هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث المعنى هو النهر الذي لا تعبره مرتين

 

الكاتب/ محمود  محمد مدني

مجلة أوراق- العدد 89

9 ديسمبر 1986

 

هذه هي المرة الثانية التي أتناول فيها عملاً للشاعرة البحرينية فوزية السندي.كانت المرة الأولى عندما توقفت عند مجموعتها الشعرية الأولى (استفاقات) وفي هذه المرة أقف بتحديق أعمق عند اصدارها الجديد المعنون (هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) الصادر في طبعته الثانية عن المطبعة الشرقية في البحرين والواقع في 111 صفحة من القطع الوسط، وخلال الحديث عن المجموعة الشعرية لفوزية السندي يدور حديث عن(فضاء الشعر) والجاهزية الموسيقية وشحنتها الخلفية – الوجدانية- التراثية وكيف تتدخل في معمار قصيدة النثر، وتضم المجموعة الشعرية ( هل أرى ما حولي؟ هل أصف ما حدث) أربعين نصاً شعرياً تبدأ ب(نصوص مصقولة) وتنتهي ب(هل أرى ما حولي؟ هل أصف ما حدث) وكنت عند تناولي لمجموعة فوزية السندي(استفاقات) قد توقفت عند محاولتها التعامل مع المفردة بشكل يخرج هذه المفردة من عتمتها القديمة ويغير علاقاتها في أطار ما يسمح به التركيب الفني المتاح لها مع المفردات الأخرى والجو الشعري العام. كما لاحظت ان تلك المحاولة في (استفاقات) تتأرجح بين النضج في بعض النصوص والتسرع في الوصول إلى نتيجة، التي هي نوعية وليست تراكمية كمية.

 

تأسيس الشعر المعادي للعادية:

في( نصوص مصقولة) ونصوص أخرى في مجموعة فوزية السندي محاولة للإستمرار في تأسيس الشعر المعادي للعادية، وهو استمرار أيضاً للتعامل مع المفردة في إطار فضاء الشعر، والشاعر بشكل جديد يبقي الذاكرة الممتدة من (ديوان العرب) كمجموع ولا يحرص على بقاء الذاكرة المفرداتية الأستعمالية كما هي ملزمة للشاعر، الذي لكي يخلق ويبدع لابد ان يكون حراً- بوعي-إلى ابعد الحدود في المجال التركيبي للشعر نفسه.

وفي النص الأخير من (نصوص مصقولة)  تمضي الشاعرة في اتجاهها الذي يحتاج إلى مزيد من الوقت والتجريب والمغامرة ليستكمل دورته الدموية وينتصر على الأصوات الخلفية التي تشوش اتساقه.

” كل هذا الجور لي

لي براثن الشكوك وانهمار القساوة ومرارة الأثم

لم تحققت ايتها الحبيبة في لوعة الجداول ومنتهى الهياكل

واتاك كل هذا البطش والندف لأجراس تنكأ الجسد وتهلل الاضلاع

بارقة بعناوين المهانة

شاق علي،

أسوي كل بحورك و القيها في حمحمة ضارية

و من لي،

غير طيف يدق نوافذ الرعشة في ليل البرد

جمرة أسرجها بين معاطف الوقت

لوزة تمايل ولهي اللاهب في صمت

ايتها المرأة.. يا مرآتي

أشفيك.”

 

وكأن الشاعرة في هذا المقطع تحاول أن تثبت أن الحلم يبدأ من اللامتناهي وإلى اللامتناهي يعود.

والمحاولة الصعبة هي تفجير الحلم لغة، أوكتابة اللغة-الحلم. ففي اللغة-الحلم تصير(المرأة) (مرآة) وتنثر(عناوين المهانة) على رؤوس الداخلين إلى حلبة الكابوس. وكأن الشعر في هذه الحالة يتمرد على التكوين الكتابي ليعود إلى التكوين الحلمي الذي كان أصلاً قبل تدخل قناة اللغة. وتتمثل صعوبة هذه السباحة في ان طفولة الحلم ليست هي سيمترياً طفولة اللغة، وهذا يضيق مجال الحركة ويوسع في نفس الوقت مجال اللامتناهي أو حركة الحلم.

فالذاكرة الشعرية والاطار الشعري- على مستوى اللغة من حيث البنية والمتفق عليه، وكله نثري وممعن في النثرية- لا يتحكمان في الانفعال ولكنهما يتدخلان بأشكال كثيرة متشابكة ومعقدة في التوصيل، في الجسر بين القصيدة- الشاعر- و(الآخر). وهذه العلاقة واحدة من أهم الإشكاليات في الشعر العربي القديم والحديث، رغم اختلاف الهموم وفضاءات الشعر والشعراء.

واذا كان الشعر-الآن- هو جزء من حركة العالم فان اللغة-الحلم لا توجد الا في انتصارها النهائي على فساد النثري( المرتب سلفاً والمتفق عليه مما شكل كل حالات القسر والهيمنة غير المبررة الا في أطار تاريخي) المعطل لتقدم الحلم اللغوي نفسه حتى لا يفاجئه الصحو المرتب فيطير نعاسه الجميل ويحول أنهاره إلى مستنقعات ومجاري متعفنة. ان استمرار اللامتناهي -حلماً- يستطرد بضرورة جمالية في اللامتناهي-لغة-.

هذا هو الشعر المفاجىء أو هذه هي ( السماء المضادة) التي يظل الشعر في حاجة دائمة لها كما يقول لوتريامون، أو(ان الشعر هو تعويض عن اللغة) على حد تعبير مالارميه، وفي (نوافذ للفتح) تعلن الشاعرة:

“أجدني في تلاؤم دائم

بلا مبرر

واثقة ومحلقة

بلاضفاف.. منبعثة هكذا

عبر النوافذ ومزاليجها

لا يحدني أحد

أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

اطلق رغوة الأفق

أمرغ قوس قزح بحرية ألواني

أضج بالفضاء

وكعادتي أفيق”

هذا الذي يتحقق عبر(العادة) ونسميه (الصحو) وتشير اليه الشاعرة

(أضج بالفضاء، وكعادتي أفيق) في حالة تصادمية مع الحلم على مستويين: المستوى الأول مع الحلم- المشهد(من خلال الاستجابة والأداء) والحلم اللغة، لايوقظ -هذا الذي يتحقق عبر العادة- الا المتنافر والمشتت ولا يتيح الفرصة مطلقاً لوحدة-المشهد-اللغة-الحلم.

كما ان الشاعرة في محاولتها التي تتكرر وتستطرد في هذه المجموعة لاحداث اضاءة جديدة في جسم وحركة المفردة في اطار التركيب الشعري، لا تلجأ-الا في بعض الاحيان- إلى الاهتمام بتغيير العلاقة الشكلية بين المفردة، والمفردات الأخرى الا بالقدر الذي يخدم العلاقة الداخلية العميقة للمفردة والمفردات الأخرى في أطار التركيب الشعري، لكي لا تنتحر عند أبواب النثر العادي والمرتب – الذي لا يحتمل فوضى الصورة الشعرية الكاشفة والمفاجئة- والمشوش بفعل الخوف من الحلم في ذات الوقت.

وهذا الاهتمام بإحداث الاضاءة للعلاقة الداخلية للمفردة ليس ترفاً عند الشاعرة فوزية السندي، ولكنه هم حقيقي مزعج. انه اهتمام يؤكده ان الشاعرة تتعامل مع مجموعة من القيم الجمالية، فلا ترتبط بفسيفساء ما هو موجود وكائن وواقع، أي انها لا تتعامل مع قيمة سكونية (الترتيب المسبق) بل مع قيم لا تنبع الا من خلال العملية الابداعية نفسها. فاللغة-الحلم في حالة المشهد والفضاء الشعري لا تكون ( ترتيباً مسبقاً بأي حال من الأحوال.)

 

مادة الشعر، اللغة أم الحلم

يقول أدونيس في الحوار المثبت في الباب السادس من كتاب( أسئلة الشعر) لمنير عكش:

( كل شيء ينصهر في الشعر، لأن الشعر ليس طريقة للتعبير فقط، أنه وجود وطريقة وجود، لذلك تجد كل القيم تنصهر فيه. أنا أذهب الى أبعد من التوازن بين الأنا والآخر. الشعر عندي نوع من الوحدة. وحين أبحث عن حل لتناقضات الخارج، فكأني أبحث عن حل لتناقضات الداخل، كأنني أحول العالم إلى شعر) صفحة 125.

و حين سئل أدونيس عن( مامعنى المعنى) قال: هو شيء اذا فقدته، تشعر انك تنزلق في هاوية من الرمل لا قرار لها. هو نوع من الأساس، نوع من الصخر، وان كان يحلو لي أحيانا أن أسمي الصخرة موجة. المعنى حركة. بعد غير محدود. هو الماء. النهرلا تعبه مرتين، كما يقول هراقليسطس. ومن هنا أهمية الصورة، العالم الخارجي)” صفحة131″

في نص “شعائر” تعمق الشاعرة محاولتها لرسم حدود الحلم للنهر الذي لا يمكن عبوره مرتين:

” لا ريب من تحلق المكائد حولنا

مثل غبار يرصد الحدائق الباهية

بسمادها المبلل وغضاضة جوارها

لكننا

نهفو لأجراس المراعي وغنج غيومها

ثلوج الغابات وضواريها المتدفقة

لألأة الأنهار بأوراق النعناع

وأعشابها الطافية وتماسيحها المنذهلة

نحلم

بصناديق الموانيء الصدئة

ومخازنها المكتظة بالسواعد الموحلة كالشرر

والخمارات المتاحة ببطش البحارة

ومجونهم الآفك

وشعورهم المتهدلة كسلاسل وصوار تعبة

لكن

نقدرُ أن نتموسق في وتائر موطوءة بخيالنا وخمائره

في انفلاتها المخبول

هكذا نعب في شعائر مضللة

ونفحات عابرة

دون تعثر.” صفحة 34-35″

ونلاحظ ان الفاعلية الشعرية في هذا النص، في اطار حوارها مع (الآخر) والحديث هنا عن(الأنا) الشاعرة و(الأنا) المتلقية لدفق الشعر وغرائبيته ومفاجأته وحسمه الحلميـة تتجاوز الامكان في محاولة الوصول الي تحقيق هذاالامكان حلمياً- مشهدياً، وحلمياً لغوياً في نفس الوقت. وهذا يعني أن الشاعر لايمكن له تحويل(العالم) إلى (شعر) على حد تعبير أدونيس الا بدمج اللغة في الحلم فيصبح مشروع اللغة- الحلم ممكن التحقيق في هذه الحالة فقط.(فلألأة الأنهار بأوراق النعناع)و(التماسيح الذاهلة)و(التموسق في وتائر موطوءة بالخيال وخمائره).. الخ كلها أجزاء عضوية من المشهد، نثارات في فضاء الشعر والشاعر،انه الاتجاه على طريق النهر الذي لا يعبره(الآخر، المتلقي) مرتين كما أن(وحدة الشعر) لا تتم الا عبر بنية لا تناقض فيها بين(مادة) الشعر ومواعينه الفنية الجمالية. اى ان وحدة الشعر لا تتم الا في (زمن الشعر)وهو زمن داخلي-احتفالي غامض بل وسري في كثير من الاحيان لانه يزاوج دون شروط أو ترتيبات مسبقة.

و (وحدة الشعر) هذه ليست مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالتراث الشكلي للقصيدة العربية، ولكنها في نفس الوقت لا تتم عن فراغ، أي ان لها اطرها الخاصة وتمردها الخاص وثورتها الخاصة على مستوى الحلم ومستوى التعبير. وهذا هو ما عناه أدونيس عندما تحدث عن (وجود الشعر)

وهنا يمكن الاشارة الى مقولة منير العكش في كتابه( أسئلة الشعر) ان خروج المتحول من تراثه كالخروج من العالم، كلاهما يرتكز على مبدأ بسيط ومعقد في آن، هو مبدأ الحرية. والحرية بمفهومها البسيط من خصائص كل موجود تحرر من قيوده، وعمل بمقتضى ارادته وطبيعته كحرية الجسم الساقط نحو مركز الارض.

لكن أحداً لا يمارس حرية الخروج من العالم على طريقة الجسم الساقط الا حين تصبح له خصائص هذا الجسم ويحكمه قانون السقوط خارج العالم. فاذا كان جماداً قلنا سقط واذا كان حياً عاقلاً قلنا انتحر).

 

هل أصف ماحدث؟

وفي نص (هل أرى ماحولي، هل أصف ماحدث؟) تحاول الشاعرة أن تقيم وحدة الشعر تحت سماء مضادة تتغير فيها كل العلاقات التي تكون في النهاية التعويض عن اللغة حالة كونها خارج حدائق الشعر فلا تطفىء اشتعاله، ولا تتآمرعليه بذهنية خلاسية مفككة( أتيت لمنتهى البريق مشعلة أقراص الدوران حول أكتاف تؤازر الحجر في كراسها المختوم بالأخبار، تنادم البقية، سلاماً لإستلامي وثوق الماء وأعنة الهواء، لمعاصم مصقولة التوق والهجس والبديع من الأحوال.هذا ما رأيت:

متسعاً يفيض على حديه بلون الفضة، يغمر بلور الماء، وينحكم كحلم تاه، مارداً في يديه أشلاء كوابيس زرقاء، وضحايا أضغاث وأشياء تقبل نحوي بجماجمها وعظام الأكتاف المنخورة، تدعسني فأصحو، تدعسني فأصحو، في كبوة الحلم أراه، دغلاً يستبق الخطى بضوار كالكلمات ونتؤاتها الثاقبة، أهدر منتشلة صمت زواياه، أبقيه وأبحث عني، وآخر السلالم الملتوية كأفاع تحدق في، أرفعها بهدوء، وأشد الأضلاع، تهيأتُ:)صفحة 106

وفي نص(متواليات) يعود الشعر( المادة) إلى داخل الذات بشكل كاد يكون كاملاً وينسى تحولات العالم التي لا تجسد التجربة مع الذات بقدر ما تشكل حالة (ترسية) في بنية الشعر نفسه. وفي هذا النص وبعض النصوص المتفرقة في مجموعة فوزية السندي تطل(الردة) عن موقف الشعر من تحولات العالم برأسها. وأتصور أن الشاعرة بأصرارها على التخطي والتجاوز والأضاءة المستمرة لعتمة اللغة الناقلة للتجربة مروراً بزمن الشعر، سوف تتدارك هذه الردة.

يقول الشاعر محمود درويش في الحوار المثبت في الباب الخامس من كتاب(زمن الشعر) لمنير العكش:

( وقد تقول بطريقة أخرى أن الوعي يحتاج إلى تفجير من اللاوعي لكي يتحول الى فن. وقد تكون هذه المسألة هي ما يميز الشعر عن أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى) صفحة121

وفي متواليات تقول الشاعرة:

“أشك خيوط الدقائق المنفلتة ببرودي وأنا تنور الهدأة

ونهضة البراكين

مصطلية.”

 

وتقول:

“أحن صفائح مجدك الفاتر

واحتمل حجر المصائر

وخرائب الوقت من حولك

لاتمل.”

 

تخرج الجاهزية الموسيقية- الخلفية-التراثية في المقطع الأخير، وهذه أيضا(ردة) أخرى تحاصر انطلاق اللغة- الحلم في اتجاه المغاير، المنفلت والباحث عن السماء المضادة للمبتذل والمؤطر خارجه. وهذه (الردة) مع بثور أخرى متناثرة في الجسد الشعري لفوزية السندي، لابد أن تصهرها نار التجريب الواعي المدرك للأبعاد والمقاسات والحسابات المختلفة في المرحلة القادمة وصولاً الى (وحدة الشعر) تمهيداً ل(تحويل العالم الى شعر) ويمكن القول أن في مجموعة( هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) ما يحسب بشكل أيجابي – جمالي للشاعرة في محاولتها لإخراج لغتها من سراديب الأعتياد والترتيب المسبق.

 

 

 

 

الشعر طاقة تعبيرية محملة بتحديات الروح للحياة

 

كتب: خلود الفلاح
جريدة العرب- 18-2-2009


الشعر طاقة تعبيرية محملة بتحديات الروح للحياة.
تكتب فوزية السندي فينساب النص بشفافية تعكس تطلعات الشاعرة ورؤاها في الحياة والموت*الحب والكره*الحرية والكبت.
قصيدتها تبحث عن تميزها وهي كما تقول أحيا بمتعة الاكتشاف.
www.fawzeya-alsendi.com 
عبر فضاءها الإلكتروني تمكنت من التعرف على كتابات الشاعرة*وهذا ما يدفعني للقول شكرا لشبكة الإنترنت على هذا التواصل الجميل.
للشاعرة فوزية السندي صدر:استفاقات *هل أرى ما حولي*هل أصف ما حدث*حنجرة الغائب*آخر المهب. ملاذ الروح*رهينة الألم.
*
تقول الشاعرة إيميلي ديكنسون “عندما تقرأ نصاً فتصيبك تلك الرعشة*فأعرف انك تقرأ شعرا” والشاعرة فوزية السندي ماذا تقول عن الشعر؟
الشعر طاقة تعبيرية محملة بتحديات الروح تجاه هذه الحياة* حدوث القشعريرة آت من تلقينا لذبذبات وترددات طاقية صادرة من الحروف ذاتها* مشحونة بمشاعرنا* معبرة عن حالنا* تلك حروف تتسق في كلمات تتضامن مع بعضها لإشعال صورة شعرية مؤثرة* هذه الذبذبات هي طاقة صادرة من التجربة الإنسانية طيلة حياتنا* وكلما اقترن الشعر بحرارة الصدق التعبيري كلما استطاع أن يخلق هذا التأثير الملائكي بعمق أشد شفافية وأبعد مدى:
مصفدة أكثر مما ينبغي*
محتواة بحديد لا يُحد
مدشنة بغريب العبء*
مرسلة لمثاوي الحجر
ومع ذلك*
أحاول أن أحلّق بأقصى جناح يحتمل.

الحرف طريق الحبر
الحبر ضريح الحرف
يمضيان الحياة والموت معاً
بلا هلع البدء ولا مسرة النهايات
لذا يتقنان كل شيء.

*هل يمكن الحديث اليوم عن علاقة بين النص الحديث والواقع إذا كان النص الحديث لا يهتم إلا بما هو هامشي أو مهمل؟
أحد أوجه مصاب المشهد الثقافي العربي كامن في تلك الاطلاقات* والتعميمات أمام الشعر بالذات* كيف لا يكون للشعر صلة بالواقع وهو صادر عن كائن حي يحيا ويتأثر ويكتب* إذا كنا نتحدث عن الشعر وليس النظم أو تحبير الورقة بالكلمات* النص الشعري الصادر عن موهبة تحدق في الحياة* لا يتخلق على الورق إلا إذا كان يومض بنبض القلب:
قبل الورقة* قلما أرى
وبعدها*
يضلُّ النظر.
الغبار حكمة الصحراء
به تداوي غرور تلالٍ تتصاعد.
عندما تنتزع الأفعى جلدها الأخير
تحرضه دومًا على نحت جديدها القديم
لتتقدم به.

للزواحف موهبة أصابع
ترتسم دومًا على ترابٍ ضرير
لتكسر سر هذا الطريق.
*
في ديوانك “رهينة الألم “أجدك تؤثثين لفلسفة الغياب والفقد والوجع الألم “أجدك الذي على نصك ان يقوله ويسمعه؟
رهينة الألم تجربة تكثفت مآلاتها من خلال وقت ادلهمت فيه تجارب الفقد وأنارت لي علاقتي ومعرفتي بالموت* رحيل صديقتي ووالدتي ووالدي تباعاً* خلال شهور قليلة تفصل بينهم*وقت أتقنت فيه معنى الألم عندما يضفي حكمة الحياة وجلال المحبة على قلوبنا* كنت بحاجة للتوغل أكثر في مناجاة روافده وتفاصيله طيلة الألم* لذا بدأت النهل من بئر روحي* لأتمكن من تجاوز تحدياته العنيفة آنذاك.
الشعر مرآة روحي التي أنصت لها:
رهينة الألم:
كتابة* لم أكتبها.. لأكتشف الألم
بل لأعرف مداه*
و
مآلات صداه.
*
مما يتشكل العالم الذي تحلمين به؟
الحلم يغوينا لتدارك الأسئلة التي لابد من معرفتها لنتمكن من معرفتنا* العالم ليس ما أحلم به بل ما أراه يتشكل أمامي* وأتوق لاكتشافه ومعرفته أكثر* محاولة التماس معه بعمق* التغيير يبدأ منى لا منه* لأعرفه اجتهد لمعرفتي* ممتنة للحياة التي ترافقني في كل نبض ونفس* لنا أن نقدر معنى هذا الهبة* فلا نهدر النعم بتصاعد العنف والتخريب وتزايد الألم وتعميم الشقاء الإنساني* الحياة لا تلام* بل أنفسنا ونحن نورث الدمار تلو الدمار:
كل ورقة* أشعل الليل
ليخجل من فحم حرف
صار أشد منه.
عندما نال الليل
ما يعجز عنه جائر الحرف
أسلمت ردائي لعنوة الصباح
لطلقة تستبد بفيء الليل
كأني لم أحيا لغير ضوء الرصاص.

