Category: صوت – Voice
حجرة مثخنة بالهدوء كله
” وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي. ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر.
وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.
وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.
وتذكرت قول الصديق الحكيم. ” قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان”.
نجيب محفوظ
رحم الله الروائي المصري “نجيب محفوظ” الذي أشعل ذاكرتنا طيلة طفولتنا وصبانا بالعديد من الروايات والقصص التي تحمل عذوبة نهر النيل لا الحبر وحده.
يا لها من مفارقة مؤلمة، أن يكون زعيم الاخوان المسلمين “سيد قطب” أول من تحدث بفخر عن روايات نجيب محفوظ الأولى “القاهرة الجديدة” و”بداية ونهاية” و”زقاق المدق، عندما قال:
” لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة (كفاح طيبة) في يد كل فتى وفتاة ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان ولأقمت لصاحبها الذي لا أعرفه حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر.. للمستحقين وغير المستحقين.”
ليعلق نجيب محفوظ على هذا النسيان المتعمد من النقاد طيلة خمسة عشر عاماً:
“لقد انفعلت بأول مقال كتب عني حوالي عام 1948 ربما بقلم سيد قطب. الصمت لا يطاق.”
منذ عام 1948 حتى موته، تعرض لسجالات وحملات تكفير عنيفة تصاعدت حتى بلغت محاولة الاغتيال، وتعرضت روايته “أولاد حارتنا” للمصادرة ومنعت من النشر في مصر، وتم تكفيره على أيدي أحفاد أخوان المسلمين الأوائل، تلك الرواية التي كانت ضمن أربعة أعمال روائية حاز من خلالها على جائزة نوبل في عام 1988، والتي عرضته أيضاً للنصل الذي انغرس عميقاً في عنقه عام 1994، بغدر صبي مصري قال: “انهم” قالوا له أن هذا الرجل (محفوظ) مرتد عن الاسلام.
كما قال الغزالي عن انتشار الرواية في مصر:
“السموم أيضا تنشر خلسة والناس تقبل عليها”
“وبعد بدء نشر الرواية على حلقات في جريدة الأهرام عام 1959، حث بعض رموز التيار الديني المحافظ على وقف النشر استناداً الى تأويل الرواية تأويلاً دينياً يتماس مع قصص بعض الانبياء. الا أن ذلك لم يتسبب في وقف النشر ولكنه تسبب في عدم طبعها في كتاب داخل مصر الى اليوم. “
“ثم تجدد الجدل حول “أولاد حارتنا” نهاية عام 2005 حيث أعلنت مؤسسة دار الهلال انها قيد الطبع حتى لو لم يوافق محفوظ بحجة أن الابداع بمرور الوقت يصبح ملكا للشعب لا لصاحبه. وحالت قضية حقوق الملكية الفكرية التي حصلت عليها دار الرشوق دون ذلك. وأعلنت دار الشروق مطلع عام 2006 أنها ستنشر الرواية بمقدمة للكاتب الاسلامي أحمد كمال أبو المجد. ونشرت مقدمة أبو المجد التي أطلق عليها “شهادة” في بعض الصحف لكن الرواية لم نفسها لم تصدر الى الان.”
أليست مفارقة غريبة أيضا أن ينهى “نجيب محفوظ” حياته الروائية برواية ” أحلام فترة النقاهة” تلك التي تتحدث عن مجريات محاكمة يقرر حضورها، ليشهد محاكمة لمجموعة من الزعماء والسلطة، ليتحقق من عدالة هذا المجتمع وكيف سيحدد التهمة بينهما، لكن تراجيديا هذا العصر تنتصر عندما يقرر القاضي أن يتهمه هو الذي حضر المحاكمة، فبدلاً من حصوله على الحقيقة يتحول فجأة إلى متهم، وتضيع صرخاته وسط تكالب الجميع ضده، وتواطؤ الأضداد أيضاً.
هكذا فضح ” محفوظ” طبيعة الاستبداد حين يتحول إلى تعسف يصادر حرية التعبير، هكذا أدان مصدر الشرور التي عانى منها طيلة حياته الروائية، هل أراد نجيب محفوظ قبل الذهاب الأخير أن يودعنا الحقيقة كما تراها العدالة الحاكمة.؟
هل أراد أن يصوب حروفه نحو الخلل؟
حسبنا ذلك، عندما نرتاد بذاكرتنا أغلب رواياته وقصصه عبر لمحة بانورامية ونحلل رؤاه الفنية والانسانية، المدافعة دوماً عن حرية الانسان وحقه في التعبير، تلك التي حولها لشهود على ما حدث ويحدث وسوف يحدث
رغم ذلك كله،
لم يتعب من الكتابة..
حتى آخر اللحظات التي أودت بجسده الناحل، واصل الكتابة، مستنداً على قدرة سكرتيره الشخصي الحاج “صابر” عبر الإملاء المستمر، بعدما تدهورت أصابعه وأضمحل بصره، اتقدت بصيرته وطاله العناد الابداعي البهي، لم تعد قدرة الامساك بالقلم أو النظر إلى الكلمات مهمته، بقدر ما كانت الذاكرة تحيك له الصور الابداعية وتحبك له الحب كله كل نص.
في حي الحسين بمصر، ينفرد مقهى “الفيشاوي” بوجود حجرة خاصة للروائي” نجيب محفوظ”، حجرة قديمة، تشتمل على طاولة وكرسي، وما لا أتذكر من الصور أو الأثاث الآخر، لكنها تمتاز برائحة التاريخ المصري الذي رافق حروفه وكلماته، وسط الصخب البشري في تلك الأمكنة المحتلة بالضجيج كله، الغريب في الأمر، أن هواء تلك الحجرة مثخن بالهدوء كله، كأنه أغلق العالم الصاخب رأفة بالتعب المصاحب لأصابع “نجيب محفوظ” وهي ترتقي بياض الورق، تغزل الحروف، تدون تجربته المندغمة بتجربة الوقت الذي ينبض في عروقه ويحتل القلب مشتعلاً بحب مصر.
