فوزية السندي: جسدت توازن قصيدتها بتناغم ثراء مفرداتها


كتب: سعد الدغمان
٢٦ أكتوبر ٢٠١٩

نسجت حروف قصائدها بأسلوب خطابي جميل تأخذك من خلاله لتكرس أسلوبًا شعريًا محافظًا على تكوين النص الشعري، منطلقة من رصيد معرفي وتاريخي مثلته الحركة الشعرية البحرينية على طول مسيرتها، فهي حركة رائدة زاخرة بزخم ما تتوافر عليه من الموروث الشعري، كما تنقل ألق ذلك الإبداع بمضامين ما تكتب. ضمنت أبياتها تصورات عدة كانت بمثابة صور شعرية كثفتها بتفخيم مفرداتها التي يحسها القارئ مرئية حين قراءتها، تناقلت بين الواقع والخيال لترسم بعبير كلماتها لوحات مختلفة تركن إلى الواقع مرة وإلى الخيال مرات. مازجت السندي بين الرؤية والانسجام، فأنتجت جنسًا متأنيًا حملته نصوصها، وتركت تجربة مغايرة لما موجود على الساحة الشعرية في البحرين، فاستحقت التميز.
قدمت الشاعرة فوزية السندي توازن بنية قصيدتها التي جاءت متناغمة مع ثراء مفرداتها، واستخدمت صيغ التجوال في فضاءات القصيدة معتمدة على ما تملكه من طاقات إبداعية في استخدام عناصر تكوين النص، والزخرفة اللغوية وما توفره الصورة الشعرية من ألفة في نفوس القراء. عمدت من ذلك إلى استخدام مغاير لكل المفردات المطروحة كصيغ خطاب متجاوزة إياه نحو كل ما يثري قصيدتها حتى الغرائبية منها لتسجل سبقًا ربما في القصيدة الحديثة.
لصمت البحر.. أنتهر الموت
لظل الضوء.. أنتحب الحب
بعد عناق قليل على رجة القلب
ارتميت بهدوء رملة على غدر مساء كاد كالقتل
محتواة بقميص أزرق
يتمرأى بشعر يتهاطل بمودة الغريب
بشفتين تعتزمان نحر سواقي الخجل
تهجيت جسدًا لا يداري هيجة البحر
جسدًا لا يهدأ ولا يمل من نهل صيحة الحب
استخدمت مفرداتها اللفظية واللغوية ووظفتنها لتضفي التماسك المطلوب على نصها، ولكيلا تبتعد عن رسم الصورة الأدبية بنمطيتها المعتادة. كما جاءت بالمفهوم التقليدي بتركيزها على مفردات لغوية مغايرة شكلت قصيدتها كوحدة متكاملة ينسجم فيها الشكل مع النص، وداخلت في النصوص الشعرية التي قدمتها مع التخيل أو الرمزية باستخدام صيغ المجاز، ولتشكل منها تناغما متناسقا للبنية التي قدمتها بحبكة مغايرة لما تنقله من صورة شعرية، كما أن تصاعدية الحدث في شعر السندي أضفى بعدًا آخر على شكل قصائدها، ولتبتعد من خلاله عما قد يوصف بالتكرار. جاءت بالوصف حينًا، وحينًا آخر مازجت بين الرؤية والانسجام مستخدمة التفخيم اللغوي الذي كرسته بأبياتها لتجسده صورًا شعرية في نفوس قرائها.
تلاهينا بصمت الموت
دون هواء واحد.. استقوى،
على خنق عناء الشهيق
لنحترق وحيدين معًا
حدقنا.. ضدنا،
لنلتئم معًا.. تمادينا نحونا
لننتهر معًا.. وميض هزيمة تقترب
مغتالة بغرابة عينين طافيتين بألم عميق
عميق كبئر.. لم يبق لي إلاّ
دمعٌ يتحدر بضراوة اليتم
آهات كتومة تؤجل أضرحة الليل
شهوة تدشن حبري بحب نادر
امرأة متروكة لسخاء الحسرة
لا تعرف ولا تدرك
قدّمت السندي بلاغة فنية في قصائدها، أرادت من خلالها أن تظهر المخزون اللغوي العميق في داخلها وتحولها إلى تجسيد فني يبهر القارئ، ويشعل لديه الرغبة في مواصلة القراءة بصورة أخاذة آسرة تحيطه أسوار بلاغة المفردات وفنية ما كتبت. وظفت الغائب، وجسدت القريب، وأعطت كل عنصر من عناصر التكوين مكانته والحيز الذي يتلاءم وماهية ذلك العنصر بدقة، فرسمت بكلماتها لوحات شعرية لا يجيدها الرسام الحقيقي، جاءت بمواضيع فلسفية أكثر مما أفردت للفلسفة من مجال في نصوصها.
