حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب


حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب

الشعر آخر من يعبأ بالصراخ والكرنفالات

الشاعرة: لينا الطيبي                 

 حوار “ألف ياء” جريدة الزمان

10-5-1999

“فوزية السندي” شاعرة اثرت القصيدة في عزلتها الجميلة على ضجيج الحياة، تكتب لتحيا، وتكتب أيضاً لأنها، ربما، لا تحسن مخاطبة الآخر عبر الكلام، تكتب أيضاً وأيضاً لأنها فقدت القدرة على التواصل مع محيط لا تستطيعه، فهو محيط يعجل بكتابة نهاياتنا ولا يسعفنا على الحياة.

في مجموعتها الشعرية ما قبل الأخيرة “آخر المهب” كتبت “السندي”:

“أحيا كالصمت

صوت الموت

مذبوحة بما يحدث

بما لا أقوى.. كالحديث عنه.”

 

هكذا أيضاً لجأت الشاعرة إلى عزلة، حيث تكتب قصيدتها بصمت، وتنشر بصمت، وتؤكد مع كل مجموعة شعرية صفاء صوتها الشخصي من دون ضجيج، كأنها تقول ان الضجيج الوحيد الذي تصنعه القصيدة هو ولادتها ووجودها بين دفتي كتاب.

وفي هذا الصمت يمتد صوت “فوزية السندي”، كشاعرة لها لغتها الخاصة ضمن مشهد شعري مترامي الاطراف فيه ما يتشابه وفيه ما يشذ ليكتب خصوصيته.

و”فوزية السندي” شاعرة من البحرين، أصدرت خمس مجموعات شعرية، كان أولها”استفاقات” في العام 1982، ثم ألحقتها ب “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث” و” حنجرة الغائب” و” آخر المهب” وأخيراً ديوانها الصادر مؤخراً والذي حاورناها حوله وهو” ملاذ الروح”.

تخاطب في قصائدها شفافية النفس باحثة عن الجميل، منتهرة عزلتها لتصنع من الكلمات رسائل حميمية إلى الآخر الذي تقول انها تهديه” ما انتصر وضج من هزائم تستولي على غنائم الروح” غير آبهة بردة فعله “يقرأ أو يهمل، يقترب أو يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي آن حرفة الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح”.

الحرية الصغيرة التي تمارسها “السندي” لحظة الكتابة تهديها للآخر، وهي تقف” أمام ضراوة المهب/ غير عابئة بأحد.” وتصرخ بالآخرين الذين اعتروا حياتها في “آخر المهب” قائلة:

 

“لن أغفر لكم

كل هذا الاجتياح”.

وتقول أيضاً:

“بينكم صرت أقل ألفة”.

 

هذه الشاعرة كتبت القسوة التي احاطت بها، وكتبت لؤم الحياة، وكتبت أيضاً، تلابيب الذاكرة وهي تستنجد بلحظة الشعر لتكتمل بها آن الحلم.

حاورتها عبر البريد، فكتبت نصاً أدبياً جميلاً، أشعل الكلمات بنار تشبه الشعر، وكشفت عن روح صغيرة تحاول أن تقاتل بمفردها حياة كاملة من الألم.

هكذا جاءت كلماتها لتشف عن روح شاعرة قبل الكتابة وقبل الكلمات. هنا نص الحوار.

 

1- في قصيدتك ” للغرفة. لبابها الموارى أبداً” تتساءلين:

“ممن تخافين” وأسألك السؤال نفسه.. في القصيدة وعلى مبعدة منها، مالذي يصنع الخوف، وهل لهذا الخوف قيمة إبداعية؟