لؤلؤة البحرين
” تحقيق الذات هل هو مفهوم مرادف للأنانية وحب الذات والتضحية واستنزاف المشاعر أم هو عكس كل التوقعات يعني تقدير وحب الذات الذي يؤخذ دائما بمعنى تحقيري بينما هو العكس يشير الى أعظم حرية داخلية يمكن بلوغها.
لماذا نحتمي بالماضي ونتعلق به كخشبة خلاص ونطعن في الحاضر كخطيئة.
انها حياتنا التي نروي عطشها ببريق حلم مستحيل وشذى الأمل.”
عزيزة البسام
1-
هكذا كتبت قبل الموت، كأنها تقرأ ألم المستقبل.
كأنها تصغي للضجيج الذي سيجترح بطولاته المقترنة بأوهامه المتهدمة.
عزيزة لم تفارقنا، بمعنى المكوث طويلاً مع كلماتها، ابتسامتها، نقاوة قلبها. عطر روحها.
نصغي لها دوماً ونحن نترحم بشدة على غيابها المبكر، ونشد من عزمنا على الحياة دونها.
كلما اكتب عنها أراها أمامي تبتسم كعادتها وتنظر الى روحي.
لا ينهمل دمعي وحده، بل يتقاطر قلبي.
ماذا عساي أكتب عن صديقة لا تغيب، عن ذاكرة تراها دوماً، وهي واقفة على باب جمعية النهضة ترحب بالآتين، وهي تتحدث بلهفة غامرة عن مشاريع تتدافع بمحبة طاغية وهي تكتب برفقة رؤى ترى المستقبل البعيد.
وهي تموت بهدوء ملاك يحتفي ببياض مهدها الأخير.
كما اعتدت تماماً، ولأستوفي مدى حرص كلماتي على الاحتفاء بكتابة الصديقة النادرة على مستوى العطاء والبذل والتضحية والإسراف في المحبة، الكاتبة” عزيزة البسام”، تلك المرأة القديرة على البحث والسؤال والاجتهاد النقدي، بل إثارة التحديات كلها-التي نحتاج لمثلها الآن- بجرأة غير معهودة، لكونها على الدوام كانت جديرة بحرية الكلمة وجرأة الموقف، بدءاً من تضحياتها الكثيرة حتى وداعها الأليم.
بالرغم من فقدنا المرير لها، لنا أن نتعزى بما تركته من مواقفها وافكارها النيرة،، تلك التي تثير التساؤلات نحو توجه فكري مهم، كانت “عزيزة” ضمن كل الحوارات تتوجس المخافة كلها وهي تؤكد على أهمية سعي المرأة العربية لاستيعاب طبيعة قضاياها ومن ثم الدفاع عن حقوقها، عبر تجاوز المشكل الوحيد الذي يعوق دون استحصالها على قوة دفوعاتها، ببساطة كانت تشير نحو عدم اهتمام المرأة بالوعي المعرفي اللازم والثقافة الحقوقية التي تؤهلها لإطلاق حرية صوتها، ذلك لعدم اندفاع المرأة لهذه الحقول الثقافية التأسيسية، لقد تنامى هذا الاشكال كنتيجة حتمية لخضوعها لمتطلبات وهجمة هذا الواقع الاستهلاكي المدمر، هيمنة السوق بمقاديرها التسليعية لكل شيء، بدءاً من البضائع حتى المشاعر الإنسانية، سوق نقدي يهتم باكتساح البضائع وحدها و ترويج الوهم الإعلاني المدمر للعقول و اللاغي لطاقات الفكر، كرنفال تسويق لا يكترث بأي شيء، بل يسعى لتحطيم كل القيم و المبادئ و المسلكيات الحضارية التي تتقن درس الحياة و تعترض على إندفاعه المحموم.
لذا حدث كل هذا التراخي الأليم تجاه أهمية تحصيل المرأة على الوعي أو تسلحها بالمعارف الحداثية العميقة، لتستطيع على الأقل الدفاع عن مكتسباتها، إن لم تكن قادرة على الذهاب نحو المطالبة بما تستحق، بالرغم من ثقة” عزيزة” البادية في العديد من النسوة اللواتي إستطعن تأكيد حضورهن المتميز، لكنها كانت دوما تشير- بأسى عميق- للغالبية المقصاة عن مواقع الفعل وتتنادم على الملتهيات بسلع السوق وزيف اللهو الاستهلاكي المدمر
هكذا كتبت لنا:
“إن متابعة ودراسة ردات فعل النساء والمواقف التي يتخذنها تجاه قضايا تتعلق بأدوارهن ومراكزهن في المجتمع وحقوقهن الاقتصادية والسياسية إلى جانب القضايا المجتمعية الأساسية أمراً في غاية الأهمية لفهم دور المرأة في حركة التغير والتقدم في المجتمع، وبالعودة لسؤالنا الأساسي وهو كيف تواجه المرأة في البحرين القيود الاجتماعية والاقتصادية التي تقف في وجه الاستفادة من قدراتها وإمكانياتها؟ هل يمكننا وصف موقفها بالسلبية والعجز والخضوع للأمر الواقع.. أم هناك مواجهات مستترة ومن حين لآخر واضحة ومعلنة حسب طبيعة الإشكالات القائمة؟ لا يمكننا القول إن موقف المرأة في البحرين تجاه القيود الاجتماعية والاقتصادية التي تعترضها تتخذ الاتجاه السلبي في التعامل مع مشكلاتها القائمة بشكل قاطع، ذلك لأن الموقف من التغير ليس هو ذاته عند كل النساء، فالمصالح الطبقية والوعي الثقافي والاستقلال الاقتصادي، كلها عوامل تحدد موقف المرأة كما الرجل من التغير الاجتماعي.”
