هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث المعنى هو النهر الذي لا تعبره مرتين


 

الكاتب/ محمود  محمد مدني

مجلة أوراق- العدد 89

9 ديسمبر 1986

 

هذه هي المرة الثانية التي أتناول فيها عملاً للشاعرة البحرينية فوزية السندي.كانت المرة الأولى عندما توقفت عند مجموعتها الشعرية الأولى (استفاقات) وفي هذه المرة أقف بتحديق أعمق عند اصدارها الجديد المعنون (هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) الصادر في طبعته الثانية عن المطبعة الشرقية في البحرين والواقع في 111 صفحة من القطع الوسط، وخلال الحديث عن المجموعة الشعرية لفوزية السندي يدور حديث عن(فضاء الشعر) والجاهزية الموسيقية وشحنتها الخلفية – الوجدانية- التراثية وكيف تتدخل في معمار قصيدة النثر، وتضم المجموعة الشعرية ( هل أرى ما حولي؟ هل أصف ما حدث) أربعين نصاً شعرياً تبدأ ب(نصوص مصقولة) وتنتهي ب(هل أرى ما حولي؟ هل أصف ما حدث) وكنت عند تناولي لمجموعة فوزية السندي(استفاقات) قد توقفت عند محاولتها التعامل مع المفردة بشكل يخرج هذه المفردة من عتمتها القديمة ويغير علاقاتها في أطار ما يسمح به التركيب الفني المتاح لها مع المفردات الأخرى والجو الشعري العام. كما لاحظت ان تلك المحاولة في (استفاقات) تتأرجح بين النضج في بعض النصوص والتسرع في الوصول إلى نتيجة، التي هي نوعية وليست تراكمية كمية.

 

تأسيس الشعر المعادي للعادية:

في( نصوص مصقولة) ونصوص أخرى في مجموعة فوزية السندي محاولة للإستمرار في تأسيس الشعر المعادي للعادية، وهو استمرار أيضاً للتعامل مع المفردة في إطار فضاء الشعر، والشاعر بشكل جديد يبقي الذاكرة الممتدة من (ديوان العرب) كمجموع ولا يحرص على بقاء الذاكرة المفرداتية الأستعمالية كما هي ملزمة للشاعر، الذي لكي يخلق ويبدع لابد ان يكون حراً- بوعي-إلى ابعد الحدود في المجال التركيبي للشعر نفسه.

وفي النص الأخير من (نصوص مصقولة)  تمضي الشاعرة في اتجاهها الذي يحتاج إلى مزيد من الوقت والتجريب والمغامرة ليستكمل دورته الدموية وينتصر على الأصوات الخلفية التي تشوش اتساقه.

” كل هذا الجور لي

لي براثن الشكوك وانهمار القساوة ومرارة الأثم

لم تحققت ايتها الحبيبة في لوعة الجداول ومنتهى الهياكل

واتاك كل هذا البطش والندف لأجراس تنكأ الجسد وتهلل الاضلاع

بارقة بعناوين المهانة

شاق علي،

أسوي كل بحورك و القيها في حمحمة ضارية

و من لي،

غير طيف يدق نوافذ الرعشة في ليل البرد

جمرة أسرجها بين معاطف الوقت

لوزة تمايل ولهي اللاهب في صمت

ايتها المرأة.. يا مرآتي

أشفيك.”

 

وكأن الشاعرة في هذا المقطع تحاول أن تثبت أن الحلم يبدأ من اللامتناهي وإلى اللامتناهي يعود.

والمحاولة الصعبة هي تفجير الحلم لغة، أوكتابة اللغة-الحلم. ففي اللغة-الحلم تصير(المرأة) (مرآة) وتنثر(عناوين المهانة) على رؤوس الداخلين إلى حلبة الكابوس. وكأن الشعر في هذه الحالة يتمرد على التكوين الكتابي ليعود إلى التكوين الحلمي الذي كان أصلاً قبل تدخل قناة اللغة. وتتمثل صعوبة هذه السباحة في ان طفولة الحلم ليست هي سيمترياً طفولة اللغة، وهذا يضيق مجال الحركة ويوسع في نفس الوقت مجال اللامتناهي أو حركة الحلم.

