الحقيقة بمفهومها الأزلي النوراني

جريدة كل العرب

1-الشَّاعرة فوزية السندي في قصائدكِ الأخيرة ثمَّة انزياحٌ نحو التصوّف، ألا يزال التصوّف موجوداً في المشهد الشعري الراهن؟

– التصوف بمفهوم التجربة الروحية الفاعلة نحو السمو، والذاهبة لاستعادة النقاوة البدئية نحو الكون عبر الحفر المتفرد والاشتغال الفني غير المسبوق، لم تغب يوماً عن البشرية في سعيها نحو معرفة الذات واكتشاف العالم، التصوف المستعاد في راهننا الشعري يعمل للأسف على تكرار المفردات المستخدمة في التجارب الشعرية الصوفية الرائدة، إعادة ذات الجملة الشعرية بذات التصاوير، بحيث نشعر من خلالها بمدى السطحية والتماوه الجاف، الخال من طاقة السعي الحثيث نحو التحرر والتنقي والتبلر الشفيف، ذلك يتحقق لغياب التجربة الروحية الحقيقة بمآلاتها الراهنة وتحدياتها المختلفة بفعل التمايز الزماني والمكاني وبالتالي الرؤية الوجودية والأسئلة الفلسفية.

ثمة التماعات بدأت في تجربتي الشعرية تنحى نحو تخليق علاقة بالمفردة الشعرية تشف عن تجربة روحانية، اسعى لتكثيف حضورها الجلي، لكونها تسعف روحي كثيراً، تسندها وتساعدني على كشف ومعرفة ذاتي، القرب مني، تسريح الأذى، العديد من المحتملات تراودني اثناء غمر الكتابة، كلها عتبات نيرة للوصول الى حيث لا أدري، ولكن الى مكان آخر سوف يرشدني الى نبل الأمل، نحو الكثير من النور والمحبة والحكمة.

اتصالي بتجربة الريكي” العلاج بالطاقة” واعتكافي على دراسة هذا العلم حتى درجة الماستر(المعلم)، ومن ثم ممارسة المعالجة وتنظيم دورات متخصصة للتدريب أسهم في قربي من مكتشفات التجارب الروحية، وآلياتها المتعلقة بالبحث الدؤوب عن الحقيقة بمفهومها الأزلي النوراني.

2- هناك عبارة ل نيتشه تقول (لقد اخترع الألمان البارود ولهم كل التقدير، لكنهم ضيَّعوا أنفسهم إذ اخترعوا الصحافة)، الشاعرة فوزية السندي برأيكِ إلى أي درجة خدمت الصحافة الشعر والشعراء؟

– تشكل الصحافة أحد الملامح المهمة لتنوير الحركة الثقافية، وهي تتفاوت في مدى تقديرها للأدب والابداع، من الصعب التعميم، ثمت صحف لديها ملاحق ثقافية رصينة في متابعتها للمشهد الثقافي، وفي سرد ورؤاها النقدية تجاه التجارب الجديدة حتى على المستوى الانطباعي، وثمت صحافة استهلاكية تسعى للترويج والاثارة التي لا علاقة لها بالحياة الثقافية، اما فيما يتعلق بخدمتها للشعر، فالسعي متفاوت حسب اجتهاد الصحيفة، مع ندرة الجدية في تلك المتابعة، هذا لطغيان الحياة الاستهلاكية التي اضحت تطحن برحاها كل شيء.

مع ثقتي بكون الشعر الحقيقي المحمول بطاقة تعبيرية صادقة ومعبرة عن ذات تسعى للكشف كفيل بذاته، النص الحر قادر على التواصل والآخر عبر ورق الروح لا ورق الصحف.

3- هناك نصوصٌ تُكْتَب تحت تسمية ( نص حديث ) , برأيك كيف يمكن فرز نَص ما بأنَّهُ حديث ؟ وكيف تنظرين إلى التصنيفات في الشعر ؟

– لا أميل لكل التصنيفات أمام الشعر بالذات، أراها عوائق وأوهام لتضيع الوقت والطاقة في هدر المهاترات حول فن رهيف لا يستحق كل هذا العنف، منذ بدء الخليقة اتقدت نحوتات معبرة على الكهوف وأخري ليست بذي شأن، لتمايز الطاقة الإنسانية التي كانت تنحت روحها على جدران الكهوف، تغير الجدار الى جلود ومن ثم إلى ورق، وذات اليد برعدتها الأبدية استمرت في البحث عن لغة تحتمل القدرة على تفسير غوامضها، كشف سواترها، مداولة معاناتها في هذه الحياة، تمثل منجى الخلاص في الكتابة وحدها.. كونها الوميض الخالد.. النور الخفي آخر النفق.

السؤال الأهم: هل ما نقرأ شعر أو لا شعر، حديث أو قديم لا يهم، المهم أن يعترينا نبض النص ونحن نقرأ.. لنصاب برعدة المعنى التي لا مرد لها.

التسميات والمصطلحات ليست سوى حواجز رديئة لتصويب الهدف نحو الهاوية، لذا لا أصغ لها، وأنا أكتب بهدوء النبض وهو يهدهد القلب.

4- أن تُتُرجَم قصائد الشاعر إلى لغةٍ مغايرة، (الشاعرة فوزية السندي، قصائدكِ تُرْجِمَت إلى لغاتٍ مختلفة)، ماذا يعني للشاعر ترجمة قصائده؟

– الترجمة تعني التواصل مع قارئ آخر يجد صعوبة في فهم معنى الكلمات المكتوبة بلغتي، لست خاضعة لوهم الانتشار أو العالمية كما يصفون دور الترجمة، أو كونها تشكل أولى العتبات لسلالم المجد المزعوم المنشى بالنياشين والجوائز وضجيج المنصات.

الترجمة جهد ابداعي نبيل يسعدني عندما يحدث لكتابتي.

5- يُعَد كل ديوان صادر للشاعر نهايةَ تجربة وبداية لتجربة أُخرى، الشاعرة فوزية السندي بعد إصداراتٍ شعريَّة عديدة كيف تنظرُ الى تجربتها؟

– أنظر الى الورقة البيضاء لأكتب، لأحيا.

6- قديماً كان الشعر يملك قيمة كبيرة، في الرَّاهن برأيكِ إلى أين وصل الشعر والشعراء؟

– من الصعب إطلاق توصيفات جاهزة حول راهنية التجارب الشعرية، لكل تجربة شعرية تألقها المتصف بمقوماتها الفنية، وفرادة طاقتها التعبيرية، ولكل زمان مواصفات تتعلق بطبيعة تجربته الثقافية والفنية، لذا لا يتوجب علينا عقد مقارنات حولها، قيمة الشعر التي كان يمتلكها قديماً تخضع لكونه إعلام القبيلة، تطور لاحقاً الى بوق الحزب أحيانا، أو ناي الروح، صوت النص المتفرد بذاته، الى أين وصل الشعراء لا أعرف، لكنا لا نزال نقرأ الشعر بمتعة لا توصف.. الشعر وحده.

7- الشاعر، أشَدُّ البشرِ غربةً، الشاعرة فوزية السندي كيف تَتَغلَّبُ على غربتها؟

– للغربة مذاق أليم ناتج عن مختبرات البحث التي يشيدها الشاعر كل ليلة أمام بياض الورق، محن ممسوسة بطرائق البحث في مجاهيل النفس، رحى الروح، غياهب المستقبل، وجع مستبد يعتني بعلاجه الشعر، حين يتقصى ضرورته ويعمل على تجسير الهوة المتجددة نحو الفراغ، غربتي تتحدر من حقيقة اقصاء ذاتي عني، غموضها، نور الحبر وحده الجدير بإضاءة ضراوة النفق، حين يراني جالسة امام الطاولة، أتفقد ما أضعت بمعاونة نبض قلبي وبياض الورق، أحنو برفق على السطور، أخطو لأحتمل ما هنالك من تحديات، لا يعنيني الوصول بقدر تقدير هول المسافة، كما كتبت ذات شعر:

كحصاة في منتصف الطريق

لا أصل،

ولا شأن لي بالعودة

لأصل.

8- الشاعرة فوزية السندي هل من الممكن وضع تعريف ولو بسيط للشعر؟

– في كتابي “ملاذ الروح” ثمت نص يتعلق بتعريف الشعر أسميته:” فيما أحسه أو أحسبه الشعر” وهذا مقطع منه:

“حمى،

بلاغ غامض تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي،إنزياح كلي عن غفلة الجسد، ترويح للحواس، مجاهدة للنفس، طاقة للخوف، نهي مبجل عن أي شيء آخر، خجل يزعم القدرة على علة الجسد، خبث عميق، صلة بتاريخ يتحدى المجد، أنين، مجاهرة سرية لأقصى سر، تعر باهض على النفس، طريقة لتعريف الجسد وتعريضه في آن، فروغ الروح، حالة تختبر ما يختل من موازيين العقل، حلول نوراني يبعث للأصابع دهشتها الأخرى، عار على القبيلة، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك، أمومة الموت، صبر الثواكل كل يوم يأتي دونه، بأس اليتامى كلما مضى لساحة النشر، غرغرة القتل كلما استجاب العقل لناب النقد، كيد اليد، عزوف الأوصياء، نفضة الورق أمام اندفاع القلم، جسر بين الكون وجسد الأخرس، كل شيء، معنى اللامعنى، فتوة اللغة، فتك الصريح، كسوة المجهول، الخالب أناي، ما لا أنساه، ما يمحو وجهي كل مرآة، غفير الغرفة، مشتهي الطاولة وهي تتبرأ من ذاكرة الشجرة، عاتي الحبر كلما أجاز له الجفن بحر الدمع، شريك الرجفة كلما هدني الهلع وحدي، مزيج من عناق المذهل وخيبة التردي، القلق الآسر، ما يحدث وأنا أستبقي الوقت ليقف قليلاً، ما لا يحدث أحياناً، راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي، خليلي في خلوة القبر، نفوذ اللامرئي وحصول المعارف، دفعة القدر، نمرة المخيلة، النابذ جسدي حين أسهو عنه، الناده مبتغاي حين أعزف عني، الصاغي لعذابات تكتشف صدوعي، الجهل كله، جللي، من لا أخاف الموت إلا لفقده، رضعة بلا غدر،توأم الأم، من يوقظني كل الوقت، جن يسحن الروح كلما جار الجسد، لثغة الهواء الصعب، قهر الورق، ناهب الصحاف، رائي الكهوف، أزميل النبوءة، نحت المزار، محك الحجر، وصيف الكبرياء، نجل النهايات العاق، النبيل غاية الرفعة،

هديل العمر

تورية الموت

لم أنته بعد…”

 

الحرية نهل معرفي عميق

الكاتب: مهدي سلمان

جريدة الأيام البحرينية

  • كيف تنظرين إلى صورة المرأة التي يرسمها الشعر العربي الحديث في المرحلة الأخيرة منه، وخصوصاً في فترات التسعينات وما بعدها، وهل الصورة التي يرسمها هذا الشعر للمرأة تتلخص في الجسد وحسب (في المجمل)، ثم هل استطاع الشاعر الرجل في هذه الفترة أن يقرأ المرأة بشكل مختلف ومغاير عن هذه الصورة (الشبقية)؟

الشعر لا يصف المرأة أو الرجل كجسد فحسب، ما يمعن في هذا التوصيف الضيق هو النظم، والاستسهال في رصف الكلمات، وليس الشعر.. حيث تتعالى الرؤية الشعرية وتتعمق الدلالات بعيداً عن هامشية التموضع الدلالي لمفهوم الجسد، أحياناً نصغي لكلمات تتلى من على المنصة لا علاقة لها بالشعر، ولكن بالهتاف الذي يستحق تصفيق الأكف لما يحتويه من إثارة تستهدف هذا الحضور.

طيلة تاريخ الشعر كانت هناك كتابة تصف المرأة كجسد، وكانت هناك رؤى شعرية مغايره تراها كحياة متناهية الأبعاد الروحية، المسألة لا ترتبط بفترات زمنية أو بجنس من يكتب، ثمة شاعرات يجسدن العلاقة مع الرجل بذات الرؤية الأحادية الأبعاد، أمام النص على النظر النقدي أن يتصل بهذا الانبعاث المحمول بمحنة الروح، المتصف بالمعرفة الإنسانية، حيث تجلياته تتعمق في النص الشعري، كفعل يعمل على تنضيد طاقة حروف تشتبك في سياق كلمات تتعاضد من أجل تشكيل صورة شعرية تعمل على تصدير المعنى والإحساس والطاقة التعبيرية لذات الشاعرة نحو الكون.

للشعر حرية لا تطال، لهم الحق في تصوير الآخر كما يبتغون، ولنا حرية وذائقيه لا تستحق الخدوش.

  • هل ساهم البحث عن (الحرية) في الشعر، في تسطيح النظر للمرأة بالنسبة للشاعر، فصارت الحرية بالنسبة للشاعر هو كيف يفصل أكثر في جسد المرأة دون أن يتجه بشكل أعمق إلى أبعاد أخرى من ذاتها؟

البحث عن الحرية لا يتصل بفعل تسطيح النظر للمرأة، إن تسطيح النظر للمرأة –إن وجد في النص الشعري- فهو حال فكري يتصف به من يكتب، الحرية نهل معرفي عميق، سبر ذو حساسية محفوفة بالتأني اللائق حين مقاربة النفاذ نحو محبة الآخر، الكتابة عن الجسد ليست في مهب التابو، ولا في إذلاله بتسطيح الحديث عنه، تعريف الحب مهمة نبيلة لا توسم بتسطيح الآخر، ثمة بوح معني بتشفيف الحال الشعري، لمعان البصيرة، حكمة لابد أن تستعر ونحن نقلب محن القلب وندون الخفي منها، الآخر هو الأنا.. ولم يعد الجحيم كما توهمنا مع رامبو ذات شعر.

  • هل ساهمت المرأة الشاعرة (في هذه الفترة) في تعميق هذه الصورة إن وجدت بحسب رأيك، ولماذا تشارك المرأة الشاعرة في الدخول إلى هذا النسق؟

بالرغم من حدوث هذه الظاهرة، إلا أن التعميم يضر ما يتم مداولته في المشهد الشعري، المرأة الشاعرة تمثل عدة رؤى شعرية، تعتمد طرائق تعبيرية تنسجم مع مدى وعيها لعمق تحدياتها مع الحياة، جل ما يحدث الآن هو خطورة الانسياق نحو ما يتم تعميمه من أوهام، فهم التجديد بكونه إغراق النص في تناول التفاصيل أو اليومي بحيث يثقل النص ببرد السرد، التركيز على المنظور الحسي والجسدي تحت راية الجرأة في تفجير أنوثة النص، وما شابه ذلك من تنظيرات ترويجية تهدف إلى  تسليع النص الشعري والروائي أيضاً في زي مثير، ومطلوب في سوق النقد الأدبي والمالي، ولدى دور النشر.

