحافية عزيزة البسام وبعدها بموت أمي ((موزة)): رهينة الألم، ليتلوها بعد وقت قليل أيضاً – ذهاب أبي: محمد وحيداً الى عنف القبر، هجمة الحزن خلقت ثقلاً قاسياً للموت، طوح بأرجاء النفس كما لم اعرف من قبل، تعرفت عليها بدقة تفاصيل كنت اجهل هول نفوذها في رعب الذاكرة وقسوة نحرها للروح، أشعر – الآن – بأني لم أتقن فن الموت شعرياً  بعد ولكنه تفلت في مشافهة آلمت ببعض النصوص ((ملاذ الروح)) هجساً بدئياً بعدائه الشفيف ليس أكثر ولكنه آت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1-الشاعرة البحرينية فوزية السندي بين الكتابة والحياة

 

حاورتها: رولا قباني

 جريدة الزمان الجزء الأول

 

أكتب لأتباهى بقدرة الحقل كلما رأيت سنبلة تتألم وتميل

فوزية السندي شاعرة آثرت القصيدة في عزلتها الجميلة على ضجيج الحياة، تكتب لتحيا، وتكتب ايضاً لأنها، ربما، لا تحسن مخاطبة الآخر عبر الكلام، تكتب أيضا وأيضا لأنها فقدت القدرة على التواصل مع محيط لا تستطيعه، فهو محيط يعجل بكتابة نهاياتنا ولا يسعفنا على الحياة.

في مجموعتها الشعرية ما قبل الأخيرة ((آخر المهب)) كتبت السندي:

((أحيا كالصمت

صوت الموت

مذبوحة بما يحدث

بما لا أقوى.. كالحديث عنه))

 

هكذا أيضاً لجأت الى عزلة، حيث تكتب قصائدها قصيدتها بصمت، وتنشر بصمت، وتؤكد مع كل مجموعة شعرية صفاء صوتها الشخصي من دون أي ضجيج، كأنها تقول ان الضجيج الوحيد الذي تصنعه القصيدة هو ولادتها ووجودها بين دفتي كتاب.

وفي هذا الصمت يمتد صوت فوزية السندي، كشاعرة لها لغتها الخاصة ضمن مشهد شعري مترامي الأطراف فيه ما يتشابه وفيه ما يشد ليكتب خصوصيته.

وفوزية السندي شاعرة من البحرين أصدرت أربع مجموعات شعرية كان أولها ((استفاقات)) في العام ١٩٨٢، ثم الحقتها ((هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث)) و((حنجرة الغائب)) وأخيراً ديوانها الصادر مؤخراً والذي حاورناها حوله وهو ((ملاذ الروح)).

تخاطب في قصائدها شفافية النفس باحثة عن الجميل، منتهزة عزلتها من الكلمات رسائل حميمية الى الآخر لبذي تقول انها تهديه ((ما انتصر وما ضج من هزائم تحتفل وسيوف تستولي على غنائم الروح)) غير آبهة بردة فعله ((يقرأ أو يهمل، يقترب او يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي أن حرف الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح)).

الحرية الصغيرة التي تمارسها السندي لحظة الكتابة تهديها للأخر، وهي تقف ((أمام ضراوة المهب غير ضارعة لأحد))، وتصرخ بالأخرين الذين اعتروا حياتها في ((أخر المهب)) قائلة:

((لن اغفر لكم

كل هذا الاجتياح))

وتقول ايضاً: ((بينكم صرت أقل آلفة)).

هذه الشاعرة كتبت القسوة التي أحاطت بها، وكتبت لؤم الحياة، وكتبت، أيضاً، تلابيب الذاكرة وهي تستنجد بلحظة الشعر لتكتمل بها أن الحلم. حاورتها عبر البريد، فكتبت نصاً أدبياً جميلاً، أشعل الكلمات بنار تشبه الشعر، وكشفت عن روح صغيرة تحاول أن تقاتل بمفردها حياة كاملة من الألم. هكذا جاءن كلماتها لتشف عن روح شاعرة قبل الكتابة وقبل الكلمات. هنا نص الحوار:

-كشاعرة انثى في ثقافة عربية، كيف ترين الى مشهد المثقفة العربية داخل إطار حركة ثقافية تجمع العديد من المتناقضات؟

-المرأة العربية بشكل دائم – لا المثقفة وحدها – تحيا في نزاع يبدو أبدياً لإثبات حقها في الحياة كإنسان، نزاع والآخر الذي لا يراها كذلك، للأسف هذه هي الحقيقة الأشد ايلاماً من كل الادعاءات حول حقوق الانسان وقضية المرأة وحرياتها المصادرة، ان افتقادها لأدنى هواء الحرية، الحضور الإنساني بمعناه البدائي والبديهي راكم حواجز لا آخر لها أمام أي اجتهاد منها لبلوغ تحقيق ذاتها، ابداعياً لإيصال صوتها لا فرادة حضورها فحسب، على الأقل لمزاولة الحياة بحرية كائن يتنفس الهواء على الأكثر مثل طائر.. لا أن تبقى عاطلة عن الحياة وهذا ما يحدث كل وطن لا كل غصن، المثقفة والمبدعة العربية تكتوي بذات الأتون بل للمغالاة في نير التهميش ورجولة الصد وشهامة الكبح لمحاولات التفلت الإنسانية هذه، نراها مرتهنة لتاريخ السبي بامتياز الغزو، كلما احالت بجرأة اكثر نالها مقتمع بقدرة أشد، وما نشهده الآن – للحسرة على صعيد الإبداع – من الغاء وتهميش لصوتها يكف عن التدليل، اقلها التهاء الحديث الثقافي والنقدي بفوضى المصطلح الأشد ابتذالاً لكتابة المرأة ما اتفق على تسميته ((الأدب النسائي، نسويه أدب المرأة)) وكل التخصيص الذي ينال منها عندما يتم مقاربة قولها من خلال حياتها بمعناه التلصصي لا كتابتها بقليل من الاحترام لحقها الإنساني في التعبير، وما يرسل اليأس لا السم وحده.. عزلتها المدمن على الغاء حضورها – من قبل سادة المؤتمرات والملتقيات النسوة الأدبية من دون أن تصل لمحترف واحد يدعها لتقف والشاعر على منصة واحدة بينمهما حرفة القول وحرية الروخ لا اختلاف جنس الجسد..