فالذاكرة الشعرية والاطار الشعري- على مستوى اللغة من حيث البنية والمتفق عليه، وكله نثري وممعن في النثرية- لا يتحكمان في الانفعال ولكنهما يتدخلان بأشكال كثيرة متشابكة ومعقدة في التوصيل، في الجسر بين القصيدة- الشاعر- و(الآخر). وهذه العلاقة واحدة من أهم الإشكاليات في الشعر العربي القديم والحديث، رغم اختلاف الهموم وفضاءات الشعر والشعراء.

واذا كان الشعر-الآن- هو جزء من حركة العالم فان اللغة-الحلم لا توجد الا في انتصارها النهائي على فساد النثري( المرتب سلفاً والمتفق عليه مما شكل كل حالات القسر والهيمنة غير المبررة الا في أطار تاريخي) المعطل لتقدم الحلم اللغوي نفسه حتى لا يفاجئه الصحو المرتب فيطير نعاسه الجميل ويحول أنهاره إلى مستنقعات ومجاري متعفنة. ان استمرار اللامتناهي -حلماً- يستطرد بضرورة جمالية في اللامتناهي-لغة-.

هذا هو الشعر المفاجىء أو هذه هي ( السماء المضادة) التي يظل الشعر في حاجة دائمة لها كما يقول لوتريامون، أو(ان الشعر هو تعويض عن اللغة) على حد تعبير مالارميه، وفي (نوافذ للفتح) تعلن الشاعرة:

“أجدني في تلاؤم دائم

بلا مبرر

واثقة ومحلقة

بلاضفاف.. منبعثة هكذا

عبر النوافذ ومزاليجها

لا يحدني أحد

أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم

هكذا دون تردد

اطلق رغوة الأفق

أمرغ قوس قزح بحرية ألواني

أضج بالفضاء

وكعادتي أفيق”

هذا الذي يتحقق عبر(العادة) ونسميه (الصحو) وتشير اليه الشاعرة

(أضج بالفضاء، وكعادتي أفيق) في حالة تصادمية مع الحلم على مستويين: المستوى الأول مع الحلم- المشهد(من خلال الاستجابة والأداء) والحلم اللغة، لايوقظ -هذا الذي يتحقق عبر العادة- الا المتنافر والمشتت ولا يتيح الفرصة مطلقاً لوحدة-المشهد-اللغة-الحلم.

كما ان الشاعرة في محاولتها التي تتكرر وتستطرد في هذه المجموعة لاحداث اضاءة جديدة في جسم وحركة المفردة في اطار التركيب الشعري، لا تلجأ-الا في بعض الاحيان- إلى الاهتمام بتغيير العلاقة الشكلية بين المفردة، والمفردات الأخرى الا بالقدر الذي يخدم العلاقة الداخلية العميقة للمفردة والمفردات الأخرى في أطار التركيب الشعري، لكي لا تنتحر عند أبواب النثر العادي والمرتب – الذي لا يحتمل فوضى الصورة الشعرية الكاشفة والمفاجئة- والمشوش بفعل الخوف من الحلم في ذات الوقت.

وهذا الاهتمام بإحداث الاضاءة للعلاقة الداخلية للمفردة ليس ترفاً عند الشاعرة فوزية السندي، ولكنه هم حقيقي مزعج. انه اهتمام يؤكده ان الشاعرة تتعامل مع مجموعة من القيم الجمالية، فلا ترتبط بفسيفساء ما هو موجود وكائن وواقع، أي انها لا تتعامل مع قيمة سكونية (الترتيب المسبق) بل مع قيم لا تنبع الا من خلال العملية الابداعية نفسها. فاللغة-الحلم في حالة المشهد والفضاء الشعري لا تكون ( ترتيباً مسبقاً بأي حال من الأحوال.)