لا حد لشراهة الحياة الاستهلاكية، ومنصات ما يسمى شعراً أحد أسواقها اللاهية. ما يحدث الآن هو الانسياق نحو تلبية هذه الاشتراطات التسليعية للتجربة الإنسانية، المتزامنة مع رواج النفاق النقدي والمديح الفج، ولا يخفى مدى خطورة الاستسهال الحادث في النشر، ثمة سباق نحو تضخم الذات وإثقال السير الذاتية بأسماء الكتب لا بكتابة الشعر، وهذا هو النحر لنهضة النص.

الأدب النسوي بين واقع وجوده ووهم رفضه

جريدة الوطن- البحرين

سوسن دهنيم

– ما هو رأيك في تصنيف الأدب على أساس الجنس بين ذكوري ونسوي؟

في البدء أود التحفظ على عنوان الحوار (الأدب النسوي بين واقع وجوده!! ووهم رفضه!!) لكونه يمثل تدخلاً مباشراً في صياغة رؤية غير محايدة، من حيث تأكيده على واقع وجود” الأدب النسائي” الذي أشك فيه، وكذلك يشير إلى وهم رفضه الذي أختلف مع كونه وهماً.

إن حلول التصانيف والمصطلحات غير النقدية، بل المتعسفة في شأن مقاربتها للأبداع الإنساني، يضعف التجربة الأدبية، منها ” الأدب النسائي” الذي تم استثماره بشكل غير حضاري، لا فكاك لنا من تداعيه نحونا، أراه تعبيراً مضللاً، يعمل على تكريس منظومة قيمية تحفل بالتمييز الجنساني بين المرأة والرجل حسب النوع الاجتماعي (الجندر)، الذي تقاوم تداعياته كل المنظمات الدولية وهيئات حقوق الانسان، مما يشكل فضيحة كبرى عندما يرتبط بالتجربة الابداعية ذات الرسالة الإنسانية في تعميق الرؤية الجمالية والروحية المندغمة في أفق المستقبل.

لم على تجربة المرأة الأدبية وحدها، طيلة تاريخها القامع، أن تتزيا بهذا التصنيف الفاشي؟ لماذا لا نحتكم للنص وحده، وننسى قليلاً جسد من يكتب، ليس بين الجسد المذكر أوالمؤنث، لكن بين كل كائن وآخر، التجربة الأدبية تتمايز بالفرادة وحدها بين البشر كلهم، ضمن منظورها وفعلها الحسي والجمالي.

يكفينا كنساء ما نتعرض له كل هذه الحياة، من فحولة وقت طاغ، مدمر بقوانيه وجوره، الكتابة شرفتنا الوحيدة الأنيقة بأرواحنا، حتى هذه يريدون تهميشها عبر “تخصيصها ” ليظلوا في مأمن منها، وليتفاخروا بأمجاد نرجسية خائبة، لماذا عليهم أن يكسروا كتابة المرأة التي ما زالت تتناهض بصعوبة بالغة؟

للأسف، أقولها بثقة تامة: لا أحد.. يحتكم للنص وحده، لا أحد.

– هل ترين من المبالغة إطلاق هذا المصطلح على بعض الكتابات أم هي ضرورة لأنه أدب يعبر عن المرأة فسيولوجيا وسيكولوجيا؟

الأدب يعبرعن تجربة الذات الانسانية، ليست المرأة وحدها من تصدر عن مغايرة فسيولوجية أو سيكولوجيه، بل كل من يكتب، وإذا كان هذا يشكل مبرراً، فلماذا لا نسمي كتابة الرجل بأدب رجالي؟ لا أرى في إطلاق هذا التصنيف مبالغة ما، بل عاراً على من يطلقه ويسعى لتكريسه.

تقول” هيلين سيكسوس”:” أدعو إلى تأكيد الاختلافات بين الجنسين وتحريضها ليحصل التقابل والتكامل، لكن بعض مبدعات “الأدب النسوي” يحولن النساء إلى أسطورة وهذا الجنوح نحو الأسطرة يحولها من كائن متكامل مع كائن يوازيه إلى مجرد (خرافة) عائمة.

– هل ترين في إطلاق هذه التسمية على هذا الأدب، اجحافا وانقاصا من شأن هذه الكتابات؟

المسألة تتعدى ذلك بكثير، كما أشرت سابقاً، لكونها ترسخ لمدلول قيمي متهالك الى أبعد حد، كل التنظيرات التي انساقت لتفسير هذا المصطلح المهين، اعتمدت في دفوعاتها على صدور كتابة المرأة من حساسية ذات انثوية متميزة، لها ملامحها الخاصة التي تعتني بتفاصيل حياتها، وعلاقتها بالآخر بحكم تهميشها في المجتمع. كلها تهويمات لا تسند المصطلح اطلاقاً، كل نص أدبي، حتماً يتخلق من أتون ذات شعرية متفردة، محمولة بكل تمحوراتها حول تجربة الجسد المعترك مع الحياة، لذا لكل نص سمات تفصله عن النص الآخر، حتى للكاتبة نفسها، كل نص يحيا بشكل مستقل عن الآخر، المسألة أكثر تعقيداً من تسطيحها هكذا لا يمكن اشراك النساء كلهن ضمن سمات متفق عليها تؤثث النص الادبي، ولا الرجال أيضا، أحياناً نقرأ تجربة مرهفة في مخيالها الحلمي بأنثوية ماهرة لدى كاتب ما، أبهى بما لا يطاق، من حلول منظور ذكوري وتسلطي لدى كاتبة ما.

من تداعيات هذا المصطلح المشينة، انه خرب العديد من التجارب الأدبية، أغرى العديد من الشاعرات لتوظيف مفتعل لمفردات الأنوثة – أشير هنا لأهمية الجرأة والمكاشفة لكن ضمن التجربة الشعرية الحميمية وليست التسويقية – مما أدى إلى تسليع النص الشعري بشكل استهلاكي فج، حضور الإغواء المرتبط بمغريات الشهرة، وأسهم النقاد ودور النشر في تعميق هذه الظاهرة، ذلك للنهل من برامج تسويقية مربحة، لا علاقة لها بالأدب.

في الآونة الأخيرة، بدأنا نشهد مرافقة صور مثيرة للكاتبة مع النص المنشور، تحقق هذا الترويج حتى على المنصة في المهرجانات والأمسيات، حيث تغيب فتنة النص وتتبدى مراوغات الجسد، هذه التهالكات يروج لها أدبياً للأسف، بعدما تحققت على صعيد الفن بشتى صورها المزرية.

وحده “رولان بارت ” يدعو إلى لغة “مزيج من الذكورة والأنوثة” وهو معروف بموقفه المميز من المرأة التي يقول عنها أنها المعمل الثقافي، ويعلن أن الموقف من المرأة هو موقف من الحضارة، يقول بارت:

“عندما تكون المرأة تحت الصفر- لا مجال إطلاقاً للحديث عن أمة بل ينبغي لفت الانتباه بقوة إلى مأساة يواجهها قطيع بشري”.

الهجمة الاستهلاكية الراهنة ستنال من كل شيء يتردم ببطء قاتل، مالم نتصدى لما يحدث، ما لم نقل ما له أن يقال.

 

اشكاليات الشعر في الوطن العربي

اكاتبة: شادية ترك

جريدة الأيام البحرينية

يعتبر الشعر من أهم الروافد التي تصب في بوتقة الثقافة وبحورها، ومن هنا ومن منطلق أهمية الشعر، وانطلاقاً من محطات نعتقد بأنها تثير اللبس والاستفهام حولها كإشكاليات ملحة تعكر صفو وفكر المهتمين والمعنيين بشئون الثقافة والأدب في الساحة الثقافية العربية، ولا نستبعد منهم أصحاب الشأن هم الشعراء الذين كانوا أحق من يكون في الإجابة على ما نعتبره سؤالاً حول إذا ما كان الشعر في ظل علامات الاستفهام الكثيرة التي تقبع في عمق الثقافة العربية يمثل سؤالاً فنحن لا نقدم أسئلتنا من منطلق وهم الشمولية ولا نهاية الاشكالية، ولا نعلن بداية ما أشرف على النهاية، ولكنا رمنا الابحار مع نواخذة البحر في عشقهم الأبدي.

وحول اشكالية الشعر في الوطن العربي، كان لنا هذا الحوار مع مجموعة متميزة من شعراء البحرين.

حوار مع الشاعرة “فوزية السندي”:

1- بالأمس كان للشعر مكانته وللشاعر وزنه، الآن لم تعد ولادة شاعر تعني شيئاً وأصبح الشعر تجربة جمالية دلالية مغايرة، لا تجذب إلى جذوتها سوى المهتمين بالشعر والمنشغلين بسياقاته من نقاد وشعراء وأدباء.. فكيف لنا أن نقيم الوضع الحالي للشعراء في الوطن العربي، وما هي مبررات اختيالهم من قلب الثقافة العربية؟

– ان للتطور الحياتي الشامل دوراً في إحداث المتغيرات على كل مستويات الابداع، وأن (الخلل) الذي تتحدثين عنه لا يقع على الشاعر الذي لا تعني ولادته الابداعية شيئاً لوطنه العربي.

نحن في عام 2001- فيما كانت القبائل العربية قبل قرون تحتفي وتتباهى بصوته لكونه من سوف يخلد صيتها وتاريخها كله، هل نلوم الشاعر-الآن- الذي حقق تجربة شعرية جمالية ذات أبعاد دلالية مغايرة، بعدم استجابة أحد لجذوتها، سوى القلة من المشتغلين في الأدب؟

ولماذا منذ الخمسينيات حتى أواخر الثمانينيات كانت تجربة هذا الشاعر العربي ذاته تتواصل مع الناس الذين كانوا منشغلين بالمعرفة والثقافة ضمن مشاريع النهضة العربية وآفاقها التحررية، أما الآن بعد أن تم إغراق الشعوب برحى الاستهلاك، وتم تعميم الرطانة، عامية اللهجة، استبداد سياسات التجهيل، من الصعب أن يكترث أحد بالأبداع بكل تنويعاته التعبيرية، وليس بالشعر وحده، بالذات لكون هذه “الأمة العربية” التي نراها الآن تتحدر إلى منتهى الذل والمهانة. لم يعد الابداع ينتظر منها أن تحتفي به، بل أن تخسره، لكون الألم تعداه، وطال كرامتها وتاريخها كله.

من الصعب عقد مقارنة بين مصاب الشاعر العربي الآن، ومصابه فيما مضى، مثلما لا نستطيع أن نتعامل مع هذا المعيار لتحقيق رصد تاريخي لمواضيع الاشكالات الفنية والتعبيرية الأخرى.

إلا انه بالرغم من قسوة الحاضر الثقافي وتداعياته، إلا أن الشاعر العربي استطاع مواكبة طبيعة قلقه الوجودي، وغموض حيرته الكونية التي تبدت له، بل حاول جاهداً من خلال نصه أن يبتدع أسئلته الحاصلة مما يعتري جوانحه، لنشهد تجليات ابداعية في الحركة الشعرية العربية استطاعت بمكتشفاتها الفنية أن تؤثر بعمق في الحركة الشعرية العربية والعالمية.

لقد اختلفت المعايير والموازين التي كانت تقيس المدى الابداعي للمنتج الفني، بحيث لم نعد نعتمد على “جماهيرية” التجأت لمهب الاستهلاك، ولا على حفاوة “نقدية” عاجزة عن التحقق بما يذهل منجز الشعر الراهن، ما حدث هو ان الشاعر احتمى بشفافية روحه الشعرية، بتواصل نصه والآخر من خلال جرأة النص ذاته.

2- هناك اشكالية باتت تفرض نفسها وهي ذلك الخلط أو اللبس في إطلاق مسمى “القصيدة النثرية” على الشعر العمودي الحر، فهل هناك بالفعل ما يسمى “بقصيدة النثر”، وهل يمكن أن يحتفظ لونان من الأدب بخصائصهما الأدبية في حال تلقح بعضهم من الآخر؟

لقد شكل مصطلح “قصيد النثر” بمدى الالتباس الاشكالي، والتوصيف النقدي الذي ينوء به، شكل أرباكا واضحاً، أبان نهوض تجربة شعرية عربية جديدة بمنجزاتها النصية، تم انجازها من خلالها حساسية مختلفة، وحالات حوارية شعرية مهمة، هذه المسافة بين التجارب الوزنية بشكلها المقنن وبين تصاعد ايقاعية متمايزة عنها، عبرت عنها تجربة شعرية أكثر تشبثاً بمدى حرية النص، هذه المسافة كانت مهمة للغاية، وقيد التفلت على الاقل لمغادرة الاشتراطات الوزنية نحو حرية ايقاعات بصرية وحروفية وجمالية تسعف الشعرية العربية،وتدفعها للاكتناز بمخزون الطاقة التعبيرية المذهلة للغة العربية.

لقد تعودت منابر الثقافة العربية دوماً أن تنشغل وتشغلنا بعبء هذا المصطلح بشكل شكلي لا عمقي، اشتغال لا يقترب بشكل نقدي تجاه ما تحقق من ابداع، هذا لنصطدم على الدوام بحوارت شكليه، ساقها لنا النقد الصحفي، وليس الثقافي، منساقة أحياناً ضد الابداع، لئلا تنشغل بما يقدمه لنا النص الشعري من ابداع انساني شديد الفرادة، هكذا يتم طمس النص، ومزاولة فعل الاحتراب نحو المصطلح، عبر محاورة معايير صماء.

3- يرى الكاتب العراقي” محمد صابر عيد” أن الحداثة الشعرية الآن ماهي إلا حداثة شكلية في الايقاع والوزن، وليست حداثة حقيقة في المضمون، فماذا يعني التجديد في الشعر العربي الحديث؟

ان الحداثة الشعرية التي يراها الكاتب “محمد صابر عيد” شكليه في الايقاع والوزن، وليست حداثة حقيقة في المضمون، ما هو إلا اجتهاد نظري صرف، يعبر عنه ويختص به، بالرغم مما يمثله هذا الاطلاق النقدي من دليل مؤسف على حجم التعمية والتضليل التي يحلو للاجتهادات النقدية العربية أن تطلقها بعمومية غير مسؤولة اطلاقاً.

