أزمة النشر في العالم العربي


 الاستاذ/ حسن اللواتي

مجلة المسار- مارس

2006جامعة السلطان قابوس

  تشكل الدول المتقدمة حوالي20% من مجموع السكان في العالم، وقد أصدرت أكثر من70% من الكتب في العالم، بينما العالم الثالث يشكل حوالي 80% من سكان العالم لكنه مع ذلك ينتج وينشر أقل من 30% من الكتب في العالم، بهذه المفارقة يجب علينا أن ندرك حجم المشكلة التي يواجهها العالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص ويعد النشر هو أحد تلك الأوجه التي تحتاج إلى أن نقف على العوامل التي تحد من عملية النشر في الوطن العربي، حول هذه الموضوع قررت المسار أن تناقش هذا الموضوع من خلال هذا الملف. المحاور:

ما هي أسباب العلاقة المضطربة في عالمنا العربي بين الناشر والمؤلف؟

لماذا يهرب القارئ إلى الإنتاج الخارجي والإنتاج الثقافي الخفيف الذي لا يتطلبجهدا ولا يحمل قيمة؟

ماهي العوامل التي تحد من عملية النشر في الوطن العربي؟

الأزمة المالية متى ننتهي منها في عملية النشر؟

ما تأثير الإنترنت على عملية النشر في العالم العربي؟ 

 يتعرض الوطن العربي للعديد من الاشكاليات التي تعيق عملية التنمية الثقافية- وما عملية نشر الكتاب الى أحد أوجه هذه التنمية- وتحد من التعددية الثقافية التي تشكل أهم التحديات في راهننا الحضاري، يندغم الوضع الثقافي بما يتحقق على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ضمن ترابط بنيوي يتأثر ببعضه البعض، اهم تلك المصاعب غياب الديمقراطية بمعناها الجذري الفاعل، مما يؤدي الى شلل مؤسسات المجتمع المدني ومرتكزاته الثقافية، ناهيك عن التردي العام على مستوى الاشتغال على محو الهوية العربية. كل هذه المناحي تؤثر بشكل عمقي في المشهد الثقافي، بما ينتجه نهج الاستبداد من تعميم لهجمة استهلاكية اعلامية تسعى لترويج للإسفاف والتهريج على حساب معالم حضارتنا الابداعية. ايضاً تفشي ثقافة الاستهلاك الناجمة عن التعاطي المجتمعي مع عملية التنمية الاقتصادية من منظور تعزيز المنتوجات الاستهلاكية، وتدوير رغائب التسويق، دون العمل على تخليق بنية انتاجية راسخة، تخلق بدورها بنية ثقافية رصينة. 

ان مهمة نشر الكتاب وتوفيره للقارئ هي مهمة حضارية بالدرجة الأولى، أتقنت ترسيخها الحضارة الغربية التي تعي طبيعة نفوذ تاريخها الثقافي، ودوره في تأسيس شعب واع، ومدرك لتحدياته المستقبلية والراهنة، شعب قادر على التعاطي مع مشكلاته بجدية منتجة ومسؤولية بالغة، تلك الحضارات، لم تعمل على نشر الكتاب فقط، بل اسهمت في الدفاع عن حرية وحقوق المؤلف، احترامها كحق أنساني اوصت عليه كافة الشرائع والقوانين الدولية، أسست معارض الكتاب الجادة، قدمت الدعم الكافي لطباعة المؤلفات، دعم دور الترجمة والنشر لتعيد قراءة ثقافة الآخر، استضافت الأدباء والمفكرين لإغناء مؤسساتها الادبية والفكرية.

 أما البلدان العربية فسعت لأهدار حقوق المؤلف المصانة على الورق فقط، وفي أغلفة الكتب، عممت المعارض لتسويق كتب الطبخ والوعيد والتنجيم، شددت الرقابة على الكاتب بل تم اهدار دمه وتكفيره لحرف هنا أو جملة هناك في بعض الدول العربية، لذا التاذ بحرية المنافي، عززت الدرك على الحدود لمنع دخول الكتب التي تختلف مع رؤاها، انشئت صحافة ثقافية استهلاكيه تسطيحيه لا تهتم بالفكر الرصين، أو النقد الجاد، أو النصوص الأدبية المبدعة، بل اسرفت في استضافة الكتابات الاستهلاكية، والنقود الصحافية الانطباعية التي تهاجم الأدب الحداثي، وتصفه بالغموض لأنها لا تفهمه لذا تحرض الناس ضده، ضمن شعارات قديمة ومتهالكة، بكون المبدع يكتب لذاته وليس للجماهير العريضة، منساقة لذات الشعارات التي اهلكتنا طيلة الماضي الذى حضرنا لحاضر مهزوم بذات الشعارات. 