  • منذ البدء.. شكل تماس الكائن مع الحياة منهلاً للخوف، تبدت هذه الغريزة المثلى بإحساس دائم بالتهديد الجسدي والروحي، اللامستقر الذي يلغي هدأة الكائن، ليلقيه وحيداً في ظلام الكهف محتمياً بأعضائه، لذا أجاد فن الحفر.. ونحت الذات على صخر وحشته بجدارة الغريب، حتى الآن كأنما نحيا الوقت كله متأهبين لمثل هذه المطاردة، النهار والليل يستويان في مدى تأهيلنا بجدارة لهذا الفزع، الأشد وطأة من الخوف ذاته، ومجرد نظرة بانورامية لمآلنا المعاصر من تدمير وعنف يتصاعد، كفيلة بحفر هذا الهلع عميقاً في بئر الروح.. ولكون الكاتب أكثر الكائنات عرضة للحياة، نراه يتبارى معها – كلما استعرت في جحيمها – مترجماً ما يعتريه من غور القلق الوجودي المستفحل في ذاته، واللا مفر الذي يدرك خطاه كلما حاول وهم النجاة.
  • تستدعي العملية الإبداعية كما أراها مثل هذا الخوف الكامن، بل تستثير كل الحواس والنوازع الغرائزية بمختلف تجلياتها، لكون الابداع فعل يكمن ويتجلى في حث وتصعيد كوامن الذات، خفاياها لتعرية المكبوت الشرس من قناعه الأصم، لنحت رؤاها بحرية على الورق، لإهدار صمت الأعماق، لمكاشفة الموارى، المؤجل، والغريق من حالات الروح، لذا تتمثل القيمة الإبداعية للحزن في مدى شفافية هذا التناغم بين ورق الكلمات ونبض الذات الذي تعتمل فيه كل الحواس والمشاعر المؤججة.. كل ذخيرة الحياة.
  • 2- وفي القصيدة نفسها يطل سؤال ” لمن تدفعين النبض عالياً ” وأسألك مرة أخرى، لمن؟

 

– سؤالك يحتمل سؤالين، الأول يتعلق بالنص، والآخر بي، مع كوني لا أرى الفرق بينهما، لذا أحتمل سؤال النص، الأكثر دلالة كما يبدو لي، دائما أري الشعر كفيل بأسئلته وإجاباته المضنية، لجرأة حرفه وحرية صمته، لرغبته في البوح والمواربة في آن، لذا إذا عدنا للنص ذاته سنقرأ معاً:

“لمن تدفعين النبض عالياً

كلما شارفت بعينيك ملامح تقذف القلب

ببهجة السهم من قوس لا يهجع

لتقتلين برهة ثم تعاودي النظر

ليكون القتل الأخير نصيبك الأبكم.”

يحدث – حين الكتابة أو الحياة – أن أدفع النبض عالياً حين تداهمني – وأنا على غفلة مني – رؤى تذبح القلب برعدة تطيل النظر، ذلك لاعتناق العين محنة القلب، كونها نافذة الروح التي تطل على الهول، وترتشف مما تراه، ما يفيد الأصابع حين الشهادة، وما يسري عن الروح أوان الحب.

 

3- منذ سنة 1982 حينما أصدرت ديوانك الأول “استفاقات” أطللت على المشهد الثقافي الشعري كشاعرة مختلفة لها لغتها وأيقونتها الكتابية الخاصة، لكنك بالرغم من هذا كنت هادئة وبعيدة، كأن بك تستكينين إلى عزلة دون ضجيج.. هل توافقين؟ ولماذا؟

– “الكتابة تركة العزلة” هكذا كنت أراها دوماً، منذ وقت قديم اتسمت علاقتي بالكتابة بحتمية الهدوء، وجلال البعد قدر المستطاع عن ضجيج المعدن بالذات وصخب الخارج، ليس لحظة الكتابة بل حتى عند الحياة، لا أدري لماذا.. ربما لطبيعة اعتدت عليها. منذ الطفولة كنت أحسد الليل والشجرة والغيمة والهواء على كل هذا الهدوء أبان الخلق، حتى الآن أخجل من علو الصوت البشري على لحن الحديقة الذي تريقة العصافير بفتنة بالغة، وتهدينا إياه الوردة بغنجها العصي على العطر، ربما أيضاً لاتصاف علاقتي بالآخر بخلل ما.. لا آمن له ولا أثق بهوله، لذا أميل للبعد.. للبيت.. للغرفة.. للورقة، ولثقتي بأن الشعر هو الخجل. الهامس دوماً.. هو مالا يصل إلا حين يراق الليل له حين يغيم الجسد وتنهض شهقة الحب، الشعر آخر من يعبأ بهذا الصراخ والكرنفالات المحمومة التي تسعى لتسليع الكتابة مغتشة بمهارة الترويج.. الكتابة تستدعي مثل هذه العزلة التي تحميها كما المحارة تماماً من عنف الردم، حتى حين ينتهك الرمل خلوتها تداريه ببدعة الخلق لتحيل نفوذ الألم إلى لؤلؤة تتبلور بنقاوة لا تبارى.