اذ اننا عندما نتحدث عن الحداثة الشعرية العربية فنحن لا نجنح نحو رصد كل هذه الفوضى الراهنة المسماة شعراً أيضاً، والتي تنهال بمجانية تامة بفعل التساهل الخطير في صحافتنا الثقافية، ودور النشر، لكننا عندما نتداول مفهوم الحداثة الشعرية فنحن نقف أمام أعمق التجارب الملهمة للخلق الفني، ولتأصيل الرؤيا الابداعية المغايرة، نحاور ندرة من المواهب الشعرية العربية التي استطاعت أن تدوي بحداثتها الابداعية، بفرادة وتألق لتشهد لها مرتكزات الابداع في عواصم العالم لا في عالمنا العربي وحده، للأسف، هكذا نسرف في التسويف بمنجزنا الابداعي الوحيد أمام العالم كله، وكيف لنا أن نصف تجارب أهم الشعراء العرب بحداثة شكلية في الايقاع و الوزن وليست حداثة حقيقية في المضمون.؟

4- في ظل التغيرات ومستجدات العصر الراهن، وفي ظل مآسي وجروح الجسد العربي، ما هو الدور وماهي الرسالة التي يجب أن يضطلع بها الشاعر في الوطن العربي؟

– عندما نتفق على كون الابداع رؤيا إنسانية بشمولية لاتحد، فنحن نستثير مدى تأثير هذه الرؤية، ومدى انشغالها بملمات الحياة، التجربة الشعرية تبدأ من الجسد حتى آخر الهواء، رسالة النص الشعري لا يستهان بها بالذات لحصولها على طاقة تعبيرية خطيرة تتمثل بقدرتها على اختراق جسد وروح الآخر، التأثير عليه عبر محاورته، استثارة صمته، الشاعر فيما يكتب النص، هو يحيا أيضاً في وطن يدغمه في محنته، ليكتب عليه أن يحيا مثل لنصه المثخن بطاقه هائلة على التغيير، لصوته أيضاً كمثقف قدرة على المحاورة، إيصال دفوعاته عن قضاياه، مكتسباته وحقوقه الإنسانية، المسألة كما أراها متكاملة ومتداخلة لأبعد حد، آن لنا أن نغادر المفاهيم التي روجت لها الرؤى المجدبة عندما راهنت على تحييد الشاعر عن مشاغل وطنه، عن نبض حياته، عن نهضة صوته، عبر اغراءه بهذا العزل والتحييد كشرط لاكتمال تجربته، للموهبة عزلتها البهية، محترفها المترف، الوحيد المحصن بها، بعيداً عن الآخرين حين الكتابة، لكن للشاعر كمثقف قدرته النقدية الملغومة بطاقة الرفض والمغايرة الأزلية التي يتحلى بها لإحداث ما يراه من تأثير بالغ في حركة الثقافة.

 

أزمة الشعر العربي

جريدة الخليج

الإمارات العربية المتحدة

1-أزمة الشعر العربي، هل هي أزمة نقدية ثقافية أم أزمة جمهور؟

– بعيدا عن تداول تعبير “أزمة” الذي لا أحبذ استخدامه، أرى بأن الإبداع على مر العصور كان ولم يزل يشكل خط الدفاع الأول عن حرية الكائنات، لذا صار يفتش عن حرياته المتمثلة في النص الإبداعي ويعمل على تكثيف طاقة المواجهة التعبيرية والفنية لديه ضد كل مصادرة يتعرض لها الإنسان بشكل عام، في تجربة الإبداع العربي ماضيه وراهنه، لا توجد إشكاليات تتعلق بتفرده أو بحضوره كمنجز فني، ولنا أن نسأل: بماذا تحتفي المؤسسات الثقافية الغربية من نتاجات العرب الإبداعية؟ هل تحتفي بالمنجزات العلمية أوالاكتشافات التقنية أوالفكرية والنقدية والفلسفية، تلك المؤسسات تستضيف وتترجم وتحاور الابداع العربي بما يشتمل عليه من شعر ورواية وتشكيل وموسيقى، وغيرها من الفنون التراثية والمعاصرة، لكونها المنجز الوحيد الذي أتقنه المبدعين العرب وهنا أشير للأبداع المتفرد والمتميز الذي استطاع أن يفرض فرادته على الآخر، أعود لمحاورة ظاهرات- مثل غياب النقد الذي اجزم بحصوله، وأيضا ندرة التلقي والتواصل مع التجارب الإبداعية، وغيرها من المصائب التي حققتها ثقافة الاستهلاك نحو الواقع الثقافي العربي المتأسس على جملة من الانهيارات القيمية والرؤيوية ضمن الصعد المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تجلت في سيادة الاستبداد بتلاوينه، سيطرة الثقافة الواحدية، انعدام حقوق الإنسان وحرية الإبداع والبحث العملي، غياب دولة المؤسسات والقانون وما يستتبعها من مكونات المجتمع المدني المتحضر المشتغل على لغة الخلق والإبداع والمحاورة مع الآخر، لتحقيق الشراكة في صناعة العالم، مما أدى لتخلق واقع استهلاكي شمل حياتنا بأكملها، ضمن اقتصاديات غير منتجة، إرادة سياسية تابعة، ضمن هذا المناخ لابد للإبداع المنشغل بدفاعاته وبتميزه الفرداني أن يجد أمامه صعوبات بالغة في عملية التواصل والآخر، هذا الذي تم إشغاله وإلهائه بالابتذال الاستهلاكي السلعي والثقافي عبر سياسات إعلامية قائمة على التجهيل المستمر.

2- هل أنت من أنصار القائلين بأن الشعر لا بد أن ينحصر داخل اهتمامات النخب والخاصة، بدلاً من كونه شأناً جماهيرياً؟

– أنا من أنصار الورقة والحبر والحروف، نصيرة عمياء للشعر وحده، وللآخرين حرية الانتصار لما يشاءون، أن يكون الشعر شأناً جماهيرياً أعتقد بأن هذا المفهوم الديماغوجي أتقنت تسويقه سنوات حمى الشعارات، عندما كان الشاعر يستند لترويج قصيدته النارية على سيادة الحزب أو قوة المؤسسة الأدبية، يحارب بشعارات لفظية غير معنية بالشعر، عندما كان الآخرين من الدعاة يسندون ضجيجه بالتصفيق وحماس الهتافات، حيث لا صوت يعلو على صوت المعركة التي رفعت راياتها المهترئة مبكراً، أما فيما يتعلق باهتمام النخب فهي مسألة متاحة لهم بحرية وتندغم ضمن ذائقيتهم الفنية،

أراني معنية بالكتابة وحدها.

3- ما هي أبرز أسباب وبواعث تأزم التداول الشعري بين الجمهور؟

– بالإضافة لما سبق أن نوهت إليه من تداعيات الاستهلاك الثقافي الذي دمر كل شيء، أسأل بدوري: هل هناك تداول جاد للكتاب الإبداعي العربي خارج كتب الطبخ والفضائح والأدلجة بتنويعاته العقائدية والفكرية، هل ثمة متابعة للمسرح أو للموسيقى أو للفن التشكيلي، مسألة التواصل بين الناس والعمل الفني لا تتعلق بالشعر وحده، المسألة مرتبطة بمجتمع قائم على ترويج ثقافة استهلاكية بلغت من الهشاشة والانهزام إلى حد تعالي اهتمام عارم لتسييد الجهل في كل وسائلنا الإعلامية ومؤسساتنا التعليمية، أمية لا تنحصر بمدلولها الثقافي بل المعجمي اللغوي، محو الهوية، وإلا كيف سوف تنجح المؤسسات الصناعية الغربية برساميلها الطاغية في إعادة تدوير عائدات النفط وتسترجع مدفوعاتها من هذه الشعوب أن لم تسيطر على رغباتهم الاستهلاكية وتديرها لإشعال حمى التسليع ولا شيء سواه؟

كيف تتقن ذلك الانتهاك لسيادتهم، أن لم تمحو فكرهم وإرادتهم، تاريخهم، أن لم تدمر ضميرهم الإبداعي؟، لذا يشكل إحلال الثقافة الاستهلاكية إحدى أهم المرتكزات لإلغاء ذاكرة الشعوب، تغييب “الجمهور” ضمن اهتمامات غير جادة وبعيدة عن تحدياته الإنسانية والحضارية.

4- هل ترين أننا نعيش في زمن الرواية حيث يطغى هذا الجنس الأدبي على حساب الشعر؟

– نحن نعيش في زمن الاحتلال العسكري المباشر للأرض وللشعب، سواء عن طريق غزو الجيوش الأمريكية أو عن طريق انتشار القواعد العسكرية أو ارتهان الشعوب والحكومات العربية للاشتراطات العدوانية، لا زمن الرواية ولا زمن الشعر، كل الأشكال التعبيرية تتجاور وتتحاور بحرية، بينهما يتقد التفرد والتميز الفني ولن تأتى الرواية على حساب الشعر، ولن يأتي الشعر على حساب الرواية، لكل منهما حقلاً متخصصاً متميزا وقراء ينعمون بذائقية فنية متفاوتة، لكن الاحتلال هو من يأتي على حساب حريتنا وكرامتنا واستقلالنا.

5-الأزمة التي يعاني منها الشعر، هل هي إيذان بموته؟

– للأسف الشديد، صحافتنا الثقافية لم تزل تعمل على تداول مفاهيم لا تمت للإبداع بصلة، ما أن تستثار هذه المفاهيم في صفحة ثقافية ما، حتى تستشري في بقية المنابر، كأنها عدوى تستفحل وعلى الشعراء العرب مكافحتها دوماً، أسال بدوري: كيف يموت الشعر العربي؟ الشعر الذي تم تدوينه منذ الجاهلية أو الشعر راهننا الذي يتصدى وحده، بمعنى آخركيف تموت الحياة؟

إذا اتفقنا على تماهي الإبداع بالحياة ذاتها وتحديداً الشعر، نصل لماهيته: الدفاع عن قيم الإنسانية والحرية والعدالة ووحدة الاختلاف، كماهية وصيرورة الحياة ذاتها، الحياة هذه المدافعة الشرسة، عن نقاوة الأرض وبراءتها، ضد ما يحدثه الشر الكامن في البشر من حروب وتدمير وقتل ودخان كل نهار، ما يحتضر ليس الشعر لكن هذه الحضارة العربية التي كانت.

 

الكلمة من أجل الإنسان

مجلة بانوراما – البحرين

1 ـ حين تكتب فوزية السندي قصيدتها. كيف يتسنى لها هذا الفيض من الكم اللغوي حتى تصل الى بؤرة الحالة الشعرية؟

عند الكتابة ثمة استعداد فطري يحرض المخيلة لتمد اليد بما تستهويه الروح من كلمات قادرة على تجسيد الحالة النفسية لتتخلل الصورة الشعرية بنشيج الخفايا، وتلعب القراءة – بمعنى محاذاة ابداع الآخر كتابة أو تعبيراً فنياً كتشكيل اللوحة أو هيام الموسيقى نعمة الاستغراق في تقصي الدلالات الإبداعية – دوراً في شحذ المخيلة ومدها بمعين لا ينضب من الصور الفنية والعلائق التأويلية لإثراء اللغة، وهذا ما أطمح لتحقيقه، لئلا أنساق لنمطية اللغة التعبيرية ومراودة ذات الكلمات.

كذلك تشكل الحياة شلالاً من الدفق التصويري يسعف المخيلة التي لا تنسى أن تخزن كل ما نتعرض له من ملمات لتتحول على الورق إلى كلمات تشكل طريقاً آخر أقل تعثراً وحياة أخيرة أكثر رحمة.

2- كيف ترين وضعية الثقافة عندنا، وهل لك تصوراً ما لمعالجة هذه الوضعية الثقافية؟

الحركة الثقافية معيار حضاري لحال الأمة ، فازدهار الفعل الثقافي يعكس طبيعة المجتمع الذي يقدر شأن الفعل الإبداعي و يحترم عطاء و حقوق مرتاديه ، حيث تتوالى الأنشطة الفنية ، المعارض التشكيلية ، العروض المسرحية و الموسيقية ، كذلك تقوى المؤسسات الأدبية و الفنية في تقديم أدوارها المتفاعلة مع الحراك الثقافي ، تنتشي حركة النشر و حرية التعبير ، ليصل صداها إلى الصحافة الثقافية التي تعبر عن الزخم المتمثل في الحياة الثقافية ، هذا ما نشهده عبر متابعة أصداء العواصم العربية و الغربية التي لا تفشل – كغيرها – امام تحد حضاري كهذا .

ولكن هنا وما وصلت إليه (حالة) الحركة الثقافية يعبر عما يتداعى منذ سنوات طويلة، كحصاد للتصدع العام، بالرغم من محاولات رفقة من المبدعين استطاعوا طيلة تلك السنوات أن يؤجلوا هذا التداعي على صعيد العمل المؤسساتي على الأقل، والأهم من هذا كله استمرارهم وفعل الكتابة الإبداعية، رغماً عن العنف المضاد تجاه تجاربهم التي تحظى بتقدير من الأوساط الثقافية في الخارج والتهديم المستمر من الداخل.

يبدو حال الثقافة وتدهور فعلها شأناً ينسجم وتصاعد الانفتاح، تبعية السوق لرأسمال عالمي لا يكف عن النهب، المد الاستهلاكي والأرت الماضوي وعموم التراخي تجاه كل جهد فكري، ذلك للانحياز العام تجاه التسالي وكرة الرأس لا القدم وحدها، بالإضافة لنبذ العقل وشغر فضاءه بالقنوات وحدها.

أمام حال كهذه صعب أن تطلب الصعب من طاقات إبداعية جل ما عليها تخليق تجارب فنية جديرة بهذا الوطن، وهل يستهان بهذا الجلل؟ ولكن الأصعب يصل عند ادانتها وتحميلها مسؤولية ما يتردى.

يرتهن النهوض الثقافي بنهوض (واقع) مجتمعي يعي أهمية وحتمية الثقافة كرهان حضاري لا على مبادرات فردية – وهنا لا أقلل من شأنها وأهمية اضطلاعها بدورها الريادي – ولكن الحوار بصدد نهوض ثقافي يعم الوطن بكل تجلياته.

3- تنوعت الأساليب الأدبية، وكثرة الأسئلة حول كل إرهاص يحط فوق هذه الساحة الأدبية عندنا في البحرين، فأين موقع المجازفة والمغامرة عند شعراؤنا حيال بقعة الضوء؟

منذ البدء و (الكلمة من أجل الأنسان) شكلت التجربة الشعرية في البحرين انحيازها العارم لأسئلة المستقبل، لم تسقط في مهلك التقليد، وطحن ذات الدقيق، واجهت سمو السنابل لتتعرف على ذهب القمح، لذا اقتحمت أشكالاً وأساليبا تعبيرية متنوعة الأصداء، فصدور كتاب شعري يعني بالضرورة طباعة تجربة شعرية تختلف عما سبق له النشر، وما عليك سوى تداول المنجز الشعري لتتحقق من موقع المجازفة والمغامرة حيال بقعة الضوء، كم كانت عسيرة.

