يعطي الحياة لكل شيء

 

حينما تستيقظ صباحا.
اشكر، نور الصباح. لأجل حياتك وقوتك.
اشكر، طعامك، وبهجة أن تحيا.
إذا لم تجد سببا للشكر، فإن الخطأ يستوطنك.

من حكم الهنود الحمر

 

كلما فتشنا كتب التاريخ وأوراقه المصفرة بحثاً عن حكمة نتشبث بها في هذا العالم الاستهلاكي الأصم الذي لا يصغ لصوت القلب ولا يعرف معنى محبة الأرض، العالم الراكض نحو المال الزائف والجاه المندثر، نحو تغليب العنف من البيت والعائلة حتى ساحات الحرب، حيث يتعالى الدخان مفسراً حجم حقد الانسان على أخيه الأنسان، حيث الحضارة تتصدع على دوي الانفجارات وتلتحف السماء برماد الموت.

كلما فتشت عن حرف رحيم ألوذ به في ليلي الوحيد، لا أجد حرفاً بمثل عطف وحنو وحكمة الهنود الحمر، سكان الأرض السخيين بالمحبة على كل قطرة مطر تهبط من علياء الكون، حشرة صغيرة تحدق من على غصن يميل، غيمة عابرة، رملة وحيدة، خيمة ملونة، قلب ينبض بالحب آخر الليل.

حكمة الهنود الحمر تتجلى في قدرتهم على التسامح والعفو وتعلم الدرس ممن شنوا المذابح وأشعلوا حروباً شعواء لتشريدهم ومحوهم من تاريخ الأرض عبر القتل والإبادة حرفياً، مع كل ما تعرضوا له من قتل واغتصاب وطمس لتراثهم العظيم، الا انهم وهو يدافعون عن أنفسهم لم يتأثروا بصفات وسلوكيات المعتدين الغزاة، بل تعلموا منهم ثمن الحرية، وعلموهم كيف يحترمون كائنات ومخلوقات الله على الأرض والسماء وفي كل انحاء الكون.

هكذا كتبوا في ذاكرة احفادهم العصية على النسيان:

“الطبيعة الأم، لها القدرة الكلية، إنها الخلود. ما هي اختراعات البشر، المدن المتعالية التي تنمو على تخوم الصحراء؟
الأسلحة الفتاكة التي يستعملها، لكي يضمن ويدافع عن غزواته؟
لا شيء غير حفنة من الغبار المنظم، ستعيده القوي الطبيعية إلى شكله البدائي. أهجروا الحصن، لبعض السنوات. تخلوا لأشهر عن المدفع والرشاش، في المرعي. علي الفور، سيكتسح العشب والشوك، الحجر. ثم يأكل الصدأ الفولاذ الصلب.
لمرات كثيرة في سالف الزمان. تكاثرت مدن قوية فوق صحاري واسعة. لم تبق منها اليوم إلا الأطلال، تنتهي بدورها متوحدة بالأرض العذراء دائما.
مهما كان شأن الأفراد الذين يمرون؟ فقط ينفث فيهم الفكر ثم يندثرون إلى الأبد! إذن، أبناء الأرض يستعيدون الأرض ثانية. وتعود من جديد الأزمنة الأولي.”

ثمة رؤى فلسفية غير مسبوقة تجلل كلماتهم، وانت تقرأ تستعيد الدرس تلو الآخر، عمقه يكمن في طبيعته الكونية، كانوا مؤسسين فكرياً ليستلهموا التعاليم المقدسة من احترام كائنات الله في كل مكان، من كونهم يتقصون المعرفة عبر التجربة الحياتية لا من خلال الثرثرة والشعارات كما يحدث الآن، يمارسون قناعاتهم بصدق وحرص على ان يعم الخير في كل الانحاء، حبهم للحياة يعلمهم الاصغاء لها ولدروسها، وما كنا نراه من نقوش وألوان زاهية على خيامهم ووجوههم وملابسهم القليلة هو الدليل الساطع على اكتنازهم بروعة المخيلة والتباهي بحضور الجمال.

كانوا يجتمعون في العراء ويصغون لكلمات الحكيم المتدثر بردائه الملون، أمام النار المشتعلة يتحلقون ونسائهم واطفالهم وحيواناتهم وغيومهم من حولهم ويصغون له:

“أيها الفكر الكبير، صوتك الذي أسمعه في الرياح وهبوبها، يعطي الحياة لكل شيء، استمع إلي.
أنا قادم إليك، مثل واحد من أطفالك الكثيرين، أنا ضعيف … صغير…، أحتاج إلى حكمتك وقوتك.
أتركني، أسير بين الجمال. واجعل عيني تكتشفان دائما احمرارات وكذا أرجوانية كل غروب للشمس.
علم يديّ احترام الأشياء التي خلقت، وأذنيّ أن تكونا مرهفتين لسماع صوتك.
اجعلني حكيما، حتى أتمكن من فهم ما لقنته لشعبي، والدروس التي أخفيتها في كل ورقة وصخرة.
أطلب منك القوة والحكمة، ليس لأترفع على إخوتي، ولكن لأغدو قادرا على محاربة أكبر أعدائي، أي ذاتي.
اجعلني دائـما متأهبا لكي أتقدم أمامك بيدين نقيتين ورؤية مستقيمة.
هكذا، حينما تنطفئ حياتي مثلما تغرب الشمس، يمكن لفكري الحضور عندك دون خزي.”

الجمال أمامي، على أن أمشي.
الجمال ورائي، على أن أمشي.
الجمال فوقي، على أن أمشي.
الجمال من كل جهة، على أن أمشي.

 

 

ًنعرف شيئاً واحدا

 

عندما استهل الزعيم الهندي “سيتله” بدء دفوعاته عن الحياة، كان متيقناً من خلود كلماته عير الوقت، الوقت اللازم لتنهض حكمته عندما تتوالى النوائب على البشر.

