تأتي القصيدة وحدها، كنورس لا يمل البحر


حوار مع مجلة بانوراما – البحرين

1 ـ حين تكتب فوزية السندي قصيدتها. كيف يتسنى لها هذا الفيض من الكم اللغوي حتى تصل الى بؤرة الحالة الشعرية؟

 عند الكتابة ثمة استعداد فطري يحرض المخيلة لتمد اليد بما تستهويه الروح من كلمات قادرة على تجسيد الحالة النفسية لتتخلل الصورة الشعرية بنشيج الخفايا، وتلعب القراءة – بمعنى محاذاة ابداع الآخر كتابة أو تعبيراً فنياً كتشكيل اللوحة أو هيام الموسيقى نعمة الاستغراق في تقصي الدلالات الإبداعية – دوراً في شحذ المخيلة ومدها بمعين لا ينضب من الصور الفنية والعلائق التأويلية لإثراء اللغة، وهذا ما أطمح لتحقيقه، لئلا أنساق لنمطية اللغة التعبيرية ومراودة ذات الكلمات.

كذلك تشكل الحياة شلالاً من الدفق التصويري يسعف المخيلة التي لا تنسى أن تخزن كل ما نتعرض له من ملمات لتتحول على الورق إلى كلمات تشكل طريقاً آخر أقل تعثراً وحياة أخيرة أكثر رحمة.

2- كيف ترين وضعية الثقافة عندنا، وهل لك تصوراً ما لمعالجة هذه الوضعية الثقافية؟

 الحركة الثقافية معيار حضاري لحال الأمة ، فازدهار الفعل الثقافي يعكس طبيعة المجتمع الذي يقدر شأن الفعل الإبداعي و يحترم عطاء و حقوق مرتاديه، حيث تتوالى الأنشطة الفنية، المعارض التشكيلية، العروض المسرحية و الموسيقية، كذلك تقوى المؤسسات الأدبية و الفنية في تقديم أدوارها المتفاعلة مع الحراك الثقافي،  تنتشي حركة النشر و حرية التعبير ليصل صداها إلى الصحافة الثقافية التي تعبر عن الزخم المتمثل في الحياة الثقافية ، هذا ما نشهده عبر متابعة أصداء العواصم العربية و الغربية التي لا تفشل – كغيرها – امام تحد حضاري كهذا .

ولكن هنا وما وصلت إليه (حالة) الحركة الثقافية يعبر عما يتداعى منذ سنوات طويلة، كحصاد للتصدع العام، بالرغم من محاولات رفقة من المبدعين استطاعوا طيلة تلك السنوات أن يؤجلوا هذا التداعي على صعيد العمل المؤسساتي على الأقل، والأهم من هذا كله استمرارهم وفعل الكتابة الإبداعية، رغماً عن العنف المضاد تجاه تجاربهم التي تحظى بتقدير من الأوساط الثقافية في الخارج

يبدو حال الثقافة وتدهور فعلها شأناً ينسجم وتصاعد الانفتاح، تبعية السوق لرأسمال عالمي لا يكف عن النهب، المد الاستهلاكي والأرث الماضوي وعموم التراخي تجاه كل جهد فكري، ذلك للانحياز العام تجاه التسالي وكرة الرأس لا القدم وحدها، بالإضافة لنبذ العقل وشغر فضاءه بالقنوات وحدها.

أمام حال كهذه صعب أن تطلب الصعب من طاقات إبداعية جل ما عليها تخليق تجارب فنية جديرة بهذا الوطن، وهل يستهان بهذا الجلل؟ ولكن الأصعب يصل عند ادانتها وتحميلها مسؤولية ما يتردى.

يرتهن النهوض الثقافي بنهوض (واقع) مجتمعي يعي أهمية وحتمية الثقافة كرهان حضاري لا على مبادرات فردية – وهنا لا أقلل من شأنها وأهمية اضطلاعها بدورها الريادي – ولكن الحوار بصدد نهوض ثقافي   يعم الوطن بكل تجلياته.  