4-أحياناً نوغل في الشطط والتجني على كل حركة أدبية تأتي مزاملة لنا، متناسين بعدنا المتعجرف في لم هذه الحركات واحتضانها، فكيف ترين صحة هذا المثلبة؟

ثمة خلل ينتاب هذا المثلب، أولاً المبالغة بشأن تزامل حركات أدبية وكأننا نحيا في متسع جغرافي يتعدى هذه الجزيرة ليأوي حركات أدبية، ثانياً يحتمل هذا المثلب تعابير لا تليق به كمثلب يسعى لطرح إشكالية (رعاية واحتضان) المواهب الأدبية الجديدة، وهنا لا أعول كثيراً على محاورتها آن صدورها من منطلق حساسيات شخصيه وحسابات فردية تتوهم التجني، ولكن أرى أهمية تواصل التجارب الجديدة وذاكرتها الأدبية، ما سبقها من نتاج إبداعي.

يوازي هذا اهتمام الكتاب الذين رسخوا موهبتهم الأدبية بمتابعة نتاج هذه التجارب والتعرف على مشروعها الجديد.

لكن لابد من تشكل التحدي بين الموهبة وذاتها، هذا التحدي الذي يفترض رفضها لأي (احتضان أو رعاية) عدا احترام حضورها، وحقها في التعبير وفق ثراء الموهبة، لا مديح المداهنة من قبل الآخرين الذي لا يقل عنفاً عن قسوة تسمى نقداً أيضاً، لما لهما من شأن تدميري، مخرب قد لا تقوى عليه موهبة لم تشتد حصانتها بعد.

أرى أهمية التعامل بحذر من قبل الكتاب تجاه المواهب الجديدة – ما أراه الغالب لدى الأغلب – قراءة العمل وإبداء الرأي بتوجيه ملاحظات عامة قد تستفيد منها الموهبة، حيث من الصعب إبداء رأي أخير تجاه موهبة جديدة في طور التخلق، لا توصيات ولا نصائح، لكل تجربة فرادتها التي عليها اكتشافها من خلال الكتابة لا الوصاية، المفارقة ان بعض المواهب لا تقبل بهذا المنحى الذي يحترم حريتها واستقلالية عطاءها وتنتظر كالضرير (من يأخذ بيدها).

5- الشباب براعم الحركة الأدبية الجديدة، يشتكون من قلة النقد، ومن لم الشمل، فما هو رأيك؟

ليست وحدها البراعم من يفتقد للنقد، حتى الأشجار التي تداوم على الكتابة والنشر لا تراه، اما (لم الشمل) فهناك أسرة الأدباء والكتاب، بالرغم مما تتعرض له من صعاب، فلا بديل آخر جدير بالحركة الأدبية سواها، ولكن هل لي أن أسأل البراعم: لماذا يبتعدون كثيراً عن هذا البيت، ثم يتكدرون بالشكوى من لم الشمل؟

6ـ لو قلت لك كيف تقرأين الساحة الأدبية عندنا، ماذا تقولين؟

أقول برغم التجاهل والجهل المستبد، تتنامى في الساحة الأدبية عطاءات إبداعية هامة تشكل رافداً لحركة الأدب العربي وهذا ما يتلمسه المتابع من احتفاء بتلك الأسماء الأدبية، هناك مواهب وإلتماعات جديدة تواصل حفر مسارها، كل هذا مع افتقاد هذه الساحة للعديد من المؤثرات التي تثرى الحركة الأدبية، كدعم وتفعيل المؤسسة الأدبية، مساحة للكتابة دون التعرض لسطوة المقص، توافر امكانات للنشر لا ترهق رزق الكاتب، حفظ حقوق المؤلف حقاً لا على الورق، إيجاد منافذ لتوزيع الكتاب المحلي محلياً على الأقل.

7- كيف تجسدين معاناتك وتربطينها من وضعية الهم الخاص الى الهم العام في رؤية شعرية؟

من الأوهام التي عمت تجربة الشعر العربي بالتحديد خضوعها لدرامية الثنائيات التي لا تنتهي، من الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الشكل والمضمون، إلى آخر القائمة، وذلك لتفنيد الشعراء كل حسب خانة النقد، في حين تصوغ الرؤية الشعرية جماليات النص الأدبي بمعزل عن هذه التعارضات.

الشاعر كائن يحيا الحياة على أرض تمده بكل ما يعتريها من قسوة تؤسسها حضارة الحرب.

الكتابة لغة تعبيرية عن طريقها يتصل الكاتب بذاته ليتعرف على ما يضنيه، لذا تتخلق الصورة الشعرية بمعزل عن وهم التضاد بين (الخاص والعام) لكونها تجسد ما يفيض في أعماق الشاعر من ألم التكوين وتعبر عن حساسية اتصاله بعالم شرس لا يُحتمل لما يشتعل فيه من هوى التدمير، لذا لا لتعسف الفصل بين (الذات والعالم) هناك التحام بين الشاعر والحياة لا مفر منه لتخلق الشعر، الحديث هنا يطال الإبداع لا النظم أو التدوين.

تتجسد هذه المعاناة في رؤية شعرية عندما تتجمر بالفعل في ذات الشاعر، لا عندما يتم تصنع حضورها، حينها يسقط الشعر وتظل الحروف بلا روح على الورق.

هكذا أرى السؤال، وأتوق للقدرة على تقصي نص شعري يتقد بما أراه والحياة تمضي.

8- يقولون إن الرواية قصيدة العالم العصرية، فكيف ترين صحة هذه المقولة؟

دائماً كانت الأشكال التعبيرية تتزامن و تتقاطع لاكتشاف قدرتها على ترجمة مشاعرها المصابة بوقتها الراهن ، كل فن يتطور لمجايلة المتغيرات التي تعصف بالذات ، لذا تم انتقال الرواية من النمطية الحكائية المتشبثة بإلزامية المكان و الزمان ، الحبكة ، مقتضيات السرد وغيرها من التقنيات التي تصادر حرية الكاتب المعاصر في تدشين تجربة روائية تلبي تشظي ذاته أمام سقوط الحلم و تعثر الأمل ، لذا جاءت التجارب الروائية الجديدة بقدر حميم من استنزاف مقدرات الذاكرة ، لتغدو الرواية عالماً مشحوناً بكل عناصر المقترحات الفنية ، جاءت فضاءاً قابلاً للتعامل و قارئ جديد يتعرف على هذه الاحتمالات .

كما تشير الناقدة (يمنى العيد): (الخطاب الروائي يستجيب بتطوره وترقيه للتعبير عن تعقدات الحياة المتزايدة، ولخلق عالم متخيل قابل بطبيعته التخيلية لأن يتفاوت فيه الكلام وتتعدد أصوات المتكلمين وتختلف رؤاهم وانماط تشكلها لتستوي بنية صراعية أو بنية تكاملية منسقة.)

متغيرات كتلك لم تقتصر على الرواية وحدها ولكنها تبدت في الشعر والقصة والمسرح والفن التشكيلي، ولكن على صعيد الرواية تزامنت واسهامات عربية ملفتة، كذلك نهضة الترجمة لنتصل بأعمال روائية حداثية هامة، استرعت وطغت على اهتمام القراء، مما دفع محبي التكهنات وإثارة طواحين الإشكالات لترديد مثل هذه التوقعات: انتهى زمن الشعر، الرواية ديوان العرب وإلى آخره.

الشعر ماس يتبلر من عتمة الروح، كالفحم تماماً، له صيت النار، ما يظل متقداً، بئراً للبوح شديد الغور، غير قابل للنفاذ، دام هذا الكون يحتمل كوكباً يشبه الأرض.

9- عندما يقدم لك النقد، وتكون اللغة السلبية هي الطاغية على لغة نقده لك.. كيف تفعلي حيال هذا النقد؟

لا أفعل أكثر من قراءة طريقة تعامله والنص.

10-عبد الله خليفة أجرى و لا يزال يجري بعض اللقاءات مع الوجوه الشابة عندنا في البحرين.. تركز على هموم الكتابة الشابة والموانع التي تقف حيالها.. وأكثر الشباب يشكو الوحدة، وقلة اللقاءات والندوات، ويعتب على المهتمين بالأدب، لكونهم بعيدين عن هؤلاء الشباب، فكيف ترين وتفسرين لغة الأدباء الشباب وهمومهم؟

سبق أن تحدثنا في جوانب تتصل بذات السؤال، إن الشكوى من قلة الأنشطة الثقافية لا تنحصر في الكتاب الجدد ولكنها تكاد تكون ظاهرة عامة تنتاب كل من يحرص على استنهاض الواقع الثقافي في البلاد.

اما حول (العتب) على المشتغلين بالأدب لابتعادهم، سأكتفي بدعوة من يعتب للاجتماع الأسبوعي في أسرة الأدباء والكتاب ليرى من يشغل المقاعد ساعياً لتحقيق اللقاء، من غير المهتمين بالأدب؟

من يشتكي نادراً ما نراه.

11- كيف تضع الشاعرة فوزية السندي قصيدتها؟

لا أعرف كيف؟ ما أن أبدأ الكتابة تأتي القصيدة وحدها، كنورس لا يمل البحر أراها تستوطن مكيدة الورق، فأعرف انها هنا.

12- من خلال تجربتك الطويلة في التعامل مع الشعر، هل تستطيعين أن تضعي رؤيتك حول هموم الشعراء والقصيدة الشعرية في وطننا العربي؟

هل أستطيع ذلك؟

ان وضع رؤية حول هموم الشعراء في الوطن العربي وكذلك هموم القصيدة الشعرية في الوطن العربي أيضاً، تتطلب وهماً بذلك.

13- ظاهرة الشاعرات عندنا في انحسار ماعدا بعض الوجوه النسائية ممن يكتبن اللغة العامية والنبطية، أما مجال القصيدة الفصحى فمن الملاحظ انحسار ملحوظ، كيف ترين هذا الانحسار ولم ترجعين ذلك؟

كتابة المرأة للشعر لا تشكل (ظاهرة الشاعرات) انما تجربة فنية وإنسانية تعتمل ليكتمل المشهد الأدبي، تجربة تضاف للإسهامات الأخرى، بالفعل هناك عدم تواصل من قبل الكاتبات وحديثي يتعلق بالكتابة الأدبية لا العامية أو النبطية، أميل لتعبير عدم التواصل على تعبير السؤال (انحسار) فالحركة الأدبية البحرينية لم تشهد زخماً وكتابة المرأة لتنحسر الآن، هناك تجارب بدأت باندفاع وعبرت عن حضور موهبة متألقة، البعض لم يزل يكتب والأغلب فقد التواصل والاستمرارية.

فيما يتعلق بالمسببات، فمن الجائر أن نستكين لأسباب محددة لأن المسألة تبدو أشد تعقيداً، تكاد تشكل ظاهرة عربية في كتابة المرأة بالذات، فالتحديات هنا لا تخضع لطبيعة الكتابة الجديدة ومتطلبات التجديد من مثابرة على ممارسة الهم الإبداعي، لكنها تتجاوز ذلك لتصطدم بمنظومة فكرية إرهابية تكبل حريات التعبير وتتضاعف تجاه المرأة – ضلعها المعوج – أضف على ذلك عبء العائلة والعادات والتقاليد التي ترى عورة الصوت فما بالك بوعر الكتابة.

14- حنجرة الغائب، تداخلت الرؤى الكثيرة لهموم الشاعرة من خلال قصائد الديوان ووقف الغائب في حظوة التيه، فهل للشاعرة أن تدخلنا ولو بصيصاً في فك حلم الغائب؟

بعيداً عن التباس السؤال فيما يتعلق (بتيه الغائب) و (فك حلمه)، جاءت تجربة (حنجرة الغائب) كتعبير لمدى الاغتراب الذي نقع تحت وطأته، كلما حاولنا مشافهة الذات وكتابة ما يحتدم من رؤية إنسانية.

هذه الكتابة حنجرة لا تزعم القدرة على نحت الصوت ليشبه كلمات تسعى إليها القصيدة و لكنها حنجرة حاولت أن تشبه صوت امرأة أخرى ، غريبة ، مغتربة عنها و تلوذ في أعماقها ، فهي حنجرة الكاتبة الغائبة لا الحاضرة ، و بعيداً عن خلل تاء التأنيث أو تاء التذكير التي لم تكن تعنيني بقدر عنايتي بالتعبير ذاته جاء الكتاب معنوناً بالغائب ، فهي كتابة أردت من خلالها التعرف على البعد الملغي في ذاكرتي كامرأة عربية و المتحفز للبوح في آن ، لأنها حنجرتي .