4- فوزية السندي داخل مشهد شعري مترامي الأطراف ينسج القصيدة الحديثة والمغايرة، كيف ترين هذا المشهد الشعري؟

– أرى هذا المشهد الشعري كالوردة الطالعة من صخر الصحراء الأشد رعونة وسخونة مما حولها ، تقف بثقة ضد كل – الشوك – التهاويل التي نقرؤها كل نهار حول أزمة الشعر ونهاية الشعر وموت الشعر، هذه المعتركات المسماة – نقدية – والتي  تبالغ في قتل أجمل الشرفات الإبداعية التي يتباهى بها  تاريخ حاضرنا  العربي، لكونها الوحيدة التي تؤهله لدخول القرن القادم بثقة اليتيم الذي ليس لنا حضناً سواها ، إن واقعنا العربي على المستوى الحضاري لم ينجز فعلاً مغايراً وحداثياً مقارنة بالحضارات الأخرى التي تشتغل على منجزاتها العلمية والاقتصادية والإبداعية التحديثية للعالم بأسره ، لم ينجز غير ما أبدعته الأصابع التي تحدت الحديد كله، وهذا ما جعلها تتصدر واجهة المباهاة الحضارية إبداعياً، والحديث هنا عن التجارب التأسيسية والمتفردة على صعيد المنجز الشعري والابداعي ، أيضاً التجارب الفنية المتوردة في حقول الابداع الأخرى، هكذا أرى المشهد الشعري العربي عمقياً ورؤيوياً دون الالتفات لشوائب هنا وهناك عادة تعتري كل التجارب الفنية وتعاصرها بشكل مؤقت وغير صادم .

5- لنتحدث عن تجربة الشعر من وجهة نظرك في الخليج العربي، هل من لغة مغايرة؟ هل من أفق مغاير؟

– في الخليج العربي هنالك بحراً وبشراً يحتدمون على هذه الجزيرة أو تلك الصحراء، ليسوا رعاة نفط كما يشاء لنا التنظير الدائم في صحافة الثقافة العربية أن نعرف، وهو يتحدر من اشتغال ينضد الابداع بين عواصم للمركز وأخرى للهامش، ليسوا رعاة نقد ولكنهم دعاة تاريخ وإرث ثقافي وحضاري أيضاً، تتصاعد فيه جذوة الشعر من أشد المنعطفات حدة – من ماض يعاصر دمه – ملتاذة ببريق يصف عزلته.. رغم قسوة الحياة – الوفرة النفطية هنا مدعاة للهلكة، وترف الاحتضار للمبدع على الأقل في حساب حرية الروح – رغم تهافت الحيرة على الصعيد الوجودي ونفوذ أسئلة الراهن وطغيان سيول الاستهلاك وهيجة صليل الردة وسيادة أعنه الكبت… ضيق الهواء.. كلها شكلت تحديات أمام رعب الجسد، ليزدهي بصيت الحناجر وقدرة الأصابع على النيل من كل ذلك.. هل من لغة مغايرة؟

الرصد البدئي لحركة الشعر في الخليج والجزيرة العربية، لا بد أن يصطدم بتجارب شعرية – ونقدية لافتة – استطاعت منذ زمن أن تعلن عن صوتها المتفرد- وهذا حتم، أمام وعر الرمل المالح أن نرى النبت يزهر عالقاً برائحة الصبار- كذلك هناك تجارب شعرية أخرى فتية تعتمل لبلوغ القدرة على تحدي ما حولها، تدوين كتابة تشبهها، هنالك هتف بين ملاغاة الموج ودلال اليابسة، أراها لغة مغايرة تشبه عناد أرض ذات أفق لا ينتهي بالبحر.