3- تنوعت الأساليب الأدبية، وكثرة الأسئلة حول كل إرهاص يحط فوق هذه الساحة الأدبية عندنا في البحرين، فأين موقع المجازفة والمغامرة عند شعراؤنا حيال بقعة الضوء؟

منذ البدء و (الكلمة من أجل الأنسان) شكلت التجربة الشعرية في البحرين انحيازها العارم لأسئلة المستقبل، لم تسقط في مهلك التقليد، وطحن ذات الدقيق، واجهت سمو السنابل لتتعرف على ذهب القمح، لذا اقتحمت أشكالاً وأساليبا تعبيرية متنوعة الأصداء، فصدور كتاب شعري يعني بالضرورة طباعة تجربة شعرية تختلف عما سبق له النشر، وما عليك سوى تداول المنجز الشعري لتتحقق من موقع المجازفة والمغامرة حيال بقعة الضوء، كم كانت عسيرة.

          

4-أحياناً نوغل في الشطط والتجني على كل حركة أدبية تأتي مزاملة لنا، متناسين بعدنا المتعجرف في لم هذه الحركات واحتضانها، فكيف ترين صحة هذا المثلب؟                              

ثمة خلل ينتاب هذا المثلب، أولاً المبالغة بشأن تزامل حركات أدبية وكأننا نحيا في متسع جغرافي يتعدى هذه الجزيرة ليأوي حركات أدبية، ثانياً يحتمل هذا المثلب تعابير لا تليق به كمثلب يسعى لطرح إشكالية (رعاية واحتضان) المواهب الأدبية الجديدة، وهنا لا أعول كثيراً على محاورتها آن صدورها من منطلق حساسيات شخصيه وحسابات فردية تتوهم التجني، ولكن أرى أهمية تواصل التجارب الجديدة وذاكرتها الأدبية، ما سبقها من نتاج إبداعي يوازي هذا اهتمام الكتاب الذين رسخوا موهبتهم الأدبية بمتابعة نتاج هذه التجارب والتعرف على مشروعها الجديد.

لكن لابد من تشكل التحدي بين الموهبة وذاتها، هذا التحدي الذي يفترض رفضها لأي (احتضان أو رعاية) عدا احترام حضورها، وحقها في التعبير وفق ثراء الموهبة، لا مديح المداهنة من قبل الآخرين الذي لا يقل عنفاً عن قسوة تسمى نقداً أيضاً، لما لهما من شأن تدميري، مخرب قد لا تقوى عليه موهبة لم تشتد حصانتها بعد. 

أرى أهمية التعامل بحذر من قبل الكتاب تجاه المواهب الجديدة – ما أراه الغالب لدى الأغلب – قراءة العمل وإبداء الرأي بتوجيه ملاحظات عامة قد تستفيد منها الموهبة، حيث من الصعب إبداء رأي أخير تجاه موهبة جديدة في طور التخلق، لا توصيات ولا نصائح، لكل تجربة فرادتها التي عليها اكتشافها من خلال الكتابة لا الوصاية، المفارقة ان بعض المواهب لا تقبل بهذا المنحى الذي يحترم حريتها واستقلالية عطاءها وتنتظر كالضرير (من يأخذ بيدها).

5- الشباب براعم الحركة الأدبية الجديدة، يشتكون من قلة النقد، ومن لم الشمل، فما هو رأيك؟

 ليست وحدها البراعم من يفتقد للنقد، حتى الأشجار التي تداوم على الكتابة والنشر لا تراه، اما (لم الشمل) فهناك أسرة الأدباء والكتاب، بالرغم مما تتعرض له من صعاب، فلا بديل آخر جدير بالحركة الأدبية سواها، ولكن هل لي أن أسأل البراعم: لماذا يبتعدون كثيراً عن هذا البيت، ثم يتكدرون بالشكوى من لم الشمل؟

6ـ- لو قلت لك كيف تقرأين الساحة الأدبية عندنا، ماذا تقولين؟                                                                       

أقول  تتنامى في الساحة الأدبية عطاءات إبداعية هامة تشكل رافداً لحركة الأدب العربي وهذا ما يلتمسه المتابع من احتفاء بتلك الأسماء الأدبية، هناك مواهب والطماعات جديدة تواصل حفر مسارها، كل هذا مع افتقاد هذه الساحة للعديد من المؤثرات التي تثرى الحركة الأدبية، كدعم وتفعيل المؤسسة الأدبية، مساحة للكتابة دون التعرض لسطوة المقص، توافر امكانات للنشر لا ترهق رزق الكاتب، حفظ حقوق المؤلف حقاً لا على الورق، إيجاد منافذ لتوزيع الكتاب المحلي محلياً على الأقل.