في عام 1854 حضر زعيم البيض الكبير من واشنطن للتفاوض على شراء منطقة كبيرة من أرض الهنود الحمر مقابل أرض بديله لسكناهم، لم يدر بخلد الزعيم الابيض انه سيكون امام مواجهة لمعضلة أزلية ناتجة عن تراكم أفعال المستعمر العدائية تجاه البشرية طيلة حياة الأرض.

هكذا بدأ الزعيم “سيتله” الحديث:

” لسوف نفكّرُ في عرضكم أن تشتروا أرضنا. لكنّهُ لن يكون أمراً سهلاً، لأنّ هذه الأرض مقدّسةُُ لدينا. الماءُ اللامعُ الذي يجري في تيارات وأنهارٍ، إنهُ ليس ماءً فقط، بل دمُ أجدادنا. حين نبيعُكم الأرضَ، فينبغي أنْ تتذكّروا انّها مقدّسةُ، وأن كل انعكاس سريع في ماء البحيرات الصافي يحكي وقائعَ وقصصاً عن حياةِ قومي. دمدمةُ الماءِ هي صوتُ أجدادي. الأنهارُ اخوتنا، انها تسكّنُ عطشنا، الأنهارُ تحملُ قواربنا وتسدُّ جوع أولادنا. حين نبيعُكم أرضنا، فينبغي أن تتذكروا وأن تعلموا أولادكم، أنّ الأنهارَ هي اخوتنا واخوتكم، ومن الآن فصاعداً يجبُ أن تكونوا طيبي القلبِ مع الأنهارِ كما لو أنكم مع إخوةٍ. نعلمُ أنّ الرجل الأبيضَ لا يفهم طريقتنا في العيش، وايُّ جزءٍ من هذه الأرض هو بالنسبةِ لهو كأيِ جزءٍ آخر، لأنهُ أجنبيُّ، يجيءُ في الليل ويأخذُ من الأرضِ كلّ ما يحتاجُهُ. الأرضُ ليستْ أختهُ انما عدوهُ، بعد أنْ يفتتحها فإنّهُ يُتابعُ طريقهُ. يتركُ قبورَ أجداده خلْفهُ، وهي لا تعني لهُ شيئاً. يسرقُ الأرضَ من أولادِهِ ولا يهتمُّ بذلك. قبرُ والده وحقوقُ أولاده منسيّةُ. يُعاملُ أُمّهُ الأرضَ وأخاهُ السماء كأشياء يستطيعُ الإنسانُ أنْ يشتريَها، يسلبها، يبيعها كغنمٍ أو كلآلئ لامعةٍ.

جوعُهُ سوف يلتهمُ الأرضَ ويتركُ وراءهُ صحراءً. لا أدري، طبيعتنُا هي غيرُ طبيعتكم.

 

العدائية تجاه الآخر، اشكال انساني مرافق لتنوعات التسلط ونفي الآخر على الأرض وتفاقم أوجه صراعات النفوس والحدود، في المشهد الثقافي نراه يتصاعد معبراً عن وجوده في ثيمات متباينة، كلها تشي بعدم قبول الآخر، ليس المختلف بل حتى المتوافق لكونه آخر فقط.

كلما ازداد الحديث عن الحرية وقبول الاختلاف واحترام الرأي في مجتمعاتنا كلما ازداد رفض الآخر وتعالت العدائية المتمثلة في النزوعات العصبوية والطائفية وغيرها، ويحدث ذلك لأننا لا نحيا الحياة بتصالح مع الذات، مع محن الماضي والحاضر، لا نتعلم من التسامح الذي يجلب الحكمة والمعرفة، لا نكن محبة لأنفسنا، ولا قبول لذواتنا، لذا نستطيع قبول الآخر إذا كنا في عراك دائم مع أنفسنا وعدم قبول لها، عدوانية عميقة متجذرة نحو أرواحنا والكون، نراها تنضح في أول مواجهة مع الآخر، وفي أول حرب.

الأنا هي الآخر، والآخر هو الأنا، هذه حقيقة أزلية، منبع لحكمة الوجود، وجودنا الفيزيائي أساسه الذرة التي تشكل أصغر جزيء في خلق الكون كله، ذرات متجمعة في أجساد، ومن حولنا الهواء والأرض والنجوم والكواكب، كل شيء مخلوق من ذرة أي طاقة للحياة مصحوبة بوعي ملازم لها.

نحن كل واحد، لسنا أفراد أو أجزاء، من يؤذي الآخر يؤذي ذاته، ثمة وحدة لهذا الوجود، هذه الحقيقة أدركها الجدود وعاشوا الحياة في منظومة متحدة ومتوافقة مع كل كائنات ومخلوقات الله، توائم تام يخضع لقانون عالدة كونية: لكل فعل نتيجة سلبية ام ايجابية، الكل مسؤول عما جدث ويحدث وسيحدث، لأننا واحد.

قيم الفردية التنافسية، سيادة الجشع والطمع والإثراء اللامحدود، قيم عززتها الثقافة الرأسمالية ورعتها الثقافة الاستهلاكية، قيم تنخر نقاء الانسان منذ الطفولة حتى يكبر ويتحول الى اخطبوط بشري لا يهتم بغير النهب.

خطاب الزعيم “سيتله” مؤلم ومبهج في ذات الوقت، وللأسف من الصعب إيراده كله:

“كلُّ الأشياء مترابطةُ ببعضها. يجبُ أن تعلموا أولادكم أن سطح الأرض تحت أقدامهم هو رمادُ أجدادنا، كي يحترموا هذه الأرض، احكوا لأولادكم أن الأرضَ ممتلئةُ بحياة أسلافنا. علموا أولا دككم ما علّمناهُ أولادنا، أنَّ الأرضَ هي أمُّنا. كلُّ ما يحدثُ للأرضِ يحدثُ للذين سيأتون الى الأرضِ.