6- “آخر اليد.. رجفة تمّوه المعنى لتشتبك الحروف” هذا مقطع من قصيدتك “رجفة تلي اليد” والتي أهديتها “للحياة لتبدو أقل قسوة” هل هذا المعنى يتضمن كتابتك للقصيدة؟ بمعنى آخر هل تكتبين القصيدة ثم تموهينها؟

  • بعد كتابة القصيدة أقرأها فقط، هذا ما أفعله لأعرف ما حدث لي طيلة غدر من الوقت لن أشفى منه، وهذه هي الرجفة – التي تعتريني حين القراءة – التي تلي – الكتابة.. فعل اليد، لا مكان للحديث ونحن أمام الشعر عن – التمويه- كجرم عقلاني بغيض يلي الكتابة، لكونه فعل تشويه لا علاقة له بالشعر، آن الكتابة يطغى الشعر وحده، ويرتب كمائنه، ويطلق أعنة الذاكرة لحوافر الحروف، يبدد راية البياض، وحين ينتهي من ذلك، يدعنا لنصاب به، كل تدخل سوى القراءة يفسد شفافية العناق بين نفضة الحبر وريش الورق.
  • مقاربة النص ذاته قد توضح لماذا أهديت هذا النص للحياة، وكيف لتبدو أقل قسوة.

7- وسؤال إلى سؤال قبله.. تهدين قصيدتك إلى الحياة.. لتبدو أقل قسوة؟ من أين تأتي القسوة؟ من ذا الذي يمتلك مفاتيحها؟

– الحياة هنا لا أعنيها كمشكل وحيد وقدر يابس، ولكن بارتهانها لمرتكبات الإنسان، الإنسان هو منتج القسوة بجدارة لا تخضع للمنافسة من مثابرة كائن سواه، هو المشتغل الأول على صيرورة تدمير الأرض، ومن ثم إذا فاز أكثر بفضاء مكتشفاته قد يتحقق من محو الكون، الإنسان بثيمة النسيان الكامنة فيه، الملهمة له للانجراف في غيه أكثر.. سفاح تمرس تاريخياً برفقة السيف على جز الأعناق، ثمة علاقة مشينة ومخلة بشرف انتمائه البيولوجي للكائنات الأخرى، تراث طويل من بارود العنف يتفجر بذاته، ويستوي بين يديه، لتبدو كوارث الطبيعة الأزلية التي تحدث غصباً عنها وضمن توازنات جيولوجية لا يد لها فيها، لعبة بريئة إذا ما قورنت بسعيه الحثيث لتصعيد الدمار وتفعيل الحرب كل قتل.. لتدوين قداسة تاريخ يفيض بالجثث، اشتعال لا يكف ولا يهدأ، يطال كل شيء، والمفارقة التي – للأسف- تديم للقسوة نزوعها المتأجج، تتبدى في معترك أزلي وخاسر دوماً بين طرفي التناقض: الأول: مناهضة يومية ضد العنف تشمل الطبيعة حامية الإبداع الأول وفيمن يساندها من ذاكرة الناس التي تتماهى بفعل الطبيعة هذا، يرافقهم كل مبدع لا يرتضي ما يحدث لجسده وروحه في آن..

والآخر: طائفة من البشر يشفق على عنفها الوحش، موغلة في الدم تتصدى لكل ذلك.

هكذا تعيد القسوة إنتاج ذات الدمار كل نهار.

 

8- في شعرك تتعدد مفردات الموت، بل أن كلمة موت تبدو منتثرة بلا ريب بين سطور القصائد، مالذي يعنيه الموت لك.. هل تجدين فيه ملاذاً للروح؟

– الشعر ملاذ الروح الأول والأخير، الموت والولادة توأمان يبدآن معاً سيرة الكائن، ليحيا يلازمه الموت كنهاية مؤجلة، لها ذهل البغت وحضور الفزع كله، لذا تداوم مفردة الموت على حضورها شعرياً كأنها تعبر عن تمثلها المؤلم الدائم في ذاكرة تقسو على مخيلة ترتضي، وهذا يحدث – ربما لخوفي من فقد الشعر ذات موت، ويعزيني قولي في الشعر بأنه:

” راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي تراب القبر: من يواسي روحاً للهلكة ويضم جسداً للفزعة من بعده، خليلي في خلوة القبر”