-في قصيدتك ((دوني هل حتم)) تسألين نفسك ((ماذا تفعلين غير الكتابة في ثوب يضيق)) هل فعلاً يضيق الثوب؟ وما الذي تفعلينه سوى ذلك؟

-فعلاً يضيق الثوب والفضاء ايضاً امام الشعر هذا الشاسع الذي لا يماثله فضاء الكون، هذا الهواء الذي لا يحد، عندما اكتب ((الشعر حصاري الوحيد الشاسع)) أعني ما أحس به من حرية تفيض اما ضيق الرئة، في كتابي ((أخر المهب)) وقصيدة ((الهواء الضيق)) ثمة احالات لتجارب شعرية صغيرة متشظية تشي بهذا القيد الذي يلم الرسغ حين الكتابة، وكلما حاولت كسره تبدى لي اكثر عنفاً، لا أعرف لماذا علي ان اكتب واكسر ما يلجم حنجرتي في الوقت ذاته منحازة لأجنحة الحلم ورفيف القلب وحده؟

ضد قاتله – دفاعاً عنها، يرهق الحياة والناس باندفاعه.. ضد بلوى اليقين، شبه نبي منحاز للشك، راو ينقب عن الأسئلة، صعلوك يدين ما يحدث وهو يصف ما يراه: عندما يرى الليل كله مباحاً لكوابيس لا تهدأ ولا تغادر، تذكره بحصاد نهار لا يكف عنه، لا ينسى ما يحدث لهذه الحياة من تشويه لا يرحم رعدة عصفور على غصن وحيد..

ماذا على الشعر ان يفعل ذلك؟

الشعر والشعراء

-ختمت ديوانك ((ملاذ الروح)) بقطعة نثرية استميتيها ((في ما احسه أو احسبه الشعر)) وافتتحت مقولتك بكلمة ((حمى.. بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي ((..)) نزوع شرس نحو فعل يشبه الاغتصاب ((..)) ما لا انساه، ما يمحو وجهي كل مرأة ((..)) بيت بيتي، عندما انام ينام بي، يكرهني كلما رآني أبكي دونه..))

الشعر هنا يتخذ شكل الحياة نفسها، إذا قلت ان الشعراء يبالغون احياناً في صفة الشعر، في وصفه، ماذا تقولين أنت؟

-طيلة هذه الكتابة كنت أحاول ان اكتب ما أحس انه الشعر كذات تشيأت برهيب المس واندغمت بعبء روحي كملاك صديق منذ وقت طويل، كحياة أخرى أحياها، كل كتابة انفصل فيها عن عته الحياة بتفاصيلها المرعبة لأدون ما أشعر به ذات اللحظة.. أن عزف الأصابع، أيضاً عندما أحيا في ملمات الآخرين يظل الشعر كطفل جميل يحيا وهاد العمر. معي ويترصد خطوي ويهمس لي كلما اتقدت على مقعد وحيد ذات مساء انحت الهواء بوميض يحتدم في ظلام الروح، لا أعرف ماذا يحدث للشعراء. والشعر، وهل يبالغون أو لا، ولكني أتحدث هنا عن حميم علاقة كالنبض الذي ينغرس عميقاً في دمي، صداقة تمثلت حيرتها في أخر النص نفسه وبعد كتابة طويلة تتالى فيها الورق ليكتب عنه قلت ((لم أنته بعد)) وفي هذا الإحساس محتمل يدل على عجزي عن بلوغ ماهية الشعر الذي يشبه كل شيء ويشمل كل شيء ومهما كتبت عنه لن أصل اليه.. شأن الحياة.. هل لنا أن نصف معتراها أو ننتهي من هول ذلك؟

 

النفس الشاعرة

-ما الذي يعتمل في نفس فوزية. السندي بعيداً عن القصيدة؟

-من الصعب ان تبتعد النفس عن القصيدة عندما تحيا حتى – الآن – في ملازمة دائمة لحرية لا يبدو الجسد حيا من دونها، مع ذلك – للإجابة على هذا السؤال – تعتمل نفسي: بالأسى لما يحدث على أرض تخاف، بتوق الامل: مد اليأس، بالحب شاهر الحضن ورفيق القلب، بالحنان اللازم لينوع صبية. ثلاثة أيضاً احتمل الحياة بفوضى حراك اعضائهم: وليد وخالد ويوسف صاحب الذئب، بعائلة تتعدد فيها خمسة اخوة أربع اخوات هن زادي من رحم أمي وحكمة أبي، بصديقات وأصدقاء يشبهون ندرة الأصابع، بالبيت حارس الآجر.. صديق الحديقة، بالحبر: جابي عداء الكتابة حين تستعصي وواهب عزلتي جمهرة الصمت، برعدة القلب قدري، بالشعر خالب أناي، بالحياة هواء بخيل وتراب جدير ببراءة البذرة..