حين يتفلُ البشرُ على الأرضِ، فإنهم يتفلون على أنفسهم ذاتها.

نعرفُ شيئا واحداً. الأرضُ لا تنتمي الى البشر، الإنسانُ ينتمي الى الأرض. الكلُّ مترابطُ ببعضه، كما الدمُ الذي يوحّدُ عائلةً. كلُّ ما يحدثُ للأرضِ، يحدثُ للآتين الى الأرض. ”

 

 

 

مروراً بحياة أخرى

-1-
“إن العالم مكانٌ وحيد، تحكمه الوحدة.
نادراً ما يكون المرور بحياةٍ أخرى شيئاً يشكل ملاذاً من هذه الوحدة.
أو يكون شيئاً ينتصر عليها ويحتلها.
ولكنه أمرٌ ممكن، وهذا ما يجعلنا دوماً نحاول”.
وليد هاشم
-2-
“مروراً بحياة أخرى” هي الرواية الثانية للروائي البحريني وليد هاشم، أنجزها بعد سنوات من صدور روايته الأولى “لم أكن هناك” تلك التي كتبها وهو في الثالثة عشر من عمره.
رأيت المسودة الأولى من روايته الثالثة “رؤى الناظرة من يرمق” على طاولتي تحدق في عمر مضى بيسر تام، وانشغالات حثيثة بحياة لا تتريث أمام الأحلام، رأيت الرواية لأدرك مدى قدرة الحلم على الاتقاد والتحقق أمام طفل اتذكره تماماً كأنه الآن، جالساً يؤلف الحكايا لأخويه واصدقائه، مدى المخيلة هي غرفته، الأحداث خضم سريره، الحروف هواء حجرته، طفل منشغل بالحياة وما يراه يحتدم أمامه على الدوام.
ما أن اتقن نسج الحروف لتشكيل كلمات تتراصف تباعاً حتى بدأ كتابة القصص والقصائد، بدأ بتدوين تدابير مخيلته على الورق، بفرح غامر كان يعرض على ما كتبه ويشترط ألا أغير حرفاً أو أصحح أي خطأ نحوي، كان يود أن يرى ما كتبه كما هو، صافياً كنبع عذب يتدفق من قلبه، لا يهتم بما يراه الآخر من أخطاء بل كان يستمتع بحدوثها ليتعلم منها.
– 3-
“لم أكن هناك” رواية تتقصى حياة طفلة في الرابعة عشرة من عمرها تبدأ من البيت مروراً بعوالم مختلفة تحاور فيها الحياة بكل اشكالاتها من الحرب، العنف، الحب، الخوف، العدالة، الحرية.
مواقف عديدة تمر بها لتضيء لنا المشاهد المعبرة عن أرواح المراهقين القلقة والمتعبة من شراسة العالم التي تواجه نقاوة قلوبهم الصغيرة.
“مروراً بحياة أخرى” هي حكاية ملجأ يضم قسمين منفصلين أحدهما للفتيات وآخر للفتيان، تتعرض المنطقة لزلزال فيتصدع الجدار الفاصل بينهما، يحفر الفتيان في منطقة رخوة من الصدع فتتشكل كوة صغيرة تبدأ منها أحداث الرواية عبر حوارات تظل مسكونة بالتوق للحرية والانعتاق من العجز والخوف، سلطة الملجأ وسطوة المجتمع، حوارات تمس أشد القضايا جرأة وهي تحاور كل شيء يمس حرية فتيات وفتيان تم عقابهم وعزلهم عن العالم:
“.. كان هذا أمراً جيداً في رأيها لأنها أخيراً ستموت الموت الذي تستحقه.. لكنها لم تمت، فقط ظلت مخنوقة، معذبة، ولكنها لم تمت. حاولت أن تتقلب في سريرها المؤلم. لكنها لم تستطع التقلب. كل ما استطاعت فعله هو النظر إلى الصورة البشعة لنفسها التي كانت معكوسة في مخيلتها. كل ما استطاعت فعله هو مواصلة الاختناق. كان الظلام يضيق الخناق على جسدها الضعيف الذي لم يعد يتحمل الألم الذي تشعر به. حاولت الحراك، والهروب من هذا الحلم المزعج، ولكنها سرعان ما أدركت أنه لم يكن حلماً بل هو واقع تعيشه. حاولت الهروب.. حاولت تكسير كل هذا، ولكنها لم تستطع. بحثت عن كل قطرة من القوة في نفسها، وأخذت تجمع القوة التي تحتاجها للكلام وطلب النجدة. مرت الساعات وهي تجمع القوة. أخيراً استحوذت على ما تحتاجه كي تفعلها، وكي تهرب من هذا الظلام الأزلي. أخيراً أطلقت ريم صرخة قوية، عميقة، مدوية وعنيفة من سريرها الذي استلقت عليه. هزت ذبذبات صرختها جدران الإصلاحية”.
-4-
ذات ليلة، حدثني “وليد” بما يتوافق بمحنة القول:
“الكتابة متعة خالصة، لا تتحقق الا حين العثور على الكلمة التي تفي بمبتغانا التعبيري، حين ننتهي من الجملة التي تفضحنا وبالتالي تعبر عنا، الكتابة شأن خاص، بكل ما تحتمله من معرفة وحكمة وموقف إنساني، لا علاقة لتجربة الكتابة بكل هذا اللغو المسمى حضوراً، مجداً، انتشاراً، مدحاً، ذماً، قبولاً أو رفضاً، حتى سعي الآخرين نحو محافل الاحتفاء أو بلوغ العالمية في أفظع صورها، ما هو إلا تكريس لخديعة “الإيجو” المستحكم فينا، يتوجب علينا ألا ننصاع له، ونحن نسرد ذواتنا نحوهم، علينا أن نكون بجدارة الحرف الذي لا يكترث إلا لقيامه”.
شهادتي ليست مجروحة في “وليد” لكوني أمه، لكن حروفي مجروحة تماماً.. لكونها تتحدث عنه للمرة الأولى.