*القصيدة اليوم تبحث عن تميزها*أن تكون مغامرة*عن نبض حياة جديد. هل قصيدة فوزية السندي تبحث عن ذلك؟ وهل للمخزون المعرفي دوره في الكتابة؟
المعرفة زاد الرؤيا التي تنساب على الورق* والمعرفة ليست المنهالة علينا من مصادر الثقافة الإنسانية فقط* بل تناغم هذه المنابع مع الوعي الكوني الصادر من شمولية التجربة الإنسانية* من تماسنا مع مصائر الحياة وكائناتها.
كل عمل فني رؤيوي يتقد بتميزه لكونه يعبر عن روح متميزة* فريدة بكل تفاصيلها وصفاتها عن الآخرين* ليست نصوصي ما تبحث عن ذلك بل أنا أيضاً أحيا الحياة بمتعة الاكتشاف والبحث الدائم:
الكتابةُ كالنمرة*
ملتاعة بموهبة توآتي براعة العضل
بغرورِ طيشٍ يستحل هبوبَ المخالب
بطش عنيف ضد من لا يباريه*
ومن لا يهتال منه.

*كيف يمكن الوصول إلى حداثة شعرية متجددة تسعى إلى ارتياد فعل التجريب والمغامرة؟
لا أعرف كيف* بل أكتب ما أحياه لأعرف* الطريق أجمل من الوصول إلى غايات ونهايات عظمى* الكتابة وحدها تكفي:
الشعر كما النهر*
مبتلى باندفاع حروف عنيدة
تستميت*
لئلا تمس من أحد.. مرة أخرى.

بعدما بعثرت ثيابها وارتدتك
أغلقت غرفتها
واعتنت بغيابك.

*تكتبين بحس الأنثى أم بحس الأنثى الشاعرة؟
أكتب بأحاسيس تشبهني.
امرأة تنام في الكون
وتفتش عنه.

 

فوزية السندي – احتفالات ومعارك الجسد

 

الشاعرة ظبية خميس

فوزية السندي شاعرة بحرينية حديثة. وهي من مواليد 1957 في البحرين، وقد درست في القاهرة ويذكر د. علوي الهاشمي في كشافه التحليلي المصور عن شعراء البحرين المعاصرين، أنها بدأت كتابة الشعر عام 1975، ثم أخذت تنشره بين عامي 1979- 1980 في الصحف الخليجية والعربية، وقد أصدرت الشاعرة مجموعتها الشعرية الأولى “استفاقات” عام 1984، ثم أعقبتها عام 1986 بمجموعتها الثانية “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث”. ويرى د. علوي الهاشمي أن فوزية السندي تعتبر الآن أبرز شعراء قصيدة النثر في البحرين بعد قاسم حداد الذي شق هذا الطريق فنيا.

ورغم قلة أعمال الشاعرة المنشورة غير أنها قطعت رحلة كبيرة بين عمليها المنشورين. بدأت فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” متأثرة بمناخات قصيدة النثر التي طرحت هيمنتها على الأجواء الشعرية الخليجية منذ نهاية السبعينات، كما تأثرت بالأحداث السياسية العربية الدرامية الكبرى فخرج عملها “استفاقات ” مرتبكا في شكله الفني ولفته الشعرية ضمن لغة تحاول أن تجسد أسلوبيتها بين قصيدتي النثر والتفعيلة، وأخذت الشاعرة تكتب بصدى القصيدة العربية الحديثة التي تنقل السياسة إلى الشعر ضمن أجواء العنف، والدم، والمأساوية.

إن قصيدة فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” هي قصيدة الفزع، والرعب التي تحاول أن توصف العنف والدموية المحيطين بعالمها. وهي في تلعثمها ذلك تلجأ إلى الجسد وتوظفه في القصيدة بصورة عفوية تشارك فيها عددا من الكاتبات في ظاهرة توظيف الجسد، شعريا. فالجسد عند فوزية السندي هو حالة التشظي، والجرح، والعنف. وهو أيضا، حالة الحب والحلم وملجؤها فيما تحاوله من رحلات روحية تفر إليها.

ويحتوي العمل على ست عشرة قصيدة معنية بتوصيف العنف السياسي ضمن لغة شعرية  تبدأ في التشكل، وهي:

احتفالات الجسد، حصار تسمى واسميك الوطن، النورس، الحوار الأخير للبحر، نذور، الجمرة، وطن يزهو في القلب، استفاقات، مكاشفة، للبدء سلام، عندما يورق ريف القلب، أنصار، شهوة الوصايا، ذاكرة، الدم، رايات القلب، ووقت للقصيدة.

يكتب الباحث د. علوي الهاشمي عن تجربة فوزية السندي في عملها الشعري الأول “استفاقات”: “يلاحظ في البنية الإيقاعية في مجموعة “استفاقات ” ترددها بين قصيدة النثر وبنية التفعيلة ضمن القصيدة الواحدة. وهو تردد لم يسلم منه أي نص في المجموعة المذكورة، مما كان يعكس قلق تجربة الشاعرة، إجمالا، وتأرجحها بين بنية ثابتة تحرص على تجاوزها وبنية وليدة تهفو الى بلوغها أو الهجس بها. وقد تجسد هذا القلق على مستوى المضمون الفني في إطار ما دعوناه في بحوثنا بظاهرة “الهم الإبداعي”، بحيث شكلت عناصر مثل (القافية والوزن والبلاغة والخيال والكتابة واللغة والمجاز والحرف والكلمات والصورة والإيقاع والقصيدة والنحو والصرف وغيرها من عناصر الإبداع). مفردات ذات أهمية خاصة في مجموعة “استفاقات ” الى الحد الذي استغرق الشاعرة في كثير من الحالات مما جعل من هذا الهم الإبداعي نفسه موضوعا لعدد من القصائد كما يبدو من عناوينها مثل “وقت للقصيدة “.

وفوزية السندي تنشغل بعدد من المحاور في قصائد “استفاقات ” أبرزها محور الرعب والكابوسية المسيطرة على أجواء القصائد، ثم هاجس الأنثى الجسد والمفنى، وأخيرا محاولة ترسيخ لمفهوم ودور القصيدة عبر الشعر نفسه. تقول في قصيدتها “احتفالات الجسد”:

– “لا تشهق في حضور الجناز المهيأ للعرس هذه نار تفضح العائلة في احتفالات الرماد فهرولت المداخل ربما لهو راجع من جحيم المأتم ربما قتل تسربل في شقوق الخوف واختار المدينة ربما رنين يصعد قبل أن يحرثها المد أو تجثو لجسارة الطوفان “.

ثمة مزاوجة واضحة ومفزعة لعرس الرعب والجنازة في مفرداتها هنا جنبا إلى جنب ودموية تدلف الى روح الشعر لتعبر عن ذلك القلق المفزع في قصائد فوزية السندي مشيرة إلى الأجواء النفسية المهيمنة على معظم قصائد هذه المجموعة.

وهي توظف الجسد بضراوة في القصيدة، وفي احتفالات الرعب الشعري الذي تصنعه. وهذه نماذج لذلك التوظيف

في القصيدة نفسها إذ تقول الشاعرة:

  • “أمعن قليلا في الحكاية لنراك
  • جسدا مشظى

موغلا في تماس الشظايا”.

– “لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق

جسدان امتطيا حلمة الزلزلة

وتناهبا في غيوب الطريق

في احتفالات الجسد

كم كنت قريباً”.

– “في مساء كالذي حدقت فيه

اتصل الجسد بسطوة الكتابة “.

الكابوس، والحلم، والكتابة يداً بيد عبر وسيلة الجسد الذي تعبث به الحروف وتنشب فيه مخالبها في لعبة متصلة تعكس شكل الأظافر التي تحفر اللحم، بهذه الطريقة تكتب الشاعرة عملها الأول معتمدة على مخزون مرعب له دلالاته النفسية -الأدبية المختلفة.

وفي قصيدتها “حصاراً تسمى وأسميك الوطن ” تزدحم هواجس الموت، والقتل والرعب عبر مفردات الفزع في هذه القصيدة مثل: (طوفان الرعب، الهالك، الجنون، الضال، المحارب، الحذر القاتل، سدة القهر، اغتيال اللحظات، انفجار اللغة البكر، عقم الوقت، الطفل المحاذر، احتدام المجازر، الموت الجميل، لدغات خطاك، الحصار، الموت المتداول بين الأرصفة، أتأبط فزعي حد الإغماء، أحاور هلعي حد الإصغاء، المحرقة اتسعت).

وكنموذج للكابوسية والرعب في قصيدتها هذا المقطع من القصيدة نفسها:

– “هيأت الشمس لتشرق

فأغرقها البحر

حدقت في البحر ليغضب

فاستل الموج

وهددني بالطوفان

فأغرقني الضحك

وحدقت “.

وتستيقظ ذاكرة الذات الأنثوية في قصيدة الشاعرة “النورس ” وباستخدام درامي وعنيف، أيضا إذ تقول:

– “انهال كالرمح

غطى المناديل في الليل بالدم

وعرى شتاء البلاد الحزين من الصمت “.

– “طفل، وردة

والسجن ساحة الوقت

نهد، نهر

والرعب ساعة البيت “.

إن هذا الدمج الذي يتكرر بين الذكورة والعنف يجعل الرعب معشعشا في البيت والجسد والبلاد، والشاعرة لا تنسى ذلك أبدا طوال رحلتها الشعرية في العملين المنشورين. بل إن هذا الرعب ينتقل الى مفهومها للشعر، والقصيدة، أيضا فهي بالنسبة إليها وجه آخر من وجوه العنف في الحياة والمخيلة، اذ تقول في قصيدتها “النورس “:

– “هكذا تأتي القصيدة

تأتي القذيفة

هكذا

تحتل البياض الحالم نار

والرمز نصل يحتال كالعرش.

وقواف تعدو

تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات فأعرف،

أستشرف لون الأفق كنجمة برد”.

إذن الشعر وعاء حربي لكل ذلك العنف المرعب الذي يسكن رأس الشاعرة وكأنها خرجت للتو من مجزرة لانهاية لها حيث القصيدة قذيفة، والقوافي شظايا. سيظل سؤال الشعر مؤرقا للشاعرة حتى نهاية الديوان وسيأخذ شكلا آخر من الأشكال الاعتراضية في مجموعتها الشعرية الثانية.

والبحر مستيقظ جدا في مفردات الشاعرة الشعرية فهو المدى الممكن والوحيد لكل تلك الحرائق التي تشتعل في خطوات مفرداتها في القصائد. ويأخذ البحر تجليات عديدة في قصيدتها “الحوار الأخير للبحر” إذ تقول الشاعرة:

– “أفقت

غريقاً أبحر من النزف ”

– “لازمت البحر…

شعر أم شرك يشعل وقت الماء

عويل أم عصف هذا النزف المحرك والكامن

في لدغات تشعل هلعي”.

  • “يأسرني

بحر يمتشق الزفرات ويلهث في الأفق الغائم”

إن مفردات البحر، النزيف، الماء تمثل حالة سيولة متشكلة في القصيدة عبر حالات مختلفة ولننظر إلى هذه الصورة الشعرية “غريقا أبحر من النزف ” إنها لا تشكل حالة موت بل حالة استفاقة ويقظة لدى الشاعرة يجتمع فيهما فعل الإبحار وحالة النزف ووضعية الغرق في وقت واحد حيث البحر محير للشاعرة ودنيا كاملة لكوابيسها وصاحب لا يتركها. البحر شعر وشرك، عويل، وعصف وحرائق تشعل وقت الماء والهلع في ذلك النزف المتحرك الكامن – نزفها الباطني الذي يلتقي بحدة شاسعة مع محيط البحر فلا تفرق آنذاك بين الماء ونزيف الدم. والبحر لا يطلق سراح الشاعرة، فهي أسيرة لديه يسيطر عليها ويمتشق زفراتها ويلهث وكأنه فارسها الذي يمارس ساديته عليها دونما تمييز وهي واقعة تماما كفريسة تنظر إلى مخالبه وتغرق فيها.

لا يترك البحر صور القصائد الشعرية فها هو في قصيدتها “نذور” يرتبط بصورة الوطن المهزوم، إذ تقول الشاعرة:

– “للوطن المحتل

وللقلب المعتل

بهدير الأقدام المغلولة حتى الأعناق “.

وتوظف البحر مرة ثانية في قصيدتها “استفاقات ” مخاطبة الذات الأنثوية بقولها:

– “كالبحر أفيقي

موجاً أو امرأة

في صوتي يحتدم الآن مسار جراحك

في أحداقي المجبولة بالرعش

سيكبر وجدك

فأفيقي”.

إن اليقظة غرق وبحر وموج وهدير. هذا التوحد المطلق بالبحر بين الرعب واليقظة بين الجرح

والشفاء. وتكمل الشاعرة مخاطبة تلك الذات قائلة:

– “يا غصون الشبق اللاهث في كفي استفيقي

أفقاً أو وطناً

أهز عيوني في وله

أهز غصون الرعب والحب

أفيقي”.

إن الحركة مستمرة ما بين تلاطم الموج وهز غصون الأنوثة والرعب والحب يورقان معا في نفس الشجرة والبحر.

وتحدد الشاعرة خطابها للأنوثة في قصيدتها “للبدء سلام ” إذ تقول:

– “لشوق امرأة تنسج في الليل رداء الدفء

وتبحث عن نقطة ضوء في العتمة

أقول سلاما”

“بدءاً

أحمل لغة النار وعفن الرجعة

أطفئ شهوات الليل المنبثة

من هذا الجيف الماثل فوق الهامات المتكئة “.

إن هذا الإعلان الواضح للنوايا الشعرية يبوح بوضوح بصوت عميق يأتي غير هادىء من الداخل ويعلن مداه في الأشياء. من ذاكرة العنف والظلام ينطلق البحث عن الضوء والسلام وبلغة محذرة تدرك جحيمها والدنيا التي تود أن تقوضها خارجة من مقابر الجيف باحثة عن خطوها في نارها الخاصة.

تختم فوزية السندي ديوانها “استفاقات ” بقصيدتها الأخيرة “وقت للقصيدة ” ولعلها أقوى القصائد المكتوبة، عربيا، والتي تعبر عن رحلة تلك الذات -الأنثى بحثا عن صوتها وقدرة البوح، وهي تختصر في قولها ذلك عالما مطويا، ومنبوشا في الوقت نفسه تدركه الشاعرة بوعيها الفني والحضاري. وأدرج القصيدة هنا بكاملها لمالها من أهمية دلالية كبيرة لموضوع هذا البحث، ولتميزها الخاص الذي قلما حاولت الكثيرات أن يقلنه عبر أزمنة طويلة:

“أسرجتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة

لأرى حوافر الريح برقا، أراها

تشطر في دماء الخلق

اقتراب وغربة منذ البدء

غزالة تفر نحوي

حافلة بأحجية تتهيأ

فاحتملت

كان فضاء القصيدة جباً

مقروءاً بأصداء المذهل

والليل يفضح أسرار الحبر

ويستدير

ما من وحشة وتشد الصوت سجادة

أمعنتك في بياض الشقوق عشباً

وانحداراً يفضي الى خندق الكلمات.

صوت في البرد

وأحدس كالطيف بألوان القوس

في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل

كما للوقت ظلال السنديان

للهذيان رجرجة الأفق

في ظلي

فأرى بياض السماء قوافي تسرجني

في ملهاة النعش

استفرد بهزيع الحقول – بالمفردة

ألازم أزميل الروح

لست ساهياً

أهدهد المناجل، تجري مثل دمي

تيممت بهدير اللغات

أرى الكلمات وأرقب الحدائق

اتموسق في أوزان رهيفة تلد الأوزان

والجمرة ملهاة العاشق

فمن يقرأ!،

حرف يوازي وجع القصيدة

ليس سراً

كان قبراً بهول السؤال والبحث

يتحول،

ينثر فينا صباحاً حزيناً ثقيل الخطو

في نشرة الموت يشرع أعضاؤنا قلاعاً

ويقلم الطفولة

ليست…

هذه المشانق للشاهق

من شعر القلب ووطن الغفلة

هذي الجمرات لغرف الرأس المكتظة بالسيقان

كان صباحاً جميلاً وشهياً

فليس غريب

أن أحلم القهوة ذات بكاء

أن أخيط اللهب من وحشة الطرقات

وأناهض

سرت وقرأتك وحدك في الصحوة

كنت كالوقت “.

إن فوزية السندي وبصورة شعرية عميقة ومكثفة تطرح علاقتها بالقصيدة كأنثى، طارحة ظلال هذه العلاقة عبر تاريخ الثقافة العربية. فالقصيدة فرس مسرجة بالأسرار والخبايا الغوامض، هي وسيلة الفروسية القديمة بإشارة ما تبدو غامضة الى الفحولة والفروسية القديمة للشعر. والقصيدة هي جذوة الخطيئة ولكن لمن ؟ أيكون لها هي الأنثى العربية التي تحاورها وتحاول ان تروضها مرتكبة بذلك (جذوة الخطيئة). إن القصيدة أحجية تتحداها، وجب عليها أن تغوص فيه وللحبر أسرار معرضة للفضيحة. إذن القصيدة للشاعرة هي: فضاء الجب، وفضيحة أسرار الحبر، وعشب بياض الشقوق، وخندق للكلمات. والشاعرة تجمع هنا ما بين ذاكرة الفروسية الشعرية وما بين فعل الاقتحام الذي تمارسه عليها كأنثى مبدعة تسعي نحو العشب الذي ينبت من تلك الشقوق التاريخية. خروجاً من برد ما ولربما برد الصمت ووحشته صارت القصيدة هي الحدس، ونشوة التخيل وهي “كالطيف بألوان القوس ” ان فعل الكتابة هو طرق على خدر الفعل، على غيبوبة النسيان الطويل لذلك الصوت الذي يحاول أن يرج الأفق بهذيانه.

إن كتابة القصيدة هي تماه مع الفارس القديم بالنسبة للشاعرة حيث تزين ذلك الجحيم الحي بانطلاقها، تتحول إلى فرس تسرجها القوافي وتناور هزيع الحقول في مبارزة بسيف المفردة، وتلازم أزميل الروح لتنحت تكويناتها.إنها تهدهد المناجل كأطفال تجري مثل دمها وتتيمم لتلك الصلاة بهدير اللغات – البخور. ترى الكلمات كائنات وتراقب حدائقها. وهي تعلن تموسقها في أوزان رهيفة تلد الأوزان، أي إنها قررت ذلك الانتماء إلى أنوثة ولادة تقلب ميزان الذاكرة القديمة وهي تدرك أن الجمرة، وحدها، ملهاة العاشق. وفي تحد تتساءل عن “من يقرأ” فهي ترغب في قراءة مختلفة تستطيع أن ترى من خلال الحرف ما يوازي وجع القصيدة.

إنه خروج الموءودة من القبر “بهول السؤال والبحث ” وهي ترى المشانق أمامها لذلك الشاهق من شعر القلب ووطن الغفلة ترى الجمرات لغرف الرأس.

إن الشاعرة تقود القارئ إلى رحلتها مع الشعر كفكرة وتحد وخروج من الخدر إلى الفعل الفروسي حيث هي الفرس والفارسة في تحديها الوجداني الكبير.

يكتب الباحث أحمد عطية عن فوزية السندي فيقول:

” فوزية السندي، صوت نسائي متفرد في الشعر البحريني الحديث، يتميز بقصيدة النثر، وبكثافة المفردات اللغوية وجدتها، وبقوة التراكيب الشعرية النفس والسابرة لأغرار الروح، وبجمال الصور المستمدة من معالم الطبيعة البحرينية البحرية، والمعبرة بجرأة وشجاعة ووعي وصدق عن الوضع المأساوي للمرأة العربية وعن احتجاجها ورؤاها ومشاعرها… ويتبدى هذا كله في ديوانها الثاني “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث “، الذي يمثل طفرة في الشعر البحريني النسائي وفي الشعر الحديث بالبحرين على السواء، بجمعه بين همس المرأة وبنيته الحديثة، وبين التعبير عن حب الأنثى وعمق الاحتجاج على عذاب المرأة العربية ورؤاها في مجلسها خلف الجدران والنوافذ والمزاليج..”.

لقد جاءت المجموعة الشعرية الثانية لفوزية السندي “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث ” عام 1986 مكملة لما بدأته في عملها الأول “استفاقات ” ورغم قصر المدة الزمنية بين العملين إلا أن الشاعرة استطاعت أن تطور تجربتها بشكل ناضج فنيا ومضمونيا.

لقد قررت الشاعرة انتماءها لقصيدة النثر وحسمت بذلك ارتباكاتها الفنية فيما يتعلق بالشكل، بل أنها وعبر إحدى قصائد الديوان حسمت علاقتها بالموروث الشعري ككل وسيكون لنا عودة لتلك القصيدة.

يضم الديوان أربعين قصيدة بعناوين جديدة تنبىء بروح شعرية مختلفة لعمل الشاعرة الثاني. ويختلف نسيج النصوص في هذا العمل عن ما سبقه عبر الشكل المفتوح للنص الشعري، وتلك اللغة السرية الشعرية والمعنية بالإيحاء والرمز ونقل جماليات المخيلة عبر لغة رومانسية منثورة إلى القارئ. ويتزاوج كل ذلك مع استمرار خفي وواهن لحالة الرعب التي حضرت بكثافة في عملها الشعري الأول.

تلجأ فوزية السندي إلى لغة شعرية متداعية وممتلئة بالصور التي تمزج الباطني بالمادي المعتمد على عناصر الطبيعة مثل الفضة /النار/البحر/القمر وغيرها. وكذلك فإن الشاعرة تمنح أبعادا خاصة للماديات، مثل النافذة وغيرها لتحولها إلى رموز مكثفة لحالات إنسانية متنوعة، بعضها شعري باطني وجمالي وأحوال تراوح ما بين حدة المأساة وطقوس الجنة حيث الروح ترحل وتنتقل ما بين عوالم القهر والبحث عن السعادة وما بين الحب الجواني المعتمد على صوت الأنا المراوحة ما بين الذكورة والأنوثة.

