الشاعرة فوزية السندي في حنجرة الغائب: جسد يتطوى وروح تضطرب


 

الشاعر/ زهير أبو شايب

 

ذات ليلة، وذات مساء، يأخذ الشعر طريقه إلينا، عبر الأنفاس الحارة التي تتطلع السواد السري للورق، والبياض السري للحبر، الشعر اصطراخ لغوي صامت في متونه وهوامشه، صائت في الجسد والروح، يصلصل، ويجلجل، وكأن لا جدوى من محاوراته ومداوراته، سوى الاستغراق في الحلم، والتوهان في الرؤى، والإسراء والمعراج في شئون الحب وشجونه، أو التبدد في رغائب الحياة، واستشعار الموت عن بعد. وذلك الدبيب الخافي للعدم، الذي يتربصنا على أعتاب وجودنا، وداخل أروقة أجسادنا، وفي دهاليز وسرداق أرواحنا، ولا خلاص لنا، فالمصير محتوم، لكننا نكابد الأسى والألآم، ونحاول إضاءة ليل العالم السوداوي بالأفراح الملونة والأعراس البيضاء، لتأتي الجنائز كي تنقض هذا كله، إن لم يكن الآن، ففي مستقبل قريب أو بعيد، لكن الذي يعرونا في هذه النزوات والنزوعات هو الدهشة، دهشة الشعر، كدهشة الوليد الأولى أمام العالم، وغرابة العالم، كمال وأن الشعراء هم الغرباء الوحيدون على الكوكب، لأنهم في أصدائهم ودويهم، يبدون ممسوسين بالحياة، واللغة، وعزلة الكيونة التي يتجاذبها الوجود والعدم، من كل حدب وصوب،. وحتى لو كان ذلك كذلك، لا يستسلم الشاعر سوى للغته وإنسانيته، وعشقه الأبدي لكل ما في الكون من سدم ومجرات، وشموس ونجوم وكواكب وأقمار، وكأنه يترجم في قصائده، همسها ودمدماتها، وفحيحها ونأماتها، وكأن الشعر لديه، وجه أخر لموسيقى الكون السرية الساحرة.

 

والأمر هكذا حتى لو لم يكن ذلك، والشاعر في معمعان جنوحه وجنونه، يهذي بما يتوافد عليه، ويتنافد فيه من أصوات، وأشكال وألوان، وفراغ وملاء، وهواجس وظنون، وأضواء وحلكات، وأراضين وبحار، وسماوات من عبير وأثير، منغوم في جسده ذلك كله، وفي شبق روحه التي تتأبى وتتصبى، ولا ترغب بأقل من إنفلاتها وانعتاقها. من جاذبية الجسد والعناصر، ومن حصاراتها الواقعية والوهمية، لذلك تطلق جيوش شهواتها، وحمى شواظها وصهاراتها، وزلازلها وبراكينها، كي تأتي على كل شيء، وكي تجعل القصيدة، ملاذا ومعبراً ومهاداً تسع كل شيء، وكأنها لا تحتفي بشيء سوى نفسها، واقتدارها على الطبيعة واختمارها فيها، وتجمرها كسحاب ثقال، تسف أمطاراً إثر أمطار، بروقاً ورعوداً، على مسمع ومرأى الشاعر والآخرين معاً، وهي اللغة التي تحتبل بأضدادها، وتحتفي بأنقاضها، وتحتدم باحتراباتها، وتصمت أو تنفجر بما هي فيه، حين تبادئ الشاعر بماي دعى شهوة العيمة وهي من أدهى وأعمق وأخرق الشهوات.