2-
عزيزة احتملت حياتها بما وهبته من محبة وحكمة ضد الألم.
رفقتنا لها كانت درساً لا متناهيا في تعلم معنى الحياة دون مقاصد ومصالح وأجندات وغيرها من المصطلحات المتفق عليها في جراب الجشع.
علمتنا معنى الحياة بمحبة لكل كائنات ومخلوقات الله دون تمييز او نبذ.
كالوردة اهتدت بتعاليم الندى، وتمايلت على غصون التعب حتى تراحت لغياب اضاء الوقت كله بعطرها الفريد.
عزيزة: رفيقة قلب أمهلتني حمم الغياب كلها، دون منازع أليم سوى فقدها العصي على الاحتمال.
كانت ولاتزال صديقة لقلب لا ينبض الا بذكراها
عزيزة امرأة تدير بلاغة العمر،
لئلا تضلل ما يؤجل الموت
لئلا تجازي ما يرتكب الحياة.
3-
عزيزة لؤلؤة،
لم تخسر غير محارة تتكسر
أمين وهو يرانا الآن
(1)
منذ «هنا الوردة» وهو يرانا في حديقة روحه، أرواح متلهفة بقلوبها حوله، تتأمل إتقان موهبته وينبوع عطر روحه، تراه يتأمل ما يراه بهدوء وردة تتسامى في هواء الله، قدير يحيا وحده وكتبه وأقلامه وأوراقه في وقت يكتشف مداه. عرفت «أمين» عندما احتميت بالحرف ولُذتُ ببياض لم أعهده من قبل، صديق للقلب، هادئ كما الغيمة وهي تمضي بنقاوة المطر في سماء ملهمة، دومًا يكتشف ذاته وما ينحت الروح، مـتأهبًا ببصيرته لحياة تقترب منه
حذر «أمين» وانحيازه لعزلة مهيبة تجاه ما حوله، علمه أن يتقن صمته، دومًا كنت مفتونة بصمت «أمين» أمام غلو ضجيج يتسابق في تصاعد أزلي، تلهف نحو المنصات وحمى النياشين، حبور برنين أياد تحتد، تدافع حثيث نحو وهم المجد، نحو مزاد أجوف لا يمس الإبداع بِصِلة. ذاك الذي لم يكن يراه «أمين» وهو يمضي لصقل ذاكرة رعاياه بنقاوة قلبه ومهارة موهبته، مليك زاهد ومقتدر يزين مملكته بحكمة بالغة نرتويها على مَهل. عرفته فيما بعد بذهول أعمق عندما بدأت أقرأ هداياه التي أحتضنها بحب، وأتجمل بإهداءات عميقة كقلبه
صمت أمين كان دومًا يذكرني بكلمات الشاعرة إيميلي ديكنسون، التي لم تكن بحاجة إلى المجد: «المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى/ الذي يعني السيطرة لحظة ما/ فيدفئ اسمًا مغمورًا لم يعرف حرارة الشمس/ لينقله بعد ذلك/ برفق/ نحو العدم.»
(2)
كتبت منذ وقت مضى وأنا أدون ما مسني من «ندماء المرفأ ندماء الريح»: لست هنا لاقتراف فعل النقد الذي يقسو ليغتبط بذاته، أو الذي يتأهب بعدة السفك ويسوق ما يفترض أنه جثة لبرد الطاولة، ويفاجأ حين يغرز مخرزه لتشريح ما استعصى من أعضاء النص، يفاجأ بصرخة ترديه منذهلًا لما يرى، ويعتقد فيما بعد صعوبة الدخول إلى هذا النص الذي ينزف دمًا لن ينساه من لا يحترز، من لا يترفق بعبء أمين المتخلق جسدًا أكثر رهاوة مما نجزم، فليكسر من أراد أن يتوغل معوله
آن لنا أن نلتذّ بهذا الهواء، إنه الهواء ولا شيء سواه ذلك الذي يحرضنا ونحن نقرأ أن ننسى ما نقرأ وننداح في سلال المتعة التي لا تضاهى، بدخول هذه المغامرة التي تجرجرنا من ردن الصخب الذي يعترينا. ومن لا يفعل لن يغفر ليديه ما التهت به من شأن آخر عندما تتبرأ منه ذاكرة تعرضت لكل هذا الانتهاك الجميل
عندما ينتزع أمين صالح جسده المضمخ بكلام فاضح ويهبهُ ببذخ في العراء ويقول: هذا نداء ندمائي، فماذا ترون؟ لا نرى غير ما نراه أو ما يراه؛ لأننا في كل قراءة (محاذاة) لنصه نكتشف تبدل رؤيتنا للمشهد ولما توقعناه أن يكون، ونبدأ ننسف بأنفسنا وبوعي أكثر اتقادًا ما كنا نراه. ماذا ترون؟ هكذا لا يكف عن مشاغبة أدوارنا فيما لا ندرى؛ لأنه النص الذي يبوح ولا يستباح ولا نجرؤ على تخيل هذا الفعل، لا بابَ للانتظار، كل ما هناك نوافذ للفتح
(3)
هذا هو «أمين» وموهبته المتقدة في رحلة الحياة التي سامر فيها كل تجليات روحه الإبداعية من القصص والروايات والسينما والمسرح والشعر الذي تناهض في ينابيع نصوصه، والكتابة فيما تراه الروح، وكل شيء أمعن في عين القلب ليرى ما يراه وليرانا نُسارّ بياضه الأليف بالتوق لجموح حرفه. يا له وهو يتكئ في ليله الوحيد وينبض بهدوئه المعتاد ويحتضن قلمه الأول ويكتب ما يراه
لا أبالغ إذ بحت بصراحة قلبي عن ندرة قلبه وعمق صداقته بملائكية يجسدها «أمين» بين قلبه وقلوبنا طيلة حياته، مبدع مثله يجتاز الحياة برفقة نقاوة ظله وبراءة قلبه الذي لم يتأخر عن الحب قط. من عرف أمين تعلم معنى الحب المصقول بصدق لا مثيل له، هو من يغدقنا الآن بالحب، بكرمه وتكريمه في آن، كذلك قلبي ممتن لرفقة «الفيصل» على دعوتي لتنوير حديقة قلبي بكلمات قليلة أودعها قلب «أمين»
مشاركة في ملف تكريم “أمين صالح” في مجلة الفيصل الأدبية
أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه
“النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس، ويجعلها فرحةً بالحياة، مترنمة باسم الروح”
“المحبة لا تعطي الا نفسها، ولا تأخذ الا من نفسها، المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد لان المحبة مكتفية بالمحبة”.