7- كيف تجسدين معاناتك وتربطينها من وضعية الهم الخاص الى الهم العام في رؤية شعرية؟

من الأوهام التي عمت تجربة الشعر العربي بالتحديد خضوعها لدرامية الثنائيات التي لا تنتهي، من الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الشكل والمضمون، إلى آخر القائمة، وذلك لتفنيد الشعراء كل حسب خانة النقد، في حين تصوغ الرؤية الشعرية جماليات النص الأدبي بمعزل عن هذه المتعارضات.

 الشاعر كائن يحيا الحياة على أرض تمده بكل ما يعتريها من قسوة تؤسسها حضارة الحرب.

الكتابة لغة تعبيرية عن طريقها يتصل الكاتب بذاته ليتعرف على ما يضنيه، لذا تتخلق الصورة الشعرية بمعزل عن وهم التضاد بين (الخاص والعام) لكونها تجسد ما يفيض في أعماق الشاعر من ألم التكوين وتعبر عن حساسية اتصاله بعالم شرس لا يُحتمل لما يشتعل فيه من هوى التدمير، لذا لا لتعسف الفصل بين (الذات والعالم) هناك التحام بين الشاعر والحياة لا مفر منه لتخلق الشعر، الحديث هنا يطال الإبداع لا النظم أو التدوين.

تتجسد هذه المعاناة في رؤية شعرية عندما تتقمر بالفعل في ذات الشاعر، لا عندما يتم تصنع حضورها، حينها يسقط الشعر وتظل الحروف بلا روح على الورق.

هكذا أرى السؤال، وأتوق للقدرة على تقصي نص شعري يتقد بما أراه والحياة تمضي.  

                                       

 8- يقولون إن الرواية قصيدة العالم العصرية، فكيف ترين صحة هذه المقولة؟

دائماً كانت الأشكال التعبيرية تتزامن و تتقاطع لاكتشاف قدرتها على ترجمة مشاعرها المصابة بوقتها الراهن ، كل فن يتطور لمجايلة المتغيرات التي تعصف بالذات ، لذا تم  انتقال الرواية من النمطية الحكائية المتشبثة بإلزامية المكان و الزمان ، الحبكة ، مقتضيات السرد وغيرها من التقنيات التي تصادر حرية الكاتب المعاصر في تدشين تجربة روائية  تلبي تشظي ذاته أمام سقوط الحلم و تعثر الأمل ، لذا جاءت التجارب الروائية الجديدة بقدر حميم من استنزاف مقدرات الذاكرة ، لتغدو الرواية عالماً مشحوناً بكل عناصر المقترحات الفنية ، جاءت فضاءاً قابلاً للتعامل و قارئ جديد يتعرف على هذه الاحتمالات .

كما تشير الناقدة (يمنى العيد): (الخطاب الروائي يستجيب بتطوره وترقيه للتعبير عن تعقدات الحياة المتزايدة، ولخلق عالم متخيل قابل بطبيعته التخيليه لأن يتفاوت فيه الكلام وتتعدد أصوات المتكلمين وتختلف رؤاهم وانماط تشكلها لتستوي بنية صراعية أو بنية تكاملية منسقة.) 

 متغيرات كتلك لم تقتصر على الرواية وحدها ولكنها تبدت في الشعر والقصة والمسرح والفن التشكيلي، ولكن على صعيد الرواية   تزامنت واسهامات عربية ملفتة، كذلك نهضة الترجمة لنتصل بأعمال روائية حداثية هامة، استرعت وطغت على اهتمام القراء، مما دفع محبي التكهنات وإثارة طواحين الإشكالات لترديد مثل هذه التوقعات: انتهى زمن الشعر، الرواية ديوان العرب وإلى آخره.

الشعر ماس يتبلر من عتمة الروح، كالفحم تماماً، له صيت النار، ما يظل متقداً، بئراً للبوح شديد الغور، غير قابل للنفاذ، دام هذا الكون يحتمل كوكباً يشبه الأرض.

9- عندما يقدم لك النقد، وتكون اللغة السلبية هي الطاغية على لغة نقده لك.. كيف تفعلي حيال هذا النقد؟

لا أفعل أكثر من قراءة طريقة تعامله والنص.

10-عبد الله خليفة أجرى و لا يزال يجري بعض اللقاءات مع الوجوه الشابة عندنا في البحرين.. تركز على هموم الكتابة الشابة والموانع التي تقف حيالها.. وأكثر الشباب يشكو الوحدة، وقلة اللقاءات والندوات، ويعتب على المهتمين بالأدب، لكونهم بعيدين عن هؤلاء الشباب، فكيف ترين وتفسرين لغة الأدباء الشباب وهمومهم؟

– سبق أن تحدثنا في جوانب تتصل بذات السؤال، إن الشكوى من قلة الأنشطة الثقافية لا تنحصر في الكتاب الجدد ولكنها تكاد تكون ظاهرة عامة تنتاب كل من يحرص على استنهاض الواقع الثقافي في البلاد.