وتتجاور عوالم القسوة والقهر برموزها السياسية الإيمائية مع عالم الحب، والرؤية الباطنية – التأملية. كما يحضر العالم الوصفي الخارجي الذي يزاوج بين النص المفتوح وعالمه الخاص بقسوة الوصف والرومانسية المتمثلة في عناصر الطبيعة المختلفة.

يبدأ الديوان بـ “نصوص مصقولة ” وهو نص نثري مفتوح للحب، والمناجاة. تتعدد الأصوات فيه بشكل منداح لا يشبا القصيدة ببنيتها المعتادة. وهو نص رومانسي بروح موغلة في العشق ومدججة بالمشاعر الباطنية. تستخدم الشاعرة الزخرفة اللغوية والتشبيهات إذ تقول:

– “حين أحبك، أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول. في فائرة الجوانح وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب”.

وتتلاحق التشبيهات في النص حيث تعتني الشاعرة ببلاغة الخطاب والمفردات رغم كثرة التداعيات الزخرفة في القول الشعري. ويستمر الوهن الذي تعبر عنا على مستوى المشاعر إذ تقول:

-“أوهاني حبك، لذا استحي من دوار يلف بي

أفئدة تدفأ بي وقلب يهفو لي… لما بي”.

ويتجلى تأثير الشاعر البحريني قاسم حداد على روح فوزية السندي الشعرية وخصوصاً بعد صدور مطولاته النثرية “القيامة ” و” يمشي مخفورا بالوعول ” حيث تتأثر المفردة والمخيلة الشعرية لفوزية السندي بتلك الروح التي أسست لعالمها الشعري عبر تجربة تبدو أكثر اكتمالاً. ومع ذلك فان بقايا قديم فوزية السندي يخرج من بين الكلمات في عملها هذا وخصوصا تلك الشكوى من الجور والقسوة إذ تقول:

– “كل هذا الجور لي

لي براثن الشكوك وانهمار – القسوة

ومرارة الإثم “.

واذا كانت في “نصوص مصقولة ” قد عبرت عن ذوبانها في الحبيب كما قالت:

– “أعلم لو حبك يلف جهاتي يغل ويفتل ولهي

الشاقي لارتضيت شقائي حفرة للقلب ترتج لفعل

النبض الهاتف باسمك

حبك

سطوري وسحقي الملازم لهفة الغبطة وشكة الألم

توهي ورخامة الكلام وبدء الغرق

حبك أنت

وأنت

احتمال الفصول

وشأن التناغم

وزعامة القلب

وفوز الدخول “.

فإن الشاعرة وفي قصيدتها “خفايا الكلام “، وكما يحللها الباحث أحمد محمد عطية “تحتج الشاعرة على جور الرجل الشرقي، وتعبر عن عذاب المرأة العربية وذلها في جحيم الكلام الآمر، الذي تصفه الشاعرة بسقوط الكلام وتقرنه بصور معبرة عن رفضها واستيائها واستخفافها بقبضته المقترنة بظلام الليل، مؤكدة ثورتها وعدم احتمالها للقهر، متمسكة بالأمل في نهضتها… نهضة الكلام، مرتفعة على آلامها وأوجاعها واثقة في انتهاء الليل لان لظلامه مداه.. وبعده تظهر النوارس البيضاء مع ضياء الفجر الذي يغمر الأفق والحقول والأودية، في صور بديعة جديدة تجمع بين الكثافة والشعرية وتمزج القضية الاجتماعية للمرأة العربية بعناصر الطبيعة البحرينية وتضمنها رؤية تقدمية جماعية دون مباشرة أو خطابية، بل بكلمات مكثفة هامسة مشحونة بالمعاني والدلالات والرموز البسيطة الشفافة المعبرة والكاشفة “.

في “خفايا الكلام ” تتضح رؤية الشاعرة للأنثى من خلال علاقتها بالرجل وتوصيف الذكورة في هذا النص. كما أن الشاعرة تعود لترنيمة القهر والعذاب السياسي من خلال علاقة السيد بالمسود غير أنها توظف تطور لغتها الشعرية الجديدة لتوصيف ما سبق أن وصفته في عملها الشعري الأول. تقول الشاعرة خاتمة قصيدتها:

– “لم الهدأة ؟

لم يكن بوسعي أن…

سقط الكلام

مرتخيا بكامن الرؤى

همت أيها العارف بأحوالي

حتى أغشاني التهيؤ

وهون التشظي

لم أعد احتمل…

سقط الكلام

تدق المطارق بهو الولع

أنزوي في راحتي

بعيدا، اقلب وجعي

أتساقط في نهضة الكلام “.

في قصيدتها “لم يكن الأمس صعبا هكذا” تعود الشاعرة إلى الأجواء الكابوسية، والتوصيف لحالة شعرية بلا وحدة واضحة حيث تتضح القصيدة النفسية عبر انهياراتها ورعبها معتمدة على المفردات والصور النفسية التي تصور حالات الرعب.

وتعتبر قصيدة “نوافذ للفتح ” إحدى القصائد المميزة في ديوان الشاعرة. توظف الشاعرة رمز النافذة في العلاقة مع المرأة، الإنسان، الوطن والانفلات نحو الأشياء والحريات عبر تسعة مقاطع. وفي تحليل أحمد محمد عطية للقصيدة يرى أنها تعبر بالمفارقة عن رؤى المرأة العربية في مجلسها الضيق خلف النوافذ بمدى اتساعه لرؤاها وكلماتها حتى غدا سريرها معادلا ومعوضا للوطن والطبيعة والبحر، فأصبح هذا المكان المحدد الضيق “متسع، متسع “. وأن المرأة قد تلاءمت في ” نوافذ للفتح ” مع النوافذ الموصدة والمزاليج المحكمة، مكونة عالمها الخاص الرحب كالفضاء الفني بالألوان… كقوس قزح.

تصنع الشاعرة مفارقتها ما بين شساعة البحر ومخلوقاته في مقابل الضيق، وتستمر في ترديد مفردتها “متسع، متسع ” في محاولة للخروج من المحدود بشتى أشكاله. وتصنع من النافذة مداها نحو العالم، “تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها”.

وفي مقابل ذلك الاتساع، تعج مقاطع أخرى للقصيدة بكابوسية معهودة في قصائد الشاعرة (الحرب، الدخان، الحراب، المرارة، الجرح، الحداد، الفارة، الجرحى، الضمادات، القصف، القذيفة، الأشلاء) وغيرها. ذلك التهديد الحاضر دائما والمحيط بكل هروب ممكن نحو عالم الروح ورحابتها، الفضاء المفتوح، والنوافذ المطلة على البحر وقوس قزح. تقول الشاعرة:

-“أجدني في تلاؤم دائم

بلا مبرر…

واثقة ومحلقة

عبر النوافذ ومزاليجها

لا يحدني احد

أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

أطلق رغوة الأفق

أمرغ قوس قزح بحرية ألواني

أعج بالفضاء

وكعادتي

أفيق “.

إن العودة للذات خارج نطاق المرعب، وترويض جمالياتها يمثل أقصى حدود للحريات الداخلية التي يمكن أن يمارسها الفنان. وهي تعوض صور الخراب بإعلان ينتمي بكامله إلى بياض الكتابة إذ تقول:

” انتظروا… لا حاجة لي بكل هذا الوطن

رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي

لأحيا وكلماتي

أهرق في سرير الحلم

وتنهض قي مجد الحكم “.

ويستمر هذا الانفلات لصنع الحرية من الرموز المحيطة فإذا كانت النوافذ سيدة الأفق في القصيدة

السابقة فإن الشاعرة في قصيدتها “شؤون خاصة جداً” توظف الرخام بقولها:

– “أعمدة الرخام المشيدة

كفاصل قسري

ضد اغتراب الفعل

ومسمياته الجارحة

ومراياه المرتعشة “.

وهي تحتمي بكل ما يمكنها الاحتماء به مما يثير الألفة: المنضدة الواسعة، والغيمة البيضاء، والحروف الملونة. كل ذلك لتنفلت الشاعرة “كقارب صيد في ليلة مقمرة “.

ولا يخلو ديوان “هل أرى ما حولي، هل اصف ما حدث ” من بعض هنات المحاولة الشعرية في نسيج قصيدة النثر فقصائد الشاعرة (لا أكثر، ولا أقل، وسروج للهو) نماذج للضعف الشعري حيث الصور واهية، والحالة مصطنعة ولا شيء غير التداعي شبه السوريالي لقصيدة غير سوريالية. وكذلك في قصيدة (أودية سحيقة) حيث تطرح الشاعرة حالة تتنافر فيها المفردات لمحاولة شبه شعرية لصناعة النص. غير أن ذلك التنافر يفتقد للانسجام وللحالة الشعرية، الحقة، ويبدو في الأخير كمجرد ارتطام بين مفردات شعرية، مصنوعة.

وفي قصيدتها “ماء مترع للمساء” لا شعر ولا شعور حيث تبتعد الشاعرة عن الأحاسيس وتولي اهتمامها بالصور المركبة من اجل صناعة الدهشة، غير ان الذوق التركيبي للمفردات لا يصنع ذلك. فالقصيدة تبدو كمحاولات نزقة، غير قادرة، على إتمام الصورة والحالة الشعرية، وأسوق الأمثلة على ذلك من القصيدة نفسها، تقول الشاعرة:

– “هيأت حشائش طرية تتهادى حولنا، قوارب

قصدير وأطياف تضبب هذه الطقوس لنا”.

“إني أحبك منساقة كجذور تندك، تقلد صدوعي

ماثلا في قراري

رائق هذا الدم إن لم ينحن

لك.. لا مفر..”

وهي نماذج للرداءة الشعرية رغم محاولات الشاعرة العديدة الناجحة والمتميزة في هذه المجموعة غير أن الارتباك والتذبذب في روح فوزية السندي الشعرية ما بين كابوسية السيريالية والواقعية ومحاولات الكشف الباطنية والصوفية، والرومانسية الفجة التي تفتقر الى الصورة الشعرية العميقة والجديدة من السمات التي تضعف العمل الشعري عموما لدي فوزية السندي. وكنموذج للسذاجة برومانسية مكررة ومعتادة في الصورة الشعرية أسوق هنا قولها من قصيدة “غناء واحد”:

– “نغني معا أغاني مختلفة

ولا نفترق

لي أغنية الحدائق الظليلة الخريفية

الساعة كنسيم، المرصعة بالأزهار المخملية…”،

الخ..

وتلخص الشاعرة موقفها من شكل القصيدة العربية القديم عبر قصيدتها “معلقة ” صانعة تشبيها للمعلقة بالإرث الأنثوي لفكرة (الجارية) عبر ذاكرة الأنثى التاريخية إذ تقول:

-“تتدلى أمامي بزخارفها وبديعها

معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير

وعاج الفتنة

منسقة لا تقبل الظنون والتهتكات الشاكة

تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة

والقوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة

في شكوكها، للمراعي منبثة

مفصلة على نسق بديع كآنية

وفي عكاظ تؤرجح حرفها جارية

محظية ولها دلال

أراها تساق هنا وهناك في الخلافة

مغلولة

معلقة ولم تزل “.

إن تجربة فوزية السندي قادمة من سياق الرفض: للشكل الشعري القديم، لمأساوية الأحداث العربية، للدور التقليدي، للأنوثة والذكورة. وهي تحاول جادة إن تصنع تجربة شعرية جديدة تسوغ فيها مضامينها تلك بشجاعة، وحرية. وهي تنجح في صنع القصيدة المميزة، أحيانا، غير أن أخطاءها الشعرية هي نتيجة التجريب وهي أخطاء معتادة ضمن التجربة الشعرية الجديدة التي تحاول إن تخرج من أسرار ما سبقها. ولعل القلق الإبداعي يأخذ أقصى تجلياته في بحث الشاعرة عن الذات الأنثوية وبصيغة غير مزخرفة، ولا مسطحة، ولا خاضعة للقوالب الجاهزة، وفي هذا يكون التحقق الفعلي لما حاولته الشاعرة عبر العملين المطروحين.

قصائد متوهجة تخترق حصار الأنا نحت الصورة معمار فوزية السندي الشعرى

 

الكاتب/ عبدالله خليفة

جريدة أخبار الخليج

5 ديسمبر 1992

 

هذا التعبير الشعري حيث كل جملة شعرية عي إنفجار، وتتعاون الصورة المكثفة، مع لغة  استفهام المباغتة، والتعميمات الترميزية، لتصيغ قصيدة تقترب من كارثية الحدث.

هنا نجد الكورس، الإغريقي القديم، وهو يعدد الكوارث والمآسي، ويمشي بين الخرائب والمشردين والمقتولين، يسأل، ويصرخ، ويصور المشاهد: كم (كم طفلاً سنغمد بين الصخور وفتوى القذائف/كم جثة ستشتعل في عراء العذاب/ كم حرباً ستنفجر كل نهار).

هذا هو الحدث، غير مقطوع الصلة بمسببه وظواهره، مشكلاً بصوت الكورس وهو يمشي في الصحراء. ولكن التغلغل سيكون في الدمار :(كل موت/ نراهم حفاة يرجون الحدود بما تبقى من خطى/ بحرا من جراح يفاجئ تعب الصحراء/ وطناً يتوضأ بالأنقاض/ وعراة يفترسون خرائب تتلو وصايا الفاجعة/كأن بغداد في إحتضار مديد).

إنه التلون، وتحويل الأشياء الى مرايا، ونفض اللغة من سكونها، وتنبيض لقطاتها. تبلغ اللغة ذروة التعميم في هاتين الجملتين: (البلاد بكاء/ والمدى منفى). وكان الكورس الاغريقي، العربي، المفتت. في الصحارى، يمشي ليرى ويصرخ: (كم قتيلاً لم يمت؟ كم أسيراً لم يعد؟ كم صرخة لم تصل من رئة العاصفة؟).

وتستمر الأسئلة، لتنبثق بعدها صور جديدة، وتوسع دائرة التحليل الشعري للحدث، وتتالى التعميمات، على هيئة أسئلة، من داخل هذا التحليل، وفي ذروة من المرارة والضحك (هل ملهاة تدير الحفل../ أم ظلال شطرنج يلهو ببياض الأرض؟)

إن إستخدام الكورس، كصوت للنحن، ذي المصدر الأغريقي القديم، نراه في قصيدة أخرى هي ((في خلوة الذبيحة، حيث تقول (احتشد أيها النفير/ ويا معدن الناس، يا منشدي حموضة الدسيسة/ يا مخلب الفاجعة/انقضوا/وانتن يا نسوة المهالك/ اندبن دما جاش على مذبح الخطيئة)، (تخب صعاليك مسوا ذخيرة القلب) ص٥٥

هكذا يتوحد الصوت الجماعي النسائي، بالشاعرة، بالناس، بالصعاليك، وفي نشيد مستمر يرسم وجه التاريخ الماضي/المعاصر.

نسق أخر، هواجس الذات

وإضافة الى استخدام النسق الأول، الحدثي العام، فإن ديوان يحفل بنسق أخر منتشر، هو حوار المرأة/الرجل. انه الصراع، وانتزاع المرأة للرجل من أحضان التردد والغياب. في قصيدة ((الهديل)) يجسد الحوار خوفاً على الرجل المبدع اليأس، وحباً غامراً له، لكن لغة الحوار تنمو في عالم ضبابي، زائغ، إن المرأة تغدو، كما هي دائماً، ذات الفعل والاخضرار، وهي تحاول أن تنتزع الرجل من اليأس. ان خريطة العلاقة بين الصوتين، تظل مبهمة، بعكس ما يجري في قصيدة ((االفدية)) حيث نجد تضاريس الأرض الحقيقية، وشرايين التاريخ الملوسة. إن الرجل في هذه القصيدة هو شهيد مؤجل، ومستعد دائماً لفعل التضحية والاستشهاد، وهذا ما يعطي مداراته لغة ضوئية، تستقبل كل إشاعات النضال في التاريخ.

وهي تركز هذه الإشعاعات بصورة مكثفة، عميقة، عبر هذه الصور المتدفقة (فمن أنت/ شقي يجوب شفرة الأعاصير الذبيحة؟ / عّراف يحرس حافة البراكين لتقطف نسور القمم حمم النذير الأول؟ ص٧٣.

اقرأ بقية المقطع الطويل الذي يكثف في ((الرجل)) كل انتماءات العصور. هذا الرجل الملحمي يبدو معاصراً كدلك. ((ها أنت/ شعب في راية تحتدم)) فالماضي والحاضر يتمازجان، مثل تمازج المرأة والرجل، الداخل والخارج، الذات والناس.

لقد مضى دهر على شعرنا وهو غارق في الأنا، المفصولة عي حيوية العالم، لكن فوزية السندي تخترق هذه الدائرة الضيقة، عبر قصيدة ساخنة، متوهجة، فيها بعض التجريد، وبعض الغياب لمحاور حياتية حية، وهناك جوانب عديدة، في ((الديوان)) تستحق المتابعة، مثل صراع البنية التجريدية والبنية الواقعية وعلاقة هذا الصراع بتطور موقف الشاعرة، وتعدد مصادر الشعر مثل التأثر بالشعر الأسطوري – الطقسي ورفده بعالم النقد الاجتماعي – السياسي، والاستفادة من قاموس الشعراء المحليين، وخاصة قاسم حداد مثل استخدام العديد من كلماته وبعض رموزه مثل القطيفة، والريش، وغيرهما، ولكن هذا كله يحتاج الى دراسات..

 

 

 

 

 

 

أمومة الكتابة: قراءة في كتاب (حنجرة الغائب)

 

أمومة الكتابة

مجلة المختلف 23-7-1993

 

منذ ديوانها الأول ((استفاقات)) الذي صدر عام ١٩٨٤، ومروراً يمجموعتها ((هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث؟)) والذي صدر عام ١٩٨٦، وأخيراً ((حنجرة الغائب)) الصادر عن سلسلة كتاب كلمات بأسرة الأدباء والكتاب في البحرين، تبدو الشاعرة البحرينية فوزية السندي عبر انشغالها في اختزال قصيدة تمتلك مناخاً شعرياً خاصاً، تضبط فيه طقس اللغة وتراكيبها، أنها تفتتح مشروعها الأخير عبر إنشاء القصيدة المتنوعة، ذات الإيقاع المختلف، وعبر الحالة النفسية المغايرة بين قصيدة وأخرى.

إن البحث في مناخات الشعر أو القصيدة الجديدة هو ما يلاحظ عبر سيرة كتابتها منذ المجموعة الأولى لها.

-٢-

قبل الدخول في ((حنجرة الغائب) ثمة محاولة تدخلك فيها الشاعرة عبر مدلول إسم المجموعة، تجرفك نحو معالم معرفة، وكأنها بذلك تمتحن قدرتك كقارئ أخير، عبر تدفق الكتابة المرفقة بصوت الشاعرة.

((هذه حنجرة الغائب))

تقتحم عشاوة هذا الغياب، لترخي جبة البياض وتطغي في كتابة تستوفي تزر الحمى التي أشعلت ذاكرة تتشظى حولي وتبرز غرائب الأمل في غوائل الوقت.

لست الغصة

غصة من؟

أدري لكنها تخنق غرانق تحرق

بجناحيها وتهمس

يا للعذاب

معا. نفضح هجمة الحصار لتفوح

ضعائن السلالة

ويصل الممسوسون بجمرة اليأس

كنوارس تنبئ بقتل يانع

معا. من مهر يفتق خديعة الوقت

ويخبط القلب بخفاف ليل يسأل الغياب

نقرع الجماجم تحت ضوء الذئاب

هذه حنجرة الغائب

تذعن لفتك الكلمات، لريشة قلب مسكون بقناديل الروح

 لزيت جسد يترنح بين أيديكم.

-٣-

في هذا النص، وعبر هذا العامل المرسل تختزل الشاعرة مكونات نصها كاملاً، على اختلاف قصائده الثمانية عشر سواء بإرسالها لموضوعات شعرية عديدة أو عبر التحرر النفسي للقصيدة نفسها، وإن كانت تلتقي في مناخ منسجم وتدرجات تركيبية حتى تبدو القصائد في مجملة ذاهبة نحو مناخها الخاص.

-٤-

في ((حنجرة الغائب)) لا تستدرج الشاعرة ما هو غير مألوف إنما تتعمد فشل كل ما هو آليف وحميم ومؤلم، عبر لحظات الكشف عما هو جميل في الشعر:

((كل شتاء فيما يكبرون

تحت مخلب الغزاة

على أرصفة المنافي

في وجه حناجر العروبة

يسرجون الهدايا

حقلاً من برتقالة الدم

قلائد تفوح برحيق الشهداء

أجنحة من قزح الريح

وايات لا تؤجل الخفق

هكذا.

يحترفون فضيحة الفرح موتا لأميرة

الزيتون، تلك التي لم تذق نهدة

المدن)).

 

أو كما في قصيدة ((ممالك)) حيث تكتب الشاعرة:

.. أيتها الأميرة

يا من تخيط لنا

جسراً من الجراح

أما زلت عارية؟

ما أشد بطشك

ما أرق طيشك

أيها الطفل الضرير

يا ضيف الذاكرة الدائم)).

-٥-

إن في قراءة ((حنجرة الغائب)) ثمة إشارات تلفك، وتأخذ بك نحو الاحتجاج، أو الصراخ، ذلك إن العامل ألا وهو إسم المجموعة ((حنجرة الغائب)) يظل منذ السطور الأولى التي تدخلك فيه الشاعرة، عبر تعريف أو تقديم حالة أو وصف ما، كل ذلك وغيره يصبح مرافقا لك عبر قراءة القصائد، ومحرضا قوياً في البحث في مرجعية هذا العامل (اسم المجموعة) ضمن ذاكرة الشاعرة:

في إشارة أخرى تقول:

((لم يحدث شيء

سوى

أننا اقتسمنا صمت ما حدث))

 

الكاتب أكثر الكائنات عرضة للحياة لذا يعتنق اليأس مذبوحاً بما يحدث

 

حاورها: محمد الحلواجي

6-2-1994

جريدة الأيام- الملحق الثقافي رؤى

 

يحدث أن يكون الحديث العابر نصاً.. ويحدث أن يكون نص ما.. كلاماً خاوياً.