 

فوزية السندي: جسدت توازن قصيدتها بتناغم ثراء مفرداتها

كتب: سعد الدغمان
٢٦ أكتوبر ٢٠١٩

نسجت حروف قصائدها بأسلوب خطابي جميل تأخذك من خلاله لتكرس أسلوبًا شعريًا محافظًا على تكوين النص الشعري، منطلقة من رصيد معرفي وتاريخي مثلته الحركة الشعرية البحرينية على طول مسيرتها، فهي حركة رائدة زاخرة بزخم ما تتوافر عليه من الموروث الشعري، كما تنقل ألق ذلك الإبداع بمضامين ما تكتب. ضمنت أبياتها تصورات عدة كانت بمثابة صور شعرية كثفتها بتفخيم مفرداتها التي يحسها القارئ مرئية حين قراءتها، تناقلت بين الواقع والخيال لترسم بعبير كلماتها لوحات مختلفة تركن إلى الواقع مرة وإلى الخيال مرات. مازجت السندي بين الرؤية والانسجام، فأنتجت جنسًا متأنيًا حملته نصوصها، وتركت تجربة مغايرة لما موجود على الساحة الشعرية في البحرين، فاستحقت التميز.
قدمت الشاعرة فوزية السندي توازن بنية قصيدتها التي جاءت متناغمة مع ثراء مفرداتها، واستخدمت صيغ التجوال في فضاءات القصيدة معتمدة على ما تملكه من طاقات إبداعية في استخدام عناصر تكوين النص، والزخرفة اللغوية وما توفره الصورة الشعرية من ألفة في نفوس القراء. عمدت من ذلك إلى استخدام مغاير لكل المفردات المطروحة كصيغ خطاب متجاوزة إياه نحو كل ما يثري قصيدتها حتى الغرائبية منها لتسجل سبقًا ربما في القصيدة الحديثة.
لصمت البحر.. أنتهر الموت
لظل الضوء.. أنتحب الحب
بعد عناق قليل على رجة القلب
ارتميت بهدوء رملة على غدر مساء كاد كالقتل
محتواة بقميص أزرق
يتمرأى بشعر يتهاطل بمودة الغريب
بشفتين تعتزمان نحر سواقي الخجل
تهجيت جسدًا لا يداري هيجة البحر
جسدًا لا يهدأ ولا يمل من نهل صيحة الحب
استخدمت مفرداتها اللفظية واللغوية ووظفتنها لتضفي التماسك المطلوب على نصها، ولكيلا تبتعد عن رسم الصورة الأدبية بنمطيتها المعتادة. كما جاءت بالمفهوم التقليدي بتركيزها على مفردات لغوية مغايرة شكلت قصيدتها كوحدة متكاملة ينسجم فيها الشكل مع النص، وداخلت في النصوص الشعرية التي قدمتها مع التخيل أو الرمزية باستخدام صيغ المجاز، ولتشكل منها تناغما متناسقا للبنية التي قدمتها بحبكة مغايرة لما تنقله من صورة شعرية، كما أن تصاعدية الحدث في شعر السندي أضفى بعدًا آخر على شكل قصائدها، ولتبتعد من خلاله عما قد يوصف بالتكرار. جاءت بالوصف حينًا، وحينًا آخر مازجت بين الرؤية والانسجام مستخدمة التفخيم اللغوي الذي كرسته بأبياتها لتجسده صورًا شعرية في نفوس قرائها.
تلاهينا بصمت الموت
دون هواء واحد.. استقوى،
على خنق عناء الشهيق
لنحترق وحيدين معًا
حدقنا.. ضدنا،
لنلتئم معًا.. تمادينا نحونا
لننتهر معًا.. وميض هزيمة تقترب
مغتالة بغرابة عينين طافيتين بألم عميق
عميق كبئر.. لم يبق لي إلاّ
دمعٌ يتحدر بضراوة اليتم
آهات كتومة تؤجل أضرحة الليل
شهوة تدشن حبري بحب نادر
امرأة متروكة لسخاء الحسرة
لا تعرف ولا تدرك
قدّمت السندي بلاغة فنية في قصائدها، أرادت من خلالها أن تظهر المخزون اللغوي العميق في داخلها وتحولها إلى تجسيد فني يبهر القارئ، ويشعل لديه الرغبة في مواصلة القراءة بصورة أخاذة آسرة تحيطه أسوار بلاغة المفردات وفنية ما كتبت. وظفت الغائب، وجسدت القريب، وأعطت كل عنصر من عناصر التكوين مكانته والحيز الذي يتلاءم وماهية ذلك العنصر بدقة، فرسمت بكلماتها لوحات شعرية لا يجيدها الرسام الحقيقي، جاءت بمواضيع فلسفية أكثر مما أفردت للفلسفة من مجال في نصوصها.
ما يحدث لها من غريب العبء
كأنها تستعصي..
لتثق بوفير حب يتلاهب
به، تغاور حتم المهب.
جالسة نحو رمل يهديها خرس القواقع وعنف الغياب
أمامها البحر الوارث صخب أشرعة تغتر،
بصعب صوار تتكسر،
تتساهى عنها،
لئلا تسهى عنه
ذهبت لتكريس البدائل كثيرًا حتى طغت على قصائدها ومعانيها، لكنها أتقنت ذلك الاستخدام، فخرجت لوحاتها الفنية التي رسمتها بتأثير انتقاء الحروف قصائد رائعة حملت المعنى والصورة كشكل واحد للتعبير. كتبت في كل أشكال الشعر ومعانيه، حتى أخذ عليها في بداية إصدار ديوانها الأول «استفاقات» أنها ذهبت للوصف أكثر من غيره لما ضمنته من معالم ما يحيط بعالمها القريب، كما يؤخذ عليها أنها ذهبت باتجاه توظيف الجسد في لغة الحوار دون قصد، وإنما كان ذلك ما تفرضه عليها سياقات كتابة القصيدة والأجواء التي تحيطها.
أمعن قليلا في الحكاية لنراك
جسدا مشظى
موغلا في تماس الشظايا
لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق
جسدان امتطيا حلمة الزلزلة
وتناهبا في غيوب الطريق
في احتفالات الجسد
كم كنت قريبًا
يخال لي وأنا أقرأ لـ«فوزية السندي» أن أرواحا تتعقبني، تظهر من ثنايا أبياتها لتنشب اضفارها بي، لقد أخافتني مفرداتها جدًا، فهي عميقة الأثر، غائرة المعنى، دالة على كل شيء، وأي شيء، وكل الحب، وجل العنف والخديعة، رائعة فوزية في كل كلمة سطرتها على أرفف تلك القصيدة الغامضة، مثل جريمة اكتنفها الغموض، ولا نعرف لها حلاً.
فأي فرح ذاك الذي يغرق، وأي زلزلة يمتطيها جسدان، وأي احتفالات عنتها السندي بالجسد، ثم من ذا الذي كان قريبًا؟
إبهام متقن ينم عن دلالات مقرونة باليقين الذي إن أمسكته تلاشى وراء الجسد الذي تشظى.
رأفة بحتف حب قدير ببهجة التوق
يتقدم نحوها
تدير عينيها لمهالك لا تراها
بحر جاثم بمرايا تزرق من خجل جثث تتأوه
خلفها العالم كله، يستبد بعناد قذائف تتعدد
لتتناسى كل هذا الجحيم
تلتحم بحب فاحش، يتهامى بوجل غريب
حب، لينشحذ كمدية تفغر نواهي القلب
ينثال شيئا.. فشيئا
وينحر عبء الوريد
فوزية تترك بصماتها على واقع الشعر العربي، بل الساحة الأدبية العربية بشكل عام عبر ما خلدته من بوح يطوي صفحات التأويل، ويكرس لعالم آخر يمتلك القدرة على التعبير بتركيز فني وبلاغي، حازت فيه قصب السبق على غيرها لتميزها فيه، وقدرتها على المنافسة الحضارية بتألق. أبدعت فوزية السندي بتضمين المتغيرات، وبلاغة المتناقضات، فجاءت قصائدها لوحات إبداع تحمل من الفنية ما يفرض وجوده وبقوة.
«أسرحتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة
لأرى حوافر الريح برقا، أراها
تشطر في دماء الخلق
اقتراب وغربة منذ البدء
غزالة تفر نحوي
حافلة بأحجية تتهيأ
فاحتملت
كان فضاء القصيدة جبا
مقروءا بأصداء المذهل
والليل يفضح أسرار الحبر
ويستدير
ما من وحشة وتشد الصوت سجادة
أمعنتك في بياض الشقوق عشبا
وانحدارا يفضي إلى خندق الكلمات.
صوت في البرد
واحدس كالطيف بألوان القوس
في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل
كما للوقت ظلال السنديان
للهذيان رجرجة الأفق
أزين انطلاقة الجحيم في شكل يتداخل
في ظلي
فأرى بياض السماء قوافي تسرجني
في ملهاة النعش.

 

قبلت الأرض وعاهدت البحر ألا تخذله

في أمسية السندي الأخيرة… شمعة بلون احتفالات الجسد
الشاعر جعفر الديري
12 مايو 2017

في نفس شعري يوغل في الجماليات أحيت الشاعرة البحرينية وعضو أسرة الأدباء والكتاب فوزية السندي مساء الاثنين 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بصالة الرواق للفنون التشكيلية أمسية شعرية قرأت فيها مجموعة من قصائدها الجديدة.
قدم للشاعرة الشاعر البحريني وعضو أسرة الأدباء والكتاب أحمد العجمي الذي عرض للسيرة الشعرية للشاعرة وللمحطات المهمة في مشوارها الذي بدأ منذ العام 1982 بديوان «استفاقات».
عرض العجمي للشاعرة فذكر أن «الشاعرة فوزية محمد عبد الرحمن السندي شاعرة حداثية وهي عضو أسرة الأدباء والكتاب في البحرين ساهمت في هيئة تحرير مجلة «كلمات»، كما ساهمت في هيئة تحرير مجلة «البحرين» الثقافية وساهمت في الكتابة الأدبية ضمن عمود أدبي تحت تسمية «صوت» في الكثير من الصحف العربية».
وتحدث عن مشاركاتها بقوله: «لقد شاركت السندي في الكثير من المهرجانات الشعرية والكثير من الملتقيات الأدبية، وهي: مهرجان أصيلة الشعري في المغرب العام 1987 – مؤتمر الابداع العربي في ليبيا العام 1988 – المهرجان الشعري لأندية الفتيات بالشارقة العام 1989 – مهرجان الخنساء الأول للشاعرات العربيات في عمان 1999 – مهرجان سوسة الدولي في تونس 1999 – مهرجان المتنبي الشعري الأول في زيورخ العام 2000 – مهرجان الشعر في معرض الكتاب الدولي في بيروت العام 2000 – مهرجان الشعر العربي الدولي في غرناطة العام 2000 – مهرجان الدوحة الثقافي في قطر العام 2000 – مهرجان الشعر وحوار الحضارات في باريس العام 2000 – مؤتمر المرأة والابداع في القاهرة العام 2002 – مهرجان ربيع الشعر في معهد العالم العربي في باريس العام 2003 – اضافة الى عدد من الأمسيات في البحرين. هذا، بالإضافة الى ترجمة بعض أعمالها الى اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية والألمانية والاسبانية والايطالية».
وبصفته متقصياً لبعض ملامح اصداراتها قال العجمي: «شمعة فاتنة كلما ترامى لها الهواء ترامت كعذراء صعبة» من ديوان «رهينة الألم». «وقتما تنضج جمرة الشعر تتفتح وردة بلون احتفالات الجسد، لتمنح أسرارها لقلب يورق برايات وشهوة وصاياه» هكذا كانت مشافهة شهية وجميلة هذه «الاستفاقات» التي صدرت في ديسمبر/ كانون الأول العام .1982 «تزهو بنصوص مصقولة وزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بنوافذ مهيئة للفتح لديها سعة للغيوم الفارهة والشموس المكتظة، تسرج اللهو وردة ورقة عشبة، كلمة فضاء شعر لا أكثر ولا أقل، وبأحوال الليل وقمر لا شأن لها بعلوه تتوغل في اغماءاتها لتسأل أقواسا ليست للنصر»، «هل أرى ما حولي هل أصف ما حدث» صدر ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول العام .1986
«بحنجرة تهمس يا للعذاب، يا من لها كل هذا الوله، يا حرية البيت وحنين الحب، وحدك أمام ثعالب العشاء الأخير وقضاة الجحيم، وهذا يوسف بهي وليس وحيدا برفقته براعم ضوء لا تحصى، ففي هذه الممالك يكون الهواء دليل الأعمى، وفي ذات عزلة كالذهب يطفو القمر على مدن النوم طفلا ضالا، ومن وميض الروح لك لئلا تنكسر تتشظى» «حنجرة الغائب» الذي صدر في يوليو/ تموز العام .1992
«في أروقة للأرض حيث جسد وجبل ونار، تعوي قنينة تلهو بها المدارات تتخذ لها رواقا آخر لتصرح في الهواء كي يتسع، لتقف أمام ضراوة المهب غير ضارعة لأحد جامحة بساعدين يحرسان جذوة القلب، تبحث سيدة الوردة عن جواهرها متحدية الهواء الضيق» في «آخر المهب» العام .1998
«للقلب ولما تبقى من الليل تبوح بآلامها وتسرد للغرفة ولبابها الموارى أبدا حزنها ولياليها الوحيدة، كفراشة يتيمة وما من أحد يحرك الهواء» وقبل القتل بقليل تفرد «ملاذ الروح» الذي صدر العام .1999 «في قسوة السواهي يتكسر كل حجر لا يرى غير غبار الخسارات، لها بوردة النهر لكبرياء الكتابة لم تكن خارج الليل وأغلاله، وانما تمادت في اندلاع حبر لا يراها وأصخت لصخر قيل عنه الهواء في مساء عديم الرأفة» محاولة تسريح الأذى بدمع قاس في «رهينة الألم» الذي صدر العام .2005

مقاطع من الأمسية
1-
وحده الفولاذ يستطيع ذلك

«أًقبلُ الأرض التي خلعتني من جنانها
أعاهدُ البحر ألا أخذل منارات الروح
أعاقبُ الماء ألا انثال أكثر
أمام الصبار الجاحد فتواي،
بكيت الصحراء باباً باباً
ناوأت العطل الكاذب سراباً سراباً
ترملت من زرقة حبري،
لأقوى على مدامك هذا المصير
أًقبلُ يدي،
أقدُ لي ذراعين من عظم التناهي
وأدير أقداح العوادي».
قبل أن تزهر أصابعي،
تفرعت روحي بضلالي
قبل أن أستبشر بملامح العماء العليم،
تنضدت أعطافي بشراهة زمني
جاورت لجة ليل لا يصغ
للفجر عريف الحفل،
تناويت تكسير المعضل
أعرفُ،
قلمي: خشبة خلاصي المثقلة بغوامض أقداري
طاولتي: رعونة عذابي البارد المستتب
أعرفُ،
ليس لي،
غير أكتاف مجرجرة وأعناق مدماة من شدة النيل
هل أعرف؟
2-
صبا لم أعهده، ينوع لا أتذكره

في عينيك أراني،
أرى قدمي المتعبتين تنتشلان الوحل البارد
ثيابي المكنوزة نحو قلق ساري
ظلالي الذاهلة وهي تقتفي ضلالي،
دموعي المشتكاة، المجارة من وجنة لا تهتديني
أشفق على مسراتي الكئيبة دونك
أساور دياجير الكسير من تعبي
أناور غاية النكران،
لذا أحبك،
أحبك… كمن تهوى غديراً أبكم،
شلالاً أخرس، أسرفَ في شرخ قلبي نحوك
حينما أحببتك،
كسوتُ بي كل المرايا التي تراك،
أتحفتُ الوجد الذي تناجز بي
عاندتُ ذخير البنفسج الذي استرقاني للشفاية منك