 

والشاعرة فوزية السندي في مجموعتها ((حنجرة الغائب)) كأنما تخلق عالماً شعرياً خاصاً بها، عالماً منتشراً في فضاءات جسدها وروحها، تبرمجه في حنجرتها، وتصوغه قصائد ممهورة بلغة حاشدة بالمرئي واللا مرئي، بالمجاز وغيره، وبالحضور والغياب، فيما التموجات العنيفة التي تصطلي في جسد الشاعرة، وفي كينونتها، هي التي تقترف هذه اللغة الباهرة، المجلية، في سياقاتها وفي سردها، وفي التعبير الشعري الذي تنطوي عليه وتتشاغل به، وفي الشفافية والرهافة، في الحساسية والمشاعر الغفيرة، الثرة والوفيرة التي تهدرها، وتغدقها في نواحي القصيدة، وفي بطانتها الأساسية التي تتغارف الشعر، وتلوذ عبره بالفرار، وفي الأضواء الغاسقة، والمساءات المذهبية، وفي الظلال الرمادية المشفوعة بغواياتها، واغتلاماتها هنا وهناك، ومأن الأنوثة والأمومة هاجسها البديع الرائع، وكأن اللغة التي تتبارق وتتراعد بالشغف والعشق والحنين، والأوراد والرقي، والتعاويذ، هي التي تساعفها فيما تهمره وتتهاطل به، من شعر ومدونات للجسد على مرايا. الهواء، ومعادن الضوء، وفي صمت الحدث الذي تتقاسم مع حبيبها، بغرابة موسومة بالإيحاء والرمز، والتحويل والتأويل، والدلالة، التي تدل ولا تدل، وكأنها في مدار الحيرة، وفي كوكب الحيرة أيضاً.

 

والمجموعة مهداة الى أم الشاعرة، وفيها قصيدة متخصصة في ذلك المدار الحزين، الذي يرجع الفرع الى الأصل، والغصن الى الجذع، والضيق الى الرحابة، والدفء الى الحليب، والتضحية الى فيض المحبة والحنان، والحدب، والمراودات السخية السخينة، في عوالم الطفولة، وفراديسها المفقودة، وكأن الأمومة تستدرج الشعر، وفي قصائدها، الكثير عن أطفال الحجارة، وعن أحداث فلسطين. دون خطاب مباشر، وفيها رجل وامرأة، عاشق ومعشوق، وجواهر حب لا تحول ولا تزول، وتسيطر عليها التداعيات، والمناخات السوريالية، لجهة الحلم والرؤيا، والتخييل، والسرد والإزاحة، والتحويل، وكأن الكلمات والأشياء، تستولد علاقاتها الخفية، وتحيلها الى أوهام واقعية، ذلك من مدارك الشاعرة، ومن استدراكاتها، وانغراس ذاتيتها في تربة العالم، وفي آباره، وكأنها تنضحها بدلاء شعرها، كما يكتنز هذا الشعر بالبوح الذاتي، والرغبات المحمحمات المجلجلات، والتي تحتدم كلما مرت أنامل الشاعرة عليها، وبللتها باللغة الندية الطرية، والسلسة العذبة، المزدحمة بالفتنة والغواية والشجون.

 

إن روح الشاعرة، هي التي تقدح النار، وتثير حرائق في جسدها وثيابها، وتستنهض عوالمها من سباتها، وكأنها في أحلام يقظة، تسارر نفسها بما يتناهى الى سريرتها من لغات عابرات للقارات، وهي تختصر وتصفي، وتخمر وتقطر ما ترغب قوله، وتحذف الكثير من القول، وتغدق الكثير من الرغبات، حتى تأتي قصيدتها طليقة فارهة، سامقة، حرة، حيوية، ومشبوهة بالحياة، التي تعيشها، أو التي تحلمها، وتلك أحابيل. الشاعرة، وأضاليلها، وتلك مسراتها التي لا تكف عن الجيشان والتفاضح، الا أن الشاعرة تمسك أعنة وزمام قيادة شعرها مرات، ولا تترك اللا وعي يطغى، رغم تنظيم مقاطع حوارية، ومقاطع هذيانية، في أكثر من موضع وقصيدة، إلا أن التفكك والالتغام، أقنومتان في شعرها تتأرجح بينهما، مرات تتشظى، ومرات تلتم، مرات تنفرج، ومرات تنكتم،، خاصة لجهة البوح الذاتي الذي تتغول وتتغور فيه، وتناور وتداور، حتى لا يأتي كطوفان، ولا يجهش في القصيدة، بل تنجلي من خلاله أكوام الندم ،الحسرات، والحيرة، في الإقدام والإحجام، وفي المواصلة والهجران، وكأن بوصلة القلب لا تؤشر جهات الحب، بل تختبط وتختلط ولا يقر لها قرار.