هذا بشكل عام أما فيما يتعلق بكتابي “ملاذ الروح” فلقد تعرضت لغدر الموت وأنا أكتب آخر الشعر منه، كانت تجربة صادمة، تمثلت في احتضار وموت صديقة القلب الكاتبة والصحافية “عزيزة البسام” وبعدها بقليل موت أمي “موزة”: رهينة الألم،  ليتلوها بعد وقت قليل أيضاً  ذهاب أبي “محمد” وحيداً إلى عنف القبر، هجمة الحزن خلقت ثقلاً قاس للموت، طوح بأرجاء النفس كما لم أعرف من قبل، تعرفت عليه بدقة تفاصيل كنت أجهل هول نفوذها في رعب الذاكرة، وقسوة نحزها للروح، أشعر- الآن – بأني لم أتقن فن الموت شعرياً بعد، ولكنه تفلت في مشافهة ألمّت ببعض نصوص “ملاذ الروح “، هجساً بدئياً بعدائه الشفيف ليس أكثر ولكنه آت.

9- كشاعرة أنثى في ثقافة عربية، كيف ترين إلى مشهد المثقفة العربية داخل أطار حركة ثقافية تجمع العديد من المتناقضات؟

– المرأة العربية بشكل دائم – لا المثقفة وحدها – تحيا في نزاع يبدو أبدياً لإثبات حقها في الحياة كإنسان، نزاع والآخر الذي لا يراها كذلك، للأسف هذه هي الحقيقة الأشد إيلاما من كل الادعاءات حول حقوق الإنسان وقضية المرأة وحرياتها المصادرة، إن افتقادها لأدنى هواء الحرية، الحضور الإنساني بمعناه البدئي والبديهي، رآكم حواجزاً لا آخر لها، أمام إي اجتهاد منها لبلوغ تحقيق ذاتها، ابداعياً لإيصال صوتها، لا فرادة حضورها فحسب، على الأقل لمزاولة الحياة بحرية كائن يتنفس الهواء على الأكثر مثل طائر.. لا أن تبقى عاطلة عن الحياة، وهذا ما يحدث كل وطن، لا كل غصن، المثقفة والمبدعة العربية تكتوي بذات الأتون بل للمغالاة في نير  التهميش ورجولة الصد وشهامة الكبح لمحاولات التفلت الإنسانية هذه، نراها مرتهنة لتاريخ السبي بامتياز الغزو، كلما احتالت بجرأة أكثر كلما نالها مبتغى القمع بقدرة أشد، وما نشهده الآن – للحسرة على صعيد الإبداع – من إلغاء وتهميش لصوتها كافياً عن التدليل، أقلها التهاء الحديث الثقافي والنقدي بفوضى المصطلح الأشد ابتذالا لكتابة المرأة، ما أتفق على تسميته “الأدب النسائي، نسوية أدب المرأة” وكل التخصيص الذي ينال منها عندما يتم مقاربة قولها من خلال حياتها بمعناه التلصصي، لا كتابتها بقليل من الاحترام لحقها الإنساني في التعبير، وما يرسل اليأس لا السم وحده..  عزلها المدمن على إلغاء حضورها – من قبل سادة المؤتمرات والملتقيات الأدبية – لامتيازها بأنثوية تجعلها جديرة بملتقيات النسوة الأدبية دون أن تصل لمحترف واحد يدعها لتقف والشاعر على منصة واحدة بينهما حرفة القول وحرية الروح لا اختلاف جنس الجسد..

 

10- في قصيدتك “دوني هل حتم” تسألين نفسك: “ماذا تفعلين غير الكتابة في ثوب يضيق” هل فعلاً يضيق الثوب؟ ومالذي تفعلينه سوى ذلك ؟

  • فعلاً يضيق الثوب والفضاء أيضاً أمام الشعر، هذا الشاسع الذي لا يماثله فضاء الكون، هذا الهواء الذي لا يحد، عندما أكتب: “الشعر حصاري الوحيد الشاسع” أعني ما أحس به من حرية تفيض أمام ضيق الرئة، في كتابي “آخر المهب” وقصيدة “الهواء الضيق” ثمة إحالات لتجارب شعرية صغيرة متشظية تشي بهذا القيد الذي يلم الرسغ حين الكتابة، وكلما حاولت كسره تبدى لي أكثر عنفاً، لا أعرف لماذا عليَّ أن أكتب وأكسر ما يلجم حنجرتي في ذات الوقت، منحازة لأجنحة الحلم ورفيف القلب وحده؟ ربما لكوني امرأة وتحيا في وقت عربي امتاز تاريخياً ببلوغه أقصى حالات الردم… كل هدم أُضاءُ له، معاصرة لأحلام تتهشم لتستفحل قمم الهزائم، لا بد من خلعة العظم، تشظي مآل الذاكرة، ضد ندرة الحرية التي وهبتنا إياها شظية الحياة هذه.. تلك التي أعطتنا جحيم المجد هذا، لذا آن الكتابة أتشبث بالشعر: حريتي الوحيدة، رئة الذاكرة، كما أصفه: “عار من القبيلة، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك” كما أخاله الآن: أجنحة أضاهي بها الأفق، ومع ذلك أراها تضيق على نبل الشعر وملائكية روحه التي تغالب برفيفها هواء الكون.