بماء قدير كغفوة الغيم سادر المطر بجسد قد يبدو بعيداً عن بغت صعقة الموت.

 

-ختاماً.. لمن تكتبين؟ لماذا تكتبين؟

-لمن أكتب: كل ليلة اكتب ما تراه صراحة الروح لأكتشف ما يحتد هناك في الغامض القديم من ذات تتصدع كل حنان، اكتب ما يفسر لي ما أنا مصابة به من كل انتهاك تعرضت له ذاكرتي وخدش طاغ اعترى روحي، ما لم يرضاه جسدي من براثن تدعى الوقت، بعد أن اقرأ ما يمتحن قدرة القلب على مواجهة ذات الهجم وحرفة الغزو، أهدي – ما انتصر وما ضج من هزائم تحتفل وسيوف تستولي على غنائم الروح – لهذا الآخر ليقرأ أو يهمل، يقترب أو يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي آن حفر الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح.

لماذا أكتب: لأحيا

لجأت للكتابة وأنا صغيرة بما يكفي لادرك خسارة المصاب، ربما لتعثري بطفولة شابها تلعثم مهيب وعجز قاس عن التخاطب والآخرين، كنت صغيرة بما لا يقاس لأعاني من صعوبة في نطق الحروف وقذف الكلام بشكل يراه الأخرون سوياً.. كما يحلو لهم وهذه المعضلة التي جابهتني منذ رهافة الأعضاء أربكت الى حد بعيد قدرتي على التواصل والآخر – شفاني منها الشعر فيما بعد، وأصبحت حين صرت امرأة تكتب أكثر قدرة على الصمت لا الحديث وحده – ولكنها ظلت عالقة بذاكرتي لكونها كما أراها المبرر الكفيل – عدا الحياة بطبيعة سطوتها – لكتابة الشعر كجسر وحيد بين الكون وجسد الأخرس، أمام الشعر أشعر بحرية وقدرة على مشافهة كل شيء، محو الألم أو استنفاد وجعه، الغدر به، التباهي بقدرة الحقل كلما رأيت سنبلة تتألم وتميل، اكتب مصابة بعناد – يبلغ اليد لا القدم وحدها – على عدم مغادرة الحياة ولا احتمال الموت دون البوح لها بما مس القلب وانتضى قبر الروح منهم ومنها.

 

 

 

أزمة النشر في العالم العربي

 الاستاذ/ حسن اللواتي

مجلة المسار- مارس

2006جامعة السلطان قابوس

  تشكل الدول المتقدمة حوالي20% من مجموع السكان في العالم، وقد أصدرت أكثر من70% من الكتب في العالم، بينما العالم الثالث يشكل حوالي 80% من سكان العالم لكنه مع ذلك ينتج وينشر أقل من 30% من الكتب في العالم، بهذه المفارقة يجب علينا أن ندرك حجم المشكلة التي يواجهها العالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص ويعد النشر هو أحد تلك الأوجه التي تحتاج إلى أن نقف على العوامل التي تحد من عملية النشر في الوطن العربي، حول هذه الموضوع قررت المسار أن تناقش هذا الموضوع من خلال هذا الملف. المحاور:

ما هي أسباب العلاقة المضطربة في عالمنا العربي بين الناشر والمؤلف؟

لماذا يهرب القارئ إلى الإنتاج الخارجي والإنتاج الثقافي الخفيف الذي لا يتطلبجهدا ولا يحمل قيمة؟

ماهي العوامل التي تحد من عملية النشر في الوطن العربي؟

الأزمة المالية متى ننتهي منها في عملية النشر؟

ما تأثير الإنترنت على عملية النشر في العالم العربي؟ 

 يتعرض الوطن العربي للعديد من الاشكاليات التي تعيق عملية التنمية الثقافية- وما عملية نشر الكتاب الى أحد أوجه هذه التنمية- وتحد من التعددية الثقافية التي تشكل أهم التحديات في راهننا الحضاري، يندغم الوضع الثقافي بما يتحقق على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ضمن ترابط بنيوي يتأثر ببعضه البعض، اهم تلك المصاعب غياب الديمقراطية بمعناها الجذري الفاعل، مما يؤدي الى شلل مؤسسات المجتمع المدني ومرتكزاته الثقافية، ناهيك عن التردي العام على مستوى الاشتغال على محو الهوية العربية. كل هذه المناحي تؤثر بشكل عمقي في المشهد الثقافي، بما ينتجه نهج الاستبداد من تعميم لهجمة استهلاكية اعلامية تسعى لترويج للإسفاف والتهريج على حساب معالم حضارتنا الابداعية. ايضاً تفشي ثقافة الاستهلاك الناجمة عن التعاطي المجتمعي مع عملية التنمية الاقتصادية من منظور تعزيز المنتوجات الاستهلاكية، وتدوير رغائب التسويق، دون العمل على تخليق بنية انتاجية راسخة، تخلق بدورها بنية ثقافية رصينة. 