تشكل غياب الرؤيا الاستراتيجية للثقافة في بلداننا العربية ضمن مرتكزات الثقافة الحكومية والخاصة، عبء لا يستهان به تنوء به الثقافة، وما يتصل بها من صعوبات تجاه عملية النشر، غياب الترجمة أيضا، كمصدر مهم لجدلية الحوار الحضاري، طغيان التوجه الاعلامي الاستهلاكي المسموع والمقروء والمرئي، كل هذه العوامل تتحد لتحقيق الاشكاليات الجذرية المتعلقة بالحد من عملية النشر. تتبدى معضلة دور النشر في تحولها من مؤسسات ثقافية، تتحمل مسؤوليه مهمة كما كانت تفعل في الخمسينيات والستينات من القرن الماضي، إلى عمل تجاري يرفع شعاره الأزلي في وجه المبدع: ” أدفع ثم انشر”، ناهيك عن دروها المخرب في نشر الكتب الفضائحية والترويجية لتسليع كل شيء، لغمر جيوبها بالنقد فقط. يعتبر تفشي الامية الابجدية والثقافية، من أهم العوامل التي تواجه فعالية النشر وتضعف تداول الكتاب، لكونها من المصائب المسكوت عنها، ومضاعفة بلوها عبر تسييد الجهل ضمن المنابر التربوية التي لا تعمل على تحديث المناهج المدرسية والأكاديمية ايضاً، ليظل الطالب في حصار من البدائل التعليمية القديمة، التي لا تواكب الحداثة التنويرية. 

ان مسألة اشكالية نشر الكتاب العربي، تشكل الجزء المتفاقم من هذا المشهد المتردي، لإصلاحها لابد من تقويم التوجه الاستراتيجي الحضاري نحو الثقافة العربية، بالرغم من الاجتهادات الجادة التي تتناهض هنا وهناك في بعض العواصم العربية، الا ان المشهد الثقافي العام لا يشي بنهضة حقيقة نابعة من مسؤوليتنا التاريخية تجاه تراثنا وحاضرنا العربي. لقد تحول العالم اليوم الى شبكة اتصالية معقدة ضمن ثورة المعلومات، لا مكان فيه لشعوب تتعثر نحو الحرية، الحرية هي الرهان الاساسي لاندفاعنا نحو المستقبل، لن ينتظرنا أحد من هذه الشعوب الفاعلة نحو تعزيز منجزها الحضاري، لقد تحول فضاء الانترنت الرحيم بنا من قسوة اليابسة إلى منفذ معلوماتي وثقافي مهم لا يستهان به، تجاه تواصلنا والحضارات الأخرى، نشر ابداعنا بحرية بالغة، ليتعرف العالم بقدرة حرفنا العربي على النهوض رغم الهزائم المدوية، على الأقل كما فعل اسلافنا من المفكرين والفلاسفة والادباء، أولئك الذين ادركوا دورهم الفاعل والمؤثر في حضارة الآخر وحواره عبر التواصل معه واحترامه وترجمة آثاره الفكرية. 

أليس غريباً أن تكون السماء أكثر رأفة من قسوة اليابسة؟

أليس غريباً أن يتحول هذا الفضاء الأزرق لحضن حنون أكثر من حدود اليابسة المدشنة بالموانع بين كل وطن عربي وآخر عربي أيضا؟هذا السؤال هو ما يذهل كل مواطن عربي يتعرف على معنى الحرية من خلال هواء “الإنترنت”، ليستعيد إنسانيته المؤجلة منذ قرون، ليحلق بحريته الرازحة تحت مثاقيل القيود، عندما كان يمضي حياته كلها وهو يتسول المعارف، يكتب خلسة ما يشعر به، كل ورقة يهبها للهباء، بسرية خانقة يطلع على ممنوعات الكتب تحت ضوء قنديل يرتجف وهو يصغي لخبط القلب المذعور من وجودها معه.. هكذا كان حال المثقف العربي ولم يزل في كثير من العواصم، طريداً ومع ذلك يطارد المعرفة، يعيد تفسير أكاذيب الصحف وزيف الخطب وثرثرة المزايدات وتجميل القبح وترويج العار وتحويل الهزائم لانتصارات وتسويق الكثير من الوهم الطاغي. ” من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك لأن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا يكون عبداً قائده الجهل.” هكذا أوصانا المفكر عبد الرحمن الكواكبي وهو يسترشد بعقله النير فعل الاستبداد بمنجزات الفكر. 

لا بد من تأسيس مشروع نهضوي تجاه الكتاب العربي، يبدأ من مداولة مواطن الخلل الجذرية، وضع رؤية استراتيجية لمآلات الوضع الثقافي في بلداننا، تتحمل من خلالها المؤسسات الثقافية الرسمية والاهلية دورها الداعم لنشر الثقافة ضمن اقنياتها الاعلامية بكافة تنويعاتها، الدفاع الحقيقي عن حقوق وحرية المبدع، لنشر الكتاب لابد من دعم الكتاب أولاً، عبر تأسيس دور نشر رصينة معنية بنشر وترجمة الابداع، مواجهة الهجمة الاستهلاكية للحد من تخريبها المدمر لثقافتنا وحضارتنا العربية. معاناة الكاتب العربي لا توصف، لكونهم يهدمون العتبات أمام خطوه، كتابته لا تطبع إلا بمشقة عليه أن يحتملها، لا توزع إلا صدفة عليه أن ينتظرها، لا يتواصل مع الآخر العربي، وليس الآخر في جهات الأرض، فالحدود مغلقة أمام الحروف، ومشروخة أمام كل ما عداها من بضائع لترويج حمى الاستهلاك البشع، عليه أن يتهدم ويئن تحت عبء منجزه الإبداعي، السدود تتعالى والزيف الاستهلاكي كطوفان يتحدر نحوه، هذا الحال تمادى بتشويه بل تكسير إبداعات عربية تنامت كالبراعم، لكن للأسف.. ما أن تتعالى بجذوعها الخضراء الطرية نحو السماء حتى تتقصف وتغدو مهدورة للغبار.