جبران خليل جبران
عندما غادر “جبران” أرض لبنان متجهاً لغربة أبدية نحو غرب العالم، كان متيقناً من اكتنازه برسالة كونية يخفيها في ذاكرته، سرية تتشي بها طفولته العسيرة، موهبة دعته للبحث هناك عن أمل صعب تبدى له، سيرورة محكمة دشنته بالحكمة لتبليغ كتابة لا تدعو للمحبة وحدها، لكنها تستحث الكون لتلاحم فريد، يشبه نبض القلب، نبض يتدافع بانسجام تام، دون أن يكترث بالفرق بين الدم والعدم.
لم يكن جبران شاعراً عادياً ذهب للمهجر ليرسم وهو يكتب الشعر، بل صار رائياً بامتياز الحنان الذي يشع من عينيه نحو العالم كله، بقدر ما اتقد بالميثولوجيا اليونانية والأدب العالمي، تأثر بكتابات “نيتشه” وفلسفة القوة في كتاب “زرادشت”، داوم على الاستنارة بفلسفة “ابن عربي” ومحاوراته حول “وحدة الوجود”، استلهم الفلسفة العربية والكتابات المسيحية واليهودية والثيوصوفية، ليوثق عراها ويسردها نحو هذا الغرب المعتم بصلافته وعنفه ضد الانسانية، ليعيد البهاء لتلك التعاليم نحو النور، نحو منشئها البكر، كتعازيم تحققت لهداية القلب نحو محبة أصغر ذرة تنتشي في هذا الوجود:
“كل ما في الوجود كائنٌ في باطنك، وكل ما في باطنك موجود في الوجود. وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها. ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة”.
صبي في الثانية عشرة من عمره، رأى ذاته البريئة تقف أمام عالم “نيويورك ثم بوسطن” المعقد، عالم متمدن، فاقد الدفء والحكمة، مكتظ بالعمارات الشاهقة، والجفاف المكدس في الأرواح، صبي لا يتقن اللغة، لا يعرف غير الغموض الذي يقتاد مصيره، واثق أن عليه العديد من التحديات ليسبر أغوار الذات، في عام 1895 من الصعب أن تحاور هذا الغرب الصناعي المادي، الواثق من معارفه المتكدسة في العقول، البعيدة كل البعد عن السمو الروحاني، تلك العقول المشبعة بنواهي التعصب الفكري المستبد بثقافته المادية والاستهلاكية، من الصعب ايضاً الاختلاف مع ما يراه، وهذا ما فعله بقوة المعرفة والمحبة الانسانية، بعمق التجربة الروحانية، هذا ما فعله جبران عندما بدأ مكاشفة ذاته ومحاورة أعماقه الخرساء:
“أنا غريب عن نفسي،
فإذا سمعت لساني متكلماً، تستغرب أذني صوتي
وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة، باكية، مستبسلة، خائفة.. فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي، ولكنني أبقى مجهولاً مستتراً، مكتنفاً بالضباب، محجوباً بالسكوت.
أنا غريب في هذا العالم
أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة،
وأنثر ما تنظمه،
ولهذا أنا غريب وسأبقى غريباً حتى تخطفني المنايا
وتحملني إلى وطني”.
“ما اشغفني بهذه الذات الصغيرة المحدودة. هي الذرة التي تحسب نفسها عالماً لا حد له ولا قرار.. هذه النواة المشغولة بقشرتها عن جمال الغاية وكمالها”.
كلما عاودنا قراءة كتابات جبران، نراها تحاورنا على مستوى معرفي مختلف في كل مرة، وتمضي معنا لاكتشاف معان مختلفة وتأويلات غير مستقرة، ان المتعة المصاحبة لإعادة اكتشاف حكمة جبران لا تنتهي، في كل مرحلة عمرية نتأمل المعنى بعمق مختلف كأننا نتهادى في أعماق بئر لا تنضب.
إن جنوح فلسفة جبران نحو التأمل العميق لمسارات الروح ببعدها الكوني أسعفه بمحبة طاغية، تفشت في كل حرف، هكذا نتذكر وصاياه:
“قد ولدتم معاً وستظلون معاً الى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء.. أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها”.
وصايا كتبها قبل أن يفارق الحياة عن عمر لا يقل عن الثامنة والأربعين، حيث أعيد دفنه في مقبرة وطنه، قريته “بشرّي”، مترفاً بكلمات صغيرة أراد أن يراها محفورة على شاهد القبر:
“أنا حي مثلكم وأنا الآن الى جانبكم، اغمضوا عيونكم وانظروا حولكم، وسترونني”.