ان مهمة نشر الكتاب وتوفيره للقارئ هي مهمة حضارية بالدرجة الأولى، أتقنت ترسيخها الحضارة الغربية التي تعي طبيعة نفوذ تاريخها الثقافي، ودوره في تأسيس شعب واع، ومدرك لتحدياته المستقبلية والراهنة، شعب قادر على التعاطي مع مشكلاته بجدية منتجة ومسؤولية بالغة، تلك الحضارات، لم تعمل على نشر الكتاب فقط، بل اسهمت في الدفاع عن حرية وحقوق المؤلف، احترامها كحق أنساني اوصت عليه كافة الشرائع والقوانين الدولية، أسست معارض الكتاب الجادة، قدمت الدعم الكافي لطباعة المؤلفات، دعم دور الترجمة والنشر لتعيد قراءة ثقافة الآخر، استضافت الأدباء والمفكرين لإغناء مؤسساتها الادبية والفكرية.

 أما البلدان العربية فسعت لأهدار حقوق المؤلف المصانة على الورق فقط، وفي أغلفة الكتب، عممت المعارض لتسويق كتب الطبخ والوعيد والتنجيم، شددت الرقابة على الكاتب بل تم اهدار دمه وتكفيره لحرف هنا أو جملة هناك في بعض الدول العربية، لذا التاذ بحرية المنافي، عززت الدرك على الحدود لمنع دخول الكتب التي تختلف مع رؤاها، انشئت صحافة ثقافية استهلاكيه تسطيحيه لا تهتم بالفكر الرصين، أو النقد الجاد، أو النصوص الأدبية المبدعة، بل اسرفت في استضافة الكتابات الاستهلاكية، والنقود الصحافية الانطباعية التي تهاجم الأدب الحداثي، وتصفه بالغموض لأنها لا تفهمه لذا تحرض الناس ضده، ضمن شعارات قديمة ومتهالكة، بكون المبدع يكتب لذاته وليس للجماهير العريضة، منساقة لذات الشعارات التي اهلكتنا طيلة الماضي الذى حضرنا لحاضر مهزوم بذات الشعارات. 

تشكل غياب الرؤيا الاستراتيجية للثقافة في بلداننا العربية ضمن مرتكزات الثقافة الحكومية والخاصة، عبء لا يستهان به تنوء به الثقافة، وما يتصل بها من صعوبات تجاه عملية النشر، غياب الترجمة أيضا، كمصدر مهم لجدلية الحوار الحضاري، طغيان التوجه الاعلامي الاستهلاكي المسموع والمقروء والمرئي، كل هذه العوامل تتحد لتحقيق الاشكاليات الجذرية المتعلقة بالحد من عملية النشر. تتبدى معضلة دور النشر في تحولها من مؤسسات ثقافية، تتحمل مسؤوليه مهمة كما كانت تفعل في الخمسينيات والستينات من القرن الماضي، إلى عمل تجاري يرفع شعاره الأزلي في وجه المبدع: ” أدفع ثم انشر”، ناهيك عن دروها المخرب في نشر الكتب الفضائحية والترويجية لتسليع كل شيء، لغمر جيوبها بالنقد فقط. يعتبر تفشي الامية الابجدية والثقافية، من أهم العوامل التي تواجه فعالية النشر وتضعف تداول الكتاب، لكونها من المصائب المسكوت عنها، ومضاعفة بلوها عبر تسييد الجهل ضمن المنابر التربوية التي لا تعمل على تحديث المناهج المدرسية والأكاديمية ايضاً، ليظل الطالب في حصار من البدائل التعليمية القديمة، التي لا تواكب الحداثة التنويرية. 

ان مسألة اشكالية نشر الكتاب العربي، تشكل الجزء المتفاقم من هذا المشهد المتردي، لإصلاحها لابد من تقويم التوجه الاستراتيجي الحضاري نحو الثقافة العربية، بالرغم من الاجتهادات الجادة التي تتناهض هنا وهناك في بعض العواصم العربية، الا ان المشهد الثقافي العام لا يشي بنهضة حقيقة نابعة من مسؤوليتنا التاريخية تجاه تراثنا وحاضرنا العربي. لقد تحول العالم اليوم الى شبكة اتصالية معقدة ضمن ثورة المعلومات، لا مكان فيه لشعوب تتعثر نحو الحرية، الحرية هي الرهان الاساسي لاندفاعنا نحو المستقبل، لن ينتظرنا أحد من هذه الشعوب الفاعلة نحو تعزيز منجزها الحضاري، لقد تحول فضاء الانترنت الرحيم بنا من قسوة اليابسة إلى منفذ معلوماتي وثقافي مهم لا يستهان به، تجاه تواصلنا والحضارات الأخرى، نشر ابداعنا بحرية بالغة، ليتعرف العالم بقدرة حرفنا العربي على النهوض رغم الهزائم المدوية، على الأقل كما فعل اسلافنا من المفكرين والفلاسفة والادباء، أولئك الذين ادركوا دورهم الفاعل والمؤثر في حضارة الآخر وحواره عبر التواصل معه واحترامه وترجمة آثاره الفكرية. 