 

مادة الشعر، اللغة أم الحلم

يقول أدونيس في الحوار المثبت في الباب السادس من كتاب( أسئلة الشعر) لمنير عكش:

( كل شيء ينصهر في الشعر، لأن الشعر ليس طريقة للتعبير فقط، أنه وجود وطريقة وجود، لذلك تجد كل القيم تنصهر فيه. أنا أذهب الى أبعد من التوازن بين الأنا والآخر. الشعر عندي نوع من الوحدة. وحين أبحث عن حل لتناقضات الخارج، فكأني أبحث عن حل لتناقضات الداخل، كأنني أحول العالم إلى شعر) صفحة 125.

و حين سئل أدونيس عن( مامعنى المعنى) قال: هو شيء اذا فقدته، تشعر انك تنزلق في هاوية من الرمل لا قرار لها. هو نوع من الأساس، نوع من الصخر، وان كان يحلو لي أحيانا أن أسمي الصخرة موجة. المعنى حركة. بعد غير محدود. هو الماء. النهرلا تعبه مرتين، كما يقول هراقليسطس. ومن هنا أهمية الصورة، العالم الخارجي)” صفحة131″

في نص “شعائر” تعمق الشاعرة محاولتها لرسم حدود الحلم للنهر الذي لا يمكن عبوره مرتين:

” لا ريب من تحلق المكائد حولنا

مثل غبار يرصد الحدائق الباهية

بسمادها المبلل وغضاضة جوارها

لكننا

نهفو لأجراس المراعي وغنج غيومها

ثلوج الغابات وضواريها المتدفقة

لألأة الأنهار بأوراق النعناع

وأعشابها الطافية وتماسيحها المنذهلة

نحلم

بصناديق الموانيء الصدئة

ومخازنها المكتظة بالسواعد الموحلة كالشرر

والخمارات المتاحة ببطش البحارة

ومجونهم الآفك

وشعورهم المتهدلة كسلاسل وصوار تعبة

لكن

نقدرُ أن نتموسق في وتائر موطوءة بخيالنا وخمائره

في انفلاتها المخبول

هكذا نعب في شعائر مضللة

ونفحات عابرة

دون تعثر.” صفحة 34-35″

ونلاحظ ان الفاعلية الشعرية في هذا النص، في اطار حوارها مع (الآخر) والحديث هنا عن(الأنا) الشاعرة و(الأنا) المتلقية لدفق الشعر وغرائبيته ومفاجأته وحسمه الحلميـة تتجاوز الامكان في محاولة الوصول الي تحقيق هذاالامكان حلمياً- مشهدياً، وحلمياً لغوياً في نفس الوقت. وهذا يعني أن الشاعر لايمكن له تحويل(العالم) إلى (شعر) على حد تعبير أدونيس الا بدمج اللغة في الحلم فيصبح مشروع اللغة- الحلم ممكن التحقيق في هذه الحالة فقط.(فلألأة الأنهار بأوراق النعناع)و(التماسيح الذاهلة)و(التموسق في وتائر موطوءة بالخيال وخمائره).. الخ كلها أجزاء عضوية من المشهد، نثارات في فضاء الشعر والشاعر،انه الاتجاه على طريق النهر الذي لا يعبره(الآخر، المتلقي) مرتين كما أن(وحدة الشعر) لا تتم الا عبر بنية لا تناقض فيها بين(مادة) الشعر ومواعينه الفنية الجمالية. اى ان وحدة الشعر لا تتم الا في (زمن الشعر)وهو زمن داخلي-احتفالي غامض بل وسري في كثير من الاحيان لانه يزاوج دون شروط أو ترتيبات مسبقة.

و (وحدة الشعر) هذه ليست مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالتراث الشكلي للقصيدة العربية، ولكنها في نفس الوقت لا تتم عن فراغ، أي ان لها اطرها الخاصة وتمردها الخاص وثورتها الخاصة على مستوى الحلم ومستوى التعبير. وهذا هو ما عناه أدونيس عندما تحدث عن (وجود الشعر)

وهنا يمكن الاشارة الى مقولة منير العكش في كتابه( أسئلة الشعر) ان خروج المتحول من تراثه كالخروج من العالم، كلاهما يرتكز على مبدأ بسيط ومعقد في آن، هو مبدأ الحرية. والحرية بمفهومها البسيط من خصائص كل موجود تحرر من قيوده، وعمل بمقتضى ارادته وطبيعته كحرية الجسم الساقط نحو مركز الارض.

لكن أحداً لا يمارس حرية الخروج من العالم على طريقة الجسم الساقط الا حين تصبح له خصائص هذا الجسم ويحكمه قانون السقوط خارج العالم. فاذا كان جماداً قلنا سقط واذا كان حياً عاقلاً قلنا انتحر).

 

هل أصف ماحدث؟

وفي نص (هل أرى ماحولي، هل أصف ماحدث؟) تحاول الشاعرة أن تقيم وحدة الشعر تحت سماء مضادة تتغير فيها كل العلاقات التي تكون في النهاية التعويض عن اللغة حالة كونها خارج حدائق الشعر فلا تطفىء اشتعاله، ولا تتآمرعليه بذهنية خلاسية مفككة( أتيت لمنتهى البريق مشعلة أقراص الدوران حول أكتاف تؤازر الحجر في كراسها المختوم بالأخبار، تنادم البقية، سلاماً لإستلامي وثوق الماء وأعنة الهواء، لمعاصم مصقولة التوق والهجس والبديع من الأحوال.هذا ما رأيت:

متسعاً يفيض على حديه بلون الفضة، يغمر بلور الماء، وينحكم كحلم تاه، مارداً في يديه أشلاء كوابيس زرقاء، وضحايا أضغاث وأشياء تقبل نحوي بجماجمها وعظام الأكتاف المنخورة، تدعسني فأصحو، تدعسني فأصحو، في كبوة الحلم أراه، دغلاً يستبق الخطى بضوار كالكلمات ونتؤاتها الثاقبة، أهدر منتشلة صمت زواياه، أبقيه وأبحث عني، وآخر السلالم الملتوية كأفاع تحدق في، أرفعها بهدوء، وأشد الأضلاع، تهيأتُ:)صفحة 106

وفي نص(متواليات) يعود الشعر( المادة) إلى داخل الذات بشكل كاد يكون كاملاً وينسى تحولات العالم التي لا تجسد التجربة مع الذات بقدر ما تشكل حالة (ترسية) في بنية الشعر نفسه. وفي هذا النص وبعض النصوص المتفرقة في مجموعة فوزية السندي تطل(الردة) عن موقف الشعر من تحولات العالم برأسها. وأتصور أن الشاعرة بأصرارها على التخطي والتجاوز والأضاءة المستمرة لعتمة اللغة الناقلة للتجربة مروراً بزمن الشعر، سوف تتدارك هذه الردة.

يقول الشاعر محمود درويش في الحوار المثبت في الباب الخامس من كتاب(زمن الشعر) لمنير العكش:

( وقد تقول بطريقة أخرى أن الوعي يحتاج إلى تفجير من اللاوعي لكي يتحول الى فن. وقد تكون هذه المسألة هي ما يميز الشعر عن أشكال الوعي الاجتماعي الأخرى) صفحة121

وفي متواليات تقول الشاعرة:

“أشك خيوط الدقائق المنفلتة ببرودي وأنا تنور الهدأة

ونهضة البراكين

مصطلية.”

 

وتقول:

“أحن صفائح مجدك الفاتر

واحتمل حجر المصائر

وخرائب الوقت من حولك

لاتمل.”

 

تخرج الجاهزية الموسيقية- الخلفية-التراثية في المقطع الأخير، وهذه أيضا(ردة) أخرى تحاصر انطلاق اللغة- الحلم في اتجاه المغاير، المنفلت والباحث عن السماء المضادة للمبتذل والمؤطر خارجه. وهذه (الردة) مع بثور أخرى متناثرة في الجسد الشعري لفوزية السندي، لابد أن تصهرها نار التجريب الواعي المدرك للأبعاد والمقاسات والحسابات المختلفة في المرحلة القادمة وصولاً الى (وحدة الشعر) تمهيداً ل(تحويل العالم الى شعر) ويمكن القول أن في مجموعة( هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) ما يحسب بشكل أيجابي – جمالي للشاعرة في محاولتها لإخراج لغتها من سراديب الأعتياد والترتيب المسبق.