 

11- ومن قصيدتك “رجفة تلي اليد” مرة أخرى.. تقولين ولا أقول تتساءلين “كدت.. كالشعر.. ترهقين الحياة بحنو اندفاعك”.. هل أن الشعر يرهق الحياة؟

  • -الشعر توأم الأم، حامي الرحم.. المدافع الأول والأخير عن إبداع الحياة الجميل وعطاؤها اللامتناهي فيما حوله.. الشعر يد الكائن وهو يحاول أن يضارع الحياة في خلقها البهي، ويرتقي كفراشة تحتضن نقاوة كائنات تتقدمهم الوردة بثقة الآلهة، الشعر ذاكرة القتيل يمضي مندفعاً ضد ما تعلمه الجسد طيلة طفولة بكماء من قوانين الخلق الأول: نواميس درس الإنسان، الكلمات حديقة الشعر وبينوعها على الورق تثق الروح بقدرتها على مضاهاة الحياة بحقول تلاغي الغيم وموج يلهج بسحر البحر.. بكل تلك الحريات المنبثة هنا وهناك كل هذه الرياح والعواصف والرمال، كائنات الحياة التي تخلقت بحرية باذخة ولم تزل ترضع شفاهة الحب..
  • الشعر يرهق الحياة عندما يتصدى – كسر وحيد يصيب ذاكرة الجسد ويبلي حنو الأصابع بمحتواه – بأسئلته اللامتناهية.. بحضوره كطفل ذاهل، باعتمال القتيل المشفق – ضد قاتله – دفاعاً عنها، يرهق الحياة والناس باندفاعه.. ضد بلوى اليقين، شبه نبي منحاز للشك، راو ينقب عن الأسئلة، صعلوك يدين ما يحدث وهو يصفُ ما يراه: عندما يرى الليل كله مباحاً لكوابيس لا تهدأ ولا تغادر، تذكرهُ بحصاد نهارا لا يكف عنه، لا ينسى ما يحدث لهذه الحياة من تشويه لا يرحم رعدة عصفور على غصن وحيد..
  • ماذا على الشعر أن يفعل غير ذلك؟

12- ختمت ديوانك “ملاذ الروح” بقطعة نثرية أسميتها “في ما أحسه أو احسبه الشعر” وافتتحت مقولتك بكلمة “حمى. بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي “..”نزوع شرس نحو فعل يشبه الاغتصاب “.. ” ما لا أنساه، ما يمحو وجهي كل مرآة “.. ” بيت بيتي، عندما أنام ينام بي، يكرهني كلما رآني أبكي دونه.. ”

الشعر هنا يتخذ شكل الحياة نفسها، إذا قلتُ إن الشعراء يبالغون أحياناً في صفة الشعر، في وصفه، ماذا تقولين أنتِ؟

– طيلة هذه الكتابة كنت أحاول أن أكتب ما أحس أنه الشعر، كذات تشيئت برهيب المسَّ، وإندغمت بعبء روحي كملاك صديق منذ وقت طويل، كحياة أخرى أحياها كل كتابة، أنفصل فيها عن عته الحياة بتفاصيلها المرعبة، لأدون ما أشعر به ذات اللحظة.. آن عزف الأصابع،  أيضاً عندما أحيا في ملمات الآخرين، يظل الشعر كطفل جميل يحيا وهاد العمر معي، ويترصد خطوي، ويهمس لي كلما اتقدت على مقعد وحيد ذات مساء أنحت الهواء بوميض يحتدم في ظلام الروح، لا أعرف ماذا يحدث للشعراء والشعر، وهل يبالغون أو لا، ولكني أتحدث هنا عن حميم علاقة كالنبض الذي ينغرس عميقاً في دمي، صداقة تمثلت حيرتها في آخر النص نفسه وبعد كتابة طويلة، تتالى فيها الورق ليكتب عنه قلت: “لم أنته بعد”، وفي هذا الإحساس محتمل يدل على عجزي عن بلوغ ماهية الشعر الذي يشبه كل شيء ويشمل كل شيء، ومهما كتبت عنه لن أصل إليه.. شأن الحياة.. هل لنا أن نصف معتراها أو ننتهي من هول ذلك؟