أليس غريباً أن تكون السماء أكثر رأفة من قسوة اليابسة؟

أليس غريباً أن يتحول هذا الفضاء الأزرق لحضن حنون أكثر من حدود اليابسة المدشنة بالموانع بين كل وطن عربي وآخر عربي أيضا؟هذا السؤال هو ما يذهل كل مواطن عربي يتعرف على معنى الحرية من خلال هواء “الإنترنت”، ليستعيد إنسانيته المؤجلة منذ قرون، ليحلق بحريته الرازحة تحت مثاقيل القيود، عندما كان يمضي حياته كلها وهو يتسول المعارف، يكتب خلسة ما يشعر به، كل ورقة يهبها للهباء، بسرية خانقة يطلع على ممنوعات الكتب تحت ضوء قنديل يرتجف وهو يصغي لخبط القلب المذعور من وجودها معه.. هكذا كان حال المثقف العربي ولم يزل في كثير من العواصم، طريداً ومع ذلك يطارد المعرفة، يعيد تفسير أكاذيب الصحف وزيف الخطب وثرثرة المزايدات وتجميل القبح وترويج العار وتحويل الهزائم لانتصارات وتسويق الكثير من الوهم الطاغي. ” من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك لأن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا يكون عبداً قائده الجهل.” هكذا أوصانا المفكر عبد الرحمن الكواكبي وهو يسترشد بعقله النير فعل الاستبداد بمنجزات الفكر. 

لا بد من تأسيس مشروع نهضوي تجاه الكتاب العربي، يبدأ من مداولة مواطن الخلل الجذرية، وضع رؤية استراتيجية لمآلات الوضع الثقافي في بلداننا، تتحمل من خلالها المؤسسات الثقافية الرسمية والاهلية دورها الداعم لنشر الثقافة ضمن اقنياتها الاعلامية بكافة تنويعاتها، الدفاع الحقيقي عن حقوق وحرية المبدع، لنشر الكتاب لابد من دعم الكتاب أولاً، عبر تأسيس دور نشر رصينة معنية بنشر وترجمة الابداع، مواجهة الهجمة الاستهلاكية للحد من تخريبها المدمر لثقافتنا وحضارتنا العربية. معاناة الكاتب العربي لا توصف، لكونهم يهدمون العتبات أمام خطوه، كتابته لا تطبع إلا بمشقة عليه أن يحتملها، لا توزع إلا صدفة عليه أن ينتظرها، لا يتواصل مع الآخر العربي، وليس الآخر في جهات الأرض، فالحدود مغلقة أمام الحروف، ومشروخة أمام كل ما عداها من بضائع لترويج حمى الاستهلاك البشع، عليه أن يتهدم ويئن تحت عبء منجزه الإبداعي، السدود تتعالى والزيف الاستهلاكي كطوفان يتحدر نحوه، هذا الحال تمادى بتشويه بل تكسير إبداعات عربية تنامت كالبراعم، لكن للأسف.. ما أن تتعالى بجذوعها الخضراء الطرية نحو السماء حتى تتقصف وتغدو مهدورة للغبار.    

 

 

تلك الأسيجة التي نحزت ذاكرتي ولم تزل

الكاتبة: شادية ترك

 جريدة أخبار الخليج-2003

 إشكالية المرأة في ظل الثقافة الفحولية، إشكالية طال الحديث عنها واشتد الجدل حولها، البعض يرى أن المرأة نالت كل حقوقها، وآخر يرى أن لا مزيد من الحقوق يمكن أن تعطى للمرأة وآخرون يسألون ماذا بقي للمرأة مادامت خاضت كل ميادين العمل ودخلت في إطار صنع القرار، وهذا طبعاً وكما أراه أنا حديث لم يترك التنظير إلى واقع الممارسة، ومن هنا ومن أجل وضع النقاط على الحروف، كان لا بد لنا أن نلامس الواقع ونحاور المرأة من منطلق تجربتها الحقيقية لنقف عند ما هو فعل حقيقي تعيش المرأة كل إرهاصاته.

ومن هنا كان لنا هذا الحوار مع الكاتبة والشاعرة فوزية السندي التي تعد من الأقلام النسائية المبدعة في مجال الكتابة، هذا المجال الذي ربما يعد أكثر المجالات فحولية ومن ثم أكثرها تحدي في إثبات الذات الأنثوية في مجال الابداع.

1- الكتابة هي قلم والقلم عادة أله فحولية تري فيها الثقافة الذكورية ممتلك خاص فهل ترى الشاعرة فوزية السندي في اللغة أي خواص جنوسية تجعل من فعل الكتابة حكر على الرجل وممنوع على المرأة؟

– بالفعل أرى ذلك، بمعنى ان ممارسة الكتابة كانت حكراً على الرجل، طيلة قرون مضت، بل اللغة ذاتها تأسست على هذا الفعل الذى اعتنى بالأبداع ضمن المنظومة المعرفية والقيمية التي تعمل على تسييد الأرث الذكوري، خروج المرأة المتأخر جداً من حصار الصمت، السلبية، التغييب المطلق، استدعى نهوض أدواتها التعبيرية التي تتقدمها روحها الشغوفة بمحنة الأجنحة وذهابها نحو حرية لا تطال، لا توجد باعتقادي اي سمات جنوسية- بمعناها الضيق المعجمي الاصطلاحي- لتدع الكتابة حكراً على الرجل، كل ما هنالك تحد قاس وموغل في الإلغاء لحضورها، يتوازع على جداران سديدة التصويب نحو حذفها خارج المشهد الشعري، كل ما على الكاتبة أن تنتضي حبرها كسلاح القتيل وتداوم موهبة اجتراح الحرف، رغما عن كل السدود التي تتصاعد كلما تقدمت بخطوها النبيل.