ما يحدث لها من غريب العبء
كأنها تستعصي..
لتثق بوفير حب يتلاهب
به، تغاور حتم المهب.
جالسة نحو رمل يهديها خرس القواقع وعنف الغياب
أمامها البحر الوارث صخب أشرعة تغتر،
بصعب صوار تتكسر،
تتساهى عنها،
لئلا تسهى عنه
ذهبت لتكريس البدائل كثيرًا حتى طغت على قصائدها ومعانيها، لكنها أتقنت ذلك الاستخدام، فخرجت لوحاتها الفنية التي رسمتها بتأثير انتقاء الحروف قصائد رائعة حملت المعنى والصورة كشكل واحد للتعبير. كتبت في كل أشكال الشعر ومعانيه، حتى أخذ عليها في بداية إصدار ديوانها الأول «استفاقات» أنها ذهبت للوصف أكثر من غيره لما ضمنته من معالم ما يحيط بعالمها القريب، كما يؤخذ عليها أنها ذهبت باتجاه توظيف الجسد في لغة الحوار دون قصد، وإنما كان ذلك ما تفرضه عليها سياقات كتابة القصيدة والأجواء التي تحيطها.
أمعن قليلا في الحكاية لنراك
جسدا مشظى
موغلا في تماس الشظايا
لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق
جسدان امتطيا حلمة الزلزلة
وتناهبا في غيوب الطريق
في احتفالات الجسد
كم كنت قريبًا
يخال لي وأنا أقرأ لـ«فوزية السندي» أن أرواحا تتعقبني، تظهر من ثنايا أبياتها لتنشب اضفارها بي، لقد أخافتني مفرداتها جدًا، فهي عميقة الأثر، غائرة المعنى، دالة على كل شيء، وأي شيء، وكل الحب، وجل العنف والخديعة، رائعة فوزية في كل كلمة سطرتها على أرفف تلك القصيدة الغامضة، مثل جريمة اكتنفها الغموض، ولا نعرف لها حلاً.
فأي فرح ذاك الذي يغرق، وأي زلزلة يمتطيها جسدان، وأي احتفالات عنتها السندي بالجسد، ثم من ذا الذي كان قريبًا؟
إبهام متقن ينم عن دلالات مقرونة باليقين الذي إن أمسكته تلاشى وراء الجسد الذي تشظى.
رأفة بحتف حب قدير ببهجة التوق
يتقدم نحوها
تدير عينيها لمهالك لا تراها
بحر جاثم بمرايا تزرق من خجل جثث تتأوه
خلفها العالم كله، يستبد بعناد قذائف تتعدد
لتتناسى كل هذا الجحيم
تلتحم بحب فاحش، يتهامى بوجل غريب
حب، لينشحذ كمدية تفغر نواهي القلب
ينثال شيئا.. فشيئا
وينحر عبء الوريد
فوزية تترك بصماتها على واقع الشعر العربي، بل الساحة الأدبية العربية بشكل عام عبر ما خلدته من بوح يطوي صفحات التأويل، ويكرس لعالم آخر يمتلك القدرة على التعبير بتركيز فني وبلاغي، حازت فيه قصب السبق على غيرها لتميزها فيه، وقدرتها على المنافسة الحضارية بتألق. أبدعت فوزية السندي بتضمين المتغيرات، وبلاغة المتناقضات، فجاءت قصائدها لوحات إبداع تحمل من الفنية ما يفرض وجوده وبقوة.
«أسرحتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة
لأرى حوافر الريح برقا، أراها
تشطر في دماء الخلق
اقتراب وغربة منذ البدء
غزالة تفر نحوي
حافلة بأحجية تتهيأ
فاحتملت
كان فضاء القصيدة جبا
مقروءا بأصداء المذهل
والليل يفضح أسرار الحبر
ويستدير
ما من وحشة وتشد الصوت سجادة
أمعنتك في بياض الشقوق عشبا
وانحدارا يفضي إلى خندق الكلمات.
صوت في البرد
واحدس كالطيف بألوان القوس
في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل
كما للوقت ظلال السنديان
للهذيان رجرجة الأفق
أزين انطلاقة الجحيم في شكل يتداخل
في ظلي
فأرى بياض السماء قوافي تسرجني
في ملهاة النعش.