هكذا رآها

(1)

أنت هذا الحجر المفتوح

هذا المسكن الُمخّرب

كيف يمكن الموت؟

ايف بونفوا.

(2)

لكونه خليل العزلة كتب وحيداً، في غرفة أقل ما يقال عنها باردة، موحشة ومحاطة بعنف قصف لم يراعي فتنة بيروت، مات قتلاً، لم تتسنى له الحياة، فأرداها بعيداً عنه.

أمام طاولة يمتد بها الخشب، مصابة بورق يهّدر كالبحر، وقلم يحتّدُ كصارية تتوق لمراوغة العصف، اتكئ “الشاعر خليل حاوي” على جسد ينوء بالرحيل وحدق بما يفيض من عينيه، كان يكتب:

“عندما ماتت عروق الأرض في عصر الجليد

مات فينا كل عرق

يبست أعضاؤنا لحماً قديداً

عبثاً كنا نصدّ الجرح والليل الحزينا

ونداري رعشة مقطوعة الأنفاس فينا،

رعشة الموت الأكيد.”

هيمن يقين الموت كملاذ أخير، وانتقى شاعراً توحد بحب الحياة حتى الفقد، والشعر طريق لا يصل إلا ليقين القبر الكامن في نقطة تختم آخر الكلام، احتمى هاوي الحرف بآخر الجسد.

طفل لم يكبر لئلا يتعلم من سادة العائلة والبلد – فيما بعد – عنوة الطاعة، طفل أتقن قراءة أعماقه المبتلاة بالصعب، وميل الشك في كل ما يجلجل حوله من شعارات ووصايا وقيم تتبدد أمام براءة السؤال، وتتهدم كلما أمعن النظر، ليرى وطناً يتقصف ومستقبلاً لم يتوهم به.

طفل توجع في عالم لم يشفق على قدمين يتيمتين “لبناء “صغير، مغمور بالحريق:” و ما زلت أذكر الحذاء الذي كان ينضح بماء الجير فيؤثر في جلد رجلي تأثيراً قد يبلغ حد التفسخ.” لم ينس أن يكتب، أن ينزع الشوك من ذاكرته.. واحدة تغري الأخرى:

“مرض والدي ولي من العمر اثنتا عشرة سنة، وكان مرضاً عصبياً موجعاً، ضاقت بنا سبل العيش فتحتم علّي وأنا كبير أخوتي أن أترك المدرسة وأبدأ العمل، ومن أوجع الذكريات أنه كان على أن أحمل الحجارة في بناء “البلوكاج “بين الطريق والرصيف، الموجع في الأمر توقف زملائي الطلاب عن التحدث معي، في أيام الآحاد والأعياد، ألزم البيت ولا أبرحه لأنني كنت أفتقر لثوب يصلح أن يلبس، وكنت أحس تلك الأيام بكآبة وسأم وكنت أتسائل: لماذا تزوج أبي وأنجبني؟ “

حتى حاز على الدكتوراه من كمبرج عام 1959 حول “جبران خليل جبران “ظل رنين السؤال يتصدى له كل منعطف واجه فيه رعونة الحياة، وهو ينحت الكتابة بصخرة الروح، يصدر نحوهم: نهر الرماد -1957، الناي والريح 1961، بيادر الجوع – 1964، ويتهالك نحو ورق لم يشفع لقلب وحيد:

“ظلت الطباع الجبلية التي نشأت عليها تؤكد ذاتها بعنف يبلغ حد المغالاة في مجال الخلق الشعري “.

قبل الحرب، بكى “ليالي بيروت” كاشفاً ما تحدر من هدم ودخان لم يعبأ بضوءه الشريد:

“في ليالي الضيق والحرمان

والريح المدوي في متاهات الدروب

من يقوينا على حمل الصليب

من يقينا سأم الصحراء،

من يطرد عنا ذلك الوحش الرهيب

عندما يزحف من كهف المغيب

واجماً محتقناً عبر الأزقة،

أنَّة تجهش في الريح وحرقه. ”

منذ أوائل السبعينات انضم خليل حاوي لغرفته، لا يغادرها، منقطعاً عن الآخرين، لائذاً بنفسه، يُحيها حروفاً متى ادلهمت نوايا الذاكرة وتحتمت عليه الكتابة، ويذيبها حسرة كلما أشرفت عليه النوافذ، ليرى الطريق ذاتها لا تبلى والمارة ينهشون الأرصفة، العاطلين عن الصمت يعمرون المقاهي بزفير الثرثرة، حبر المطابع يلون الهواء بالضجيج، وهو عالياً يرمق الغيم.. بقميص يرتعد.

هو الحاوي كل التعب، لم يشفق على ذاته لتهدي الأصدقاء بعضاً من عبئها، ولكنه اختزن الألم كما وحده.

فَقْدُ وردة القلب كان عسيراً عليه، أتاح لها البوح وحيداً دونها،

لتبالغ بحيرته ذات ذاكرة”سألته: عندك كل هؤلاء الأصدقاء الأوفياء وتقاطعهم؟ فأجاب: لا أستطيع زيارتهم بحرية لأن لهم عوالهم وأخشى زعزعتها “.

الحرب أجهزت على ما تبقى من حرير الصلات بينه وشراك العالم، لم يعد يستطيع الذهاب إلى “شويرة” ليرى أهله، المطاعم التي اعتاد عليها أقفلت، أغلقت أمامه الحياة…عدا مخالبها.

ليشهد الأرض مضرجة بالجثث، والقذائف تزلزل ليل الشعر، بين خانق الملاجىء وارتجاج غرفته، كان يسرف الوقت ويأس مدو.

تتقاطر حوله الضحايا والقناصة يرصدون خطو المعابر، بيروت ما تبقى، يجتاحها الغزو الإسرائيلي بشراسة بالغة، بيروت… يراها تصعد كملاك أخرس عتبات الموت.