 

2- نحن نعرف أنك تكتبين في جرائد ومجلات ثقافية عربيه ودولية، فهل تعني غربة التجربة هذه أن المرأة العربية مازالت تواجه إشكالية في تحقيق ذاتها الإبداعية على المستوى المحلي؟

– ما اقتادني للكتابة خارج وطني، ما لقيته من مصادرة لعمودي صوت في بداية التسعينات، عندما اعتذرت “جريدة الأيام” التي كنت أكتب فيها عن نشر عمودي وعمود الشاعر “قاسم حداد” في الملحق الثقافي، ورحلته إلى الصفحة الثقافية اليومية، بل امعنت في نشره بما لا يليق بالكتابة، هذا ما دعاني لقبول العروض التي توافدت على ودعتني لاستضافة صوت بكرامة قبل كرم لائق. وهذا المناب لا ينطبق على تجربتي بل على العديد من الشعراء والكتاب، لم لا نرهم في وطنهم؟؟ المصاب هنا لا يتعلق بكتابة المرأة تحديداً، بل بطبيعة تعامل صحافتنا الثقافية مع كتاب البحرين، ومدى تقديرها لنصوصهم حين النشر، او على الاقل لنسال كيف يتم تغطية نشاطاتهم ومحاوراتهم التي تتحقق خارج الوطن.

3: أنت كامرأة خاضت تجربة العمل في فتره سابقه من حياتك، هل ترين أن هناك ضرورة في أن تحقق المرأة اكتفاء ذاتياً من الناحية المادية أم لا؟

 

– هذه المسالة محسومة منذ قرون نهضوية مضت، لا داع لبدء محاورتها، عمل المرأة حق دستوري وشرط انساني، لحريتها واستقلالها عن ملكية وعبودية ذكورية تتماحك بشرط استقرار العائلة، كاستجابة لكل الدعوات القديمة لعودتها للبيت، كأنما العمل سوف يعفيها من واجباتها العائلية، ان المرأة البحرينية تحتمل وتتحمل كل المحن الأسرية دون حد يذكر، تواكب ثقل العمل وتسرف أيضا في رعاية الاسرة بلا حدود، حيث تحول الرجل في مجتمعنا الاستهلاكي الموغل في الرعونة والبطش إلى معيل عليه فقط ايراد النقد دون هم يذكر.

تجربة العمل الوظيفي التي انسقت لها في المصارف، ومن ثم العمل في القطاع الخاص، لم تلغ رغبتي الحثيثة للتفرغ لكتابتي، دوماً كنت أرى الكتابة تشكل شغلي الأبدي، لكونها لا ترتهن لدوام زمني، بل أمضي النهار والليل كله في اجتراح حضورها، المدون منه على الورق أو المنحوت على الهواء.

4- من منطلق تجربتك الخاصة هل ترين أن العمل والإبداع يكلفان المرأة ضريبة ما خاصة لو نظرنا لحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها كأم وزوجه، بمعنى هل يمكن للمرأة أن تكون ناجحة وهي تجمع بين كل هذه المهام؟

–  دون شك، الكتابة وحدها، وحياة التعلم والمتابعة لما يستجد ومواجهة البياض الكريم، وحدها مسالة قاتلة، ناهيك عن حضور الاطفال ورعاية البيت وتدشين المسؤوليات الأسرية، عندما كنت اشتغل في المصارف، كنت ألتاذ بالليل العليم بحالي حيث استحث قواي بقدرة الحرف علي، وعندما تفرغت للكتابة منذ وقت مضى، مازلت اعاني من قدرتي على التوفيق بين مطالب الابناء والبيت ووقت كتابتي، ما اسعفني بالفعل، طبيعة علاقتي بالكتابة والقراءة، التي تشبه الهواء لجسدي، و أيضاً تعود أولادي منذ الصغر على تقدير صمتي، ابتعادي عنهم، الانشغال بالشعر.

 

5- برأيك ككاتبة وشاعرة هل تواجه المرأة المبدعة نوع من التهميش المتعمد أم أن وضع التهميش في مجتمعاتنا العربية وضع عام يعاني منه كافة المثقفين دون فوارق جنسية؟

 

– لا، المرأة تحديداً لا تعاني فقط  من التهميش بل صارت تحتكم إلى الجحيم بما يرهق روحها الشعرية مما تعانيه من إلغاء وليس تهميش، هذه الحقيقة المؤلمة أشد ما يؤلمني، لكونها لا تصدر من خلال التابو المجتمعي ورعاته من المتكلسين والمتأخرين عن حرية الحياة، لكنها تعدت ذلك، لنراها تتمثل في سادة الابداع والكتاب، بالفعل هذا المنحى يشكل ألما لا يستهان به، ليس وحده الاستهلاك المستشري دمر حضور المرأة الانساني كذات مستقلة، عندما حولها لموضوع للإثارة، ليس ما نشهده على فضائيات العرب من تسليع لجسدها وكرامتها، بل تعدى الامر هذا التسليع المغوي في الأغاني والإعلانات، لينضاف له اهدار كراماتها عبر تسويق العنف العائلي في مسلسلات بحرينية تحديداً كل رمضان وخليجية أيضا، ليشهد أطفالنا وابناؤنا على كيل الصفعات وجر النساء من شعورهن بحجة التشويق الدرامي، الذى لا صلة له بالدراما قدر ما يتصل بترويج العنف ضد المرأة فضائياً …ألا يخجلون مما يفعلون تجاه أمهاتهم واخواتهم وحبيباتهم.