هذا ما سيكتشفه القارئ في حوار رؤى مع فوزية السندي الشاعرة البحرينية المائزة.

  • كيف ترين الى معنى الكتابة؟
  • كل تحديد، تفسير لمعنى الكتابة.. يفسدها. غموض فعل الكتابة هو ما يدفع الجسد لكمين الكتابة، فهي تعمل كعصا الأعمى، تمسّ الحصى، تقود الطرق نحو طرق أخرى.. لا يراها ولا تراها. لو أعرف معناها لما كتبت. عندما يفيض الجسد بتناهي اجتراح الروح.. يتحول الى بئر موغل في القدم، يغرى في الدلو/ التجربة والحبل/ اللغة، للنهل من أغوار لا تنتهي كالغياب.. ولا تشبه قاع البئر.. كل ماء. كل هذا لئلا يغرق البئر موتاً. هكذا أرى الكتابة بلا معنى منجز ومتفق عليه، لأنها كالهواء، كلما توغل الكاتب في حرية الكتابة.. اكتشف ما لم يره من قبل.. وبوغت بحياة لم يكن يعيها. الكتابة معنى كل الأشياء.

اكتب في زمن كهذا لأحيا

  • ماذا يعني لك أن تكتبي في زمن كهذا؟ اعرف إن هذا تحايل لقلب سؤال سخيف. هو: لماذا تكتبين؟
  • لماذا اكتب في زمن كهذا؟ لأحياء في ((زمن كهذا)).. الكاتب أكثر الكائنات عرضة للحياة، لذا يعتنق اليأس ((مذبوحاً بما يحدث)) وفي خيامنا العربية التي تلغي حقه في التعبير، انسانيته.. يصل الى ((ما لا يقوى.. كالحديث عنه)).

الكتابة ملاذ رحيم يشعل فيه الجسد تاريخه المندغم وتاريخ الأرض.. يحاور ذاته.. يعرى مكبوتاته.. لدفع انتقاماته عبر الكتابة من كل الأوصياء والسادة.. يكتب ليتعرف على هاوية الألم الكامن في ذاكرته.. يكتب لا ليكف الألم.. ولكن ليكتشف مداه.

ان اكتب في ((زمن كهذا)) كأني اكتب في أي وقت مضى أو وقت سيقبل. لاصطدم فعل الكتابة وطبيعة الوقت الذي يصد توقها للانعتاق من اسره، آن تقف وتعلن حريتها.

الكتابة (الفن).. سلاح دائم لمجابهة اشتراطات يصوغها العالم لتعمل على إخضاع الذات الإنسانية المشرقة على فضاء يتسع أكثر.. كلما توغلت التجربة الفنية في رحابة هوائه.

اكتب.. لأحيا.. حياة تحنو فيها الحروف وترأف الكلمات.. تحقق الحلم، آن نفي الآخر، سرد الكبت، الكبح المتشبث في غضاريف الحنجرة. في حياة الكتابة متسع لمثل هذا التخلق/التألق.. كل التحام يحدثه الجسد/الشمعدان الذي يصغي لبوح الروح/الشمعة.. ويتقد في نقاوة البياض.

أمومة اللغة والورقة لا تضاهى أمام بطش الآخر/ الحياة حامية الكوارث.. لذا اكتب/لئلا أمو.

  • هل تتقبلين فكرة من مثل ان ((الكتابة عالم أخر))؟
  • يصدني تعبير ((عالم)) ويشدني تعبير ((حياة)) ربما لتحول هبة الكتابة الى خبرة حياة أخرى.. ذات خصوصية تدفع الجسد المهاصر لاندفاع الذات ضد كل ما يندفع نحوه، حياة ذات نبض يحتل من يقود الذاكرة والمخيلة لكشف مدى خصومته والعالم. منذ أن كان العالم.. كان عدواِ لنا.

تعبير ((العالم)) لا يحتمل، أشعر بحساسية ضارة تجاهه وتجاه فاشية قادته.. لما أراق من دمار نحونا.. وهشم احلاماً كانت لنا.

العالم مرادف دموي للدول/الحضارة الصاعدة على أنين الجماجم.. شراهة الفتوحات/الأمم/الحمم.

غدر لا انساني متفق عليه ومقنن ايضاً. العالم ليس لنا.. ولكن الحياة لنا.. لنا أن نحتال عليها بسلاح الكتابة.. لنطغي في أرض اقل يباساً وبأساً.. نسرد انتقاماتنا.. كل نص.

  • على امتداد مجموعاتك الثلاث ((استفاقات)) و((هل أرى ما حولي.. هل. أصف ما حدث)) و((حنجرة الغائب)).. لحظنا تغلغل ذات متوحدة باتجاه نبرة يأس آخذة في التبلور.. هل تعني هذه الروح توجها واضحاً في تجربتك؟
  • من الصعب عندما نتحدث عن الكتابة، أن نبدأ التساؤل بحديث حول ((توجهات محددة)) وواضحة ايضاً. اذ لا تنهض التجربة الفنية عندما ترتهن الى غاية أو توجه محدد.. اذ تسقط حينها في تهلكة الوظيفة.. وهذا بعيد عن الشعر.. أرى في تجاربي السابقة صوت ذات متوحدة كما قلت ذات كتابة: لن أحتمي بسواي.. ((الوذ بالفحم سيد الماس)).

لن أتخلى عن رهان الكتابة كما اراه، للتعبير عن اقصى حالات تعرية الذات امام هجمة الواقع/ الآخر. فعل الاقتصاص لا يتحقق الا بفدر الالتحام بخفايا الذات واستدراجها نحو منصة البوح.. لتعلن كذبيحة لم تمت بعد.. ما حدث.. لتصف ما سيحدث.

اليأس شقيق الأمل.. الأقل سطوعاً والأجمل املاً.

فاليأس لا يعني السودانية المغلقة الآفاق ولكن يوحى باليأس المفعم املا، المغوي نحو الفضح، التعري.. لكونه املا آخر أشد شراسة.

اليأس كما القتيل.. ((في ذبح.. كهذا)) هو الوحيد القادر على مزاولة فعل الانتقام/الابداع لكونه لم ينخدع كما القاتل بشعارات قائد القطيع نحو مستقبل المراعي.

ولكونه في عزلة الفحم/القلم، ما يتجمّر ليرى.. في ((موت كهذا)). كيف ترى الكتابة…؟ اليست سلاح القتيل.

السقوط في منحدر الذاكرة

  • يلاحظ في قصائدك الأخيرة – ما بعد المجموعات – وجود ميل نسبي الى المباشرة.. تفسير ذلك؟
  • الشعر كما أرى لابد ان يعبر ويحقق خصوصية من يكتب.. لكونه بوحا لا يأتمر لأحد.. سوى صاحب النبض/النص. لم أعد احتمل الخضوع لوهم يتعلق بتعابير مثل ((المباشرة)) أو ((الغموض)) تلك التي طالما ضللت تجربة الكتابة في الحركة الأدبية البحرينية.. عندما تحولت تلك التعابير الى معايير، وشم تُوشم به الى الكتابة، حتى انتهت الى غاية اغوت النوايا الضالة.

لذا لابد من تجاوز مثل هذه التعابير والنظر الى النص كتجسيد لطبيعة طاقة التوتر التي تحتل الكاتب لحظة الكتابة، لكونها تلعب دوراً تقنياً حاسماً في تشكيل النص.. وتحديد مدى تعقيد الصورة الشعرية وبالتالي اشعال درامية البنية النصية.

 عندما اكتب اتوق للاقتراب من القدرة على تخليق الحالة النفسية التي تحتلني لتحويلها الى كتابة تنهض بعبء لم أعد احتمله.

هذا.. دون أن أنشغل بمدى تعقد الصورة الشعرية أو بساطتها.. او أي اشتراط آخر غير تجسيد الفعل.. التواتر الذي ينتاب الخلايا.

حتى في ((حنجرة الغائب)) جاءت ((الصرخة)) التي كنت من خلالها أحاول ترجمة ((الغصّة)) التي تهرأت بحضورها المديد في ذاكرة استعصت على نوم رافق هدير طائرات ((التورنيدو)) المحملة بأطنان القذائف….

تجسيد غصّة لا يمكن ان تتحول لشيء أخر غير ((الصرخة)) المتخلقة نصياً من تشظي الصورة الشعرية واحتدام الإيقاع وقسوة اللغة.

وهذا ما حدث في نصوص أخرى.. تلت مجموعات الشعرية للكتابة جسد كالبحر حافل بالتناقضات، من الصعب اخضاعه لنسق ما.. شكل فني تؤسس له الحداثة أو ما لم بعدها.. فهذا هو السقوط في منحدر الكتابة الذهنية المستندة على إرث الذاكرة الثقافية.. ليس شعراً بل تدويناً.

لكن الا ترين ان المباشرة هي المزلق الأشدّ انحداراً نحو ((هاوية الأيدلوجيا))؟

  • أرى ذلك، لأنك هنا تتحدث عن فعل ((المباشرة)) بمعنى.. اللاشعر.

عندما تتحكم الكتابة لسلطة الأيدلوجيا وسيادة الخطاب السياسي.. ويتحول الشاعر لوظيفة البوق لا الناي. ولا اختلف معك حول طبيعة هذا المنحدر الذي لا يتعلق بالشعر. لكون الشعر هو الحضن الوحيد، الحضن الحنون بما يكفي لحماية الكاتب من ذاته ومما حوله.. للارتقاء به كلما اكتشفت عبر التجربة شفافية. الروح وعظمة الحواس في ندرة قدرتها على رصد مخالب الآخر/ العالم. وايضاً في مجايلة الذات لانتخاب ملذات اللغة ملاذ الضدّ.

لا ينبغي أن نلجأ للمعنى

-نحو تحديد القالب النصّي (شعر، نثر، الخ) كيف تعاينين الشعر والشعرية؟

-قارب ((جاستون باشلار)) – بعيداً عن البلاغة النقدية – كائن الشعر في قول بالغ النفاذ والدلالة عندما أوحى بأن: ((الشعر هو قوة تركيبية للوجود الإنساني)) وأيضاً ((ان الشاعر يتنصت ويردد.. ان صوت الشاعر، لهو صوت العالم)).

لا ينبغي ان تلجأ للمعنى والمعاينة.. كل شعر. فعندما يسند ((باشلار)) مهمة كتلك للشاعر، لابد ان يكف المعنى عن مناوشة فعل التحدي.

شاعرية النص تتقد بمدى التحامها باغوار الذات والكون معا.. وصعب.. كما قيل عن ((جوته)): ((انه يتنفس برئتين مليئتين، كما الأرض تتنفس بفضاء مليء، ان الانسان الذي يصل الى عظمة التنفس، يتنفس كونيا، وكما قال ((جوته)) كأنما أراد ان يدلل على قول الآخرين: ((تنفسي اوه.. ايتها القصيدة غير المرئية، تبادل صاف لا يتوقف بين كائن وأماكن العالم الأخرى، موجة وحيدة وأنا بحرها المتقدم، أنت الأكثر توفيرا من كل البحار الممكنة.. اكتساب مكان، وكم دخلت ذاتي من هذه الأمكنة، أكثر من هواء هو، كابني)).

لنا ان نتجلس بدلالة الإيحاء الذي يمعن ((جوته)) بسرده حول تغلغله وهواء العالم.. هكذا تأتلق الشاعرية الأكثر صفاء من الشعر، دون اعلان الصخب المتبدى بين (صراع المصطلح، نثراً ام شعرياً) ولكنه اعلان حضور الاحتدام بين اللغة ككائن والجسد كما يكون.

اقتراف النقد هو الاشكالية

-ما هو بعد القارئ في تجربتك؟

-من المفترض ان يشكل القارئ امام بحر الكتابة المرفأ الآخر للتواصل الإبداعي، ونبضاً تقترحه تجربة الكتابة.. قراءة تعيد صياغة النص ابداعياً وصيانته دلالياً، بما يتيح للتأويل من حريات أكثر رحابة. هذا ما يحدث أحياناً، ولكن ما يحدث غالباً، قراءة تستند على وصايا المأثور التراثي.. تتجلى بحضور القارئ كسلطة تشبه الرقيب/ العقاب، والتي منحها له تاريخنا النقدي لا الفني، الذي زاول فن عزف السياط، وإلغاء واقصاء محاولة إرضاء ذوق القارئ والتعبير عنه بشكل مباشر.. ورفع مستواه وتطويره ثقافياً.. الى آخر قائمة المسؤوليات التاريخية التي القتها حركة الأدب وذاكرة الثقافة على من يكتب. عندما اقترف النقد هذه الإشكالية.. اوهم القارئ بضرورة التصدي لمن لا يتحمل مسؤولية تلك الوصايا، ومجابهة النص عندما لا يفهم.. وايضاً اخترق الكاتب بإحساس بالذنب لا يفارقه.. كل كتابة.

كذلك أوهم النقاد بمسؤولياتهم أمام ما يحدث، لكونهم أداة الترجمة والتوصيل للقارئ – أي جسر – وتستعر هذه الإشكالية عندما نأتي لتحديد طبيعة القارئ، من القارئ؟ لنصادف شكلا هلاميا لا تحديد له، في مجتمع حافل بقراء يختلفون في طبيعة علاقاتهم بالنص. والثقافة هما معيار بائس، لكوننا نتحدث عن الإبداع.. لا القدرة على القراءة أو المتابعة الثقافية.

أمام هذا الارث، أشك بقدرة أحد على النفاذ. وهذا ما حدث، لقد خضعت في بداية اتصالي بالشعر لوهم سطوة الآخر التي لعبت دوراً في اختراق حميمية اتصالي بالنص، كان للسياط حضور لا بأس به.. حتى استطاع النص/التجربة الفنية، ان يحررني منها.. لما شكل من حضور نفسي جعلني انسى لحظة الكتابة ما يريده الآخرون لأتوغل بحرية دون ان أعبأ باجتياح الخارج.

الكتابة الآن تحاول اعادة صياغة العلاقة بينها والقارئ عبر تقديم النص المتخلق بحرية والذي بعبر عن التجربة الإنسانية للذات المبدعة، وتحريض القارئ ليحاذي النص بروح لا تقل ابداعا وهو يخلق رؤيته للعمل الفني.

 

 

 

 

 

 

الشاعرة فوزية السندي في حنجرة الغائب: جسد يتطوى وروح تضطرب

 

الشاعر/ زهير أبو شايب

 

ذات ليلة، وذات مساء، يأخذ الشعر طريقه إلينا، عبر الأنفاس الحارة التي تتطلع السواد السري للورق، والبياض السري للحبر، الشعر اصطراخ لغوي صامت في متونه وهوامشه، صائت في الجسد والروح، يصلصل، ويجلجل، وكأن لا جدوى من محاوراته ومداوراته، سوى الاستغراق في الحلم، والتوهان في الرؤى، والإسراء والمعراج في شئون الحب وشجونه، أو التبدد في رغائب الحياة، واستشعار الموت عن بعد. وذلك الدبيب الخافي للعدم، الذي يتربصنا على أعتاب وجودنا، وداخل أروقة أجسادنا، وفي دهاليز وسرداق أرواحنا، ولا خلاص لنا، فالمصير محتوم، لكننا نكابد الأسى والألآم، ونحاول إضاءة ليل العالم السوداوي بالأفراح الملونة والأعراس البيضاء، لتأتي الجنائز كي تنقض هذا كله، إن لم يكن الآن، ففي مستقبل قريب أو بعيد، لكن الذي يعرونا في هذه النزوات والنزوعات هو الدهشة، دهشة الشعر، كدهشة الوليد الأولى أمام العالم، وغرابة العالم، كمال وأن الشعراء هم الغرباء الوحيدون على الكوكب، لأنهم في أصدائهم ودويهم، يبدون ممسوسين بالحياة، واللغة، وعزلة الكيونة التي يتجاذبها الوجود والعدم، من كل حدب وصوب،. وحتى لو كان ذلك كذلك، لا يستسلم الشاعر سوى للغته وإنسانيته، وعشقه الأبدي لكل ما في الكون من سدم ومجرات، وشموس ونجوم وكواكب وأقمار، وكأنه يترجم في قصائده، همسها ودمدماتها، وفحيحها ونأماتها، وكأن الشعر لديه، وجه أخر لموسيقى الكون السرية الساحرة.

 

والأمر هكذا حتى لو لم يكن ذلك، والشاعر في معمعان جنوحه وجنونه، يهذي بما يتوافد عليه، ويتنافد فيه من أصوات، وأشكال وألوان، وفراغ وملاء، وهواجس وظنون، وأضواء وحلكات، وأراضين وبحار، وسماوات من عبير وأثير، منغوم في جسده ذلك كله، وفي شبق روحه التي تتأبى وتتصبى، ولا ترغب بأقل من إنفلاتها وانعتاقها. من جاذبية الجسد والعناصر، ومن حصاراتها الواقعية والوهمية، لذلك تطلق جيوش شهواتها، وحمى شواظها وصهاراتها، وزلازلها وبراكينها، كي تأتي على كل شيء، وكي تجعل القصيدة، ملاذا ومعبراً ومهاداً تسع كل شيء، وكأنها لا تحتفي بشيء سوى نفسها، واقتدارها على الطبيعة واختمارها فيها، وتجمرها كسحاب ثقال، تسف أمطاراً إثر أمطار، بروقاً ورعوداً، على مسمع ومرأى الشاعر والآخرين معاً، وهي اللغة التي تحتبل بأضدادها، وتحتفي بأنقاضها، وتحتدم باحتراباتها، وتصمت أو تنفجر بما هي فيه، حين تبادئ الشاعر بماي دعى شهوة العيمة وهي من أدهى وأعمق وأخرق الشهوات.

 

والشاعرة فوزية السندي في مجموعتها ((حنجرة الغائب)) كأنما تخلق عالماً شعرياً خاصاً بها، عالماً منتشراً في فضاءات جسدها وروحها، تبرمجه في حنجرتها، وتصوغه قصائد ممهورة بلغة حاشدة بالمرئي واللا مرئي، بالمجاز وغيره، وبالحضور والغياب، فيما التموجات العنيفة التي تصطلي في جسد الشاعرة، وفي كينونتها، هي التي تقترف هذه اللغة الباهرة، المجلية، في سياقاتها وفي سردها، وفي التعبير الشعري الذي تنطوي عليه وتتشاغل به، وفي الشفافية والرهافة، في الحساسية والمشاعر الغفيرة، الثرة والوفيرة التي تهدرها، وتغدقها في نواحي القصيدة، وفي بطانتها الأساسية التي تتغارف الشعر، وتلوذ عبره بالفرار، وفي الأضواء الغاسقة، والمساءات المذهبية، وفي الظلال الرمادية المشفوعة بغواياتها، واغتلاماتها هنا وهناك، ومأن الأنوثة والأمومة هاجسها البديع الرائع، وكأن اللغة التي تتبارق وتتراعد بالشغف والعشق والحنين، والأوراد والرقي، والتعاويذ، هي التي تساعفها فيما تهمره وتتهاطل به، من شعر ومدونات للجسد على مرايا. الهواء، ومعادن الضوء، وفي صمت الحدث الذي تتقاسم مع حبيبها، بغرابة موسومة بالإيحاء والرمز، والتحويل والتأويل، والدلالة، التي تدل ولا تدل، وكأنها في مدار الحيرة، وفي كوكب الحيرة أيضاً.

 

والمجموعة مهداة الى أم الشاعرة، وفيها قصيدة متخصصة في ذلك المدار الحزين، الذي يرجع الفرع الى الأصل، والغصن الى الجذع، والضيق الى الرحابة، والدفء الى الحليب، والتضحية الى فيض المحبة والحنان، والحدب، والمراودات السخية السخينة، في عوالم الطفولة، وفراديسها المفقودة، وكأن الأمومة تستدرج الشعر، وفي قصائدها، الكثير عن أطفال الحجارة، وعن أحداث فلسطين. دون خطاب مباشر، وفيها رجل وامرأة، عاشق ومعشوق، وجواهر حب لا تحول ولا تزول، وتسيطر عليها التداعيات، والمناخات السوريالية، لجهة الحلم والرؤيا، والتخييل، والسرد والإزاحة، والتحويل، وكأن الكلمات والأشياء، تستولد علاقاتها الخفية، وتحيلها الى أوهام واقعية، ذلك من مدارك الشاعرة، ومن استدراكاتها، وانغراس ذاتيتها في تربة العالم، وفي آباره، وكأنها تنضحها بدلاء شعرها، كما يكتنز هذا الشعر بالبوح الذاتي، والرغبات المحمحمات المجلجلات، والتي تحتدم كلما مرت أنامل الشاعرة عليها، وبللتها باللغة الندية الطرية، والسلسة العذبة، المزدحمة بالفتنة والغواية والشجون.