“في خلايا العظم، في سر الخلايا

في لهاث الشمس، في صحو المرايا

في صرير الباب، في أقبية الغلة

في الخمرة، فيما ترشح الجدران من ماء الصديد

رعشة الموت الأكيد. “

قبل أن ترتخي أصابع للفرار، ويندفع الرصاص نحو جمجمة تصدعت طويلاً قبل أن تنهمر، قال بألم:” حينما استرجع قصيدة “الجسر “أحزن، لقد أعطيتهم عمري وذهبوا عنه، وإذا قرأوا القصيدة أو تذكروها فلا يصرفون عليها سوى دقائق” هكذا كتب الجسر متحدياً حسرة الحب:

“يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيداً

من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق

إلى الشرق الجديد،

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيداً.”

أخرج المسدس من انتظاره، ورفعه نحو صدغ يترقب فزع الأصدقاء، صّر على الزناد ونظر إليها من شرفة للأفق، ليراها كما كانت دوماً.. فأزاحها عنه ما أن أراح أصابعه.

لتدوي والحرب تنتشي بقتلاها، رصاصة رحيمة.. بلغ صداها كل الشعر، الوحيدة العادلة التي أصغت لكارثة طغت بجسده، لتحنو عليه، رصاصة عبرت جبهة لم تنحني لسواه، لتستقر على حائط عزلته، و “خليل حاوي” يتقدم نحو هدأة لا يجرؤ أحد على المساس بها.

ما تبقى

“قلت في سري، سأتمكن من الكلام على سجيتي بلا قيود. أما الآن فما زال الوقت مبكراً، ولكن ألا يكون الوقت مبكراً في اي وقت. ألا ينبغي أن أجلس ببساطة وراء هذه الطاولة، تحت هذه اللمبة، أرتب أوراقي، امسك قلمي وأبدأ.. ما يبقى.

ما هو أساس مدينتي وما به يصيبها الهلاك، أن لا شقاء سوى شقاء أَنْ لا تحيا، وفي آخر الأمر أن لا يأس أعمق من يأسك لأنك لم تعش.”

بهذه العبارة المفعمة بخبرة الحياة – رغماً عنها – بعيداً عن الحياة ذاتها، أنهت الكاتبة الألمانية المعاصرة “كريستا فولف ” 1929 – “آخر رواية لها “ما يبقى “وأول رواية تترجم إلى العربية بفضل الكاتب “بسام حجار “، التي أنهت كتابتها في صيف 1979و امتنعت عن نشرها لجرأتها في تداول طبيعة حياة الكتابة في بلادها ألمانيا الشرقية، فلم تصدر حتى عام 1990، بعد عام واحد على سقوط جدار برلين وقبل أسابيع قليلة من إعلان إعادة توحيد الألمانيتين.

يبدأ الكتاب بنبذة تضيء ما سوف يأتي فيما بعد: “تعتبر كريستا فولف الى جانب كريستوف هاين وستيفان هايم وغونتر غراس أحد أبز الوجوه الأدبية للّغة الألمانية وثقافتها لفترة ما بعد الحرب العالمية، لها عدد من الأعمال الروائية من بينها: نسيج طفولة، لا جهة لا مكان، حادثة طفيفة، قصص يوم واحد، ثلاث قصص غير معقولة ومشاهد صيفية.

طوال أربعين عاماً ظلت كريستا فولف تنمي ولعها بما أسمته “ أدب الذات “ الذي يستلهم قيم احترام الفرد و تفتحه الذاتي في ظل الحلم بالحرية و بالعدالة الاجتماعية، تعرضت الكاتبة لاتهامات الهيئات الثقافية الرسمية و الحزبية بأنها استبدلت ماركس بفرويد و بأنها انتهكت قيم الواقعية الاشتراكية بإبرازها لقيم “ الفردية”، و نصحها ناشر كتبها بالتوقف عن الكتابة، بالإضافة لسلسة من المضايقات التي أدت لاستقالتها من “ اتحاد الكتاب الألمان “ بعد 12 عاماً من العضوية الناشطة، لتواجه “ الصدمة الحاسمة” بخضوعها لمراقبة دائمة و تعقب من قبل “ ستازي” جهاز الشرطة السرية الألمانية “، و لتكتب لها و لنا ما تبقى.

تنهمر الرواية بمنولوج داخلي طويل، يأخذ وقتها كله والمتمثل في يوم واحد، تنتقل فيه الكاتبة من طاولتها حتى تقترب من النافذة وببطء تزيح الستارة لتحدق فيمن يحدقون بنافذتها، لتصف لنا حال الأسيرة وهي تتحرك في بيتها المداهم بنظرات تنبعث من السيارة الخضراء المثقلة بأجهزة التصنت، هكذا تشرب قهوتها وتكتب بصعوبة بالغة لأحاسيس مريبة تنتابها، تبدأ في سردها: “أتحسب إنني أجهل هذا الأمر؟ أتظن أنني احسب نفسي مختلفة تماماً؟ النقاء، الحقيقة، اللطف، الحب؟ أتحسب إنني لا أدرك

مرادهم؟ بل أدركه، يريدون أن أصبح مثلهم، لأنها البهجة الوحيدة المتبقية لهم في حياتهم البائسة: أن يجعلوا الآخرين على صورتهم هم “.

تجسد الرواية في محورها الأساسي طبيعة هذا التضاد، بين هيبة فعل الكتابة وهيمنة الرقابة والرصد، يتجلى كل هذا ضمن آلية من المتناقضات تتحملها الكاتبة ضد هوس التدمير

المرصودة له من قبل مؤسسات السائد، ذهنية القامع موهبة تعلن للعالم ما يحدث، والأهم تدمير ذاتها المبدعة بما تمثله من رؤيا إنسانية، فنية تبتدع طريقة خاصة لحياكة تجربتها.