اما حول (العتب) على المشتغلين بالأدب لابتعادهم، سأكتفي بدعوة من يعتب للاجتماع الأسبوعي في أسرة الأدباء والكتاب ليرى من يشغل المقاعد ساعياً لتحقيق اللقاء، من غير المهتمين بالأدب؟

من يشتكي نادراً ما نراه.     

11- كيف تضع الشاعرة فوزية السندي قصيدتها؟

لا أعرف كيف؟ ما أن أبدأ الكتابة تأتي القصيدة وحدها، كنورس لا يمل البحر أراها تستوطن مكيدة الورق، فأعرف انها هنا.

  12- من خلال تجربتك الطويلة في التعامل مع الشعر، هل تستطيعين أن تضعي رؤيتك حول هموم الشعراء والقصيدة الشعرية في وطننا العربي؟

هل أستطيع ذلك؟

ان وضع رؤية حول هموم الشعراء في الوطن العربي وكذلك هموم القصيدة الشعرية في الوطن العربي أيضاً، تتطلب وهماً بذلك.

13- ظاهرة الشاعرات عندنا في انحسار ماعدا بعض الوجوه النسائية ممن يكتبن اللغة العامية والنبطية، أما مجال القصيدة الفصحى فمن الملاحظ انحسار ملحوظ، كيف ترين هذا الانحسار ولم ترجعين ذلك؟

كتابة المرأة للشعر لا تشكل (ظاهرة الشاعرات) انما تجربة فنية وإنسانية تعتمل ليكتمل المشهد الأدبي، تجربة تضاف للإسهامات الأخرى، بالفعل هناك عدم تواصل من قبل الكاتبات وحديثي يتعلق بالكتابة الأدبية لا العامية أو النبطية، أميل لتعبير عدم التواصل على تعبير السؤال (انحسار) فالحركة الأدبية البحرينية لم تشهد زخماً وكتابة المرأة لتنحسر الآن، هناك تجارب بدأت باندفاع وعبرت عن حضور موهبة متألقة، البعض لم يزل يكتب والأغلب فقد التواصل والاستمرارية.

فيما يتعلق بالمسببات، فمن الجائر أن نستكين لأسباب محددة لأن المسألة تبدو أشد تعقيداً، تكاد تشكل ظاهرة عربية في كتابة المرأة بالذات، فالتحديات هنا لا تخضع لطبيعة الكتابة الجديدة ومتطلبات التجديد من مثابرة على ممارسة الهم الإبداعي، لكنها تتجاوز ذلك لتصطدم بمنظومة فكرية إرهابية تكبل حريات التعبير وتتضاعف تجاه المرأة – ضلعها المعوج – أضف على ذلك عبء العائلة والعادات والتقاليد التي ترى عورة الصوت فما بالك بوعر الكتابة.

14- حنجرة الغائب، تداخلت الرؤى الكثيرة لهموم الشاعرة من خلال قصائد الديوان ووقف الغائب في حظوة التيه، فهل للشاعرة أن تدخلنا ولو بصيصاً في فك حلم الغائب؟

بعيداً عن التباس السؤال فيما يتعلق (بتيه الغائب) و (فك حلمه)، جاءت تجربة (حنجرة الغائب) كتعبير لمدى الاغتراب الذي نقع تحت وطأته، كلما حاولنا مشافهة الذات وكتابة ما يحتدم من رؤية إنسانية.

 هذه الكتابة حنجرة لا تزعم القدرة على نحت الصوت ليشبه كلمات تسعى إليها القصيدة و لكنها حنجرة حاولت أن تشبه صوت امرأة أخرى ، غريبة ، مغتربة عنها و تلوذ في أعماقها ، فهي حنجرة الكاتبة الغائبة لا الحاضرة ، و بعيداً عن خلل تاء التأنيث أو تاء التذكير التي لم تكن تعنيني بقدر عنايتي بالتعبير ذاته جاء الكتاب معنوناً بالغائب ، فهي كتابة أردت من خلالها التعرف على البعد الملغي في ذاكرتي كامرأة عربية و المتحفز للبوح في آن  ،  لأنها حنجرتي .