 

إن روح الشاعرة، هي التي تقدح النار، وتثير حرائق في جسدها وثيابها، وتستنهض عوالمها من سباتها، وكأنها في أحلام يقظة، تسارر نفسها بما يتناهى الى سريرتها من لغات عابرات للقارات، وهي تختصر وتصفي، وتخمر وتقطر ما ترغب قوله، وتحذف الكثير من القول، وتغدق الكثير من الرغبات، حتى تأتي قصيدتها طليقة فارهة، سامقة، حرة، حيوية، ومشبوهة بالحياة، التي تعيشها، أو التي تحلمها، وتلك أحابيل. الشاعرة، وأضاليلها، وتلك مسراتها التي لا تكف عن الجيشان والتفاضح، الا أن الشاعرة تمسك أعنة وزمام قيادة شعرها مرات، ولا تترك اللا وعي يطغى، رغم تنظيم مقاطع حوارية، ومقاطع هذيانية، في أكثر من موضع وقصيدة، إلا أن التفكك والالتغام، أقنومتان في شعرها تتأرجح بينهما، مرات تتشظى، ومرات تلتم، مرات تنفرج، ومرات تنكتم،، خاصة لجهة البوح الذاتي الذي تتغول وتتغور فيه، وتناور وتداور، حتى لا يأتي كطوفان، ولا يجهش في القصيدة، بل تنجلي من خلاله أكوام الندم ،الحسرات، والحيرة، في الإقدام والإحجام، وفي المواصلة والهجران، وكأن بوصلة القلب لا تؤشر جهات الحب، بل تختبط وتختلط ولا يقر لها قرار.

 

ومن خلال تتبعي لتطورها الشعري ونمو قصيدتها، وبزوغها بقوة النبض المتمكن من مماسكة اللغة، ومن اجتراحها، ومطارحتها ومساءلتها عن الكينونة والوجود، رأيت بما لا يقبل الشك أن الشاعرة تحتضن صوتها الخاص، وتغذي أرومتها وسيماءها في قصيدتها، وتشملها بوشمها، بل كأنها تريد أن تتوازى وتتعادل معها منذ استفاقات، وهل أرى ماحولي، هل أصف ما حدث، وحنجرة الغائب، ومجموع قصائد تنشرها في جريدة الحياة، تجعلها شاعرة مستهامة بحقيقة نفسها، وبالرؤيا التي تستوحذ عليها، كما أنها تباغت اللغة، وتتباغت بها، وكأنها تراودها عن نفسها، ولا تقبل استسلامها، بل تتركها. في المقاومة والمعصية والممانعة، وتخصفها عن شبح كينونتها، لتجسد بها قصيدتها بعد إعادة تخليقها، ومضايقتها، وكهربتها ومغنطتها وتطبيقها مرة إثر مرة، حتى تأتي مشبوبة، حرانة، حردة، مستنفرة متوفزة، تأخذنا الى حيث تريد، حتى لو كانت لا تريد شيئاً، فهي لا توصلنا ولا تصل، وكأنها تعاود البدء والصيرورة والجريان، ولها حرية الابتكار والاستعارة، والاسترجاع، وتدور على نفسها لكن بشكل حلزوني نخروبي، وكأنها تريد القصيدة، على شاكلة زوبعة أو إعصار.

 

والشاعرة التي تفتتح فضائات الجسد، بكثير من الغبطة والحبور، تتملكها الدراما، وكأنها تفتح الأصداف صدفة إثر صدفة، حتى تعثر على لؤلؤة بالمصادفة، بعد أن تكون أودت بحيوان مشاعرها، وبزغت من خلال مواتها وانبعاثها ونشورها وفي قصيدة يوسف، لا تذهب الى المألوف والمتعارف، بل كأنها تخترع قصة يوسف من جديد، يوسفها وحدها، حتى لو أخذتنا التسمية الى يوسف الذي يعرفه الجميع، وسنفاجأ بأنها خالفت السياق، وانحرفت، وصاغت اسطورة عشقها على يوسف أخر، وحملته وزر جماله، وعذرت النساء المولهات به، لكنها لم تعذر نفسها، بل وفقت على الصراط، وكأنها لا راغبة، ولا ممتنعة، وكأنها ترى رؤيا، فيها من الأنوار الداخلية ما فيها من ضيائات الأكوان، والشاعرة أقرب من حبل الوريد الى قصيدتها، وهي تدهنها ببالطيب وتضمخها بالعطور والعصور، وتراكم الزمن العاري والمكتوم، وتنفحها بما تحفل به الأنوثة من غوايات، ولا تتورع عن ردم شقوق وصدوع التعبير، ولا عن الفيض والبحران الشعريين، كلما رأت الحاجة ماسة لذلك.

 

إلا أن الشاعرة فوزية السندي التي تتداخل وتتخارج في ومن قصيدتها، تترك النادي ورائحة الأمس واليوم عليها، ولا تستنيم ولا تنام، بل كأنها مسرنمة، أو أنها كالجولاني، تحوم وتحلق في سماواتها، وتغترف الصمت المتناذر هنا وهناك. حتى أنها في شذراتها الشعرية، تحتبس خزيناً من الشوق وتقلب الأضداد وتستحم بماء مراياها الى درجة التوق، والوجد والجوي، فيما المناخات التي تهجرها بيديها وروحها، تبقى مناخات حميمة، إلا أن مواقفها تثويرية تغييرية ناقدة، وشكاكة، وفيها من التهكم الأسود على الذات والجماعة، فيما تتراءى قصائدها كنصوص مشبكة بشاعريتها، ومنولوجاتها الداخلية، وهي لا تتهافت ولا تتداعى في نصها، بسبب السيل اللغوي، والزخم التعبيري، والمخاض الشعري الذي تتغامز، وتتماثر فيه، وكأنها تحول كل شيء وتؤله، وهي ترغب في قول ما لاينقال، وتقوله حينا، وتصمته أحايين أخرى.

 

والصدق مع الذات ميزة في شعرها، كما الأسئلة التي تفضي الى أسئلة، والشعر الذي يفضي الى تضاعيف شعر، واللغة التي تصير لغة في اللغة، من خلال كيماويتاها واشتقاقاتها وتبايناتها، وكريستالها، وكرنفاليتها، المفعمة بالأضواء والألوان، والنقوشات، والزخارف والتخاريم، والترانيم والجرسيات، والجدرانيات، والأراسبك، والهارموني، والإشعاعات المنخاتلة المدوية، والتربيع والتدوير، والإحالة الى غير المرامي، وتخارجاتها عن المنطق، واستفراسها وتفرسها في الجماليات الغاسقة والديجورية، ثم توشيتها بالذهب والفضة، وأمواه الشموس، وهدهدات التراتيل، والأناشيد، والتطريب، والتنغيم، والترخيم، والإيقاعات الموسومة بالعشق، وعراءات الجسد الراقص المتحرك،وسياحات الروح السافرة.

 

وإن للقصيدة في مجموعتها مقاصد غير التي ترمي إليها مباشرة، بل لا بد من رصدها وتتبعها، في اللحمة والسداة اللتين ينعقد عليهما نسيجها وحياكتها، وقطبها المخفية، والظاهرة،. فيما لغز الألوهة المؤنث يتظاهر وتخافى، بسلاسة وصعوبة على جلدها المتبدل، وعلى رملها المسف المتنقل، وفي أفرانها التي تصهر العناصر، وتنصهر فيها.

 

وإطلالة مدققة ممحصة على عناوين القصائد في المجموعة، تتيح لنا الكشف عما لا ينكشف في شعرها، وترينا كم أن قراءة استيهامية وتأويلية، تجعلنا على تماس طقوسي مع ضراوة التعبير، عن تلجلج وتهدج. الروح الشاعر فيها، وعلى التجوير والتجويف والتجوين فيه، وكأن جماع نفس الشاعرة ينسكب دفعة واحدة في قصيدتها، أو على دفعات تتدافق فيها، فتطمو وتطغى، وتظل على نكرانها وغفرانها لنعم الحب وخطاياه، وتظل رافضة متواثبة، دائمة السطوع، دائمة الحضور والغياب، ترسم ظلالها على زجاج القصيدة، وتتوارى في مراياها، وتمارس رياضات صعبة وعنيفة على صعيد التعبير الذي يتكون ويتشكل في ضميرها أولاً، وتهجسه وتوسوس به، ثم تعقد قرانه على اللغة التي ترى أنها تقدر على محموله دون أن تنحني أو تنوء، أو تنكسر.

 

كما أنها تتخاطر في شعرها، وتستبصر، وتتهادى، وتتباطأ، وتتسارع، تبعاً للحالة النفسية التي تغمرها، وتلجئها الى الإنكتاب، وممارسة هذا الفعل. الشاق، ومن تسجيل عويل الجسد، وهديل الروح في الشعر، حيث يبدو عندها كما عند الكثيرين، أن ما تتصامته من التعبير، يفوق ما تتكاتبه، لذلك يجيء الإيحاء الشعري قوياً، وتتذاوب التسمية في علائق اللغة وإانزياحاتها، وإندياحاتها المريرة، على أن جسد القصيدة الرخامي يبدي الكثير من الأعراق الكريمة، المؤصلة المؤسسة، كما يبدي مرمارها خفقان القلب الشاعر، وهو يمارس العمادة والتناول، والتداول في جواءات الحب، وفي مناخاته الفيروزية، وفي أرجوان الدم العاشق المناوئ لرغائه وزبده، ومؤانساته، ومتتالياته الحميمة.

 

إن الشعر في عراء الشعر وفي خفائه أيضاً، ما على الشاعرة إلا أن تكون الهدافة العمياء، كي تقع على مراميه، وعلى ليل المعنى فيه وتستنسل جمر اللغة الدفين من رمادها الضنين، وأن تكون كي يكون أولاً يكون إلا كما يجب أن يكون!

 

 

قراءة أولية في كتاب” ملاذ الروح”

               

محمد نور الحسيني

                                                        (1)

في “ملاذ الروح” جديد الشاعرة البحرينية “فوزية السندي”، سرعان ما تكتشف الانسجام اللافت بين التميز على صعيد لغة القصيدة و بين التطلعات المتوثبة على مستوى الرؤية و ذلك ضمن توليفة ماهرة قلما تقدر على تجزئتها، إذ تهيمن عليها جبلة شعرية متفردة، هي وحدها القادرة على التحرك خلال هذا التشظي الفريد، المتداخلة طبقاته على مستوى الصياغة و الفكر، بحيث تبلور هذه التطلعات الذات الشاعرة و هي تزج بنفسها في غمار الكون، بكل أشواقها و طموحاتها و لواعجها، و هي ما تنفك تعبر عما قمع و اقصي عبر التاريخ الجمعي و الفردي للكينونة الأنثوية تحديداً، انتهاء الى تأكيد أن ما تبتنيه “ فوزية السندي” بانسيابية و تدفق أخاذ، إنما يجسد في الحقيقة لظى الروح و الجسد و نزيفهما معا، في مواجهة صقيع التابوهات، في نوع من الأباء العارم و الرفض الرصين و الزهو بالشعر كونه الضمانة الراسخة لوقف الانهيار على مستوى الذات على الأقل و لوضع حد للخراب الزاحف على شغاف القلب، و سدى ذلك و لحمته، ما يختزنه هذا الشعر من جينات روحية تسند الجسد الموشك على الصلب و الكبت و الانزواء.

“من غيرك يثق بغدر الغيم، من غيرك ينحسر هكذا بلا مبرر، من غيرك يفقد نعليه خارج الباب، من غيرك يفسر برد الورق بأتونك، من غيرك يزج الكون نحوك، من غيرك ليس له، من مثلك ياجسد.”.

                                                  (2)

على غلاف الكتاب: عنوانه واسم الشاعرة، دون أن تسم الكتاب بنوعه أو جنسه الأدبي (شعر، نصوص مثلا..) وفي ذلك رد مبطن على من لا يزال يجادل في مسألة شاعرية قصيدة النثر وكأن الشاعرة تترك القارئ يحدد الانتماء الإبداعي لهذه الكتابة. على الغلاف الأخير ثمة عبارة تشتمل على برق قوي يعبئ بالضوء الفجوات وغياهب النصوص وكأنما العبارة مفتاح للولوج إلى خبايا الكتاب:

“امرأة تنام في الكون، وتفتش عنه.”

و بذلك لم تقسر الشاعرة القارئ على قبول وجهة نظرها فيما ابدعته، رغم أحقيتها بذلك، و ما دمنا قد ارتضينا هذا الاستدراج الحاذق لإستمراء هذا الجيشان، فأنك لتشعر أن العناوين ما بين الغلافين تضارع محطات ترويجية لإلتقاط الأنفاس، و انك مقبل على نص مفتوح لا تنتهي تعاريفه على حد قول الشاعرة في آخر الكتاب “حمى، إقتران الليل بهفة الحنين، معصوب بالفتنة، زرع يزعزع الجفن، هاوية الترنح، بلاغ غامض، جسر بين الكون و جسد الأخرس، كل شيء، معنى اللامعنى، فتوة اللغة، نمرة المخيلة، رقيق اليأس، حاشية الجرح،” و خلال هذا البيان، القصيدة: يطول تعريف” الشعر” و لا تمل الشاعرة و لا يضنى القارىء من هذا النبض المتوهج و كأنما هو الحياة، فيتواطأ القاريء و الشاعرة على عدم مفارقته و لا الانتهاء منه :”الغافل عن قيد النحو،قهر الورق، ناهب الصحاف، أزميل النبوءة، نجل النهايات العاق، هديل العمر، تورية الموت… لم انته بعد.”.

                                                   (3)

شعر “فوزية السندي” هو بحق نداء التاريخ المقصي والتجاور الحميم بين ما هو قدسي وما هو دنيوي، حيث تتجلى القضايا الكونية التي يتردد صداها في:

 الموت والحياة، في الكبت والحرية، في الحوار أو الإقصاء، في الحب الفياض أو الكراهية المدمرة، في اعمار الحياة او بث الذعر في معانيها، إن الذات الشاعرة ستظل تنوء تحت هذه الذبذبات الباهظة للوجود، اذ تأبى عبورا من باب “لزوم ما لا يلزم” وتشاكس في بهاء العناد:

“كحجر ذاق نحت الرياح بأقصى القمم،

لا تقبل حدود السفح موطئاً لجثتك،

 لا ترض القبر شريكاً لك، “

“كن عنيدا بك، وأصابعك تبارز راية البياض…”

                                                     (4)

“ملاذ الروح” سيرة “امرأة تنام في الكون وتفتش عنه”، دونها البوح الآسر، فهو نداء الذات وشعر الكينونة، النداء الساخر والجارف والعجائبي والخرافي، نداء التفاصيل اليومية في غرفة قصية وحنونة ودافئة، بمنأى عن فضول العالم وتلصصه، في نوع من المجاذبة غير المتكافئة بين الشاعر والعالم، إذ لا منطقة ظليلة، لا حلول وسط: أن يرنو الى الذراع أو يستغرق في الهاوية:

“صرت الحديقة والحريق، صرت الضد كله، لئلا يشكوني الماء”

“لا عليك، اندفعي لآخر دهليز هزه الشوق، وأشعلي بصعق الأصابع، ما تبقى من وتيرة هذا العالم العنيد”.

 

                                                   (5)

“تختارين كرسياً شرساً لتبلغيه ما يخطف صوتك،

وعندما تبلغك فراسة النوم تسترسلين لحكمة السرير

.. لمهب لا ينتهي

ريشه الوحيد بوح لا شريك له..”

أي افتراس ينتظر في الخارج؟! أما يزال الآخرون هم الجحيم؟ والا فما هذا الولع بأنسنة الأشياء في الغرفة وضخ الحياة فيها من قبيل: إضفاء الثراء على السجادة والفراسة على النوم، الشراسة على الكرسي والحكمة على السرير ليتطاول الأمر إلى كائنات الطبيعة: ففي انتظارنا دعوة حارة إلى الإلتفات نحو “الشجر الذي يحيا على مداخل العمر” و “الرعد الذي يزج الهواء” و “الورق الذي يطيل ارتعاد الموت”.. انها دعوة مشبوبة: أن تصغي الكلمات، لترى نهر الروح يتسع، كيف نفسر الأمر؟ انكفاء احتجاجيا أم جردة حساب سعيا لإمتزاج مهيب بالكون وانغماس أثير في الحياة؟!

“أقود غائر القلب، لهلاك دليل لا يراني..

هناك.. أهب خطاي لجياد تلجم المسافات بهياج غرتها.”

“مكاني الجريح جريرة الطاولة، غريمة لا تتعب مني،

لها طفل كعبء الورق يرضع مداد الوريد.”

إنه المصاب الوحيد” الحبر” الذي لا يمهل أحداً ولا يحتمل شريكاً في صبوته وشقائه واندحاره، وكل ذلك بحسب قول الشاعرة.

                                                          (6)

الليل ومفرداته، من اشد الكائنات استبدادا بأكثر من نص، فيخيل لك أن الصباح والفجر واليقظة، ضيوف فظة وناس جلاف وزوار غلاظ فلطالما كان الليل خدين الحبر،” فالصباح له عنوة وله طلقة تستبد بفيء الليل” انه طقس مقيت:” كأني لا أحيا لغير ضوء الرصاص”،” غامر الفجر كغيره من غزاة العزلة واستباح الغرف.” هل الليل أرحم؟” لما أتيت البيت واجهتني المصابيح كلها”،

“كيف لسور وحيد، و. ديك واحد، نفوذ كهذا يمزق سجدة الليل؟”.

وتظل الشاعرة ترسخ “ثيمة” الليل بأكثر من وسيلة ودونما وهن ولا كلل، مستمرئة صحبة هذا الفاتن ولائذة بعتمته المخملية ومحامية عنه كمن يحامي عن عزيز:” صاحبت العتمة، حتى جاء الفجر جهورا كعادة الوصايا، زاحمني ببلايا الضجيج وقرقعة الأواني، كنت أصيب لفجور المعدن ورأسي مكتظة بأحابيل المضجر، من صراخ وعته، طناجر تصطك.. جحيم يلغي حدودي.”

الخشية من الوقوع في براثن العادية والتأبي على المألوف والمهادن من أبرز حقوق المبدع، فهو ما انفك خدينا للتميز، طامحا في الألق، يقظا تجاه سيول التفاهة والتسطح، رافضا الانصياع لغريزة القطيع وان كان في ذلك استعادة لدور الشاعر وما يتضمنه من شحنة نبوئية متعالية أحياناً:

“لست لسفور مخلب صاغه التكوين، وروته فداحة البيوت، من خناجر تطرز صخب الطريق.”

“قل لي.. لم أتقصف هكذا بلا منازع؟

ولي يدان تهطلان كسيف الصواعق وذاكرة لا تهدأ.”.

                                                       (7)

كلما أمعنت في قراءة “ملاذ الروح” قصيدة بعد قصيدة، تتكشف حقيقة مفادها، ان الكلام ليس في وارد حسبانه ان ينتهي، ان الشاعرة ليست معنية أصلا بإنهاء الكتاب، رغم أنها تحاول الإيحاء بذلك، أن وراء هذا الفيضان الشفاف، رغبة جامحة في التحرر من أسر العادة و فجاجة الأيام، و الارتقاء بالذات إلى معارج الكشف و الإمعان في هوى التسامي، فتكاد تجزم مع “ فوزية السندي” بأن الشعر:”كالهواء حر لا مرد له، ناي ممزوج بعصيف الرئة، حفيف حنجرة الغائب، مدار السماحة و هو يواجه عنف النزيف، زعيم يقود كتائب الدم نحو حرب لا تهزم و لا تنتصر بل تتتالى هكذا، هديل العمر، تورية الموت..”

و “.. لم انته بعد..” أجل لم ينته النص، فثمة بين الشعر والحياة وشائج وأواصر وغصص ومكابدات وأشواق لا تحد، ثمة مواعيد خصوبة، ثمة قوة شعرية متفجرة ودافقة، ثمة الكثير الذي لم تقله الشاعرة “فوزية السندي” بعد….

                                                                                                                  

خطاب الجسد: قراءة في رهينة الألم لفوزية السندي

     

الباحثة  ناريمان أسعد

 جامعة الكويت

مفتتح

مراراً،
تأسيت من تركة إرث أهدرني،
أسرفت في إشراك صرخات رؤاي،
تفتيت جسدي، لأرتعد بمرايا تتعدد.

ومع ذلك،
لم أنج من كائنات أخرى
أكثر نقاءً من شر أنوثتي.

أمام المنصة،
أستعيد لعنتي الأبدية،
أستعيذ بلغتي الأولى،
أتشبث بشعري الأخير،
أتنفس حصاراً من همسات تراوغني،
وأتلو
ما مسني   

فوزية السندي (من قصيدة أسجية تنحز ليل الذاكرة ص110-111)

كنت أحسب أن قراءة الجسد في الشعر أمرا هينا ، لكن الأمر جاء مغايرا لما ظننت ، عجيب هذا الجسد الذي تنازعت حوله  الدراسات المختلفة لقد ارتبط الجسد بفلسفة الكون  و فلسفة الأشياء المحيطة بنا  و اتصل بالنفس و الذاكرة و المكان و الزمان متموضعا في كل هذا آخذا بجانب عظيم فيما اتصل به ، أما الدراسات التي شملته غربية أو إسلامية فقد اتفقت و اختلفت في تصنيفه و علاقته بداخلية الإنسان و محيطه ، فهو ” بالقياس إلى التمثلات الذهنية أداة اصطفاء … فجسمنا – المقصود هنا الجسد البشري – يعين بالمكان الذي يحتله في كل لحظة ضمن الكون”1، و الجسد ” ليس حدودا أو ذرة و إنما عنصر مبهم في مجموعة رمزية ” 2.