الرقابة الفعلية التي تحرس بيتها طيلة الوقت، لعبت دوراً في تهديد حريتها الداخلية، مما دفعها لإعادة صياغة علاقتها و كل تفاصيل الحياة، من أثاث البيت الذي بدت ترنو إليه طيلة الوقت و هي تفكر و تتأمل، حوارها الصامت و زوجها المقيم في المستشفى، ابنتها في المدرسة الداخلية، أصدقاؤها، جهاز الهاتف الذي أصبح مصدراً للذعر، و هي تعيد ترتيب كل حوار يصلها ملغماً بالشفرات و الرموز: “ هكذا اعتدنا أن نتخاطب دوماً، بعبارات موازية، على هامش القول الفعلي، قال: سيأتي إلى المدينة خلال الأيام المقبلة و سيتصل قبل مجيئه ليتسنى لي أن أسخن الماء لصنع القهوة، و تابع قائلاً: أن ثمة شخصيات مرموقة نعرفها جيداً و نحترمها تنكب الآن على عبارة “ الماء لصنع القهوة “ لاكتشاف ما ترمز إليه من معنى حقيقي “.

هذا المصير المربك دفع الكاتبة لإخضاع كل شيء للمسائل رغبة منها بإعادة اكتشافه وذلك لتدعيم قواها وقدرتها على الاستمرار دون أن تنهار كل نهار تزيح فيه الستارة عن زجاج النوافذ لتهمس: ما زالوا هناك.

كتابة لا تتركنا، لا تدعنا بعيداً عنها لحظة واحدة، فهي تشركنا بذات الشرك الذي تحيا فيه، لنتفحص طبيعة الشباك، لا نتابع أحداثاً تقليدية كما تعودنا و عادي الرواة، لكون “ كريستا فولف “ تغمرنا بما يحتدم بأعماق ذاتها، منذ البدء تعودنا الكاتبة على فن الصمت و الإصغاء بحذر لتدفق الحوار الداخلي القادر على مواجهة العالم كله، دفاعاً عن “تهمة” الكتابة بحرية، لذا تحترف التداعي بانسيابية فنية تنتقي منها تفاصيل ملهمة لتصوير كل ركن في بيتها و قلبها، طاولتها، همومها و ذاكرتها، تلغي المسافة بين الداخل و الخارج، تكسر زمنية الأمكنة، لنرحل و إياها أين تشاء، لنشهد على ما ذاقت من انتهاك و مصادرات طيلة الكتابة.

“اذ ربما كان الأمل يكمن في حقيقة إنني بتُّ لا اشعر داخل شقتي بأنني في بيتي.” “لقد أكد لي أحد الأخصائيين في الأدب الروسي أن أخماتوفا لبثت عشرين عاماً تحت مراقبة متعقب خاص بها ““لابد أن ينتابه الهلع إزاء بطلان تصرفاته، فلو سأل نفسه، بعد تصفحه هذه الملفات كلها، عما بات يعرفه عن هذا الشخص ولم يكن يعرفه من قبل، فلا بد أنه سيخلص إلى الاعتراف بصدق: لا شيء، وإذا واصل سؤاله عما حظي به بعد كل هذا الجهد فبإمكانه أن يعترف لنفسه مرة أخرى: لا شيء.”

“ما يبقى “رواية شديدة الحرص على تقصى كل المشاعر والأحاسيس التي انتابت الكاتبة “كريستا فولف “وهي تدون رائعتها، فكان لنا ما أرادت من طوفان الأسئلة التي اجتاحت مخيلتها المبدعة.

لتبقى وتشهد انهيار ما شيدوا من حجر، وتصدع كل جدار ارتفع، بدءاً من سور برلين حتى كل أسوار العقول المتحجرة التي تتوهم قدرتها على أسر الهواء.

صعاليك العرب

صعاليك العرب شعراء لم يقتدوا بقوانين البادية وأعراف القبائل، لم يرتهنوا لغدر الأرث ولا جشع القوافل لأنهم رعاة صوت لم يقبل مهادنة الصمت، ولا استجداء ظل عشيرة تقيهم عبء الهجير وتخلعهم إذ لم يرضخوا لذل المأوى، فقيل عنهم “صعاليك “وهم صحابة روح تستنكر الضيم كلما انحدر السوط، ليسوا كما أفصح “لسان العرب “في تعريف غادروه وحدهم عندما قال: “الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك. وقال حاتم الطائي:

غنينا زماناً بالتصعلك والغنى

فكلاَّ سفاناه بكأسيهما الدهر

وإلى ما هنالك من التعريفات التي لم تزد على تشبيه الصعلكة بالفقر وبضمور الحال وهزال صاحب المسلك.

ويسترعي صمتنا تعريف هائل بالمعنى، استوفاه اللغويون العرب حين صرحوا بأن “صعاليك العرب ذؤبانها “وعندما تساءلنا عن معنى ذلك، قيل لنا في الصحاح:” ذؤبان العرب أيضاً صعاليكها الذين يتلصصون “وفي القاموس المحيط ” ذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم “حتى فضح ابن أثير المعنى عندما قال: “يقال لصعاليك العرب ولصوصها ذؤبان لأنهم كالذئاب.”

ذئاب أقل توغلاً في الدم من ذويهم وسلالتهم التي أذاقتهم الحرمان كله مغموراً بالغدر، لذا خرجوا لهجير أكثر رأفة وبايعوا الموت علانية كل غزوة يتقدمها السيف وتتلوها أعنه الكلمات فيما قال “الشنفري “:

دعيني وقولي ما شئت إنني سيغدى بنعشي مرة فأغيب

سفراء المهب، نبلاء رمال لم يقبلوا ضغينة من أحد.

قال عبد الملك بن مروان: “من زعم أن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد.”

شعراء أضفوا لسيرة تاريخ الشعر العربي نهج الفرادة من بليغ القول، وهم يتأهبون لصراحة الموت لم يتأخروا عن تبليغ فداحة الشعر.