لا أخاف أحداً، لكن ما الذي سأفعله هناك
المجد ”المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى الذي يعني السيطرة لحظة ما فيدفئ اسما مغموراً لم يعرف حرارة الشمس، لينقله بعد ذلك برفق نحو العدم!” أيميلي ديكنسون صار الشاعر الفرنسي”رامبو” يقول لصديقه” ديلاهاي” بعد أن صعقت قصيدته الأوساط الشعرية في باريس: هناك، قدر صعب وأصعب منه، ضيافة الآخرين له، عندما يجتاحون صمته، بأسئلة تدين صمته، قلة معرفته بنواميسهم الطاغية، صعوبة انسجامه مع ”أجندتهم المتغيرة” بل المتفاوتة في تقديرها لمصالحهم. هذا القدر بتحولاته، يعتري صاحب الموهبة في كل شأن فني، لكونه يمثل أبلغ التحديات الراهنة، كلما انزاح قليلاً عنهم، ليفتش عنه، في ظلال ورقة تحنو أو وتر مشدود لموسيقى ترأف بعزف أصابعه، لوحة بيضاء تنسكب عليها توازيع صباغه، تنادوا نحوه،: أينه؟ لماذا ما يحدث له؟ من يجابه محنة المكاشفة الابداعية، بشتى تلاوينها، يتقن صعوبة صد المتربصين بعزوفه عن هواء لا يشبهه، عازفاً، عن مشهد عربي- كان ثقافياً- يراه يتصدع أمام ناظريه، محتلاً بشللية تدعى ثقافية، مرؤوساً من قبل زعماء النقد القبلي، معرضاً لاضطهاد دور نشر ترفع عاليا شعارها البائس: إدفع ثم أنشر، مذ تحولت من مؤسسات تتحمل مسؤولية حضارية ما، إلى بورصات علنيه لا يهمها فعلها الشائن ضد الثقافة، بقدر انغمار جيوبها بالنقد. هذا حاله، لم ليس له؟ أن يطوي وريقاته على صمت ليله، دون اللجوء لغير ذاته، ما عادت المنابر الثقافية المدعومة بالمجاملات والعلاقات الخاصة والنفاق العلني تستهويه لا كلمات المديح والهجاء تسترضي نزوعه الدائم بعيداً عنهم. قديماً كان القارئ ينتظر صدور الكتب التي تشتمل على حصافة الحرف، أسماء مذهلة كانت تترقب عينيه، أما الآن، حيث تم غمر المعارض بكتب الطناجر والشعوذة و التنجيم، دون أن يلتفت أحد، لمدى التخريب الثقافي الشاسع الذى لم يزل يتحدر. لذا التاذ بهروبه المتسلح بفضائه الأزرق، بحرياته البعيدة ، عبوره هواء ”الانترنت”، أن نشر كتابة روحه على حنو هذه السماء، لهو أبلغ دليل على عنف هذه اليابسة. العديد من الكتاب بدأ يلتجأ للنشر الإلكتروني، لئلا يخضع لاستبداد دور النشر، وعنف الهيئات الرقابية في بلادهم، بدأ الغالبية منهم تدشين المواقع لتعريف الآخر على سهوهم عنه هناك. الكتابة وحدها، هي المواجهة الفعلية والعميقة، بين الأنا والآخر، سرد الذات، كشف السر الذي تأسى كثيراً في عزلته. ذات ليلة، حدثني ابني ”وليد” بما يتوافق بمحنة ”صوت”: هكذا- أيضاً- باحت الشاعرة الأمريكية ” إيميلي ديكنسون”: |
|
واقف يشهد نفسه
هكذا اعترى ” فريد رمضان ” شغف الكتابة ليشهد ما رأى بنفسه، هالكا من تصاعد المشقة منذ مرتع الطفولة ” فريق البوخميس” لذا صاحب وقتا لإضاءة الكامن في ذاكرته، المهاجر في وطنه، وأنه المرتد في زمنه.
” التنور” نص يتعرض لسرد القهر العالق بحداثة الألم. إطلاق لعناصر البنية الروائية بموازاة الهمس من “عسلوه” حتى ” المحرق” لطمأنة الغربة والوحدة بأمل انتظار القوارب.
حاك ” التنور ” ليروي تفاعل الرؤى وتقنيات العرض الروائي، وما يتحقق من مشاهد جديرة بالتنصت والمساءلة، حضور للاستحواذ الشعري عبر لغة تحطم الفواصل، وتلغي الضفاف أمام نهر الإبداع. ليجهر بحذر المكتشف نبض الشعر – سر اللغة:
” أيها التنور يا واهب هذا الحب. أي شيء كان يمكنه أن يوقف ذلك العذاب غير هذه النار الحنون التي تستقبل طراوة العجين من أيدينا المفترسة في اكتشاف دروب جديدة لأسمائنا المفجوعة بالغياب، سنابل الطحين تنشد نعمتها وهي تختمر في دفئنا. توقظنا النار..”
أعلن ” فريد رمضان” تجربته ” البياض” وتلاها بـ ” تلك الصغيرة التي تشبهك” والآن ” التنور “.. ليحقق من مدى عنايته بفضح أوار التجربة، وليسأل: هل حقق حضور الروح بصقل ما يتجسد منها وينبري بالهتف شاهدا على ما يحدث.
لتقرأ ” التنور” لك أن تتمهل وطبيعة الحدث حيث تتوازى لوحة العرض وهدير تداعيات لأقنعة تشبهنا، لنرى ونصغي في آن. لضحايا تسرد بطولاتها ليصل العويل.
وأيضا لك أن تتمعن برعاية اللغة ما يضيء الحدث ويفاجئ الصمت، ترصد حميمية التواصل وعناصر روائية استطاعت أن تشمل معاناة ما قلت الجمر وهي تلهو بتنور الأرغفة.
ومن الصعب إغفال المراهنة التي تعرض لها ” فريد رمضان” وهو يكتب نصا روائيا، أراد من خلاله تقديم تجربة تعبر عن الواقع المعاش، دون الإخلال بجمالية العناصر الإبداعية الأخرى، والتي تأتي الصورة الفنية واللغة الشعرية في مقدمتها، دعوة مكونات الحياة لأفق النص بسماتها المحلية من ملامح وأصوات، بيوت، غبار، نباح وحسّ إنساني يتدفق كل صباح ليضيف دفئا لمشاهد الرواية دون تعطيل لطبيعة التناول الذي يسعى لتحقيق اتزان ما بين شاعرية البوح وتلقائية السرد، ليكتمل المشهد المنسي في تجربة الكتابة.