إن الاحتفاء بالجسد أو استخدامه كرمز شاع في مجالات الإبداع المختلفة ، و كل احتفاء حمل معنى يختلف عن الآخر لأن الجسد يأخذ معناه ” من خلال نظرة الإنسان الثقافية له ” 3 ، و على هذا فقد حمل الجسد تعريفات مختلفة باختلاف الأزمنة ، و من تعريفاته أنه الجزء المادي للإنسان ” و قطب جذب أسسه الروحية أنه ” حبة الكون ” و جوهره و خليط من العناصر الأربعة  التي يتكون منها كل شيء موجود الماء ( الدم و سوائل الجسد) و الأرض (الهيكل العظمي ) و الهواء ( النفخة الحيوية )، و النار ( الحرارة الحيوانية ) ، إن الجسد و الكون يمتزجان شكلا لا يمكن تمييزه ، فالجسد لا يجد أساسه في ذاته “4.

إذن يشكل الجسد جزء متصلا بالكون و جميع الحيوات و المحيطات به فهو فاعل و متفاعل، و كونه أصلا مادة فهو بالضرورة شاغل حيزا من المكان و متصلا بالزمان من حوله، لقد نشأت في طور الدراسات الحديثة عدة محاولات حاولت معرفة العلاقة بين النفس البشرية و الجسد ( البشري) و منها نظرية التفاعل المتبادل interactionsim  التي تنص على وجود علاقة بين النفس و الجسم ” فالحالات النفسية و العمليات العقلية تؤدي إلى إحداث تغييرات معينة في الجسم ، و تكون علة لأحداث حالاتنا النفسية و عملياتنا العقلية ” 5، أما نظرية الظاهرة الثانويةepi phenomenalism   فتنص على أن الإنسان مؤلف من جسم و عقل و أن ” الجسم هو الأصل و العقل فرع تابع عنه في سلم تطوره “6، و قد طورت عن هذه نظرية الانبثاق emergent theoryحيث أنها تؤكد أن ” العقل الإنساني انبثق أو نشأ عن الجسم في تطوره البيولوجي المعقد “7، و يشير هنا أصحاب النظريتين إلى أنه من الصعب تفسير نشوء حالاتنا النفسية ذات الخصائص اللافيزيائية المرتبطة بفسيولوجية الجسم ، كما وجدت نظرية الموازاة psycho-physical parallelism التي تشبه العلاقة بين الحوادث النفسية و الفسيولوجية ” بنص و ترجمته لنص واحد بلغتين مختلفتين كأن الحوادث النفسية و الفسيولوجية مظهران متوازيان لحقيقة واحدة “8، إذن طورت في الغرب العديد من الدراسات التي تناولت الجسد تاريخيا  وصولا إلى العصر الحديث، حيث أخذ الجسد منحى مختلفا عند الغرب في طور الحداثة فقد تمحورت الدراسات حول إيصاله للكمال و تجميله و جعله أكثر فعالية من خلال استبدال بعص عناصره دون إفساده ،لأن الجسد أصبح منعزلا بنفسه عن محيطه، أما من وجهة نظر الإسلام فقد تباينت الآراء حوله حسب الفرق المختلفة و سأخص بالذكر هنا النظرة الصوفية للجسد كونها  ربطته ربطا شديدا بالروح و كثر حديثهم عن الجسد الذي ارتبط بالحب عندهم  في حين امتلأت كتبهم بالحديث عن الحنين للآخر ( الذات العليا) حيث يهيم الجسد شوقا و تحرقا، و لا يحدث الاكتمال إلا ” عن طريق غياب الجسدين المحمومين و من هنا يبقى الصوفي في حالة سكر دائمة و ارتقاء يصل إلى درجة الغياب ” 9، و الوحدة بين الجسدين تعني الالتقاء و الكمال ، و يرى ابن عربي ان ” نسبة الجسد إلى الروح كنسبة العالم إلى الحق كلاهما متصل بالآخر، الحق متصل بالخلق و الخلق متصل بالحق” كما يرى فيما يتعلق بالجسد و الروح أنه ” لما كان الجسد لفظا و الروح معنى فلا يمكن للجسد أن ينفصل عن الروح و لا يمكن للروح إلا أن تكون موجودة بواسطة الجسد حيث يتشكل الجسد بها و تتشكل به، أي أنه غطاء لجوهرة الروح التي تتلون بتلون الجسد ” 11، و هذا يؤكد ارتباط الروح بالجسد ، الجسد المادة المتعين المتلون بألوان مختلفة و لا أحبذ استباق الحديث ، و لكن أليست القصيدة جسد مرتبط بروح الشاعر ؟ وبهذا يتوحدان ويمتزجان للوصول للكمال.

جاء الحديث عن الجسد في مواضع مختلفة مواضع المتعة البدنية والروحية كما جاء الحديث عنه موضعا للتأثيم والذنب، والحث صريح وواضح في نصح متبعيه بضرورة المحافظة على سلامة الجسد لأنه أساس استمرار البشرية.

 

لم يكن استخدام الشعر للفظة الجسد أو أعضاء الجسد غريبا في الشعر العربي منذ الجاهلية إلى وقتنا هذا ولكن المعنى المقصود به اختلف ودلالته اختلفت وكل حسب ما يرمي إليه، ويذهب شعراء الحداثة في هذا العصر إلى الاحتفاء بالجسد و تميزه بل وأسطرته مما عزز حسية النصوص في شعر نابض أصلا بالفكر والتجريد ” كما تنشأ بين الشعر والنص علاقة شبقية، يصبح النص لغة الحس، وتطغى صور الجسد عليه، كما تطغى لغة جنسية بإزاء النص، لغة الاختراق، والنشوة ” 12و لكن لماذا “الجسد” تحديدا في هذا الطرح؟ وهل يملك الجسد تلك القدرة على مواجهة العالم؟ هل يصل الشاعر لمرحلة يتصل فيه الجوهر بالمظهر، الروح والجسد، الفكر والجسد هذا الذي يجعل الشاعر يهيم مع نفسه متحديا الكون من حوله بامتداداته وتداعياته؟ يذهب كمال ابو ديب إلى أن اتخاذ هذا الطرح ” تركيز مهووس على الجسد لأنه أكثر شيء استغراقا في فرديته، واقتصارا على الحميم والخاص، وإشعاعا بالفردي المادي المتعين ” 13، ويستند بفكرته هذه على انحسار الهالة التجريدية عن الجسد التي اسبغتها عليه دراسات العصور الماضية والنظرة الحديثة للجسد حيث أن بعضها تؤسس إلى أن الجسد انفصل عن العالم ولم تصبح له تلك الهالة والقدسية التي اعتداد على ارتدائها.

و من هنا فإن تيار نقدي كتيار النسوية يذهب إلى أن الاحتفاء بالجسد من أهم المحاور التي يجب أن تهتم بها المبدعات، وأن النظرة لأجسادهن يجب أن تكون من منظور الفوقية لأن الجسد مصدر للتميز ، و يصدر هذا التوجه معارضة للفكر الحضاري السائد في العالم و مخالفة لغالبية الدراسات الفلسفية التي تنظر للمرأة نظرة دونية في ظل المجتمعات الذكورية ، و على هذا تكتب هيلين سيكسوس ( نبية الحركة النسوية )  في بيان شهير عن النسوية تدعو فيه النساء  أن يضعن أجسادهن فيما يكتبنه فتقول ” اكتبي نفسك، يجب أن تسمعي صوت جسدك، فذلك وحده هو الذي يفجر المصادر الهائلة للاشعور” 14.

 

الأنوثة والذكورة

ما أكثر ما قيل عن الذكورة والأنوثة وما أكثر المهاجمين للأنوثة وقد أتيحت لي الفرصة للاطلاع على عدد جيد من المراجع التي تحمل التوجه الجديد في محاولة لإعادة صياغة الحضارة بلغة جديدة تكون فيها المرأة أو الأنوثة كما يقال عنصرا فاعلا لا متلقيا، المطلوب أن نعيد النظر في الأشياء ونعيد ترتيبها محاولين إزالة أحافير ثقافة الذكورة أن تخرج المرأة من مكانة التابعsubordination واستصغار شأنها disparagement وإحلالها في الموضع المناسب لها ليس بالنظر إلى الجنس genderو لكن بما تحمله من إمكانات وقدرات.

على أن اللافت للنظر في هذه الدراسات  نظرة الصوفية للأنثى متجاوزة بفكرها  جميع الفرق الأخرى ،فقد ذهبوا في توقير المرأة و احترامها مذهبا غريبا و صفوا فيه الذات الإلهية بالتأنيث و ذكروا التوحيد ،و على هذا تم في نظرهم تقديس الأنوثة  يقول ابن عربي ” إن الله نهانا أن نتفكر في ذات الله و ما منعنا من الكلام في التوحيد ، و هذا يعني قدسية الذات المؤنثة التي لا يجوز أن يطالها الفكر ، و عدم قدسية التوحيد المذكر و إباحته بالتالي للكلام ” 15 بل و يذهب في شطحاته إلى أبعد من ذلك فيقول ” كن على أي مذهب شئت فإنك لن تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم و العلة مؤنثة و إن شئت قلت القدرة فالقدرة أيضا مؤنثة “16.

الحديث عن الأنوثة و الذكورة حديث عن ثنائيات ملأت كتب الفلسفة و الثقافات على اختلافها ففي الحضارة الصينية جاءت الثنائية تحت مسمى ( الين و اليانج ) ، الين السلبي كل ما هو مؤنث و اليانج الإيجابي كل ما هو مذكر وعنهما ينشأ العالم ،أما في الفلسفة الإغريقية فكانت ( الأيروس و اللوجوس) الأيروس ( المؤنث – العشق) و اللوجس ( المذكر- العقل) هذا التأثير امتد للدراسات الحديثة -فأثرت على فرويد و شوبنهور و كارل يونج و غيرهم كثير في الغرب و الشرق على السواء-  فأصبح الأيروس ( مبدأ الترابطية relatedness الأنثوي ) و اللوجس( مبدأ الاهتمام الموضوعي الذكوري ) . نموذج يونج كان الأنيماanima – ( العنصر المؤنث) و الأنيموس animus العنصر المذكر 17و تحت لواء هذه الأفكار أسندت للذكورة صفات التفكير و الاهتمام الموضوعي و التحليل و الانضباط  و كل ما هو إيجابي و بناء في حين كان الاتقاد و الشعور و اللاانضباطية و الشمولية للأنوثة على اعتبار أن هذه صفات السلبية !! و بهذا تكون معادلة الأنوثة ( المرأة = الجسد=الوعاء= العالم ) ، ولسنا هنا بصدد البحث في هذه الثنائية من حيث الصحة و الاعتلال و لكننا بصدد ما أفرزته هذه الثنائية من رواسخ و أصول و حفريات تأصلت و ترسخت و تجذرت على مدى العصور في الثقافة و الحضارة العالمية باستثناء نماذج ( كقبائل محددة في إفريقية- الحضارة المصرية –الحضارة السومرية ….)18، هذه الثنائية أفرزت النظرة الفوقية الذكورية والدونية التي لازمت الأنوثة و ساعدت على التهميش و التغييب المتعمد و المجحف بحق المرأة لتكون بذلك إنسانا من الدرجة الثانية أو أقل !! كل هذا عمق في المرأة الشعور بالقهر و الظلم و الاستبداد، و يتعالى  و يتضخم هذا الشعور عند المرأة المبدعة التي تتفاعل مع العالم و تستشعر شراسته  حولها مما يفجرها بتجسيد حيوي و فاعل  للنص الذي يتماهي من شعورها العنيف بضغط الحياة و قساوة الكون في محاولة لخلخلة مفاهيم الحضارة و إعادة تشكيل العالم من منظور أنثوي ، و قد جاء التعبير عن الهموم التي حملتها المرأة و القضايا التي اتصلت بها ضمن خمسة محاور: الايديولوجيا –الخطاب – البيولوجيا – التجربة – اللاوعي ، و كل هذه المحاور تم التركيز عليها ضمن دراسات النقد النسوي و ما بعد النسوية ، و لا أستطيع أن أزعم أن فوزية السندي قد تأثرت بالحركة النسوية و لكني أستطيع القول أن المحاور التي دارت حولها الدراسات النسوية تمس كل إمرأة على المستوى العالمي ،و قدرة استشعار هذه القضايا و المحاور تتصاعد عند المشتغلات بالثقافة و كل ما يتصل  بالإبداع ،و بما أن صفة اللاإنضباطية و الشعور قد أسندت للمرأة كان على المرأة المبدعة أن تحركها فيما يخص قضاياها و يعبر عن ذاتها المنسحبة على النساء قاطبة ،و قد جاء هذا التعبير على طرق مختلفة و بتعبيرات متغايرة حسب رؤية كل مبدعة و على سجايا متباينة. وربما كانت ظاهرة استخدام الجسد والاستعانة به بل وانتشار استخدامه في الأدب الموسوم بالحداثة والأدب النسوي خاصة من أكثر الظواهر إثارة للاهتمام، وانطلاقا من هذه الظاهرة ستحاول هذه الدراسة فهم خطاب الجسد الذي ركزت الذات على طرحه وعلى هذا وستتمحور هذا الدراسة حول ثلاثة محاور:

1-    الجسد الأم

2-    الجسد والآخر

3-    الجسد وتجليات الذات

وصل استخدام لفظة الجسد في ديوان رهينة الألم لفوزية السندي في حال اتصاله بضمير المتكلم والغيبة والتنكير والتعريف والجمع والتثنية للفظة ووجدت أن مجموع تكرار اللفظة وصل إلى سبع وستين مرة في قصائد الديوان.

جسدي جسده/جسدها جسد/الجسد أجساد-جسدين مجموع لفظة الجسد
19 9 37 12 67

 

1

لم تحظ الذات فيما اطلعت عليه من دراسة جادة إلا فيما ندر، على أن نظرة عامة في إنجازاتها الإبداعية تحتاج إلى وقفة تأمل و دراسة من نواح عدة ، و قد أصدرت  من سنة 1984 إلى آخر ديوان لها 2005 ستة دواوين ،  و تصدر الذات في إنتاجها من منظور معين و من هم جمعي تحمله محاولة مقاومة العالم بمفاسده المختلفة من حولها ، و يتنازع الذات في ديوان رهينة الألم نوعين من الأزمات: العالم و شراسته من حولها في محاولة لرفضه بكل أشكاله و تداعياته، و إشكالية الأنوثة و ما يستتبعها بالضرورة من أفكار و عادات و تقاليد راسخة و مغروسة في المجتمع أحاطت بها و قوضتها،  و يمتزج لديها الإحساس بالتأزم بعملية التخلق الإبداعي كونه المصدر الأعظم بالنسبة لها للتفريغ و الخلاص، و قد تشكل وعيها بالاختلاف منذ الطفولة مما عزز لديها  إحساسا  قويا و عنيفا تكشف عنه القصائد التي كتبتها تحت ضغط ذكريات الطفولة و الصبا .

1-    الجسد الأم

تركزت الرؤية للجسد الأم في نص أهدته الذات المبدعة لأمها ” يا لك يا أمي حتى تحت التراب تحترفين عنف الحب كأنك قلب الجنة”19  هذا النص حمل عنوان الديوان ذاته ” رهينة الألم ” ويظهر من الإهداء و عنوان النص نوعية الخطاب الذي تود الذات توجيهه فالأم صانعة فن الحب ، هذا الحب الصادق الذي لا يحمل مصلحة من أي نوع، و هي لا تحمله و لا تصنعه و تقدمه فحسب بل تحترفه و كأن صنعتها الأولى و الأخيرة الحب  الذي يطهر العالم و ينقذه من فساده، و لا يتوقف هذا الحب بانتهاء الحياة بل يمتد عطاءه و أثره من تحت التراب، لأن انتهاء الحياة لا يمنع و لا يوقف تدفق هذا الحب . لهذا منحت الأم بما تحمله من المشاعر الطاهرة والجياشة القدرة على التدفق في أي زمان ومكان في جميع حالاتها لتلتقي بهذا مع الأم الأسطورة، الأم الكبرى سيدة الحكمة والسحر والغيبوبة والجنون، سيدة الموت والشفاء، سيدة الوقت والأقدار 20، الأم التي لا تحدها الحدود ولا تمنعها الموانع.

الأم التي تحدث عنها النص حملت تأريخا لحياتها و معانتها من الحياة و سطوة العادات و التقاليد و قسوة المرض الذي رضخت له ،حملت دفقات شعورية عنيفة مليئة باجتراح الألم الذي أبقاها رهينة له في حياتها ،و أبقت الذات رهينة له بعد مماتها، و من ثم فالشعور بالألم المتأصل في النفس هو الذي ساد أجواء النص و جاء للتعريف عن نوعية الرهن الذي شمل الأم و الذات معا لأنهما وجهان لعملة واحدة ( الأنثى) هذا الرهن غلف كل من جسد الأم  و الذات جوهرا و مظهرا  في أسلوب سردي محكم مليء بالصور الحسية التي جسدت قصة هذه الأم  ،و ساعدت على  تلقيم المتلقي الخطاب الذي تمحور حوله النص.

من غيرها..

امرأة وهبت جنون الحياة ملاذا رحيما

أباح لخلوة الرحم دفئا يستنهض طفولة عمياء

لتتقد ببراعم تتعالى كسنابل تلهج بحرية الريح.

كالوردة أنهت عمرها قليلا وقتيلا

لم تأسف لرواحه ولا لغلبة الشوك فيه

لكنها راحت كل غصن تتورد بحمرة الشفق

لتغدق نهر الحنان كقلب وفي وعتي في آن.

شمعة لم تأبه لظلام يطغى ولا لعنف يحتد

بل تتأهب لمعترك يقدح جمر الأضلاع

كل حضن يشعل بئر الحب

ولا يرى غير ماء التراب.21

المصدر الأوحد الذي استطاع أن يدفع بالحياة إلى الأمام و أن يغرس الحب في كل خطوة و حركة تصدر ” الأم” فمن غيرها يقدر على ذلك ، من يقدر على زرع براعم الأمل التي تقاوم الظلام و البؤس و تلهج بلحن الحرية ،الحرية التي تسري كالريح تمر على جميع من يسكن الأماكن التي تمر بها و لا  يسلم من أثرها أي حيز و أي مكان ، الأثر الذي سيغير وجه العالم مع مرور الزمن ، و سيكون له الأثر في تعرية معالم هذه الأماكن و نحتها  كما تعري الريح الأرض ، هذا الأثر الذي سيظهر على العالم من حولنا و ينحته و يغيره و يعريه إن طال الزمان و إن قصر ، ولا تبالي الأم بما يصيبها من أثر الشوك – و تعني به القهر الذي تتعرض له من عادات و تقاليد- مع غلبته و سطوته على جميع ما يحيط بها لأن هدفها يسمو فوق هذا ، ولا تأسف الأم على ضياع العمر و لا تحسب له، إذن لا يشكل الزمن مصدر قلق للأم و لا يشكل فعل القتل رادعا لها لأنها لا تبالي بكل هذا و ستظل على الدوام الربيع الذي يشرق في هذه الحياة ، و حنانها سيظل النهر المتدفق الذي لن يركد أبدا و سيزيح من أمامه كل معوق يحاول وقف التغيير ، و تواجه الأم كل هذا مع أن ما تراه لا يتعدى أثر الأمل ( ماء التراب) ، ولننظر إلى الصور التي وصفت بها الذات الأم ( كالوردة –تتورد بحمرة الشفق – لتغدق نهر الحنان – شمعة لم تأبه لظلام ) كل عناصر الطبية تتظافر معها لأنها أصل الحياة و الكون و عنها تصدر جميع المخلوقات، و كل حضن تمنحه أطفالها و تغمرهم به يشعل بئر الحب الذي لا ينضب، هذا البئر الذي لا يتوقف ، الأم كالماء أساس الحياة و بدونها لا تستمر و بجفاف الماء تنتهي الحياة و هكذا الأم نهر ماء متدفق و بئر يروي عطشى الحنان و هي بكل هذا لا ترى إلا أثر الأمل ، و تكون الأم بهذا معادلة ( الأم= الماء = العطاء الأبدي = الحياة ) في مقابل ما تتلقاه ( الأم/ العمر الضائع/ القتل / أثر الأمل) تمنح الأم كل شيء في حين لا تتلقى في المقابل إلا القتل و العنف  ، ينير جسد الأم ما حولها و يستعذب العطاء و يمنح الحياة أما ما يحيط بهذا الجسد فإنه يمعن في قهرها و قتلها و تعذيبها، و هي الوحيدة القادرة على المواجهة لأن رسالتها تسمو على أي شيء يحيط بها و تكون بهذا صاحبة القوة و القدرة و الاستطاعة

كانت ولم تزل،

ترتمي لبيت مأهول،

بغرف تتعدد وأسقف تتصاعد

جدران تتعالى وباب واحد موصد على الدوام

محاطة بتسعة أجنة ترتعش حال الريش،

أطفال يتدافعون لغمر الحضن

لامرأة مزدهاة بقلب لا يندم،

برحم واحد يستبسل

وسيد واحد يستبد. 22

تطرح الذات في الأبيات السابقة طبيعة المعيشة التي حظيت بها الأم ، فكانت الجسد الذي يخدم البيت ، وتتعدد صفات هذا البيت في إشارة لطبيعة ساكني هذا البيت فالوصف و إن كان للجماد إلا أنه يجسد في الحقيقة طبيعة الحياة و التكوين الاجتماعي في هذا البيت ، الأم في مواجهة كبر حجم الأسرة الذي يزيد عاما بعد عام، و نفهم هذا من تضخم حجم البيت ، فالغرف تتعدد و الأسقف تتصاعد ، و أطفالها تسعة ، وهي تتحمل من أجلهم العناية بكل ما يحيط بها من أجلهم حيث محيطها واحد وهو الحيز الذي يقع فيه البيت أما الباب فهو موصد على الدوام في إشارة إلى أن مملكة الأم تدور في هذه الدائرة و أما خارج هذه الدائرة فهو محرم عليها، و هي بهذا تكشف عن طبيعة الحياة التي عاشتها أمهات الماضي وعن الأدوار التي رسمت لهن و قررت من أجلهن ، فلا يعشن إلا في دائرة الخدمة في البيت و الإنجاب و إطاعة السيد الذي أسندت إليه صفة الاستبداد ،لأن المرأة لا رأي لها و لأن الناموس الذي تسير عليه في حياتها رسم لها من قبل هذا السيد ،و السيد هنا الذكر الزوج مع امتداد صفة الاستبداد الذكوري إلى الأب و الأخ أو لأي ذكر محرم من أقاربها ، و لا خيار لها في هذه الحياة فقد رسم لها الدور المثالي و طبقت عليها فرائض العادات و التقاليد و على هذا لزم عليها أن تكون المطيع و الحمل الوديع فلا يسمع لها صوت أو احتجاج ، حياتها دائرة لا تتعداها و لا تتجاوزها ، فالحدود مرسومة و الخطوط واضحة ولا ملجأ لها سوى ذاتها .