منهم عروة بن الورد سيد الصعاليك:

دعينى أطوف في البلاد لعلني

أفيد غنى فيه لذي الحق محمل

أليس عظيماً أن تلم ملمة

وليس علينا في الحقوق ُمعَّول

فإن نحن لم نملك دفاعاً بحادث

تلمُّ به الأيام فالموت أجمل.

والشنفري:

أديم مطال الجوع حتى أميته

وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل

وأستف ترب الأرض كي لا يرى له

على من الطول امرؤ متطول.

والسليق بن السلكة:

وما نلتها حتى تصعلكت حقبة

وكدت لأسباب المنية أعرف

حتى رأيت الجوع بالصيف ضرني

إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف.

و أنت تقرأ في تراث الشعر العربي، تستوقفك معالم تجربة مكتنزة بالدلالات، موحية بعمق مؤلم، و هي تسجل فنياً أحاسيس بالغة الرجفة، كأنك تتعرض لها الآن، تجربة شعراء أسماهم المؤرخين المستسلمين لعبودية المصطلحات بالشعراء “الصعاليك “، ذلك التعبير الذي لا يليق بشعراء توحدوا وصمت الصحراء لنزف تجربة شعرية تلمست بعنف درب التمرد الذي ارتأوه لتأسيس رؤيا إبداعية غنية بصيت الإباء والجرأة و مجابهة المفر، فأختاروا تحدي رعونة الحياة خارج القبيلة على الخضوع لخيام تغيب فيها العدالة، كلهم تعرضوا لضيم علاة القوم و بأس العشيرة التي لم تقبل كبرياء روحهم و حداثة كلماتهم التي خرجت عن مألوف المدائح و النواح لتكابد شر الحياة و تفشي معاناة لا يرزح تحت نيرها الحجر.

قيل في أخبار الشنفري:” أن قومه قتلوا رجلاً في خفره، فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم، ولم يفدوهم “، ومن أسباب خروج الشنفرى على ظلم قومه “تلك اللطمة التي تلقاها على وجهه من الفتاة السلامية، لأنها أنكرت عليه أن يتسامى إلى مقامها الاجتماعي ويناديها بأخته.”

كالذئاب انحدروا لحرية الصحراء، ليلاقوا مصيراً وعراً، بلا سند من أحد، خلعتهم القبيلة “فلا تحتمل جريرة لهم، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليهم “، وآوتهم الكهوف والبراري ليبتهلوا بخبرة الطبيعة البعيدة عن قسوة الناس.

المريب في أمر التأريخ كونه يتآمر لنسج الحدث من رؤية ولاة الأمر دائماً، فنراه يهول من وحشية “المارقين” على مرجعية السطوة ويعدد صفات العناد والعنف ولولا الشعر لما تعرفنا على فضيحة التاريخ تلك.

تاريخ لا يرى في سيرة الشعراء غير مظاهر العصيان و التمرد المتمثل في نهب القوافل و الإغارة على القبائل، حتى يصل تشبيه بعض الرواة لهم بالمرتزقة و قطاع الطرق و يتم التعامل و شعرهم كنصوص قديمة تسرد حالهم دون التريث و التأمل لتدوين سيرة ضحايا فتكت بهم قوانين جائرة أردتهم رغماً عنهم لنيل انتقاماتهم شعراً و غدراً ضد القبيلة وحماتها معهم، لنقرأ حياة شعرية مزدحمة بالنقائض، الشجاعة حد التهور، الخوف و الغربة، من العنف حتى السماحة إتسقت ملامحهم بقسوة تنفطر لدى سماع كلماتهم و منها رثاء “ تأبط شراً “ للشنفرى حيث قال:

فلا يبعدن الشنفري وسلاحه ال

حديد، وشد خطوه متواتر

كان لتشردهم عظيم الأثر في بزوغ صور فنية فريدة، لمحاذاتهم كل عناصر الملفى الصحراوي من الضواري والجوارح والنبات والحشرات والدواب، كلها تمثلت في كتابتهم كما ترنم الشنفري:

هم عرفوني ناشئاً ذا مخيلة

أمشي خلال الدار كالأسد الورد.

تلك المؤثرات كثيراً ما نراها تتبدى في قديم الشعر ولكنها تتحقق في كلمات شعراء” الخروج “بحساسية فائقة تنم عن معايشة تلك العناصر حد القدرة على الحديث بروحها.

ومن الظواهر الغريبة في شعرهم انتشار الرجز قبيل مصرعهم واتفاقه مع حركات القتال، فقيس بن الحدادية يقاتل أعداءه وهو يرتجز الشعر حتى يقتل، والشنفري في ساعته الأخيرة حين يضرب أعداؤه يده فيقطعونها يرثيها رجزاً.

في جاهلية العرب تناهب الشعر كشكل وحيد لمكاشفة النفس، العديد من المبدعين، منهم من استبقاه لتدوين مآثر شرفاء القوم وتحبير أخبار حروبهم وأحياناً للبكاء على ما تبقى من الدار والتعريج نحو شأن القلب، ولكن من أسموهم “بالصعاليك “بددوا الفيافي كلها حين اغتنموا موهبة الروح وأسرفوا في تقصي خطى الصحراء.

مصائر تجلو كمين الهضبة

مقاربة لمعسكرات الأبد للمبدع سليم بركات

 

كيف تنهض “معسكرات الأبد”؟

هكذا .. ننهل ثيمة معترك يداهم غفلتنا، داو بأزلية لا تبارى، من عريكة ديكان يناوشان مهب النهار كله في نزاع لا يهدأ ولا ينتهي حتى يتلاشى الروي آخر الحبر.