هكذا: ” خضوعا هذه أرض صغيرة تزهو بدمها، خضوعا، خضوعا، تحمل في فيئها سنينا مغمورة بالحلي، بالأحجار الكريمة، بسبائك اللؤلؤ، بعويلها الفاحم. خضوعا، خضوعا، ها هي تفتح رخام عزلتها لبطش الغزاة”.
لنرى ” التنور” إضافة تمثل تحد فني يراوغ بين لغة منتقاة برفاهية وتداعيات عنف المجابهة الإنسانية بين كائنات تغزوها قسوة المنفى الذي يقاول بانكسارها المؤقت وكيد العالم.
كتابة تسلك غمار المسكوت عنه، والملغي من ذاكرة المنفى.
” أعرف أيها الأصدقاء لأنكم لا تصدقون هذه الحكاية، لكم أن تسألوا مصطفى ابن الصياد حسين، الذي يقرأ لي رسائلهم. ماذا تريدون أن أقول لكم؟ أي خبر منذور لموتهم في غربة بعيدة، أي ريح قاسية تعصف بهم؟”.
-2 –
” أي فتنة تدعو للارتياب في هذه اللحظة؟”.
شيخ الوقت
هو شيخ الوقت “أبو يزيد البسطامي” المتصدر لمعارج الحكمة والرؤى التي لا تضاهى، في وقته حيث عمت الفتن والمهالك، وفي كل الأوقات حيث لا تزال، هو العارف المفتتتن بالمجاهدة الغنية بالوصل، كما يصف درجة العارف حين سئل عنها فقال: ليس هناك درجة بل أعلى فائدة العارف وجود معروفة. العابد يعبده بالحال والعارف الواصل يعبده في الحال، كما قال عنه ” الجنيد بن محمد”:
الناس يرتاضون في ميادينهم،
فإذا بلغوا ميدان أبي يزيد هملجوا
قول فيه الكثير من العمق في وصف حال الشيخ الذي”صارت أنملته عريضة من كثرة ما كتب” في عصر تلاونت فيه الملل والأحزاب، وقت اتصفت فيه الكتابة الملازمة للتجارب الصوفية بالبعد الفلسفي الغائر في تفنيد المعنى، المعنى بمعنى عدم المعرفة (كلية المعنى) وليس المعرفة المجانية المتعارف عليها، اجتهاد نحو البحث عن صيغة أخرى لليقين، مداولة الشك، كشف المستور، تنوير الرؤى الباطنية بالهتك الدائم، هكذا كان الحال، عندما تتحول الحياة بأكملها لأتون حي لصهر التجارب الانسانية بحمى البحث عن النور الأزلي.
كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
تكلموا ممزوجاً وأتكلم صرفاً.
الناس كلهم يقولون به، وأنا أقول منه.
من نظر إلى الناس بالعلم مقتهم، ومن نظر إلى الناس بالحقيقة رحمهم.
من باع نفسه كيف تكون له نفس.
العارف لا يكدره شيء، ويصفو له كل شيء.
في رؤى مكثفة، مقطرة بالصبر والصقل المنير، تبدأ الكتابة مسراها، حيث التجربة أزهى من النتيجة والطريق أبهى من الوصول، تجربة الشعر الآتي من حكمة التصوف يتباهى بقدرته على إدهاشنا في كل حين، لا نمل من معاينة تدابيره بل نتواصى على إعادة معاينته، التجربة الشعرية لا تصدر من الذاكرة الثقافية أو الاشتغال الذهني كما يحدث الآن، هي ليست رصف حروف تتشابك في مصادفات الكلمات، بل تجربة روحية عميقة، هي مبتلى الجسد المتشظي برؤى الروح، جسد مهلوك من شدة الحدوس، محنة التصاوير الذي تتوارد على شفتيه ما أن يبدأ تلاوة الأعماق.
كيف الطريق إليك
قال: دع نفسك وتعالَ.
لا يشكونَّ قلب العارف وإن قطع بالمقراض.
كن فارس القلب، راجل النفس.
أنا كل السبعة.
دق رجل الباب على أبي يزيد فقال أبو يزيد: ماذا تطلب! فقال: أبا يزيد. قال أبو يزيد: وأنا كذلك في طلب أبي يزيد منذ عشرين سنة.
إن لوائي أعظم.
البحث الحثيث في أسرار النفس هو مسلك العارف، وهذه التقانة هي التي تنير طريق اليقين والمعرفة المبشرة بالحكمة والمحبة، عندما نقرأ ما كتبوا لنا، لا نتوه في البحث عن المضامين المراد سردها لنا كما نفعل الآن مع الحديث من الشعر أو السرد، لكننا نقرأ.. بصمت الممسوس بالذهل، ثمة كشوفات أنيرت لهم غلفت الكلمات بسحر الرؤية اللامتناهية الحضور:
من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل.
سراج، بالفعل، يحتاج الذاهب في طريق المجاهدة الروحية للبحث عن الحقيقة الكامنة في أقاصي الروح عن سراج، ضوء الحكمة، مشكاة النور.. نور بكل ما في القلب من خبرة الروح.
في مقال كالذي نحن ببابه، من الصعب أن اكتب أكثر، من الجلي أن نصغي معاً:
المحبة هي استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك
العارف ما فرح بشيء قط، ولا خاف من شيء قط.
غلّقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح.
العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
الزاهد يقول كيف أصنع، والعارف يقول كيف يصنع.
لولا اختلاف العلماء لبقيتُ متحيراً، واختلافهم رحمة.
قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟
فقال: ببطن جائع وبدن عارٍ.
أرجو أن تعتبرني حلماً
قال قبل الموت:
“أرقد على الشرفة وكأنني أرقد على طبل يقرع المرء عليه من الأعلى والأسفل، بل من كل الجهات. وأفقد الإيمان بأنه ما زال يوجد هدوء في أي مكان على سطح الأرض.