13- مالذي يعتمل في نفس “فوزية السندي” بعيداً عن القصيدة؟

– من الصعب أن تبتعد النفس عن القصيدة عندما تحيا حتى -الآن – في ملازمة دائمة لحرية لا يبدو الجسد حياً دونها، مع ذلك – للإجابة على هذا السؤال – تعتمل نفسي: بالأسى لما يحدث على أرض تخاف، بتوق الأمل: مدُّ اليأس، بالحب شاهر الحضن ورفيق القلب، بالحنان اللازم لينوع صبية ثلاثة، أحتمل الحياة بفوضى حراك أعضاءهم: وليد وخالد ويوسف صاحب الذئب، بعائلة تتعدد فيها خمسة أخوة وأربعة أخوات، هن زادي من رحم أمي وحكمة أبي، بصديقات وأصدقاء يشبهون ندرة الأصابع، بالبيت حارس الآجر.. صديق الحديقة، بالحبر: جابي عداء الكتابة حين تستعصي وواهب عزلتي جمهرة الصمت، برعدة القلب قدري، بالشعر خالب أناي، بالحياة هواء بخيل وتراب جدير ببراءة البذرة..

بماء قدير كغفوة الغيم سادر المطر، بجسد قد يبدو بعيداً عن بغت صعقة الموت.

14- ختاماً.. لمن تكتبين؟ لماذا تكتبين؟

– لمن أكتب: كل ليلة أكتب ما تراه صراحة الروح، لأكتشف ما يحتد هناك في الغامض القديم من ذات تتصدع كل حنان، أكتب ما يفسر لي ما أنا مصابة به، كل انتهاك تعرضت له ذاكرتي، كل خدش طاغ أعترى روحي، مالم يرضاه جسدي من براثن تدعي الوقت، بعد أن أقرأ ما يمتحن قدرة القلب على مواجهة ذات الهجم وحرفة الغزو، أهدي – ما انتصر وما ضج من هزائم تحتفل وسيوف تستولي على غنائم الروح – لهذا الآخر ليقرأ أو يهمل، يقترب أو يرفض، يفهم أو يعجز، له حرية لا تقل عن حريتي آن حفر الحبر وتدوين ما اعترى ليل الروح.

لماذا أكتب: لأحيا

لجأت للكتابة وأنا صغيرة بما يكفي لأدرك خسارة المصاب، ربما لتعثري بطفولة شابها تلعثم مهيب، عجز قاس عن التخاطب والآخرين، كنت صغيرة بما لا يقاس لأعاني من صعوبة في نطق الحروف وقذف الكلام بشكل يراه الآخرين سوياً.. كما يحلو لهم، وهذه المعضلة التي جابهتني منذ رهافة الأعضاء أربكت إلى حد بعيد قدرتي على التواصل والآخر – أشفاني منها الشعر فيما بعد وأصبحت حين صرتُ امرأة تكتب أكثر قدرة على الصمت لا الحديث وحده – ولكنها ظلت عالقة بذاكرتي، لكونها كما أراها المبرر الكفيل – عدا الحياة بطبيعة سطوتها – لكتابة الشعر كجسر وحيد بين الكون وجسد الأخرس، أمام الشعر أشعر بحرية وقدرة على مشافهة كل شيء، محو الألم أو استنفاذ وجعه، الغدر به، التباهي بقدرة الحقل كلما رأيت سنبلة تتألم وتميل، أكتب مصابة بعناد – يبلغ اليد لا القدم وحدها – على عدم مغادرة الحياة ولا احتمال الموت دون البوح بما مس القلب وانتضى قبر الروح منهم ومنها.