 

6 – من خلال مسيرتك الكتابية الجادة كشاعرة استطاعت أن تترك بصمتها الخاصة في الساحة الثقافية، هل هناك ما يمكن أن نسميه تحديات أو صعوبات وقفت كعائق في وجه تجربتك الإبداعية كونك امرأة؟

 

– تلك التحديات والصعوبات انجزتها في كتابة اسميتها -أسيجة تنحز ليل الذاكرة- قدمتها في شهادة تعدت الكثير من الورق، في مؤتمر المرأة والابداع في القاهرة، عندما طلبوا منى تقديم شهادة حول تجربتي الشعرية، كذلك كتبتها ضمن نص شعري، لا أستطيع أن اوجزها في هذا الحوار وذلك لتعدد تلك الأسيجة التي نحزت ذاكرتي ولم تزل.

 

 

تلك المترعة بفرح الروح

 

الشاعرة فضيلة الموسوي

 

الرائعة فوزية السندي في ديوانها الثامن، “تلك التي أحبها” تقول: “في التأمل أراني أضيء مغاوير ذاتي”.. أعتقد بعد تجربة التأمل الطويلة التي انغمست فيها السندي حتى رتبة الماستر في الريكي جِنكيدو وكمؤسسة ومديرة لمركز البحرين للطاقة الإيجابية، أتى ديوانها في موعد يبدو متأخرا عن الإصدار السابق، لكنني أرى أنه جاء في موعد حددته لياقة جديدة في العطاء الإبداعي، بمزاج رائق، وسلام داخلي، ورضا عارم، وامتنان كبير، لذا انفرد الديوان بكشف جديد حين نفضت ذكرياتها الحميمة، بدءً من البيت، فأفردت للأم والأب والإخوة جزيل الكرم القلبي. رفرفت بعاطفتها على البيت كله، فقدمت الأسرة كوثيقة عائلية مسنودة بزوادتي الأمل والإيثار، ومكلّلة بجميل الصبر، وفرح النجاح. كما عرّجت على أسرتها الصغيرة بأقمارها الثلاثة “لصدى ضحكات صبية ثلاثة يرتبون قلبي”.

سيرة قلب مكنوزة بولاء، ووفاء، وحنين منقطع النظير لكل ما مرّت به في الحياة، قالته بحنوها، وحنانها، وجوارحها، وفاضت بحواسٍ جاوزت الخمس. أخذتني في رحلة ممتعة لا تخلو من الوجع، والوجع حلو في تصالحها معه، ومع الذات. كان هطول البوح بصحبة حروف ثرية، وغنية حد الشبع. صداقة عريقة بالحروف، منذ المريول الابتدائي والشرائط الصفراء. تستهل بوحها بـنص “فوزية” وكأنها أمام مرآة تحاور نفسها، وتربت على قلبها :

“رفيقة روحي

بك أمتحن الحياة ولا أكاد أعرفك

بك اجتزت العمر وأهرقت الوقت

ونحتُّ ما كتبت ونحرت ما كبت

أيا فوز هل نلت منك أم نلت مني؟”

مرورا بمشوار الحياة الطويل، بكل تفصيلة، وكل طقس، وكل وقت، في كل شارع وزقاق، عابرة كل حب وألم، وجرح صادفته منذ عتبات البيت التي تتعثر بها دائما:

“تخفي وقع خطانا في قلبها الرخام

وتعيننا على الرواح والمجيء العجول

أحبها رغم عثراتي”

وللمدرسة نصيب من الحنين الذي يضيء شاشة القلب بكل التفاصيل، بالتاريخ المدلل في الذاكرة، فلا يذوب ولا يذبل. في الطريق إلى المدرسة، تلتقط عيون فوزية كل شيء، وكأنها مسئولة عمّا تصادفه، وعليها أن تسبغه حقه من حرير الشعر كلما ناداها، سيدة التفاصيل الحسية، تطوي في كراساتها حتى الغرام الذي يشعُّ على الجدران، تمسحه مسحا حين تمشي بمحاذاتها؛

“كل صباح أحاذيه وأتهجى أسماء المحبين

بقلوبهم الجريحة”

وحين يصطدم بصرها بسور المقبرة تنتفض .. الموت مهيب وعاصف حين يغزو مبكرا جدا قلب الصبية، الفارهة الحس. كثير عليها الفقد الغامض، وهي كثيرة عليه في حروفها المكتنزة بفوران الأسئلة العصية؛

” هبات الموت وتميمة الدمع ونرد الفقد

ارتاعني قرار الرؤية فأجلت مفاجآت الغياب”

لكنها تجد في الشعر ملاذا وطاقة تهب لها الشفاء الروحي:

“حرف حالم ينحت خبايا عمري

كلما حذفت الآه انبرى ململما شتات روحي”

طفلة لا تغفو حواسها لحظة عن التقاط كل التفاصيل التي تعصف بإحساسها، وتوثيقها على جدار القلب. والقلب الطري حين نبض بالحب الأول لم يجد سبيلا إلا العندليب:

“هكذا انشغلت قليلا عن مهوى القلب، حتى طلّ علي

عبد الحليم لم يكن يغني إلا لي

تيقنت حين أسرني : أسير الحبايب

فقد كنت الحبايب سرا لا يعرفه إلاه

“ها أنذا أراه محتلا شاشة قلبي

متمايلا هاتفا للحب: دقوا الشماسي”

لفوزية لغة رشيقة، قاموسها حديقة حواس بكل الألوان فهي؛ الجريحة، المكلومة، الصاخبة، الثائرة، المكسورة، ثم الحنونة، الدافئة، الرهيفة، والعبقة بمشاعر الحب،  واللطف والرحمة، والألفة، والامتنان، وكل ما يخطر على القلب، لغة ذات نبرة عالية الرجفة كعادتها وإن زادت عليها حنينا يشف الروح.