لا أقدر أن أسهد، ولا أقدر أن أنام، وحتى لو ساد مرة هدوء بشكل استثنائي، لا أقدر أن أنام بعد الآن، لأنني محطم للغاية. كما أنني لا أقدر أن أكتب ولا أن أشرب، ولا أقدر أن أتحدث مع أحد”.
عندما دفن جثمان “فرانز كافكا” في “براغ” عام 1924 لم يكن قد سمع بهذا الاسم سوى أفراد قلائل، وبعد وفاته بعشر سنوات بحثت عنه الدائرة الحكومية كي تسلمه وثيقة تثبت إنهاء وضعه بالنسبة للخدمة العسكرية.
– لقد أبدع أدبه الذي جعله: “الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن لا نستطيع فهمه من دون كافكا”. وأهم روائي في القرن العشرين خلال أحد عشر عاما فقط ونصف العام.
في عام 1988 بيعت مخطوطة “المحاكمة” في المزاد العلني في لندن بمبلغ 1،1مليون جنيه ، وقد ابتاعتها حكومة المانيا الاتحادية بعد أن كانت قد رصدت مبلغ 2،3 مليون جنيه من أجل شرائها ، وكان الألمان يعتبرون الحصول على هذه المخطوطة مسألة كرامة وطنية.
“ذات مرة أيقظت “دورا” في المصحة “كافكا” الذي كان ينتحب وهو نائم، فهمس إليها قائلاً: من الحياة يمكن للمرء بسهولة نسبية أن يخرج كتباً كثيرة، لكن من الكتب لا يمكن للمرء أن يخرج سوى قليل من الحياة، قليل جداً”.
عندما وصلتني ترجمة” الآثار الكاملة” التي أنجزها عن الألمانية الكاتب والمترجم السوري إبراهيم وطفي، خفت من قراءة الكتاب الذي – وهو الجزء الأول- يناهز الثمانمائة وخمسين ورقة، تعتني بإيراد كل ما وجد وحقق لغاية النشر من كتابة حول إبداع “كافكا”، بل حول كل شيء عانقه طيلة حياته.
عادة يحدث أن تقرأ رواية ما، وتتأثر بها، وتظل تثير دواخلك بعض الوقت، حتى تنتقل لتفاصيل الحياة التي سوف تلهيك عنها بتراكم الأعباء، هذا عادة ما يحدث، لكن عندما تقرأ رواية واحدة لكافكا، عليك أن تودع ذاتك قبل الرواية، لأنها لن تكون ذاتها بعد القراءة، لسبب يكمن في عنف موهبته القادرة على تغييرك من الداخل، إعادة صياغة أفكارك، خلخلة رؤاك، شحذ أحاسيسك، تحريف الجهات، هز ميزان النظر، العديد من التبدلات تخضع لها، فما بالك إن كنت أمام تحد خارق يضعك في مواجهة كل شيء يتعلق بكافكا الذي يقول:
– “إن لم أنقذ نفسي في عمل، فإنني سأهلك”.
المخيف في هذا الكتاب، هو اشتماله على بلورات معرفية لا متناهية في الصغر، تلتئم شيئا فشيئا بفعل القراءة والتفحص لدلالات الحالات التي نشهدها، ويشير لها كافكا ورفقته، وكلما تحصلنا على بلورة كبيرة الحجم تكفي ليتحصن بها الوعي، شاهدناها تتهشم ثانية، أمام معلومة أخرى تتضاد وحصيلة المعنى الذي كدنا أن ننجزه.
ذلك لقدرة كافكا المذهلة على إثارة الشك وتقليب اليقين، إدراكه ومحاورته لعوالمه الحياتية، والكتابية التي تحدث شروخاً عديدة في ثوابت المعارف، إن فعل تحدياته الإبداعية لا يكمن في مجابهته للإبداع أو الحياة، بل بينهما كضدين متحدين، وبينه كجسد وحيد.
في يومياته كان حريصا على تدوين مراحل كتابته الإبداعية، كل ليلة:
الكتابة: “لا يزال الليل ليلاً أقل من اللازم، من أجل الكتابة أحتاج إلى عزلة، ليس مثل زاهد، هذا لا يكفي، وإنما مثل ميت”.
العائلة:” هي الصلة القسرية الوحيدة التي لا يمكن فسخها”.
البيت:” سجن أقيم لي خصيصاً، وهو أكثر قساوة لأنه يماثل بيتاً عادياً لا يرى فيه أحد- غيري- سجناً”.
قلقه الإبداعي وندرة النوم:” صحيح أني أنام، لكن أحلاما قوية تدعني مستيقظاً في الوقت نفسه، إلى جانب نفسي أنام، بكل معنى الكلمة، في حين أروح أنا نفسي أتصارع مع الأحلام، لا أفعل شيئا غير مشاهدة الأحلام، وهذا أمر متعب أكثر من اليقظة. عند الفجر أطلق تنهيدة في الوسادة لأن كل أمل قد ضاع بالنسبة لهذه الليلة”.
محاولاته للانتحار: “قفت طويلاً إلى النافذة، وكان يطيب لي مراراً أن أفزع الجابي على الجسر بسقوطي”.
حين يحيا كافكا، يكاد أن يتحول إلى فعل الكتابة ذاتها، بمعنى قدرته على التشيؤ والتحول الذي يزيح خصائص الكائن عنه، ويهبه لطقس إبداعي سحري وسري في آن، من الصعب تفسيره أو الإندغام الكلي به، هذا ما يتكشف لك، عندما تتابع سيرته ويومياته بالذات، تتيقن من كونه لا يعرف معنى له دون الكتابة، ولا يتعلق أو يكترث بحقيقة أخرى غيرها، ثمة تجاسد كلي بينهما، هذا الاشتراط والاحتراس الإبداعي، بلور موهبته لتنجز التحول العميق في وقت قصير جداً لا يتجاوز أحد عشر عاماً.