 

ومن خلال تتبعي لتطورها الشعري ونمو قصيدتها، وبزوغها بقوة النبض المتمكن من مماسكة اللغة، ومن اجتراحها، ومطارحتها ومساءلتها عن الكينونة والوجود، رأيت بما لا يقبل الشك أن الشاعرة تحتضن صوتها الخاص، وتغذي أرومتها وسيماءها في قصيدتها، وتشملها بوشمها، بل كأنها تريد أن تتوازى وتتعادل معها منذ استفاقات، وهل أرى ماحولي، هل أصف ما حدث، وحنجرة الغائب، ومجموع قصائد تنشرها في جريدة الحياة، تجعلها شاعرة مستهامة بحقيقة نفسها، وبالرؤيا التي تستوحذ عليها، كما أنها تباغت اللغة، وتتباغت بها، وكأنها تراودها عن نفسها، ولا تقبل استسلامها، بل تتركها. في المقاومة والمعصية والممانعة، وتخصفها عن شبح كينونتها، لتجسد بها قصيدتها بعد إعادة تخليقها، ومضايقتها، وكهربتها ومغنطتها وتطبيقها مرة إثر مرة، حتى تأتي مشبوبة، حرانة، حردة، مستنفرة متوفزة، تأخذنا الى حيث تريد، حتى لو كانت لا تريد شيئاً، فهي لا توصلنا ولا تصل، وكأنها تعاود البدء والصيرورة والجريان، ولها حرية الابتكار والاستعارة، والاسترجاع، وتدور على نفسها لكن بشكل حلزوني نخروبي، وكأنها تريد القصيدة، على شاكلة زوبعة أو إعصار.

 

والشاعرة التي تفتتح فضائات الجسد، بكثير من الغبطة والحبور، تتملكها الدراما، وكأنها تفتح الأصداف صدفة إثر صدفة، حتى تعثر على لؤلؤة بالمصادفة، بعد أن تكون أودت بحيوان مشاعرها، وبزغت من خلال مواتها وانبعاثها ونشورها وفي قصيدة يوسف، لا تذهب الى المألوف والمتعارف، بل كأنها تخترع قصة يوسف من جديد، يوسفها وحدها، حتى لو أخذتنا التسمية الى يوسف الذي يعرفه الجميع، وسنفاجأ بأنها خالفت السياق، وانحرفت، وصاغت اسطورة عشقها على يوسف أخر، وحملته وزر جماله، وعذرت النساء المولهات به، لكنها لم تعذر نفسها، بل وفقت على الصراط، وكأنها لا راغبة، ولا ممتنعة، وكأنها ترى رؤيا، فيها من الأنوار الداخلية ما فيها من ضيائات الأكوان، والشاعرة أقرب من حبل الوريد الى قصيدتها، وهي تدهنها ببالطيب وتضمخها بالعطور والعصور، وتراكم الزمن العاري والمكتوم، وتنفحها بما تحفل به الأنوثة من غوايات، ولا تتورع عن ردم شقوق وصدوع التعبير، ولا عن الفيض والبحران الشعريين، كلما رأت الحاجة ماسة لذلك.

 

إلا أن الشاعرة فوزية السندي التي تتداخل وتتخارج في ومن قصيدتها، تترك النادي ورائحة الأمس واليوم عليها، ولا تستنيم ولا تنام، بل كأنها مسرنمة، أو أنها كالجولاني، تحوم وتحلق في سماواتها، وتغترف الصمت المتناذر هنا وهناك. حتى أنها في شذراتها الشعرية، تحتبس خزيناً من الشوق وتقلب الأضداد وتستحم بماء مراياها الى درجة التوق، والوجد والجوي، فيما المناخات التي تهجرها بيديها وروحها، تبقى مناخات حميمة، إلا أن مواقفها تثويرية تغييرية ناقدة، وشكاكة، وفيها من التهكم الأسود على الذات والجماعة، فيما تتراءى قصائدها كنصوص مشبكة بشاعريتها، ومنولوجاتها الداخلية، وهي لا تتهافت ولا تتداعى في نصها، بسبب السيل اللغوي، والزخم التعبيري، والمخاض الشعري الذي تتغامز، وتتماثر فيه، وكأنها تحول كل شيء وتؤله، وهي ترغب في قول ما لاينقال، وتقوله حينا، وتصمته أحايين أخرى.