منذ تعرّفت إلى السيدة فوزية السندي في التسعينات، وأنا أتابع مقالاتها الأسبوعية تحت اسم: “صوت”، منذ بداياتها والحرف موّالها ومآلها، قادرة على دلق إحساسها بسهولة على الورق بنفسٍ طويل وعميق، مكوّنة نصوصا تتغنى بجلال شعري أصيل، بعاطفة تسبر أقاصي شغاف القلب والروح، كأنها تنحت اللوحة الشعرية بمبرد رشيق، تكشط الحروف الزائدة بعناية المهارة والخبرة، لكنها ليست كذلك، بل أجدها بارعة في سكب الحروف دفعة واحدة، بمهارة لا تفرط منها أبدا، كما اعترفت: “صارحني بحبره بلا خبرة ولا مشقة” لذا كان “هذا البياض الصعب لا يقبل أي حرف” إلا حروف فوزية الطيّعة لإحساس قلبها، تهب التفاصيل الحياتية الاعتيادية واليومية سحرا لذيذا. أمينة جدا في إخلاصها للنص والمعنى على حد سواء، مما يكرّس الصدق لأبعد الحدود، فتعيد البهاء لكل أمر يُعتقد أنه مهملا .. كنص: ورقة العلامات؛

” توجز مصيرنا الأبكم أمام الكبار

ليشهدوا قدرتنا على رد السؤال

تلخيص الفشل وأحيانا التفوق المؤقت.

شهادة مختومة بعلامات وأسماء وذكرى للشك”

 

يفصح الديوان في آخر صفحاته عن رؤية غير مسبوقة لعالمها الخاص من خلال تجربة التأمل. “في التأمل الكون بيتي” .. كونها الحميم الذي غطست فيه مليّا في سكينة التأمل، سبرت فيه عوالم جديدة وبعيدة، حتى أخذتها إلى رحم والدتها والجنين الذي كانته هناك. انفردت ببوح آسر، ومتدفق لمشاعر جنين يتخلّق لتوّه في غمر الماء وظلام الدم، سرد مستفيض متواصل في 38 صفحة، سرد يقطع الأنفاس  .. في هذه الصفحات تفوّقت فوزية على الجراحين المختصين بتشريح اللحم والدم، كيف؟ تفوقت عليهم بمشرط آخر، مشرط الإحساس العميق، الرقيق، الفاتن، ومشرط الحرف الذي انتخبته فوزية كان رهيفا في نصله، ولا يتقن استخدامه أحد سواها.. فتقول:

” فرحت كثيرا بهطول حنو الماء، مجنون وسريح في آن، عنصر رخي اندفع غاسلا هذيان دمي، قبل أن ينالني الأسى مشمولا بطيش الدم، لمرأى بريق المشرط وهو يجتز بشحذه المرير آخر العناق بين طراوة التكوين وصارية الحب. أشرعة تشترع لمدى أمومة الرحم. شبه مرساة حان لها المهب”.

وللضوء لوم ساطع على عيني الوليدة، فزعت منه فنال من حنجرتها ما نال:

“متشحة أنا الأخرى بصرخة هدّت أواخر حنجرتي ببلاء صوت سوف يستديم لنهايات الورق، صرخة لم تنحت حواسي كلها، تصقل صوتي بترديد صداها العنيد، لأتذكر معها، بارتجاجها الجارف محنتي، كيف أهداني ظلام الرحم لحياة مضاءة دائما، لأتعرض لكل هذا الضياء الجريء، ولأرى ما سوف يفعل الضوء بي”.

ثم مشقة الكلام رغم فيض الشعر:

“ذلك العتم كان خفق الشفاه. أن أعني الكلام، لم استطع طيلة طفولة تهت بها أن أترجم وجع الحنجرة وهي تقوى على البوح وتعجز في آن. فيما بعد درس الشعر وكان يسمى نصوصا بدا مؤلما حتى الموت لحنجرة صبية لم تبلغ الصبا بعد”

وفي موضع آخر تدين للشعر خلاصا من محنة الحنجرة:

“عاهة أشفاني منها الشعر وحده كلما اتقدت والورق بلهفة روحي لعناق الحرف حينئذ أتقنت مهارة الكلام بلا مشقّة غير عشق الشعر، نبضي الحر”

وتؤكد أن للدرس نصيب في أزمة الكلمات المختنقة:

“لكنه الدرس، يا له، مفعما بالمحاذير وصنوف العذاب تجاه طفلة لم تتقن بعد مهارة انتزاع الحرف من بئر الحنجرة.” .. “وحدي كنت عاهة الكلمات”

وأخيرا تنتصر لنفسها:

“صبية ذات شكيمة، حادة الحواس، لا ترتضي الهزيمة أبدا، مثلما كتبتُ عندما كبرتُ قليلا:

هل أخسر والفوز اسمي

نرد تصدع من عبث التهاوي

فوز وتخسر بين الجوارح والجراح؟”