كتب صديقه روبرت:” يمثل هذا العمل جهداً هائلاً، ليس روحياً فحسب، وإنما هو نوع من معاودة لقاء ذهني يؤثر فيه ويهزه، بحيث تسيل دموعه طويلاً على وجنتيه، ورغم حالته الرهيبة، فإنه يرغب في مواصلة تصحيح “فنان الجوع” وإن كان مقتنعاً بأن هذا العمل سوف يثير الاضطراب في نفسه. لقد قال لي: ينبغي على أن أعيش الحالة من جديد، إن حالته الجسدية، التي يموت فيها جوعاً مثل بطل قصته البائس، هي فعلا حالة أشباح”.
كما قال له:” أرجو أن تعتبرني حلماً”.
الكتاب المبين
دواؤك فيك وما تشعر
وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر
علي بن ابي طالب عليه السلام
في تاريخنا العربي ثمة طرق متعددة لانتهاج الحكمة الناهضة من تجارب الحياة، حكمة نيرة، متقدة بالمعارف المتعالية من مقامات الوصول، رؤى نقية تضئ الروح.
حكمة محفورة بحروف من نور تشكل سيرة الوعي المتعمق في تعاليم الحياة.
دواؤك فيك وما تشعر، حقيقة اكدتها كل العلوم الانسانية والتعاليم الروحانية، من خلال استلهام قدرة الجسد الانساني وخفاياه على العلاج الذاتي، علم العلاج بالطاقة أحد هذه العلوم ويسمى الريكي ، هو علم ياباني قديم من اصول صينية، ما يقارب 4000 عام ويستند على اكتشاف يتعلق برفع طاقة الجسد من خلال موازنة لمراكز الطاقة فيه، بحيث يتم تنشيط جهاز المناعة في داخل الجسم وموازنة الطاقة الداخلية وتفعيل مراكز الطاقة ليحدث الاستشفاء الذاتي، ويتم التخلص من كافة الامراض الناتجة من انخفاض طاقة الجسم، علم الاستشفاء الذاتي- الريكي- كان منتشرا لدى الفراعنة والهنود الحمر وقبائل المايا وغيرها من القبائل، وايضا لدى العربية وكان يسمى علم اللمسة الشفائية، وهناك العديد من النصوص والاحاديث تؤكد وجود هذا العلم، كغيره من العلوم التي كنا نتباهى بها كالفلك والطب والفلسفة والرياضيات والكيمياء والبلاغة والفنون بشتى تجلياتها، وضاع منا مع غيره من العلوم عندما بددنا النعم والمعارف واتقنا لغة العنف والحروب والنزاعات والصراعات والطوائف بشتى صروفها .. من اجل الغنائم والعطايا ودوام السيادة والتسلط.
ثمة شعوب قدرت هذه العلوم والحكمة وكافة المعارف التي تركتها اسلافها، لذا عملت على اعادة اكتشافها من أجل ان يستفيد منها الاحفاد وليزدان المستقبل بها، علم العلاج بالطاقة أو الاستشفاء الذاتي تم اعادة اكتشافه وتقديمة للعالم على يد البروفسور د. ميكاو يوسوي-1865- 1926 الذي امضى سنوات طويلة من عمره في تعلم اللغات القديمة ومنها اللغة السنسكريتية، بدأ رحلة عميقة في دراسة الطب الهندي القديم وكافة علوم الاستشفاء القديمة ليعيد اكتشاف علم الريكي، كلمة ريكي تتكون من كلمتين “ري” وهي الطاقة الكونية المنبثة في الكون و”كي” الطاقة الحيوية في اجسادنا، الريكي هو اتحاد الطاقة الكونية التي نتنفسها كل لحظة مع الطاقة الحيوية التي في اجسادنا وتتدفق من ايدينا، وهذا يحدث لكل كائن حي في هذا الكون، كلنا نملك طاقة شفاء في ايدينا، وهذا ما يفسر وضع اليد على مكان الألم، الاكتشاف الياباني يتجلى في قدرة الماستر او المعلم على رفع هذه الطاقة الى المستوى الأول ثم الثاني وهكذا حتى الماستر، عندما يتم رفع الطاقة من خلال موازنة مراكز الطاقة في الجسم تتدفق طاقة الريكي في ايدي المعالج ويستطيع علاج نفسه وعلاج الآخرين، بدأ علم الريكي في الانتشار في العالم من القرن التاسع عشر حتى الآن، وبدأ العمل به في اغلب المستشفيات والمراكز التعليمية والصحية الاوروبية والامريكية.
المرء عدو ما يجهل.
هذه الحقيقة هي التي تسند قوى الجهل عندما تستشري، عداوة بالمطلق لعلم لم نتعلمه ولم نصغي لمن درسه ومارسه وتحقق من قدرته على الشفاء ثمة خوف داخلي يتناهض في أعماقنا أمام كل شيء جديد يشي بالتغيير الحقيقي، لأننا نخاف التغيير، نبدأ في الرفض المباشر دون أدنى حوار، وربما تقودنا السخرية ايضا الى المزيد من القهقهات الفارغة من معنى الحياة. لذا تأتي الحكمة وتقول لنا: داوؤك فيك وما تبصر.
البصيرة هي العين الثالثة، الناصية، مركز من جهاز الطاقة في اجسامنا يقع في منتصف الجبين بين العينين ويتصل بالغدة النخامية في اعماق الدماغ، مركز يبث الوعي النقي، وامكانيات الحدس والتخاطر ومهارات عديدة لا تحصى، وكذلك يمد النصف الايمن والايسر من الدماغ بالطاقة، ومنطقة العينين ايضاً، العين الثالثة هي المسؤولة عن الاحلام والرؤى والوعي الحقيقي:
تزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر وانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر.