بين لغة الجسد وايحاءات النص الحالم


الكاتب: احمد الشيخاوي
فبراير 2016
تجب الإشادة ابتداء بكون الصيغة الجمالية ليس دائما تفيد الأغراض الرومانسية كما طواعية الانسلاخ الذاتي عن واقع مقيد بالمكشوف الذي قد يغني عن المقال.
وهو كلام ينطبق على التوجه العام الذي تنتهجه بعض الجوائز الرامية إلى ترسيخ ذائقة هشة من إفرازات تغليب تقديم الخدمة المأجورة للغة الضاد على حساب إنسانية المبدع
تلكم لعمري ممارسات جبانة وموغلة في طمس معالم ثقافة النهوض بقيمة الفرد في مجتمع يرفض تسييس القصيدة ليبرر انتسابه إلى ماضوية تعيق فكر تدارك قافلة الطليعة ضمن عولمة صارخة وأكثر استحواذا وإذعانا للهاجس المستقبلي في حمى حنينه إلى الجذور والذاكرة.
ولعلّ الشاعرة البحرينية فوزية السندي من أبرز الأسماء المنشغلة بتقنيات حلمية الواقع وبرزخيته في المعالجات الإبداعية المأخوذة بتعرية المسكوت عنه وملامسة العوالم الخفية وتوصيفها بحس تجريدي مرهف وأنأى ما يكون عن المذاهب التنكّرية ولعبة الأقنعة.
تطالعنا بتجليات ذلك حتى في لحظة توليد المواقف ذات الحساسية الخاصة تجاه مفهوم الهوية والانتماء، ومنذ المنعطف المجسد لحسم ظاهرة الصراع البنيوي لصالح قصيدة النثر والمذيل لتجربة باكورة أعمالها ” استفاقات” المغرقة في البنية التفعيلية آنذاك.
” حبيبي،
يا هذا الزهر الشوكي النابت في قلبي
في ليل يحترف الحزن
وطن يحترف العزف على أجساد الموتى
غبار الهمّ النازف من جسدي

يا وشما
محفورا كإله الخصب على الدم
يا وطني،
هذي الأرض الحبلى العطشى
المحمولة ختما في ذيل مماليك الوقت
تكاد تسمى وطني
أتحترق الدهشة في هذا الموال المأخوذ بسحر
الكلمات
دفء الجلسات
أتحترق الدهشة؟
وجه حبيبي حلم لاهث
عشق يجتاز ممرات الوهم المفزع
يبحث عن وقت يثمر نهم الدم،
رب يعطي الشجر الظامئ دفء الغيم،
دفء يمتد ليحتضن العشاق
في وطن جلاد
يغتال حنين الشعراء لصوت الماء،
حبيبي
صوتي آت من خلف ركام الكون

من وطن يتدحرج في ذاكرة الشمس
في عيني طفل
آت
ليعيد لهذا البحر قداسته
للحب طهارته
ويحلل ملحمة العشاق المنسية تحت عباءة
الكهان
يا وطني،
يا هذا الجرح الممتد في قلبي إلى تيه الحرف
يا جسرا رسمته الأيدي
بقيود هرمت
مازلت قيدا لعيون الوطن الضوء.
وطني،
أحمل حزني قنديلا في صمت ليالي الغربة
حرفي إزميلا للرغبة
مازال دمي ينساب ليرسم في عينيك وجه حبيبي
والشمس
ينساب ليزهو في قلبي
حبيبي،

أيجيء الضوء المنفي إليك غدا
في ليل بلد الجرم
وطن يحتفل بأعراس النوم
أيجيء الضوء؟”
الهديل
ربما هو الحب أن لا ترى أحدا
أصابعك تمور برعدة الوحدة في دغل الفضة
وأنت تلاطف هديل الرغبة
ألا ترى غير مقعد فارغ في منتزه بعيد
كان ذات مساء لك
قسوة السواهي
“وقفنا قليلاً
أدرنا الهواءَ فيما بيننا
ثم ابتعدنا،
لنداري ما استحل وأردانا
كنعشين يعتصمان ببردِ الوحشة
ضد بدء خنق استوى لهذا التراب

مشيئةُ الدربِ الأعزل، جريرةُ الأزلِ الأعمى،
غاوٍ تفانينَ العذاب
لماذا كلما رآنا نستهل لروع ٍ يجابهُ أرواحَنا،
راح يسترد هلعةَ الشغاف”

…………..

“عدت الى البيت
لأرى الحرف الناهض يستبكي الطاولة
الورقة الأخيرة تهفهف بمشقة ثكلى
حجرتي تناوش الجدران بحثاً عني
حتى الهواء القليل راح يستنهض صدود النوافذ
عدت الى البيت
لأرى لا شيء يشبهني

الصرخة
تنهض من جحيم الأرض
من كل بيت أضاء القصف شرفة دمه
من كل جسد داهم القتل بزناد الغدر وردة قلبه
من كل جنين أفاق ليرى النوارس تتعمد بالزيت
عاليا تحرث الهواء
وتسال حصاد الفضيحة:
كم طفلا سنغمد بين الصخور وفتوى القذائف؟
كم جثة ستشتعل في عراء العذاب؟
كم حربا ستنفجر كل نهار؟
ليمرح الطغاة حول نار القبائل
وليعلن هواة الدمار خاتمة الكوارث
كل موت
نراهم حفاة يرجون الحدود بما تبقى من خطى
بحرا من جراح يفاجئ تعب الصحراء
وطنا يتوضأ بالأنقاض
وعراة يفترشون خرائب تتلو وصايا الفاجعة
كأن بغداد في احتضار مديد
مديد كوقت الذبيحة
بركان يكسر مخلب الخلافة
ومن قسوة حصار يقتحم المدن
نرى مطرا

مطرا ينقض على رعشة العرش
لتخرج الشعوب من أشلائها
من صدوع شجها العسكر رمحا رمحا
حتى فاضت الأرض بقناديل الدماء
تنهمر الشعوب من سرادق القمع نهرا
نهرا.. وترفع الرغيف عاليا في احتدام الهتاف
البلاد بكاء
والمدى منفى
نلوح لك أيها الدخان
كن رؤوفا بنا
لا تقسو كحزن الأرامل
لم يعد الموت كافيا لننسى
ولا الدم الذي يحتضن الضحايا أخرس لنسأل
ولا اللاجئون في حنان الجبال ساهمون لنسهو
قل لنا:
كم قتيلا لم يمت؟
كم أسيرا لم يعد؟
كم صرخة لم تصل من رئة العاصفة؟

قل لنا:
أي أفق لنا؟
غير خيط من حشرجة الريح
غير همس دخان يحتضن دوار الخليج

قل لنا:
والثلج طريق
والجوع خيمة
أي عقل يقبل فصاحة التواطؤات؟
أي قلب يرى العراق حديقة موت ويخفق صامتا عما يراه؟
أي عزاء يقوى نزف النواح؟
والأهل يغادرون عظام الأسلاف وجنة الذخائر
كأسراب يمام منذور لحصاد الطعنات
لتهيم الجنازة وحدها
خلف صبية يجرجرون عريهم وصرخة موتاهم
خلف نسوة يرفعن سهاد المهود وهياكل الرضع
كقرابين لقسوة القمم
يا لصباح الموت الصعب
لك يا وقت تاريخ مطعون بنسل مغدور
لا يسال هاوية الملك
هل ملهاة تدير الحفل
قيامة تؤجج حكمة الهتك
أم ظلام شطرنج يلهو ببياض الأرض؟

أما من مفر؟
كم رمادا تبقى لك يا مقبرة الريح؟
كم جمرة لك أيها البيت البارد
لتمنح الساهرين مساءا أخيرا
قبل أن تجن الصاعقة؟
كم ألما تبقى أيها المستقبل؟؟
بانتظارك نذبح
كأننا الضحية والوطن سيد العقاب

يا ماء البصرة
يا دم كربلاء
تهيأ للصلاة على جثة الولاء
فلا مفر

ثمة غبار أصفر يحنو
يحرس جذوة الرفات
وجماجم تؤسس المتاريس
تصد ببياضها دخان المعارك
ولا أحد خلف الزناد
غير غبار أصفر يعلن خديعة الهدنة

هل حنين يشبه اليأس
تاريخ هو الخجل
كل ما تبقى لنا؟
كل شيء يحترق الآن
بطيئاً
بطيئاً
ب ط ي ئ ا
في سهرة هذا الليل الطويل
السماء تغادر
والأرض لغم في غمد الرماد
وهذا النهار خاتم عرس
لكل مليك يجز رعاياه على صوان البيعة

والبلاد خوذة
مرهونة لجند مدججين بالفزع
ولا شيء
لا شيء سواك
سوى
صرخة
تنهض من رميم الخنادق
وبأس الملاجئ
صرخة تقود الحشد النازف لمدار الذبيحة
صرخة تمتحن ذاكرة الناس
صرخة لتاريخ الهزائم

هكذا تتأتى شعرية العزف على وثر الومضة المبطنة بالمفارقة منقوعة في الخطاب الرّسالي الساخر. طاقة كاملة للجسد وجموح منقطع النظير للغة الاتكاء على معجم خصب تنساب أحرفه نازفة ومتخبّطة في دمها من هول الصرخة وجراء إملاءات المعاناة الصادقة في انجذابها إلى طقوس مخاتلة ورؤى نعسانة تتشرب حدّ الثمالة تاريخ الهزائم.