3-
شدوا أقواسكم أيها الرماة

و
المسافة موغلة في الغدر
رغماً عما…
لم نقصد قتلكم،
فاحت تدابير الخطايا،
وتعاظم إثم الخلاص
أسرجوا جراحاتكم بالسماح الحميم،
مما تقاطر من جثمانكم
سرحوا السدود لتنهمر نوايا الجثث
انتشلوا الألواح من أنات الغرقى
لا ريب سوانا،
سوى المصقول من فساد خبايانا
من عثرات خلقنا النبيل،
فجردوا الخدور من أسرار أعذارها
واغمروا الوحل النبيه بسرايا الملذات
لن يجرف الطوفان الجدير،
غير عرايا أقل موتاً من قتلانا
دعونا،
يا ولاة الحديد
لن نأتمر لرايات تشرذم أرواحنا
لن نحتمل أشلاء تتشظى بعذابات تردينا
لم نعد نقو على إسناد جراح لا تقوانا
لم نعد نأتمر لحروب هشة تدمي أمهاتنا
ولا لمكامن غدر تلهب ما تعرى من آمالنا
فدعونا
هكذا نشيع الرعد الذي اكتوى بفتوى أقدامنا
«أيها القادة المدرعون بخواتم القتلى
وبنادق المفقودين من شراهة الزناد
أيها الفوارس الملتحفون بضمادات الضد
ابتعدوا قليلا،
لننير المشهد الواهي
بأصداء خوذ لا تصدأ
بأصابع طفولة مبتورة أدمنت شهوة النصر
بحطام أمهات لا يتضرعن لمدى الحليب
بأنقاض عذارى يستوين للمحق المميت
بأرتال أشلاء تفتش عن مأوى غير القبر
بأعضاء بيوت تسأل الغبار عمن كان
بحشرجة هتافات ترتعد ضد حناجر لا ترتد
بجرأة جثث ترث ما تبقى من عظام لا تستجير
ابتعدوا
لنصفع نكوص القيامة براحتين من عجين المذابح
صفعة لن تصفح عن أحد.
لا أحد
لا أحد خال من طنين الضمير الموغل في فرك العقل
من مغص يفترك الكليتين بحصوات تدوزن الألم
من مرارة تذرف الكبد بعصارة لا تذيب شراهة الذنب
من غصة تغتلي بصرخة لا تتبدد
لا أحد خارج هذا الكوكب،
لا أحد يستبرئ مما حدث
لا أحد
كلنا نتزيا بعفونة دماء تصطلى بوقيد الهباء المجرب
كلنا نرخي مواقيتنا لحلول عطب يستجري على لجم أفواهنا
كلنا نواكب المقابر التي تعاظمت ليضمحل التراب المؤجل
إذاً
ترجلوا أيها الرماة المسلولون بأقواس لا تهجع،
المبذورون لمآت قيامة لن تتأخر ما لم
تخجل الكراسي وهي تتوارث جثثاً تتقلد أعناق رعايا يحتضرون
ترأف الشواهد وهي تستبد أسيانة، لما يتكسر من رخام مقيت
تشرئب الأعناق المتاحة للشنق في عاتيات المراصد
وتذرف الأيادي المدفوعة القبضات زيف اندحارها المديد.
الوطن: حبة رمل،
تريثوا،
تجاه نبضها قبل أن تصلوا القبر

 

بين لغة الجسد وايحاءات النص الحالم

الكاتب: احمد الشيخاوي
فبراير 2016
تجب الإشادة ابتداء بكون الصيغة الجمالية ليس دائما تفيد الأغراض الرومانسية كما طواعية الانسلاخ الذاتي عن واقع مقيد بالمكشوف الذي قد يغني عن المقال.
وهو كلام ينطبق على التوجه العام الذي تنتهجه بعض الجوائز الرامية إلى ترسيخ ذائقة هشة من إفرازات تغليب تقديم الخدمة المأجورة للغة الضاد على حساب إنسانية المبدع
تلكم لعمري ممارسات جبانة وموغلة في طمس معالم ثقافة النهوض بقيمة الفرد في مجتمع يرفض تسييس القصيدة ليبرر انتسابه إلى ماضوية تعيق فكر تدارك قافلة الطليعة ضمن عولمة صارخة وأكثر استحواذا وإذعانا للهاجس المستقبلي في حمى حنينه إلى الجذور والذاكرة.
ولعلّ الشاعرة البحرينية فوزية السندي من أبرز الأسماء المنشغلة بتقنيات حلمية الواقع وبرزخيته في المعالجات الإبداعية المأخوذة بتعرية المسكوت عنه وملامسة العوالم الخفية وتوصيفها بحس تجريدي مرهف وأنأى ما يكون عن المذاهب التنكّرية ولعبة الأقنعة.
تطالعنا بتجليات ذلك حتى في لحظة توليد المواقف ذات الحساسية الخاصة تجاه مفهوم الهوية والانتماء، ومنذ المنعطف المجسد لحسم ظاهرة الصراع البنيوي لصالح قصيدة النثر والمذيل لتجربة باكورة أعمالها ” استفاقات” المغرقة في البنية التفعيلية آنذاك.
” حبيبي،
يا هذا الزهر الشوكي النابت في قلبي
في ليل يحترف الحزن
وطن يحترف العزف على أجساد الموتى
غبار الهمّ النازف من جسدي

يا وشما
محفورا كإله الخصب على الدم
يا وطني،
هذي الأرض الحبلى العطشى
المحمولة ختما في ذيل مماليك الوقت
تكاد تسمى وطني
أتحترق الدهشة في هذا الموال المأخوذ بسحر
الكلمات
دفء الجلسات
أتحترق الدهشة؟
وجه حبيبي حلم لاهث
عشق يجتاز ممرات الوهم المفزع
يبحث عن وقت يثمر نهم الدم،
رب يعطي الشجر الظامئ دفء الغيم،
دفء يمتد ليحتضن العشاق
في وطن جلاد
يغتال حنين الشعراء لصوت الماء،
حبيبي
صوتي آت من خلف ركام الكون

من وطن يتدحرج في ذاكرة الشمس
في عيني طفل
آت
ليعيد لهذا البحر قداسته
للحب طهارته
ويحلل ملحمة العشاق المنسية تحت عباءة
الكهان
يا وطني،
يا هذا الجرح الممتد في قلبي إلى تيه الحرف
يا جسرا رسمته الأيدي
بقيود هرمت
مازلت قيدا لعيون الوطن الضوء.
وطني،
أحمل حزني قنديلا في صمت ليالي الغربة
حرفي إزميلا للرغبة
مازال دمي ينساب ليرسم في عينيك وجه حبيبي
والشمس
ينساب ليزهو في قلبي
حبيبي،

أيجيء الضوء المنفي إليك غدا
في ليل بلد الجرم
وطن يحتفل بأعراس النوم
أيجيء الضوء؟”
الهديل
ربما هو الحب أن لا ترى أحدا
أصابعك تمور برعدة الوحدة في دغل الفضة
وأنت تلاطف هديل الرغبة
ألا ترى غير مقعد فارغ في منتزه بعيد
كان ذات مساء لك
قسوة السواهي
“وقفنا قليلاً
أدرنا الهواءَ فيما بيننا
ثم ابتعدنا،
لنداري ما استحل وأردانا
كنعشين يعتصمان ببردِ الوحشة
ضد بدء خنق استوى لهذا التراب

مشيئةُ الدربِ الأعزل، جريرةُ الأزلِ الأعمى،
غاوٍ تفانينَ العذاب
لماذا كلما رآنا نستهل لروع ٍ يجابهُ أرواحَنا،
راح يسترد هلعةَ الشغاف”

…………..

“عدت الى البيت
لأرى الحرف الناهض يستبكي الطاولة
الورقة الأخيرة تهفهف بمشقة ثكلى
حجرتي تناوش الجدران بحثاً عني
حتى الهواء القليل راح يستنهض صدود النوافذ
عدت الى البيت
لأرى لا شيء يشبهني

الصرخة
تنهض من جحيم الأرض
من كل بيت أضاء القصف شرفة دمه
من كل جسد داهم القتل بزناد الغدر وردة قلبه
من كل جنين أفاق ليرى النوارس تتعمد بالزيت
عاليا تحرث الهواء
وتسال حصاد الفضيحة:
كم طفلا سنغمد بين الصخور وفتوى القذائف؟
كم جثة ستشتعل في عراء العذاب؟
كم حربا ستنفجر كل نهار؟
ليمرح الطغاة حول نار القبائل
وليعلن هواة الدمار خاتمة الكوارث
كل موت
نراهم حفاة يرجون الحدود بما تبقى من خطى
بحرا من جراح يفاجئ تعب الصحراء
وطنا يتوضأ بالأنقاض
وعراة يفترشون خرائب تتلو وصايا الفاجعة
كأن بغداد في احتضار مديد
مديد كوقت الذبيحة
بركان يكسر مخلب الخلافة
ومن قسوة حصار يقتحم المدن
نرى مطرا

مطرا ينقض على رعشة العرش
لتخرج الشعوب من أشلائها
من صدوع شجها العسكر رمحا رمحا
حتى فاضت الأرض بقناديل الدماء
تنهمر الشعوب من سرادق القمع نهرا
نهرا.. وترفع الرغيف عاليا في احتدام الهتاف
البلاد بكاء
والمدى منفى
نلوح لك أيها الدخان
كن رؤوفا بنا
لا تقسو كحزن الأرامل
لم يعد الموت كافيا لننسى
ولا الدم الذي يحتضن الضحايا أخرس لنسأل
ولا اللاجئون في حنان الجبال ساهمون لنسهو
قل لنا:
كم قتيلا لم يمت؟
كم أسيرا لم يعد؟
كم صرخة لم تصل من رئة العاصفة؟

قل لنا:
أي أفق لنا؟
غير خيط من حشرجة الريح
غير همس دخان يحتضن دوار الخليج

قل لنا:
والثلج طريق
والجوع خيمة
أي عقل يقبل فصاحة التواطؤات؟
أي قلب يرى العراق حديقة موت ويخفق صامتا عما يراه؟
أي عزاء يقوى نزف النواح؟
والأهل يغادرون عظام الأسلاف وجنة الذخائر
كأسراب يمام منذور لحصاد الطعنات
لتهيم الجنازة وحدها
خلف صبية يجرجرون عريهم وصرخة موتاهم
خلف نسوة يرفعن سهاد المهود وهياكل الرضع
كقرابين لقسوة القمم
يا لصباح الموت الصعب
لك يا وقت تاريخ مطعون بنسل مغدور
لا يسال هاوية الملك
هل ملهاة تدير الحفل
قيامة تؤجج حكمة الهتك
أم ظلام شطرنج يلهو ببياض الأرض؟

أما من مفر؟
كم رمادا تبقى لك يا مقبرة الريح؟
كم جمرة لك أيها البيت البارد
لتمنح الساهرين مساءا أخيرا
قبل أن تجن الصاعقة؟
كم ألما تبقى أيها المستقبل؟؟
بانتظارك نذبح
كأننا الضحية والوطن سيد العقاب

يا ماء البصرة
يا دم كربلاء
تهيأ للصلاة على جثة الولاء
فلا مفر

ثمة غبار أصفر يحنو
يحرس جذوة الرفات
وجماجم تؤسس المتاريس
تصد ببياضها دخان المعارك
ولا أحد خلف الزناد
غير غبار أصفر يعلن خديعة الهدنة

هل حنين يشبه اليأس
تاريخ هو الخجل
كل ما تبقى لنا؟
كل شيء يحترق الآن
بطيئاً
بطيئاً
ب ط ي ئ ا
في سهرة هذا الليل الطويل
السماء تغادر
والأرض لغم في غمد الرماد
وهذا النهار خاتم عرس
لكل مليك يجز رعاياه على صوان البيعة

والبلاد خوذة
مرهونة لجند مدججين بالفزع
ولا شيء
لا شيء سواك
سوى
صرخة
تنهض من رميم الخنادق
وبأس الملاجئ
صرخة تقود الحشد النازف لمدار الذبيحة
صرخة تمتحن ذاكرة الناس
صرخة لتاريخ الهزائم

هكذا تتأتى شعرية العزف على وثر الومضة المبطنة بالمفارقة منقوعة في الخطاب الرّسالي الساخر. طاقة كاملة للجسد وجموح منقطع النظير للغة الاتكاء على معجم خصب تنساب أحرفه نازفة ومتخبّطة في دمها من هول الصرخة وجراء إملاءات المعاناة الصادقة في انجذابها إلى طقوس مخاتلة ورؤى نعسانة تتشرب حدّ الثمالة تاريخ الهزائم.

 