هكذا كالحياة،

مترعة بالخلق تنهض كل نهار

سيدة الحكمة، راعية العصافير

رهينة الألم، كسيرة الكوابيس

واهية القلب، واهبة المسرات

مليكة العطايا، ملاك اليد

ملهاة تستدير لترى الجحيم خلف مرآتها

يسأل جسدها الصريع: من غيرك؟23

يشير الاستفهام الذي قصد منه التقرير هنا إلى أسطرة الأم و التقائها في كثير من الأوجه بالأم الكبرى التي كانت لغز العالم المحير في العصور الغابرة ، فالأم كالحياة مصدر الخيال و فيض الوجود ، وقد جاء التكرار في  صيغة التركيب النحوي( مضاف+ مضاف إليه) واضحا لتعريف طبيعة الأم و للتأكيد على أسطرة دورها في هذا العالم فهي كالحياة، و عندما تطالع ذاتها في المرآة فإنها لا ترى خلفها إلا الجحيم ، وقد جاءت كلمة الجحيم هنا إمعانا في وصف طبيعة العالم الذي يحيط بها  و طبيعة الأشياء التي تنتظرها و ما من شيء أقسى و أشد إيلاما و تعذيبا إلا الجحيم ، حتى أن كلمة جهنم لن تحمل ذات المعنى الذي حملته لفظة الجحيم لأنه المصير الذي ينتظر العتاة الخطائين من البشر ، فأي كائن هذا الذي يعاني في حياته كل هذا و أي وجع و ألم هذا من العيش في الجحيم المقدع ،وهي في الوقت  ذاته و تحت وطأة الجحيم تهب كل هذا العطاء و تمنح الإشراق و الأمل ، يا لها من أم!

كل وقت عصي على القلب

كانت، وحيدة تغلب حتم الموت

لتغدو وريثة الألم منهالة بمجد البأس

كما المليكة، كحياتها المؤجلة كل قصر قاس

امرأة مرهونة لجسد لها وعليها في آن.

هكذا:

كلما اعتصر القتل خلايا دمها بالغت في هدايا يديها

كلما انتهر الألم بنفوذ الحراب هيكل جسدها

غمرت رفقة العمر بهبات لا تتأخر

امرأة اشتغلت على بسالة موتها

ضد رئة تتكسر على مهل

وقلب يتلاشى – بطيئا- بفقد النبض .24

لقد قاست الأم مرض ذات الرئة، وكانت تعلم بذلك ولكي تكون حياتها امتدادا لألم كان العالم بأسره يلقمها إياه ويمعن في تعذيبا فلا يكفيها ما تعيشه وترضح له ولا يكفيها البؤس والشقاء والتدميم الذي تتجرعه ولا الألم النفسي القاتل الذي يعتريها بل يجب عليها أن تتعرض للألم الذي ينخر الجسد ويهد القوى ويسلبها الروح، هذه المرأة هي ذاتها التي ستعاني وحدها وتتجرع عذاب الجسد، وهل تتوقف تحت وطأة العذاب النفسي والجسدي عن العطاء؟ كلا إنها تمعن في العطاء والبذل وكلما زادها العالم شراسة وإيلاما زادت هي بذلا وعطاء، عرض هذا كله بصورة سردية مقترنا بصور حسية وألفاظ ذات طاقات تعبيرية موحية صبغت بمشاعر تملؤها دفقات الوجدان والعاطفة المؤججة وتشربت بالاحتراق والوجع.

هكذا أوان الفجر تستغيث بقداسة الإله

وترسل الصلاة تلو الصلاة

راكعة بعينين ساهمتين

نحو سجادة تستطيل لتستغفر عبء العذاب

وتذيب حنان المغفرة لحياة رغم حديدها.. لا تلام

ليبرأ هذا الجسد من أنين لا يقوى عليه الجحيم

من هول براكين تستعر، وحمم تتحدى..

كل وريد، كل عضل يستجدي رأفة القلب .25

جاءت اللحظة الحاسمة وقاومت الأم العذاب على اختلاف اشكاله وألوانه ولكن لا بد من الخلاص ولا بد لها من الراحة فالحمل ثقيل والألم عنيف، وتتصاعد نبرات الإيمان والاستجداء بالخالق الإله لأنه الملاذ الوحيد والقادر على تخليصها مما تعانيه، زاد الأمر عليها والنهاية محتومة وواضحة ولكن متى الخلاص؟ ويظهر الطهر والعفاف والروحانية ولحظات اليأس التي وصلت إليها الأم لتطلب الرحمة التي اقترنت بالموت لتزيح عنها كل ما تعانيه.  كثفت الذات الأفعال في هذه الأبيات لأن الأفعال توحي بفاعلية الحركة وتظهر سرعة الإيقاع الذي يتم به هذا المشهد لتنقلنا الذات بين الحالات الفاعلة والنفسية في الوقت ذاته، أما الفراغ الذي وجد في الأبيات فجاء على ما يبدو مظهرا عدم استطاعة اللغة التعبير عن مقدار الألم الذي يعتري جسد الأم، ويبدو أن الألم أخذ من جسد الأم مأخذه، فهي تئن تحت وطأة عذاب الجحيم، وجاءت الألفاظ (براكين – حمم- جحيم) إمعانا في تصوير مدى العذاب على نوعيه النفسي والمادي منطلقا من الداخل إلى الخارج.

آن الغسل انهال جسدها لحسرة ماء ضمد الأعضاء

مشمولة بعطف كفن اهتال من وطأة ذاكرة لا تكف عنها

آخر الذهاب، 26

حانت لحظة تطهير هذا الجسد لأن أوان الدفن حضر ، و يخضع هذا الجسد لطقوس الطهارة و الغسل في  استعدادا لمغادرة هذا العالم ، فقد جاءت هذه الطقوس استكمالا لمسيرة الآخر في تسيير جسد الأم ( من وطأة ذاكرة لا تكف عنها ) فالطقوس لازمتها في حياتها و بعد مماتها و لا حيلة لها في ذلك، و على هذا يكون جسد هذه الأم جسد المرأة العام منطلقا من منظور خاص و تجربة ذاتية منسحبا على المجموع من النساء اللائي خضن ذات التجربة، و يتعرض هذا الجسد لشتى أنواع القهر و العذاب النفسي و المادي في جميع التجارب التي يخوضها الجسد فلا انفصال هنا بين الداخل النفسي و المظهر الخارجي المتمثل بالجسد ، الصور التي رسمتها الذات صورا جسدت معاناة هذا الجسد يعزز فاعليتها لغة كثيفة من الجذور المختلفة و الاشتقاقات الممتدة في جسد النص مشبعة بفاعلية الشعور العنيف بقسوة و سطوة الألم كل هذا جاء في حبكة سردية متلاحمة رسخت الخطاب المطروح في هذا السياق .

2-    الجسد والآخر

الجسد تموضع تحدد به هوية الإنسان و بدونه لن يكون للإنسان وجه ، و لن يكون ما هو عليه ، و الحياة اختزال مستمر للعالم في جسده عبر الرمز الذي يجسده ، لقد جاء صوت جسد الذات محاربا عنيفا على عدة جبهات و رافضا لأشكال عديدة من الحياة، و كأن الجسد النفس و الجسد المادة و الجسد الذاكرة شكل للجبهة التي تتمرد بها الذات على كل العالم من حوله منطلقا من دائرة و موسعا إياها في دوائر أكبر ، و الانطلاق يكون من الذات لينسحب على المجتمع و ما يرزح تحته من ضغط العادات و التقاليد التي تبرر الانتهاك غير المبرر من استخدام القيد و السلطة و صولا إلى الوطن الذي يتمرغ تحت وطأة الفساد السياسي و السلطوي الذي يسلبه أسس السلامة و الأمان و التي يعاني منها ساكنيه و يتوجع منها من أبنائه من يحملون بنى الإصلاح و الإعمار الحقيقي لكل ما و من يشغل هذا الوطن ، ويصل في النهاية إلى العالم بأسره الذي شكل الثقافة و الحضارة بمفهومها العام و الخاص و الذي أدي إلى تشظي هذا الجسد و تعذيبه و الإسراف في إيلامه و جرحه و من ثم دخوله في مرحلة التحول الذي نشهده في جسد الذات من المقاومة العنيفة و الثورة على كل ما يحيط بها ، و يبدو أن الذات أسرفت في تعذيب الجسد بالانفجار النفسي الذي يتصاعد بتكرار النزح الذي تدعمه و تغذيه الذاكرة من جهة و الواقع المعيش من جهة أخرى وصولا إلى الأمل في التغيير و التحول الذي تنشده الذات ، و لذا كان على هذا الجسد أن يكون الحيز الوحيد الذي تثق به و بقدرته لتقديمه قربانا للماضي و الحاضر و المستقبل.

مراراً،
تأسيت من تركة إرث أهدرني،
أسرفت في إشراك صرخات رؤاي،
تفتيت جسدي، لأرتعد بمرايا تتعدد.

ومع ذلك،
لم أنجو من كائنات أخرى
أكثر رعباً من شر أنوثتي 27

لقد كان للإرث الذي ترضخ له الذات كبير الأثر في إهدار الجسد بل و إلى تفتيته و تشظيه ، و تمعن الكائنات من حولها على اختلاف طبيعتها في ممارسة ضغطها عليه ، لتنزلق الذات في مهاوي الخوف بل الرعب النفسي الذي تعيشه، و تتفجر هذه المشاعر لأن الإرث الثقافي من حولها يعيد تذكيرها به و بسطوته و أثرة العميق و المتجذر في كل الكائنات المحيطة بها ، و يركز خطاب الذات على نظرة المجتمع منسحبا على نظرة العالم  من حولها على التمييز ضد الأنوثة ، و الإمعان في التحقير و التصغير من شأنها لتغدو بذلك أشد الكائنات قدرة على غرس الرعب النفسي في جسد الذات ، و لتغدو الكائنات أكثر رحمة من الأنوثة الموسومة بها الذات ، و يعزز هذا إضافة الأسماء لياء المتكلم التي انطلقت من إحساس الذات بخصوصية هذا الخطاب و كونه ينطوي على التحيز ضد الأنثى ، إن الإحساس بخصوصية المعاناة ينسحب ليشمل التحيز و التغييب العام ضد الأنوثة.

–  أمام المنصة،

أستعيد لعنتي الأبدية،

أستعيذ بلغتي الأولى،

أتشبث بشعري الأخير،

أتنفس حصارا من همسات تراوغني،

و. أتلو

ما مسني 28

تمتلك الذات أدوات تعينها على المدافعة عن نفسها ضد المحاكمة التي يعقدها لها  المجتمع من حولها ، فاللعنة التي وصمتها هي الأنوثة ، و كونها أنثى تستتبع بالضرورة أن تكون في دائرة الاتهام لأن النفس و الجسد اللذان تحملانها هما كليهما تركة  التأثيم و الذنب الأعظم الذي أثقل كاهل الأنثى  منذ بدء الخليقة  مرورا بكل الذكور الذين خلفوه ، و هي بذلك الإثم الأكبر عند معظم  الحضارات و الثقافات ، و تقف الذات موقف الند من كل هذا فتستعين بأدواتها التي تستعيذ بها ، و هي لغتها و شعرها و ملكتها الإبداعية حيث ستكون  بدعمها أكثر قدرة و عظمة على ردع هذه الاتهامات و تفنيدها ، و لتقف هي أما هذه المحكمة واثقة تمام الثقة بذاتها لأنها ستتمكن من تلاوة آهات الألم  و توجعاته التي مرت بها و ستفضح ما مسها من العذاب . يتركز هنا أيضا استخدام الإضافة إلى ياء المتكلم ، لوعي الذات بخصوصية الاتهامات التي توجه لها كونها ذاتا أنثى ، و من ثم فإنها ” تمس ” و المس بمعناه المتعارف عليه قد يصيب الإنسان بنوبات من الانفجار و الغضب الهستيري الذي قد يدمر الأشياء من حوله ، و هذا ما تصبو إليه الذات ، هدم جميع المعتقدات و الأفكار البالية التي تحيط بها و تدفعها دفعا مبينا و جائرا على الدوام حابسة إياها في قمقم الاتهام، و واضعة إياها موضع المدان منذ الأزل ، و تتفجر من الأبيات نوبات من الهلع و الخوف و الرعب الذي تعيشه الذات لأنها لا تعايش العالم من حولها فحسب بل تتنفس  الهمسات ، ” و الصورة ” أتنفس حصارا من همسات تراوغني ” توحي بتغلغل هذه الاتهامات التي تطعنها فهي لا تواجه بها صراحة بل يهمس بها الآخرون ، من حولها ، و الهمسات تراوغ جاهزة للانقضاض التام كالوحش الذي يحمل في داخله صفات الخبث و الدهاء و الدموية استعدادا للفتك بفريسته.

 

في البيت،

أمحو تذكاراتهم المنسية

 

أغير الغبار الذي تراكم منذ هبوبهم

بغبار آخر لي،

يعرفني ويحنو كرمال على وعر رماحي

أطيع المصابيح فلا أشهر توترها الدائم

أكتفي ببكاء لهيب يجرح شمعة صغيرة لي

أمام الورق أتعرى رنين أصابع تغالب فضاءات تحتد بي،

في البيت،

أبدو وحدي..

أحاكم قيدي .29

يبدو أن الإحساس بفرادة الذات و تميزها يدفعها للعزلة عن العالم الخارجي ، و تحصر الذات نفسها في مملكة بيتها الذي تملك فيه السلطة الكاملة لتشكل في داخله العالم الذي تحلم به و تصبو إليه و لا تتوانى لحظة عن الاحتراق من أجله ، فها هي تمحو من داخل منزلها ” تذكاراتهم المنسية ” و وصفت التذكارات القديمة البالية بالمنسية لأنها تدعو إلى مسح الموروث بأكمله من الذاكرة الإنسانية  و العالم من حولها ،  فيتغير بذلك كل شيء ” تذكاراتهم – المنسية – الغبار” كل هذا يوحي بأن الموروث بال بالنسبة لها و من ثم فإن  الواجب في المرحلة الحاضرة  والقادمة من الحياة و الحضارة بأسرها تغييره بل و شطبه من الذاكرة فهو منسي بالنسبة لها ، و تسرد لنا طريقتها في توجيه هذا الخطاب بصورة بالغة التعبير و الإيحاء لتصل في نهاية المطاف إلى أن تكون القاضي و لتقلب الأدوار فمن متهم يحتاج إلى أدوات الدفاع و من قمقم السجن و الظلم إلى فضاء العدالة لتصبح هي ذاتها القاضي الذي سيحاكم هذا القيد ،قيد السلطة و الانتهاك و الأفكار البالية ، أما استخدامها للفظة القيد فجاء للتدليل على قسوة المجتمع المفرطة، و تستحضر الذات زمنها الخاص فهو زمن غير الزمن و واقع غير الواقع لأنها القاضية و الحاكمة و لأن الآخر هو المتهم الذي يحتاج للدفاع….

 

3-الجسد وتجليات الذات

الجسد طاقة تعبيرية موحية وجدت الذات فيها نفسها بوصفها رمزا و ثقافة و أرضا ، و بوصفه كونا و لغة و نصا و عالما و جاء هذا الجسد مرتكزا أساسيا للوعي بالذات و على هذا منحت الذات الجسد ثقتها الكاملة فكان الجسد الأنا و الجسد الكون ،و على هذا جاءت علاقته بالنص علاقة توهج و حيرة و جدل في صورة تبادلية ، و يندمج  بل و يتوحد الجسد بالنص ليتكشف عن هذا الاندماج و التوحد إحساس باللذة تدفعه لدرجة من الارتقاء و الغياب عن الواقع ، يتحرك من مادية العالم و حيزه الفيزيقي إلى الروح و يدخل في ثنائية دائمة الحركة و التفاعل ،لأن القيمة الحقيقية للجسد تسمو على المادية و يعول هذا على الأسس المعرفية و الثقافية العميقة و الملحوظة حيث تدخل الذات حالة من التوحد مع النص، و عليه يكون فضاء الجسد هو روح التمرد التي تسكن هذا الجسد و بقراءته نقرأ طقوس الاحتفاء به بصورة مفرطة الجسد الروح المرتبط بعملية التخلق الإبداعي الذي تفرغ فيه  الذات إحساسها بالكون بأسره و رؤية الذات بحركة الجسد المحتشدة بالفاعلية  تضغط و بشدة على النصوص فتكون الذات في مواجهة العالم مندمجة و متوحدة مع الإبداع و فعل الكتابة الذي رمزت له بالحبر ” أمتني أوان الرجم يا حضرة الحب” عنوان نص لها في الديوان ، العالم من حولها يطبق عليها حدا و هي تقبل به لا رغبة به بل لتيار ساد محيطها .

الحب قيمة مقدسة عند الذات وهي تحتفي به احتفاء شديدا.

صحبة الحياة:

انتحار ما،

أقواه حضرة الحبر

وأقله هبوط النبض .30

الحياة في نظرها صحبة لأنها تصاحب الذات منذ بدء التخلق ولكن هذه الصحبة تعني الانتحار، فلماذا تصر الذات على هذه الصحبة وتلح عليها؟  إن الانتحار يعني ” حضرة    الحبر (الحب- الحبر)” لأن الحبر مغروس في الجسد ويسري في العروق دما ينعشها ومقابلا لهبوط النبض وانتهاء الحياة الذي لا معنى له في مقابل المعاناة التي تنتهي بالانتحار. الانتحار خيار نقوم به ونرتضيه ونؤمن به ضمن خيارات أخرى متاحة للإنسان ورغباته، ولكن للذات رغبة جامعة للانتحار بحب حضرة الحب الذي عشقته وتوحدت معه في لذة وألم في الوقت ذاته، على خلاف الموت الذي لا خيار لنا به فيختار ويصطفي ما شاء وليس لنا يد في ذلك (الحياة -انتحار – حضرة – الحب) حملت صوت الحاء المهموس الذي يدل على الانغماس بالشعور بأصالة هذا الحب وعنفه

الحب ليس ما يحترب،

نحو قلب خجول يقده الذبح

لكنه رعشة مريرة،

طيلة العمر تحصي فعلة النحر.31

تنتشر الكلمات التي توحي بقسوة و مرارة الألم الذي تعانيه الذات، و الواضح أنها تمعن بالاهتمام بالاشتقاقات و البنى الصرفية المتنوعة و المختلفة محملة إياها طاقات إيحائية و دلالات متنوعة تتوزع على امتداد نصوص الديوان مما يدل على وعيها العميق بقدرة اللغة على تفريغ الشحنات النفسية التي تعانيها من جهة والإرث الفكري وإرهاب الموروث من جهة أخرى أما  التعبير عن الحب  فيأتي في غمرة الاستغراق بدفقات الشعور المخيف بالألم دالا على تشبث الذات بفعل الحب الذي جمع بينها و بين فعل الكتابة و الذي رمزت له بالحبر ، في حين أن العالم من حولها  يمارس فعل الذبح بل النحر الذي يحز و يؤلم ،و يبدو أن شراسة العالم من حولها فجرت فيها طاقات الثورة و الغضب فعندما يمارس ضدها فعل الذبح بكل ما تعنيه اللفظة من وحشية و همجية يزيدها هذا اتقادا و توهجا في رد فعل يقاوم بل يغير الأشياء و المفاهيم و العالم من حولها ، كأنها بذلك تدفع العالم من حولها و تطلب منهم المزيد لأنه يزيد من توهجها و إشراقها و اتقادها، و على هذا امتلأت النصوص بالثنائيات و التقابلات واضحة و ممتدة في جسد النصوص ، و قد عملت هذه النصوص على إبراز الفروقات البيولوجية التي على أساسها ترسخت الأفكار الذكورية و تأصلت بها سلطتهم الفوقية و هذا ما دعمته هذه الثنائيات، حيث كانت النصوص شكلا لامتحان الذات للحياة ، و لهذا كان فعل الكتابة و تجسيد القصيدة امتدادا لتداعيات أفكار الذات التي تحاول التعريض بها ،ويبدو النص ” مكان الذات الرافضة لما يناهض وعيها بماله أو بما هو هو و ما يشن حربا شرسة عليها من قبح أو استلاب ، و لكل ما هو نقيض الجمال و الحق . ومن هنا كانت أجساد البشر وأجساد القصائد والدواوين تندفع في الحروب ومعركة التحرير. وكانت معارك التجديد والتجريب الفني الشعري معارك اختراق وكسر النمطية أو جسد السائد نحو آفاق أكثر تحررا وامتدادا “32

بعد عناق قليل على رجة القلب،

ارتميت بهدوء رملة على غدر مساء كاد كالقتل،

محتواة بقميص أزرق،

يتمرأى بشعر يتهاطل بمودة الغريب

بشفتين تعتزمان نحر سواقي الخجل

تهيجت جسدا لا يداري هيجة البحر

جسدا لا يهدأ ولا يمل من نهل صيحة الحب 34

جسدت الأبيات مشهدا عنيفا للحب والجنس الذي لا يهدأ ولا يمل من نهل صيحة الحب، الحب الذي تتغنى الذات به هو لحظة تخلق الإبداع، إنه التوحد والامتزاج الذي يهز الذات ويهيج جسدها بل يغيب جسدها عن الكون والوجود لترتمي على إثر هزته كالقتيلة، فهو القادر على إخراج مكنوناتها وغياهب دواخلها إلى بقعة الضوء، وهو وحده القادر على إدخالها في عالم الحب الأبدي والديمومة اللامتناهية والخالدة ولهذا فهي لا ولن تتوقف من نهل المزيد من هذا الحب.

