قصائد متوهجة تخترق حصار الأنا نحت الصورة معمار فوزية السندي الشعرى


 

الكاتب/ عبدالله خليفة

جريدة أخبار الخليج

5 ديسمبر 1992

 

هذا التعبير الشعري حيث كل جملة شعرية عي إنفجار، وتتعاون الصورة المكثفة، مع لغة  استفهام المباغتة، والتعميمات الترميزية، لتصيغ قصيدة تقترب من كارثية الحدث.

هنا نجد الكورس، الإغريقي القديم، وهو يعدد الكوارث والمآسي، ويمشي بين الخرائب والمشردين والمقتولين، يسأل، ويصرخ، ويصور المشاهد: كم (كم طفلاً سنغمد بين الصخور وفتوى القذائف/كم جثة ستشتعل في عراء العذاب/ كم حرباً ستنفجر كل نهار).

هذا هو الحدث، غير مقطوع الصلة بمسببه وظواهره، مشكلاً بصوت الكورس وهو يمشي في الصحراء. ولكن التغلغل سيكون في الدمار :(كل موت/ نراهم حفاة يرجون الحدود بما تبقى من خطى/ بحرا من جراح يفاجئ تعب الصحراء/ وطناً يتوضأ بالأنقاض/ وعراة يفترسون خرائب تتلو وصايا الفاجعة/كأن بغداد في إحتضار مديد).

إنه التلون، وتحويل الأشياء الى مرايا، ونفض اللغة من سكونها، وتنبيض لقطاتها. تبلغ اللغة ذروة التعميم في هاتين الجملتين: (البلاد بكاء/ والمدى منفى). وكان الكورس الاغريقي، العربي، المفتت. في الصحارى، يمشي ليرى ويصرخ: (كم قتيلاً لم يمت؟ كم أسيراً لم يعد؟ كم صرخة لم تصل من رئة العاصفة؟).

وتستمر الأسئلة، لتنبثق بعدها صور جديدة، وتوسع دائرة التحليل الشعري للحدث، وتتالى التعميمات، على هيئة أسئلة، من داخل هذا التحليل، وفي ذروة من المرارة والضحك (هل ملهاة تدير الحفل../ أم ظلال شطرنج يلهو ببياض الأرض؟)

إن إستخدام الكورس، كصوت للنحن، ذي المصدر الأغريقي القديم، نراه في قصيدة أخرى هي ((في خلوة الذبيحة، حيث تقول (احتشد أيها النفير/ ويا معدن الناس، يا منشدي حموضة الدسيسة/ يا مخلب الفاجعة/انقضوا/وانتن يا نسوة المهالك/ اندبن دما جاش على مذبح الخطيئة)، (تخب صعاليك مسوا ذخيرة القلب) ص٥٥

هكذا يتوحد الصوت الجماعي النسائي، بالشاعرة، بالناس، بالصعاليك، وفي نشيد مستمر يرسم وجه التاريخ الماضي/المعاصر.

نسق أخر، هواجس الذات

وإضافة الى استخدام النسق الأول، الحدثي العام، فإن ديوان يحفل بنسق أخر منتشر، هو حوار المرأة/الرجل. انه الصراع، وانتزاع المرأة للرجل من أحضان التردد والغياب. في قصيدة ((الهديل)) يجسد الحوار خوفاً على الرجل المبدع اليأس، وحباً غامراً له، لكن لغة الحوار تنمو في عالم ضبابي، زائغ، إن المرأة تغدو، كما هي دائماً، ذات الفعل والاخضرار، وهي تحاول أن تنتزع الرجل من اليأس. ان خريطة العلاقة بين الصوتين، تظل مبهمة، بعكس ما يجري في قصيدة ((االفدية)) حيث نجد تضاريس الأرض الحقيقية، وشرايين التاريخ الملوسة. إن الرجل في هذه القصيدة هو شهيد مؤجل، ومستعد دائماً لفعل التضحية والاستشهاد، وهذا ما يعطي مداراته لغة ضوئية، تستقبل كل إشاعات النضال في التاريخ.

وهي تركز هذه الإشعاعات بصورة مكثفة، عميقة، عبر هذه الصور المتدفقة (فمن أنت/ شقي يجوب شفرة الأعاصير الذبيحة؟ / عّراف يحرس حافة البراكين لتقطف نسور القمم حمم النذير الأول؟ ص٧٣.

اقرأ بقية المقطع الطويل الذي يكثف في ((الرجل)) كل انتماءات العصور. هذا الرجل الملحمي يبدو معاصراً كدلك. ((ها أنت/ شعب في راية تحتدم)) فالماضي والحاضر يتمازجان، مثل تمازج المرأة والرجل، الداخل والخارج، الذات والناس.

لقد مضى دهر على شعرنا وهو غارق في الأنا، المفصولة عي حيوية العالم، لكن فوزية السندي تخترق هذه الدائرة الضيقة، عبر قصيدة ساخنة، متوهجة، فيها بعض التجريد، وبعض الغياب لمحاور حياتية حية، وهناك جوانب عديدة، في ((الديوان)) تستحق المتابعة، مثل صراع البنية التجريدية والبنية الواقعية وعلاقة هذا الصراع بتطور موقف الشاعرة، وتعدد مصادر الشعر مثل التأثر بالشعر الأسطوري – الطقسي ورفده بعالم النقد الاجتماعي – السياسي، والاستفادة من قاموس الشعراء المحليين، وخاصة قاسم حداد مثل استخدام العديد من كلماته وبعض رموزه مثل القطيفة، والريش، وغيرهما، ولكن هذا كله يحتاج الى دراسات..