الذات الأنثوية من خلال شاعرات خليجيات-فوزية السندي

الشاعرة:ظبية خميس
أبريل,1996

فوزية السندي
احتفالات ومعارك الجسد
فوزية السندي شاعرة بحرينية حديثة. وهي من مواليد 1957 في البحرين، وقد درست في القاهرة ويذكر د. علوي الهاشمي في كشافه التحليلي المصور عن شعراء البحرين المعاصرين، أنها بدأت كتابة الشعر عام 1975، ثم اخذت تنشره بين عامي 1979- 1980 في الصحف الخليجية والعربية، وقد أصدرت الشاعرة مجموعتها الشعرية الأولى «استفاقات » عام 1984، ثم أعقبتها عام 1986 بمجموعتها الثانية «هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث ». ويرى د. علوي الهاشمي أن فوزية السندي تعتبر الآن أبرز شعراء قصيدة النثر في البحرين بعد قاسم حداد الذي شق هذا الطريق فنيا.
ورغم قلة أعمال الشاعرة المنشورة غير انها قطعت رحلة كبيرة بين عمليها المنشورين. بدأت فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” متأثرة بمناخات قصيدة النثر التي طرحت هيمنتها على الأجواء الشعرية الخليجية منذ نهاية السبعينات، كما تأثرت بالاحداث السياسية العربية الدرامية الكبرى فخرج عملها “استفاقات ” مرتبكا في شكله الفني ولفته الشعرية ضمن لغة تحاول أن تجسد أسلوبيتها بين قصيدتي النثر والتفعيلة، وأخذت الشاعرة تكتب بصدى القصيدة العربية الحديثة التي تنقل السياسة إلى الشعر ضمن أجواء العنف، والدم،والمأساوية.
إن قصيدة فوزية السندي في عملها الأول «استفاقات » هي قصيدة الفزع، والرعب التي تحاول أن توصف العنف والدموية المحيطين بعالمها. وهي في تلعثمها ذلك تلجأ إلى الجسد وتوظفه في القصيدة بصورة عفوية تشارك فيها عددا من الكاتبات في ظاهرة توظيف الجسد، شعريا. فالجسد عند فوزية السندي هو حالة التشظي، والجرح، والعنف. وهو أيضا، حالة الحب والحلم وملجؤها فيما تحاوله من رحلات روحية تفر اليها.
ويحتوي العمل على ست عشرة قصيدة معنية بتوصيف العنف السياسي ضمن لغة شعرية تبدأ في التشكل، وهي:
احتفالات الجسد، حصار تسمى واسميك الوطن، النورس، الحوار الاخير للبحر، نذور، الجمرة، وطن يزهو في القلب، استفاقات، مكاشفة، للبدء سلام، عندما يورق ريف القلب، أنصار، شهوة الوصايا، ذاكرة، الدم، رايات القلب، ووقت للقصيدة.
يكتب الباحث د. علوي الهاشمي عن تجربة فوزية السندي في عملها الشعري الأول “استفاقات”: “يلاحظ في البنية الايقاعية في مجموعة “استفاقات ” ترددها بين قصيدة النثر وبنية التفعيلة ضمن القصيدة الواحدة. وهو تردد لم يسلم منه أي نص في المجموعة المذكورة، مما كان يعكس قلق تجربة الشاعرة، اجمالا، وتأرجحها بين بنية ثابتة تحرص على تجاوزها وبنية وليدة تهفو الى بلوغها أو الهجس بها. وقد تجسد هذا القلق على مستوى المضمون الفني في اطار ما دعوناه في بحوثنا بظاهرة «الهم الابداعي»، بحيث شكلت عناصر مثل (القافية والوزن والبلاغة والخيال والكتابة واللغة والمجاز والحرف والكلمات والصورة والايقاع والقصيدة والنحو والصرف وغيرها من عناصر الابداع). مفردات ذات اهمية خاصة في مجموعة “استفاقات ” الى الحد الذي استغرق الشاعرة في كثير من الحالات مما جعل من هذا الهم الابداعي نفسه موضوعا لعدد من القصائد كما يبدو من عناوينها مثل “وقت للقصيدة “.
وفوزية السندي تنشغل بعدد من المحاور في قصائد “استفاقات ” ابرزها محور الرعب والكابوسية المسيطرة على أجواء القصائد، ثم هاجس الانثى الجسد والمفنى، واخيرا محاولة ترسيخ لمفهوم ودور القصيدة عبر الشعر نفسه. تقول في قصيدتها “احتفالات الجسد”:
– “لا تشهق في حضور الجناز المهيىء للعرس هذه نار
تفضح العائلة في احتفالات الرماد
فهرولت المداخل
ربما لهو راجع من جحيم المأتم
ربما قتل تسربل في شقوق الخوف
واختار المدينة
ربما رنين يصعد قبل أن يحرثها المد
أو تجثو لجسارة الطوفان “.
ثمة مزاوجة واضحة ومفزعة لعرس الرعب والجنازة في مفرداتها هنا جنبا الى جنب ودموية تدلف الى روح الشعر لتعبر عن ذلك القلق المفزع في قصائد فوزية السندي مشيرة الى الاجواء النفسية المهيمنة على معظم قصائد هذه المجموعة.
وهي توظف الجسد بضراوة في القصيدة، وفي احتفالات الرعب الشعري الذي تصنعه.وهذه نماذج لذلك التوظيف في القصيدة نفسها إذ تقول الشاعرة:
– “أمعن قليلا في الحكاية لنراك
جسدا مشظى
موغلا في تماس الشظايا”.
– “لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق
جسدان امتطيا حلمة الزلزلة
وتناهبا في غيوب الطريق
في احتفالات الجسد
كم كنت قريبا”.
– “في مساء كالذي حدقت فيه
اتصل الجسد بسطوة الكتابة “.
الكابوس، والحلم، والكتابة يدا بيد عبر وسيلة الجسد الذي تعبث به الحروف وتنشب فيه مخالبها في لعبة متصلة تعكس شكل الأظافر التي تحفر اللحم، بهذه الطريقة تكتب الشاعرة عملها الأول معتمدة على مخزون مرعب له دلالاته النفسية -الأدبية المختلفة.
وفي قصيدتها “حصارا تسمى وأسميك الوطن ” تزدحم هواجس الموت، والقتل والرعب عبر مفردات الفزع في هذه القصيدة مثل: (طوفان الرعب، الهالك، الجنون، الضال، المحارب، الحذر القاتل، سدة القهر، اغتيال اللحظات، انفجار اللغة البكر، عقم الوقت، الطفل المحاذر، احتدام المجازر، الموت الجميل، لدغات خطاك، الحصار، الموت المتداول بين الارصفة، اتأبط فزعي حد الاغماء، أحاور هلعي حد الاصغاء، المحرقة اتسعت).
وكنموذج للكابوسية والرعب في قصيدتها هذا المقطع من القصيدة نفسها:
– هيأت الشمس لتشرق
فأغرقها البحر
حدقت في البحر ليغضب
فاستل الموج
وهددني بالطوفان
فاغرقني الضحك
وحدقت “.
وتستيقظ ذاكرة الذات الانثوية في قصيدة الشاعرة “النورس ” وباستخدام درامي وعنيف، أيضا إذ تقول:
– “انهال كالرمح
غطى المناديل في الليل بالدم
وعرى شتاء البلاد الحزين من الصمت “.
– “طفل، وردة
والسجن ساحة الوقت
نهد، نهر
والرعب ساعة البيت “.
ان هذا الدمج الذي يتكرر بين الذكورة والعنف يجعل الرعب معشعشا في البيت والجسد والبلاد، والشاعرة لا تنسى ذلك أبدا طوال رحلتها الشعرية في العملين المنشورين. بل إن هذا الرعب ينتقل الى مفهومها للشعر، والقصيدة، أيضا فهي بالنسبة اليها وجه اخر من وجوه العنف في الحياة والمخيلة، اذ تقول في قصيدتها “النورس “:
– “هكذا تأتي القصيدة
تأتي القذيفة
هكذا
تحتل البياض الحالم نار
والرمز نصل يحتال كالعرش.
وقواف تعدو
تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات فأعرف،
استشرف لون الافق كنجمة برد”.
إذن الشعر وعاء حربي لكل ذلك العنف المرعب الذي يسكن رأس الشاعرة وكأنها خرجت للتو من مجزرة لا نهاية لها حيث القصيدة قذيفة، والقوافي شظايا. سيظل سؤال الشعر مؤرقا للشاعرة حتى نهاية الديوان وسيأخذ شكلا آخر من الاشكال الاعتراضية في مجموعتها الشعرية الثانية.
والبحر مستيقظ جدا في مفردات الشاعرة الشعرية فهو المدى الممكن والوحيد لكل تلك الحرائق التي تشتعل في خطوات مفرداتها في القصائد. ويأخذ البحر تجليات عديدة في قصيدتها «الحوار الأخير للبحر» إذ تقول الشاعرة:
– “افقت
غريقا أبحر من النزف ”
– “لازمت البحر…
شعر أم شرك يشعل وقت الماء
عويل أم عصف هذا النزف المحرك والكامن
في لدغات تشعل هلعي”.
– “يأسرني
بحر يمتشق الزفرات ويلهث في الافق الغائم
إن مفردات البحر، النزيف، الماء تمثل حالة سيولة متشكلة في القصيدة عبر حالات مختلفة ولننظر إلى هذه الصورة الشعرية «غريقا أبحر من النزف » إنها لا تشكل حالة موت بل حالة استفاقة ويقظة لدى الشاعرة يجتمع فيهما فعل الإبحار وحالة النزف ووضعية الغرق في وقت واحد حيث البحر محير للشاعرة ودنيا كاملة لكوابيسها وصاحب لا يتركها. البحر شعر وشرك، عويل، وعصف وحرائق تشعل وقت الماء والهلع في ذلك النزف المتحرك الكامن – نزفها الباطني الذي يلتقى بحدة شاسعة مع محيط البحر فلا تفرق آنذاك بين الماء ونزيف الدم. والبحر لا يطلق سراح الشاعرة، فهي أسيرة لديه يسيطر عليها ويمتشق زفراتها ويلهث وكأنه فارسها الذي يمارس ساديته عليها دونما تمييز وهي واقعة تماما كفريسة تنظر إلى مخالبه وتغرق فيها.
لا يترك البحر صور القصائد الشعرية فها هو في قصيدتها «نذور» يرتبط بصورة الوطن المهزوم،إذ تقول الشاعرة:
– “للوطن المحتل
وللقلب المعتل
بهدير الأ قدام المغلولة حتى الأعناق “.
وتوظف البحر مرة ثانية في قصيدتها «استفاقات » مخاطبة الذات الانثوية بقولها:
– “كالبحر أفيقي
موجا أو امرأة
في صوتي يحتدم الآن مسار جراحك
في احداقي المجبولة بالرعش
سيكبر وجدك
فأفيقي”.
إن اليقظة غرق وبحر وموج وهدير. هذا التوحد المطلق بالبحر بين الرعب واليقظة بين الجرح والشفاء. وتكمل الشاعرة مخاطبة تلك الذات قائلة:
– “يا غصون الشبق اللاهث في كفي استفيقي
أفقا أو وطنا
أهز عيوني في وله
أهز غصون الرعب والحب
أفيقي”.
إن الحركة مستمرة ما بين تلاطم الموج وهز غصون الأنوثة والرعب والحب يورقان معا في نفس الشجرة والبحر.
وتحدد الشاعرة خطابها للانوثة في قصيدتها “للبدء سلام ” إذ تقول:
– “لشوق امرأة تنسج في الليل رداء الدفء
وتبحث عن نقطة ضوء في العتمة
أقول سلاما”
“بدءا
أحمل لغة النار وعفن الرجعة
اطفىء شهوات الليل المنبثة
من هذا الجيف الماثل فوق الهامات المتكئة “.
إن هذا الإعلان الواضح للنوايا الشعرية يبوح بوضوح بصوت عميق يأتي غير هادىء من الداخل ويعلن مداه في الأشياء. من ذاكرة العنف والظلام ينطلق البحث عن الضوء والسلام وبلغة محذرة تدرك جحيمها والدنيا التي تود أن تقوضها خارجة من مقابر الجيف باحثة عن خطوها في نارها الخاصة.
تختم فوزية السندي ديوانها “استفاقات ” بقصيدتها الأخيرة «وقت للقصيدة » ولعلها أقوى القصائد المكتوبة، عربيا، والتي تعبر عن رحلة تلك الذات -الأنثى بحثا عن صوتها وقدرة البوح، وهي تختصر في قولها ذلك عالما مطويا، ومنبوشا في الوقت نفسه تدركه الشاعرة بوعيها الفني والحضاري. وأدرج القصيدة هنا بكاملها لمالها من أهمية دلالية كبيرة لموضوع هذا البحث، ولتميزها الخاص الذي قلما حاولت الكثيرات أن يقلنه عبر أزمنة طويلة:
“أسرجتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة
لأرى حوافر الريح برقا، أراها
تشطر في دماء الخلق
اقتراب وغربة منذ البدء
غزالة تفر نحوي
حافلة بأحجية تتهيأ
فاحتملت
كان فضاء القصيدة جبا
مقروءا بأصداء المذهل
والليل يفضح اسرار الحبر
ويستدير
ما من وحشة وتشد الصوت سجادة
أمعنتك في بياض الشقوق عشبا
وانحدارا يفضي الى خندق الكلمات.
صوت في البرد
واحدس كالطيف بألوان القوس
في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل
كما للوقت ظلال السنديان
للهذيان رجرجة الافق
ازين انطلاقة الجحيم في شكل يتداخل
في ظلي
فأرى بياض السماء قوافي تسرجني
في ملهاة النعش
استفرد بهزيع الحقول – بالمفردة
ألازم إزميل الروح
لست ساهيا
اهدهد المناجل، تجري مثل دمي
تيممت بهدير اللغات
أرى الكلمات وأراقب الحدائق
اتموسق في أوزان رهيفة تلا الأوزان
والجمرة ملهاة العاشق
فمن يقرأ!،
حرف يوازي وجع القصيدة
ليس سرا
كان قبرا بهول السؤال والبحث
يتحول،
ينثر فينا صباحا حزينا ثقيل الخطو
في نشرة الموت يشرع أعضاءنا قلاعا
ويقلم الطفولة
ليست…
هذه المشانق للشاهق
من شعر القلب ووطن الغفلة
هذي الجمرات لغرف الرأس المكتظة بالسيقان
ووجع الرحلة
كان صباحا جميلا وشهيا
فليس غريب
ان أحلم القهوة ذات بكاء
أن أخيط اللهب من وحشة الطرقات
واناهض
سرت وقرأتك وحدك في الصحوة
كنت كالوقت “.
إن فوزية السندي وبصورة شعرية عميقة ومكثفة تطرح علاقتها بالقصيدة كأنثى، طارحة ظلال هذه العلاقة عبر تاريخ الثقافة العربية. فالقصيدة فرس مسرجة بالأسرار والخبايا النوامض، هي وسيلة الفروسية القديمة باشارة ما تبدو غامضة الى الفحولة والفروسية القديمة للشعر. والقصيدة هي جذوة الخطيئة ولكن لمن ؟ ايكون لها هي الانثى العربية التي تحاورها وتحاول ان تروضها مرتكبة بذلك (جذوة الخطيئة). إن القصيدة احجية تتحدا ها، وجب عليها أن تغوص فيه وللحبر أسرار معرضة للفضيحة. إذن القصيدة للشاعرة هي: فضاء الجب، وفضيحة اسرار الحبر، وعشب بياض الشقوق، وخندق للكلمات. والشاعرة تجمع هنا ما بين ذاكرة الفروسية الشعرية وما بين فعل الاقتحام الذي تمارسه عليها كأنثى مبدعة تسعي نحو العشب الذي ينبت من تلك الشقوق التاريخية.
خروجا من برد ما ولربما برد الصمت ووحشته صارت القصيدة هي الحدس، ونشوة التخيل وهي “كالطيف بألوان القوس ” ان فعل الكتابة هو طرق على خدر الفعل، على غيبوبة النسيان الطويل لذلك الصوت الذي يحاول أن يرج الافق بهذيانه.
إن كتابة القصيدة هي تماه مع الفارس القديم بالنسبة للشاعرة حيث تزين ذلك الجحيم الحي بانطلاقها، تتحول إلى فرس تسرجها القوافي وتناور هزيع الحقول في مبارزة بسيف المفردة، وتلازم إزميل الروح لتنحت تكويناتها.إنها تهدهد المناجل كأطفال تجري مثل دمها وتتيمم لتلك الصلاة بهدير اللغات – البخور. ترى الكلمات كائنات وتراقب حدائقها. وهي تعلن تموسقها في أوزان رهيفة تلا الأوزان، أي انها قررت ذلك الانتماء إلى أنوثة ولادة تقلب ميزان الذاكرة القديمة وهي تدرك أن الجمرة، وحدها، ملهاة العاشق. وفي تحد تتساءل عن «من يقرأ» فهي ترغب في قراءة مختلفة تستطيع أن ترى من خلال الحرف ما يوازي وجع القصيدة.
إنه خروج الموءودة من القبر “بهول السؤال والبحث ” وهي ترى المشانق أمامها لذلك الشاهق من شعر القلب ووطن الغفلة ترى الجمرات لغرف الرأس.
إن الشاعرة تقود القارىء إلى رحلتها مع الشعر كفكرة وتحد وخروج من الخدر إلى الفعل الفروسي حيث هي الفرس والفارسة في تحديها الوجداني الكبير.
يكتب الباحث أحمد عطية عن فوزية السندي فيقول:
” فوزية السندي، صوت نسائي متفرد في الشعر البحريني الحديث، يتميز بقصيدة النثر، وبكثافة المفردات اللغوية وجدتها، وبقوة التراكيب الشعرية النفس والسابرة لأغرار الروح، وبجمال الصور المستمدة من معالم الطبيعة البحرينية البحرية، والمعبرة بجرأة وشجاعة ووعي وصدق عن الوضع المأساوي للمرأة العربية وعن احتجاجها ورؤاها ومشاعرها… ويتبدى هذا كله في ديوانها الثاني “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث “، الذي يمثل طفرة في الشعر البحريني النسائي وفي الشعر الحديث بالبحرين على السواء، بجمعه بين همس المرأة وبنيته الحديثة، وبين التعبير عن حب الأنثى وعمق الاحتجاج على عذاب المرأة العربية ورؤاها في مجلسها خلف الجدران والنوافذ والمزاليج..”.
لقد جاءت المجموعة الشعرية الثانية لفوزية السندي “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث ” عام 1986 مكملة لما بدأته في عملها الأول “استفاقات ” ورغم قصر المدة الزمنية بين العملين إلا أن الشاعرة استطاعت أن تطور تجربتها بشكل ناضج فنيا ومضمونيا.
لقد قررت الشاعرة انتماءها لقصيدة النثر وحسمت بذلك ارتباكاتها الفنية فيما يتعلق بالشكل، بل أنها وعبر احدى قصائد الديوان حسمت علاقتها بالموروث الشعري ككل وسيكون لنا عودة لتلك القصيدة.
يضم الديوان أربعين قصيدة بعناوين جديدة تنبىء بروح شعرية مختلفة لعمل الشاعرة الثاني. ويختلف نسيج النصوص في هذا العمل عن ما سبقه عبر الشكل المفتوح للنص الشعري، وتلك اللغة السرية الشعرية والمعنية بالايحاء والرمز ونقل جماليات المخيلة عبر لغة رومانسية منثورة إلى القارىء. ويتزاوج كل ذلك مع استمرار خفي وواهن لحالة الرعب التي حضرت بكثافة في عملها الشعري الأول.
تلجأ فوزية السندي إلى لغة شعرية متداعية وممتلئة بالصور التي تمزج الباطني بالمادي المعتمد على عناصر الطبيعة مثل الفضة /النار/البحر/القمر وغيرها. وكذلك فإن الشاعرة تمنح أبعادا خاصة للماديات، مثل النافذة وغيرها لتحولها إلى رموز مكثفة لحالات انسانية متنوعة، بعضها شعري باطني وجمالي وأحوال تراوح ما بين حدة المأساة وطقوس الجنة حيث الروح ترحل وتنتقل ما بين عوالم القهر والبحث عن السعادة وما بين الحب الجواني المعتمد على صوت الأنا المراوحة ما بين الذكورة والانوثة.
وتتجاور عوالم القسوة والقهر برموزها السياسية الايمائية مع عالم الحب، والرؤية الباطنية – التأملية. كما يحضر العالم الوصفي الخارجي الذي يزاوج بين النص المفتوح وعالمه الخاص بقسوة الوصف والرومانسية المتمثلة في عناصر الطبيعة المختلفة.
يبدأ الديوان بـ “نصوص مصقولة ” وهو نص نثري مفتوح للحب، والمناجاة. تتعدد الأصوات فيه بشكل منداح لا يشبا القصيدة ببنيتها المعتادة. وهو نص رومانسي بروح موغلة في العشق ومدججة بالمشاعر الباطنية. تستخدم الشاعرة الزخرفة اللغوية والتشبيهات إذ تقول: – “حين أحبك،
أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول. في فائرة الجوانح وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب “.
وتتلاحق التشبيهات في النص حيث تعتني الشاعرة ببلاغة الخطاب والمفردات رغم كثرة التداعيات الزخرفية في القول الشعري. ويستمر الوهن الذي تعبر عنا على مستوى المشاعر إذ تقول:
-“أوهاني حبك، لذا استحي من دوار يلف بي
أفئدة تدفأ بي وقلب يهفو لي… لما بي”.
ويتجلى تأثير الشاعر البحريني قاسم حداد على روح فوزية السندي الشعرية وخصوصا بعد صدور مطولاته النثرية “القيامة ” و” يمشي مخفورا بالوعول ” حيث تتأثر المفردة والمخيلة الشعرية لفوزية السندي بتلك الروح التي أسست لعالمها الشعري عبر تجربة تبدو أكثر اكتمالا. ومع ذلك فان بقايا قديم فوزية السندي يخرج من بين الكلمات في عملها هذا وخصوصا تلك الشكوى من الجور والقسوة إذ تقول:
– “كل هذا الجور لي
لي براثن الشكوك وانهمار – القسوة
ومرارة الاثم “.
واذا كانت في “نصوص مصقولة ” قد عبرت عن ذوبانها في
الحبيب كما قالت:
– “أعلم لو حبك يلف جهاتي يغل ويفتل ولهي
الشاقي لارتضيت شقائي حفرة للقلب ترتج لفعل
النبض الهاتف باسمك
حبك
سطوري وسحقي الملازم لهفة الغبطة وشكلة الألم
توهي ورخامة الكلام وبدء الغرق
حبك أنت
وأنت
احتمال الفصول
وشأن التناغم
وزعامة القلب
وفوز الدخول “.
فإن الشاعرة وفي قصيدتها «خفايا الكلام »، وكما يحللها الباحث أحمد محمد عطية “تحتج الشاعرة على جور الرجل الشرقي، وتعبر عن عذاب المرأة العربية وذلها في جحيم الكلام الآمر، الذي تصفه الشاعرة بسقوط الكلام وتقرنه بصور معبرة عن رفضها واستيائها واستخفافها بقبضته المقترنة بظلام الليل، مؤكدة ثورتها وعدم احتمالها للقهر، متمسكة بالأمل في نهضتها… نهضة الكلام، مرتفعة على آلامها واوجاعها واثقة في انتهاء الليل لان لظلامه مداه.. وبعده تظهر النوارس البيضاء مع ضياء الفجر الذي يغمر الافق والحقول والأودية، في صور بديعة جديدة تجمع بين الكثافة والشعرية وتمزج القضية الاجتماعية للمرأة العربية بعناصر الطبيعة البحرينية وتضمنها رؤية تقدمية جماعية دون مباشرة أو خطابية، بل بكلمات مكثفة هامسة مشحونة بالمعاني والدلالات والرموز البسيطة الشفافة المعبرة والكاشفة “.
في “خفايا الكلام ” تتضح رؤية الشاعرة للأنثى من خلال علاقتها بالرجل وتوصيف الذكورة في هذا النص. كما أن الشاعرة تعود لترنيمة القهر والعذاب السياسي من خلال علاقة السيد بالمسود غير أنها توظف تطور لغتها الشعرية الجديدة لتوصيف ما سبق أن وصفته في عملها الشعري الأول. تقول الشاعرة خاتمة قصيدتها:
– “لم الهدأة ؟
لم يكن بوسعي أن…
سقط الكلام
مرتخيا بكامن الرؤى
همت أيها العارف بأحوالي
حتى أغشاني التهيؤ
وهون التشظي
لم أعد احتمل…
سقط الكلام
تدق المطارق بهو الولع
أنزوي في راحتي
بعيدا، اقلب وجعي
أتساقط في نهضة الكلام “.
في قصيدتها «لم يكن الأمس صعبا هكذا» تعود الشاعرة إلى الأجواء الكابوسية، والتوصيف لحالة شعرية بلا وحدة واضحة حيث تتضح القصيدة النفسية عبر انهياراتها ورعبها معتمدة على المفردات والصور النفسية التي تصور حالات الرعب.
وتعتبر قصيدة «نوافذ للفتح » احدى القصائد المميزة في ديوان الشاعرة. توظف الشاعرة رمز النافذة في العلاقة مع المرأة، الإنسان، الوطن والانفلات نحو الاشياء والحريات عبر تسعة مقاطع. وفي تحليل أحمد محمد عطيه للقصيدة يرى أنها تعبر بالمفارقة عن رؤى المرأة العربية في مجلسها الضيق خلف النوافذ بمدى اتساعه لرؤاها وكلماتها حتى غدا سريرها معادلا ومعوضا للوطن والطبيعة والبحر، فأصبح هذا المكان المحدد الضيق “متسع، متسع “. وأن المرأة قد تلاءمت في ” نوافذ للفتح ” مع النوافذ الموصدة والمزاليج المحكمة، مكونة عالمها الخاص الرحب كالفضاء الفني بالألوان… كقوس قزح.
تصنع الشاعرة مفارقتها ما بين شساعة البحر ومخلوقاته في مقابل الضيق، وتستمر في ترديد مفردتها “متسع، متسع ” في محاولة للخروج من المحدود بشتى اشكاله. وتصنع من النافذة مداها نحو العالم، “تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها”.
وفي مقابل ذلك الاتساع، تعج مقاطع أخرى للقصيدة بكابوسية معهودة في قصائد الشاعرة (الحرب، الدخان، الحراب، المرارة، الجرح، الحداد، الفارة، الجرحى، الضمادات، القصف، القذيفة، الاشلاء) وغيرها. ذلك التهديد الحاضر دائما والمحيط بكل هروب ممكن نحو عالم الروح ورحابتها، الفضاء المفتوح، والنوافذ المطلة على البحر وقوس قزح. تقول الشاعرة:
-“اجدني في تلاؤم دائم
بلا مبرر…
واثقة ومحلقة
بلا ضفاف… منبعثة هكذا
عبر النوافذ ومزاليجها
لا يحدني احد
أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم
هكذا دون تردد
اطلق رغوة الأفق
أمرغ قوس قزح بحرية ألواني
أعج بالفضاء
وكعادتي
أفيق “.
ان العودة للذات خارج نطاق المرعب، وترويض جمالياتها يمثل أقصى حدود للحريات الداخلية التي يمكن أن يمارسها الفنان. وهي تعوض صور الخراب باعلان ينتمي بكامله إلى بياض الكتابة إذ تقول:
” انتظروا…
لا حاجة لي بكل هذا الوطن
رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي
لأحيا وكلماتي
أهرق في سرير الحلم
وتنهض قي مجد الحكم “.
ويستمر هذا الانفلات لصنع الحرية من الرموز المحيطة فإذا كانت النوافذ سيدة الأفق في القصيدة السابقة فإن الشاعرة في قصيدتها “شؤون خاصة جدا” توظف الرخام بقولها:
– “أعمدة الرخام المشيدة
كفاصل قسري
ضد اغتراب الفعل
ومسمياته الجارحة
ومراياه المرتعشة “.
وهي تحتمي بكل ما يمكنها الاحتماء به مما يثير الألفة: المنضدة الواسعة، والغيمة البيضاء، والحروف الملونة. كل ذلك لتنفلت الشاعرة “كقارب صيد في ليلة مقمرة “.
ولا يخلو ديوان “هل أرى ما حولي، هل اصف ما حدث ” من بعض هنات المحاولة الشعرية في نسيج قصيدة النثر فقصائد الشاعرة (لا أكثر، ولا أقل، وسروج للهو) نماذج للضعف الشعري حيث الصور واهية، والحالة مصطنعة ولا شيء غير التداعي شبه السوريالي لقصيدة غير سوريالية. وكذلك في قصيدة (أودية سحيقة) حيث تطرح الشاعرة حالة تتنافر فيها المفردات لمحاولة شبه شعرية لصناعة النص. غير أن ذلك التنافر يفتقد للانسجام وللحالة الشعرية، الحقة، ويبدو في الأخير كمجرد ارتطام بين مفردات شعرية، مصنوعة.
وفي قصيدتها “ماء مترع للمساء” لا شعر ولا شعور حيث تبتعد الشاعرة عن الأحاسيس وتولي اهتمامها بالصور المركبة من اجل صناعة الدهشة، غير ان الذوق التركيبي للمفردات لا يصنع ذلك. فالقصيدة تبدو كمحاولات نزقة، غير قادرة، على اتمام الصورة والحالة الشعرية، وأسوق الأمثلة على ذلك من القصيدة نفسها، تقول الشاعرة:
– “هيأت حشائش طرية تتهادى حولنا، قوارب
قصدير
وجوارب نعناع وأطياف تضبب هذه الطقوس لنا”.
– “إني أحبك منساقة كجذور تندك، تقلد صدوعي
ماثلا في قراري
رائق هذا الدم إن لم ينحن
لك.. لا مفر..”
وهي نماذج للرداءة الشعرية رغم محاولات الشاعرة العديدة الناجحة والمتميزة في هذه المجموعة غير أن الارتباك والتذبذب في روح فوزية السندي الشعرية ما بين كابوسية
السيريالية والواقعية ومحاولات الكشف الباطنية والصوفية، والرومانسية الفجة التي تفتقر الى الصورة الشعرية العميقة والجديدة من السمات التي تضعف العمل الشعري عموما لدي فوزية السندي. وكنموذج للسذاجة برومانسية مكررة ومعتادة في الصورة الشعرية أسوق هنا قولها من قصيدة “غناء واحد”:
– “نغني معا أغاني مختلفة
ولا نفترق
لي أغنية الحدائق الظليلة الخريفية
الساعة كنسيم، المرصعة بالأزهار المخملية…”،
الخ..
وتلخص الشاعرة موقفها من شكل القصيدة العربية القديم عبر قصيدتها “معلقة ” صانعة تشبيها للمعلقة بالإرث الأنثوي لفكرة (الجارية) عبر ذاكرة الأنثى التاريخية إذ تقول:
-“تتدلى أمامي بزخارفها وبديعها
معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير
وعاج الفتنة
منسقة لا تقبل الظنون والتهتكات الشاكة
تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة
والقوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة
في شكوكها، للمراعي منبثة
مفصلة على نسق بديع كآنية
وفي عكاظ تؤرجح حرفها جارية
محظية ولها دلال
أراها تساق هنا وهناك في الخلافة
مغلولة
معلقة ولم تزل “.
إن تجربة فوزية السندي قادمة من سياق الرفض: للشكل الشعري القديم، لمأساوية الأحداث العربية، للدور التقليدي، للأنوثة والذكورة. وهي تحاول جادة ان تصنع تجربة شعرية جديدة تسوغ فيها مضامينها تلك بشجاعة، وحرية. وهي تنجح في صنع القصيدة المميزة، احيانا، غير أن اخطاءها الشعرية هي نتيجة التجريب وهي أخطاء معتادة ضمن التجربة الشعرية الجديدة التي تحاول ان تخرج من أسرار ما سبقها.
ولعل القلق الابداعي يأخذ أقصى تجلياته في بحث الشاعرة عن الذات الأنثوية وبصيغة غير مزخرفة، ولا مسطحة، ولا خاضعة للقوالب الجاهزة، وفي هذا يكون التحقق الفعلي لما حاولته الشاعرة عبر العملين المطروحين.