 

كهاويتين في هصير الشهوة

يتعانقان في بلل الشفاه..

بلا مستقر.. يحتملان هدير الوعيد

جسدان يتحالفان في قبلة تلغي أوان القتل

ليستبدا..

معا بغنائم لا تحد .35

يتعدد التوقف عند  تكرار مشاهد الجنس و لحظات الاندماج و التوحد في نصوص الذات ، و لكن لم  يحمل الجنس عند الذات المفهوم الغرائزي الضيق ،و لكنه تمثل لعميلة تخلق فريدة من نوعها عبر عنه ثالوث ( الذات – الإلهام الشعري- النص المبدع ) ، الجنس عند الذات حمل حركة التداخل و التعاشق و الامتزاج تحت أنواء الكون و ظلال الطبيعة ، حيث يتداخل الجسد الإنساني مع الجسد الكتابي و من خلال هذا الامتزاج تتشكل النظرة للكون من حول الذات ، لأنها ترى العالم و تتحسسه و ترى أبعاده من خلال الكتابة ، لهذا كان الحبر هو الدم الذي يسري في عروق الذات ، و كان الإبداع هو الهم الذي سيطر عليها بل و سيرها ، كان جسد النص عند الذات المرآة التي رأت عن طريقه  انهيار الكون من حولها لهذا جاء الاندماج به قويا عنيفا عنف الجنس يحمل اللذة التي تنتهي بالحزن و الألم اللذان يصارعان أعماقها و يصرعانها.

 

الشعر غاية قبري..

ليراني،

يدنيني منه.

لجسد يستهيم بي،

لذاكرة تهتلك حبري،

أسألهما:

لماذا لا نحصي مدى الخسارات

لنستضر معا. ؟36

” حين أترك أصابعي تتحرك مع القلم على المساحة البيضاء للورقة ، فإني أشعر بالحرية ، و تتداخل أحاسيس جسدية و فكرية معا في داخلي ، خلال عملية الكتابة تنطلق الحواس فيما يشبه الهذيان المرح، أو الطيران ينعتق الجهاز العصبي المشبوك بأسلاكه في البدن من الرقابات المتراكمة عليه ، و تفور الأفكار كالتنور ، و تتدفق خارج سدودها ” 37، هذا حال لسان الذات الناطق، الانعتاق و الخلاص ، فالشعر غاية القبر لديها ، لأنه الوحيد القادر على سبر أغوار دواخلها ، و لأنه الوحيد القادر على أن يدني الذات منه و أكثر من هذا فهو يهيم بها، إن الهيام هو محرك الذات التي تفرغ عن طريقه ذكريات الوعي و اللاوعي المتأصلة في ذاكرتها و نفسها و جسدها ، الهيام الذي تعيشه الذات هو من يتحمل ما ترضخ له و بهذا تطلب منه أن يشاطرها الخسارات و الأوجاع و احتمال الضرر، جسدا” الشعر و الذاكرة ” هما من تتوجه لهما الذات بالسؤال و الطلب بإحصاء الخسائر و مواجهة الضرر، والطلب هنا نشدا للدعم و المؤازرة ملحة على تجديده واستمراره لأن تلاحم الأجساد الثلاثة ضروري وحتمي حيث تتجهز الذات ” لجنوح قيامة لم تبدأ بعد “38.

 

الخلاصة:

الجسد عند الذات استبطان لروح التمرد و الثورة التي تحملها في جميع أشكالها تجلياتها و قد انداحت النصوص على مجملها حاملة هذا الخطاب ، و بهذا حمل الجسد عند الذات صفة الديمومة و الأبدية الذي شكل مكان التقاء الذات بالزمان و المكان ،و حين تفعله الذات فإنها تصل حالة من الوجد و النشوة لتكشف عن تجلياتها التي تصرخ من الألم و تجيش بمعاناة العذاب من الموروث و الواقع المعيش، هذا الالتقاء يولد و يفجر المكبوت و السري و الغائم من اللاوعي في شكل صور غريبة و جديدة و بلغة تشع منها إنارات الأنوثة ، تعبر الذات عن المرأة بكل أشكالها المرأة الصوت الجمعي الذي امتد عبر العصور و الأزمنة المختلفة ، المرأة التي رزحت تحت الضغط الثقافي الذي أفرزته الحضارة على مجملها ، تعبير الذات جاء تعبيرا عن المرأة ذلك الكائن الأصيل و محتوى العالم و واهب الحب و العطاء اللامنتهي و المتعالي على سائر الموجودات و المعوقات.

الجسد هو القربان الذي تتمرد الذات به و الذي حمل الإرث الحضاري بأكمله ذنوبا و خطايا عبر ألاف السنين. لم يكن جسد الذات جسدا جنسيا و لا شبقيا و لا طامحا لمغامرة جنونية و فق ما يظنه البعض من أفكار تتداعى لحظة التفكير بالجسد، بل هو الجسد المؤنث للروح المؤنثة و نداء المرأة عبر العصور سرا أو جهرا ، جاءت الذات متمردة على صدأ التاريخ، و قيح الثقافة التي تنزح الفاسد و القميء الذي ما زال مؤثرا على العالم و محركا له ، هذا الجسد يطلب الخلاص و يطلب التوحد مع الكون و الطبيعة ، ينادي بالصفاء و الطهر و العطاء و السلام ، هذا الجسد يئن تحت وخز الظلم و القهر ، ألمه غائر و متمركز في امتداد  النفس و الجسد ، الجوهر و المظهر ، المرئي و غير المرئي في حين  لم تصدر الذات عن ألم الثقافة فحسب و لم تطالب بتغيير العالم من أجلها فقد امتدت صرخة الألم لتشمل تغيير الكل للصالح العام ، فكيف الخلاص ، و هل يطيق الجسد أن يستمر في معاناة  كل هذا العذاب ؟  جسد الذات هو المشروع التنويري التي تصرخ من أجله و تعلن الثورة و التمرد لتحقيقه.

 

 

الهوامش:

1-    هنري برجسون، المادة والذاكرة: ترجمة أسعد عربي درقاوي، مراجعة د. بديع الكسم، الطبعة الثانية، منشورات وزارة الثقافة، 1985، سورية، ص187

2-    دافيد لو بروتون، أنثربولوجيا الجسد والحداثة: ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1413ه-1993م- ص16

3-    المرجع نفسه، ص24

4-    المرجع نفسه، ص24

5-    محمود زيدان، في الجسد والنفس (بحث في الفلسفة المعاصرة)، الناشر دار الجامعات المصرية، (د.؟) الاسكندرية، ص184

6-    المرجع نفسه، ص188

7-    المرجع نفسه، 189

8-    المرجع نفسه، ص192-193

9-    عبد الناصر هلال، خطاب الجسد في شعر الحداثة، مركز الحضارة العربية، الطبعة الأولى – القاهرة، ص30

10-                       المرجع نفسه، ص29

11-                       ابن عربي، فصوص الحكم، دار الفكر العربي (د.؟) ص102

12-                       كمال أبو ديب، الحداثة / السلطة/ النص، فصول، المجلد الرابع-العدد الثالث –إبريل/مايو/يونيو ،1984، ص61

13-                       المرجع نفسه، ص22

14-                       رامان سيلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور دار قباء للنشر،1998، ص194

15-                       ابن عربي، من موقع مدارات صوفية

16-                       المرجع نفسه

17-                       ليندا جين شفرد، ترجمة د. ينمى طريف الخولي: أنثوية العلم (العلم من منظور الفلسفة النسوية) عالم المعرفة، عدد 306، أغسطس، الكويت، الفصل الخاص بالمنظورات الثقافية المتقابلة للذكورية والأنثوية، ص32-46، والموقع الالكتروني الخاص بالناقد عزت عمر، وكتاب فراس سواح، لغز عشتار، دار علاء الدين، الطبعة الخامسة، 1993، دمشق، الفصل الخاص بالأم الكبرىص41

18-                       فوزية السندي، ديوان رهينة الألم ص56

19-                        للمزيد: فراس سواح، لغز عشتار، الفصل الخاص ب (عشتار سيدة الأسرار)

20-                       المصدر السابق، ص56

21-                       المصدر نفسه، 59

22-                       المصدر نفسه، 65

23-                       المصدر نفسه، 59-60

24-                       المصدر نفسه، ص62-63

25-                       المصدر نفسه، ص63-64

26-                       المصدر نفسه، ص65

27-                       المصدر نفسه، ص110

28-                       المصدر نفسه، ص110-111

29-                       المصدر نفسه، ص111-112

30-                       المصدر نفسه، ص130

31-                       المصدر نفسه، ص127-128

32-                       فاطمة الوهيبي، (المكان والجسد والقصيدة – المواجهة وتجليات الذات)، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى، يونيو، 2005، الدار البيضاء / بيروت ص32

33-                       المصدر السابق، ص42

34-                       المصدر نفسه، ص36

35-                       المصدر نفسه، ص42

36-                       المصدر نفسه، ص54

37-                       محمد علي شمس الدين، فصول – المجلد الحادي عشر- العدد الثالث – خريف 1992، ص267

38-                       المصدر السابق، ص38

 

المصادر:

1-       فوزية السندي: ديوان رهينة الألم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2005-بيروت – لبنان

 

المراجع:

1- ابن عربي، فصوص الحكم، دار الفكر العربي، (د.؟)

2-دافيد لو بروتون. ترجمة: محمد عرب صاصيلا، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1413ه-1993م بيروت –لبنان

3- د. عبد الناصر هلال: خطاب الجسد في شعر الحداثة، مركز الحضارة العربية، الطبعة الأولى، 2005م – القاهرة

4-د. علوي الهاشمي: سعراء البحرين المعاصرون (كشاف تحليلي مصور 1925-1985) الطبعة الأولى – 1988م – البحرين

5-فاطمة الوهيبي: المكان والجسد والقصيدة (المواجهة وتجليات الذات)، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى – يونيو 2005- المغرب / الدار البيضاء – لبنان / بيروت

6- فراس سواح، لغز عشتار (الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة)، دار علاء الدين، الطبعة الخامسة، 1993، دمشق

7-فؤاد اسحق الخوري: أيديولوجيا الجسد (رموزية الطهارة والنجاسة) دار الساقي – الطبعة الأولى 1997م – بيروت

8-محمود زيدان: في النفس والجسد (بحث في الفلسفة المعاصرة) الناشر دار الجامعات المصرية – (د.؟) الاسكندرية

9-هنري برجسون، ترجمة د. أسعد عربي درقاوي، مراجعة: د. بديع الكسم – المادة والذاكرة (دراسة في علاقة الجسم بالروح)، منشورات وزارة الثقافة – الطبعة الثانية – 1985- سورية

الدوريات:

1-                فصول: المجلد الحادي عشر – العدد الثالث -خريف 1992

–        الخلاص بالجسد: أحمد عبد المعطي حجازي

–        الكتابة- الحرية – الموت: محمد علي شمس الدين

–        فصول: المجلد الرابع – العدد الثالث – إبريل / مايو / يونيو –4 198

–        الحداثة/ السلطة / النص: كمال أبو ديب

 

المواقع الالكترونية:

–         www.islsmic-sufism.com/article.php?id=1324

 

 

 

بعيدًا عن قيْد الخليل.. حنينًا لعوالمه “رهينة الألم” لفوزية السندي

 

فاطمة ناعوت

يقول صامويل كولريدج: “لا يجوز لشاعر أن يختلس من جيب الطبيعة. ربما بوسعه أن يستعيرَ منها. يستعيرُ ليردَّ ما أخذه في نفس لحظة الاستعارة. يفحصُ الطبيعةَ بدقة ويتأملها، ثم يكتبُ من استدعاءاتِ ذاكرته، وعليه أن يثق بخياله أكثر مما يثق في ذاكرته.” وهنا يتكلم كولريدج عن مدى مشروعية أن ينقل الشاعرُ من الحياة والطبيعة المحيطة نقلا مرآويًّا بزعم محاكاة الواقع. فالشاعر، والفنان بعامة، لن يكون مبدعًا حقًّا إذا ما نقل من الواقع أو من حياته الشخصية نقلا دقيقًا مثل الكاميرا. حتى الكتاب الواقعيون لا ينقلون الواقع كما هو، بل يتأملونه جيدًّا، يحللون أجزاءه، ثم يغزلون على نسيج مشاهداتهم ما يمكن أن يقع في دائرة الواقع مما يتخلّق في خيالاتهم.

لأن الفن يبدأ في لحظة “الانحراف” عن الطبيعي والمألوف. الفنان يمتلك عينين تريان الوجود تماما مثلما يراه الإنسان العادي، لكن عينيه هاتين بوسعهما التقاط زوايا نظر مبتكرة للأشياء والموجودات والأحداث، ولذلك، فقط، هو فنان. ينصت لإيقاع العالم على نحو مغاير فيبدع شيئا مغايرًا عما يراه الناس، إذ يقوم بتفكيك الوجود وإعادة بنائه حسب مكوّنه الجماليّ والفلسفيّ. وهذا ما سنجده في ديوان “رهينة الألم” للشاعرة البحرينية فوزية السندي، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2005. وهو السادس في تجربة الشاعرة التي بدأتها عام 1982 بديوان “استفاقات” ثم “هل أرى ما حولي”، و”هل أصف ما حدث” عام 1986، ثم “حنجرة الغائب” 1990، و”آخر المهب” 1998، و”ملاذ الروح” 1999.

وإذا كان القانونُ والمنطق يعملان على ردِّ الأشياء لأسمائها الأولى، يقوم الشعرُ باقتراح أسماء جديدة لها. لأن الشعر نقيضُ القانون والمنطق. في قصيدتيها الطويلتين: “أغلال الليل”، و”تأويلات”، تقوم الشاعرة بفحص الطبيعة والعالم والموجودات والشخوص، كما قال كولريدج، ثم ابتكار معجم جديد للوجود من خيالها الخاص. معجم يضم بين تضاعيفه تعريفاتٍ مغايرةً للمرئيات والمجردات، تتفق ومنظورَها الفلسفيّ للعالم. فنجد: “النقطةُ: دمعةُ الحبر، وحرفةُ القبر: نحتُ بوصلةٍ لا تتجه لغير الغياب، والشرُّ: شريكُ البشر، والجهلُ: إجهاضُ العقل، والطينُ: قابليةُ الرطوبةِ لإعجاز مشكل التراب، والبيتُ: أسمنتٌ أخرسُ يتكسر سرًّا لإعالة عائلة تعول عليه،”. بل وتعيد تعريف بشرٍ بعينهم: “يوسف: طفلٌ يتهجاني طيلةَ القلب، بهيٌّ وحكيمٌ في آن، فوز: كلما اقتربتْ بحريةِ موتِها أكثر، كلما انهالتْ نحو حبرِ روحي أقل” وهكذا.

وإن كانت القصيدتان السابقتان قد قدمتا تعريفاتٍ مختزلَةً حاسمةً، واحترمت سيموطيقا المعاجم المتعارف عليها حيث نقطتان (:) بين المفردة ومعناها، سنجد الشاعرةَ في قصيدة “ضد غدر الوجع أسرفُ في تسريب السم”، تسرّب للقارئ تحليلَها وتعريفاتِها الفلسفيةَ المطولةَ للأشياء في العالم عبر تضاعيف النص، من دون أن تعلن لقارئها أنها تعيد تسمية الأشياء:

“الغبارُ حكمةُ الصحراء/ به تداوي غرورَ تلالٍ تتصاعد. /عندما تنتزع الأفعى جلدها الأخير/ تحرضه دومًا على نحت جديدها القديم/لتتقدم به. / للزواحفِ موهبةُ أصابعَ/ ترتسمُ دومًا على ترابٍ ضرير/ لتكسرَ سرَّ هذا الطريق.”

هي ذاتها التيمة التأويلية المعجمية للوجود وإن خلت من نقاط التعريف، وإن زاد بها حسُّ الحكمة والفلسفة، وهو ملمحٌ تراثي يغلب على كافة الديوان. والشاعرة تمتح نصوصَها من نسغ الفقد والألم. وكانت كتبت هذه القصائد بين عاميْ 2000 و2002 وبينهما كانت فقدت أمَّها وأباها وأعزَّ صديقاتها، حسب أحد حواراتها. ولذلك لا عجب أن يأتي العنوان “رهينة الألم”، وأن تأتي لوحة الغلاف للفنان السوري بشّار العيسى شديدة التعبير والدلالة، حيث وجه امرأة مشدوه بالفقد حبيسٌ في الوجع. لنا أن نظنَّ، نحن القراءَ، أن الشاعرة إنما تقصد نفسها برهينة الألم، لكننا لن نلبثَ أن نكتشفَ، في القصيدة التي تحمل ذات العنوان، أن الأمَّ هي تلك الرهينة المنذورة للألم والحب ثم الغياب الأبديّ. ولذلك سوف تهدي قصيدتها إليها:

“يا لكِ يا أمي/حتى تحت التراب/ تحترفين عنف الحبِّ/ كأنكِ قلبُ الجنة.” ثم نكتشف من جديد في آخر مقطع من الديوان أن الشاعرةَ (وربما القصيدة) هي تلك المنذورة للألم حين تعيد تقديم نفسها للعالم: ”

رهينةُ الألم: كتابةٌ لم أكتبها لأكتشفَ الألم/ بل لأعرف مداه/ ومآلات صداه.”

فالكتابةُ لدى السندي لا تساعدها على اكتشاف الألم، لأنه موجود وحاضر طوال الوقت وأجلى من أن يُكتشف، لكنها ترمومترٌ يساعدها فقط على قياس أبعاده المترامية في الكون والإنصات إلى رجع صداه المنتشر في الوجود. والكيان الشعري دوما في حال بحث عن حرية وجودية تتقاطع وتتصادم مع نسيج الأرض وأعرافها. لذلك يظلُّ الشاعر تواقًّا أبدًا إلى التحليق في العلا، ولو شعرًا.

“أمهلوني قليلا/ لأتوارى بخجل حرفٍ/ يحيا حريةَ الهواء أكثر مني”. إنه لمن نكد الدهر حقًّا أن يكونَ “الحرفُ” أكثر حريّةً منّا نحن البشر!، لذلك سنرى الشاعرةَ مشغولةً بفتنة الحرف وفحص طلاقة حريته ورشاقة وثباته بين نسيج الكلمة تباديلَ وتوافيقَ لكي يمارس لعبته السحرية في تغيير معنى الكلمة مع كل قفزة لغوية. ذاك أننا سنجد في “رهينة الألم” الكثيرَ من اللعب على جذور الكلمات وتبديل مواضع الحرف فيها من أجل متعة اكتشاف دوالٍ جديدة وبالتالي مدلولاتٍ ودلالاتٍ جديدة. “نحِّ مُديتَكَ/ أيّها الموت عنّي/ لم أعد دميتَكَ الخجولةَ/ ومَداي كالمُدية يمتدّ نحوي”، لنتأمل كمْ مفردة نحتتِ الشاعرةُ من الجذر (م د د). مُدية- دُمية- مَدى- يمتد. ونجد مثل هذا اللعب في المقطع: “أسمنتٌ أخرسُ يتكسر سرًّا لإعالة عائلة تعول عليه” حيث المصدر (ع ا ل) خرج منه، عالَ، إعالةٌ، عائلةٌ، يَعُولُ، يُعَوِّلُ إلخ. ورغم أن الديوان ينتمي لتيار قصيدة النثر، إلا أننا سنجد الشاعرة ميالة لاصطياد مفرداتها من المعجم التفعيليّ أو الشعر الحر، بما يضم من بلاغيات صياغية حدَّ التغريب اللغويّ في الكلمات أحيانًا من قبيل:”هصير، هيج، أتهوّد، أتمرأى، تتصاهل الحروف، عصائفُ، إلخ. ويتجلى ذلك الانشغال اللغوي وغواية الحرف والكلمة لدى الشاعرة في مجمل الديوان مثلما نجد في المقطع التالي الذي جمعت فيه معا خمسةَ عشر مصدرًا في ابتكار موسيقيّ وإيقاعيّ فريد حين تقول: “دمنا/ ترنحنا طويلا/ متعثرين بأنفاس نادرة تواكبُ هصير هيج تبارى:/ لثمٌ وأخذٌ وانغراسٌ وانشحاذٌ وترفقٌ وانغمارٌ وهبوبٌ وانحسارٌ واحتدادٌ وانبعاثٌ وغمرٌ وهملٌ وقتلٌ ورهوٌ وجناز.” ومثل هكذا شعرية تقفُ، بظني، على الحد الفاصل المتماوج بين القديم والجديد. إذ تحرّرُها من سطوة الخليل بن أحمد الفراهيدي وابتكارُها إيقاعها الخاص يجنح بها نحو الانطلاق والتجديد والحداثة، في حين ترنو اللغةُ فيها برصانتها وبلاغتها بعين الحنين نحو التراث والماضي.

  • شاعرة وناقدة مصرية
  • عن جريدة الوطن السعودية 24-10-2006