 

والصدق مع الذات ميزة في شعرها، كما الأسئلة التي تفضي الى أسئلة، والشعر الذي يفضي الى تضاعيف شعر، واللغة التي تصير لغة في اللغة، من خلال كيماويتاها واشتقاقاتها وتبايناتها، وكريستالها، وكرنفاليتها، المفعمة بالأضواء والألوان، والنقوشات، والزخارف والتخاريم، والترانيم والجرسيات، والجدرانيات، والأراسبك، والهارموني، والإشعاعات المنخاتلة المدوية، والتربيع والتدوير، والإحالة الى غير المرامي، وتخارجاتها عن المنطق، واستفراسها وتفرسها في الجماليات الغاسقة والديجورية، ثم توشيتها بالذهب والفضة، وأمواه الشموس، وهدهدات التراتيل، والأناشيد، والتطريب، والتنغيم، والترخيم، والإيقاعات الموسومة بالعشق، وعراءات الجسد الراقص المتحرك،وسياحات الروح السافرة.

 

وإن للقصيدة في مجموعتها مقاصد غير التي ترمي إليها مباشرة، بل لا بد من رصدها وتتبعها، في اللحمة والسداة اللتين ينعقد عليهما نسيجها وحياكتها، وقطبها المخفية، والظاهرة،. فيما لغز الألوهة المؤنث يتظاهر وتخافى، بسلاسة وصعوبة على جلدها المتبدل، وعلى رملها المسف المتنقل، وفي أفرانها التي تصهر العناصر، وتنصهر فيها.

 

وإطلالة مدققة ممحصة على عناوين القصائد في المجموعة، تتيح لنا الكشف عما لا ينكشف في شعرها، وترينا كم أن قراءة استيهامية وتأويلية، تجعلنا على تماس طقوسي مع ضراوة التعبير، عن تلجلج وتهدج. الروح الشاعر فيها، وعلى التجوير والتجويف والتجوين فيه، وكأن جماع نفس الشاعرة ينسكب دفعة واحدة في قصيدتها، أو على دفعات تتدافق فيها، فتطمو وتطغى، وتظل على نكرانها وغفرانها لنعم الحب وخطاياه، وتظل رافضة متواثبة، دائمة السطوع، دائمة الحضور والغياب، ترسم ظلالها على زجاج القصيدة، وتتوارى في مراياها، وتمارس رياضات صعبة وعنيفة على صعيد التعبير الذي يتكون ويتشكل في ضميرها أولاً، وتهجسه وتوسوس به، ثم تعقد قرانه على اللغة التي ترى أنها تقدر على محموله دون أن تنحني أو تنوء، أو تنكسر.

 

كما أنها تتخاطر في شعرها، وتستبصر، وتتهادى، وتتباطأ، وتتسارع، تبعاً للحالة النفسية التي تغمرها، وتلجئها الى الإنكتاب، وممارسة هذا الفعل. الشاق، ومن تسجيل عويل الجسد، وهديل الروح في الشعر، حيث يبدو عندها كما عند الكثيرين، أن ما تتصامته من التعبير، يفوق ما تتكاتبه، لذلك يجيء الإيحاء الشعري قوياً، وتتذاوب التسمية في علائق اللغة وإانزياحاتها، وإندياحاتها المريرة، على أن جسد القصيدة الرخامي يبدي الكثير من الأعراق الكريمة، المؤصلة المؤسسة، كما يبدي مرمارها خفقان القلب الشاعر، وهو يمارس العمادة والتناول، والتداول في جواءات الحب، وفي مناخاته الفيروزية، وفي أرجوان الدم العاشق المناوئ لرغائه وزبده، ومؤانساته، ومتتالياته الحميمة.

 

إن الشعر في عراء الشعر وفي خفائه أيضاً، ما على الشاعرة إلا أن تكون الهدافة العمياء، كي تقع على مراميه، وعلى ليل المعنى فيه وتستنسل جمر اللغة الدفين من رمادها الضنين، وأن تكون كي يكون أولاً يكون إلا كما يجب أن يكون!