مرير عراك يلازم تهافت الريش، انتهار مخالب لانقضاض هنا وآخر هناك يتلو انحدار الدم، كل تصدع خفي في بلوى الريش، صراع لا يكف عن إهدار النذير ببلوى مصائر آتية، لتؤازر شراسة محنته، اصطفاق أبدي لكائنين هم “رَشْ” و“بلك” يبدأن معاً – في نهب تصويري بالغ الإدهاش- حفر ملحمة العراء الكردي، الذي يستهل أقداره الأزلية باحتدام ريش يتطاير دامياً، احتدام غافل عن كل المنحدرات التي تشي بغيلة المشهد.

بدء أزل قاتل، عبث يؤجل انتصاراته اللاهية عنه، ولا يكترث بهزائمه المدوية، كل هذا كيداً بقارئ يستبسل وانهمار الوقت ليحدس بما سوف يستبد به، لم كل هذا الاعتراك الذي يفتتح مكيدة الكتاب، ثمت طغيان للعنف لا تفسير له -بادئ الأمر- ينال من أنبل كائنين، ديكان ينتزعان عصب المشهد في ضرواة لا حد لها، تدع القارئ في هول من أمره، ليسأل سهاوة الروح: لِمَ ما يحدث؟

وحين يبلغ التشفي أوج التصاعد لأقاصي هيجة الإحتراب، يدعنا المبدع سليم بركات، وحدنا، لنلج عطف المشهد، لنتعرف على مهارة السرد المغوي من خلال مصائر تتضاد وتتآلف، لتبلغنا صيرورة المصاب الأعظم الذي يعتريهم.

لصعوبة مقاربة إبداع سليم بركات، ارتأيت محاورة النص الروائي من خلال تناول المحاور الرئيسية التي تشكل المشاهد الأكثر ملحمية في تصاعد الحدث، وذلك على مستويين:

الأول:

المصائر:

1- مأوى النسوة بعيداً عن مهوى السر:

في هذا المصير السردي نتعرف على حفاوة نسوة يحتكمن لعزلة مهيبة، وحدهن في هذا البيت المكتظ بهن، يتناوبن قسوة الحياة ببساطة لا تقدر ما يحف بأحوالهن، قدرية تامة تسرد يومهن، يلتهين بمشاكسات أنثوية بالغة الصخب والسخرية، كأنهن يرتهن لأحوال العادية دون أي اضطراب أو حدس بما يتعقب صيرورتهن، مثلهن نضحك ونحن ننهل منتهى الإعجاب بشقاوة المنحدر الأول الذي أتاحه لنا راو السرد سليم بركات – دون أن نقدر طبيعة المنحى المؤلم الذي نحن بصدده- آن نتعرض وهو يضفر الحكي، لمهاو صعبة، تتنازعها أطر مخفية، أقدار سربلة بالملغز، متاه ينبئ بحدوث المشكل، بلوغ العصي على قدرة الوعى، لنتعرف على بواقي مستويات السرد، آن يعيد لنا ذات المشهد مرة أخرى وهو يلاغيه بحدوث لم نرها من قبل، لنتعرف على إحداث مرير، ها.. قد بدأ يصادق قدر النسوة، ها.. قد بدأ يسن منحدر الهاوية الأولى نحونا، نحن الغافلين عن مبتغى الغدر، بعد أن غمرنا بعبث غامر كاد أن يستبيح الليل، ونحن نصغي للهوهن العابث والعاثر بمبتغى الشبق المؤطر في أجساد تتصايح وتتلكأ بغفو الحوار.. حتى استطاب له ما أحدث في غمر النص.. بدأ هدر أحبولة الروي لنتلظى بما هنالك.

يعتمل هذا المصير طيلة النص الروائي، مرافقاً براءة النسوة بانسراح كائنات الطبيعة وعناصرها، لنتمكن من رصد مدى عفوية الحياة، شفافية الروح، رهافة الغافل عن شرور يرسلها الآخرون، وكلما انتقلنا من مهاتفة بساطة وعذرية هذا المصير، لنشهد على بغي وعدوانية المصائر الأخرى، يتعمق في ذاكرتنا شفير المحنة، مصاب اليأس، لذا شكل هذا المراد حافزاً قوياً لإشعال ما سوف يتداخل عليه من سرد مغاير لطبيعة نقاوته.

2- غموض الغرباء:

هنا أحدث الراوي سقطة الغرابة كلها، عندما استحل المشهد لهبوب “مكين” وأختاه “كليمة” و“نفير” وحمال الأمتعة والأقفال، يسمونه الكلب، لا ندري لماذا هم هنا، غير مرام أكيد، إنهم هنا لزعزعة يقين الرواية، كاشفين عن غموض معبأ بالزرابيات والخرائط التي معهم ، ومهمة عصية منها إخراج الكائن الناري، ثمت نجدة استبسلوا لها، لندرك فيما بعد عنف المصاب، وماهية رفقة غموض الغرباء من سكنوا قرب حدود البيت ليهيلوا نشوة للعزلة التي تستبي النسوة، وللمحاذي لوعر النص أيضاً، لكونهم استدراج واع ومنفذ بشكل يبعث القلق وريبة الكشف، طيلة النص، ولا يخفت حضورهم الملغز إلا قليلاً ، حين نفاذ الحبر.

3- هبوب النورانيون:

لقد تأسس هذا المصير من عدة مستويات تتمازج في زمن الرواية بشكل لافت لإحداث التشظي الدرامي. بؤرة الحضور تحققت في الهبوب الأول لأرواح القتلى من الأهل، الأب “موسى موزان” وزوجه “خاتون نانو” وصهره “أحمد كالوا” الذين لا يبتعدون عن رائحة الرصاص الثاقب أجسادهم بدخانه الأزلي، المواكب لتهدل أثوابهم، المدافعين عن طهر الحدود، من قُتل غيلة من نرد اعترى الرصاص اللاهي عن قدره، كأنهم بغتة قتلوا، مأساة أججها القدر الساخر، وهنا نتعرض لمستهل إسطوري بالغ في حشده الروائي سليم بركات، في نزوعه لحدس فانتازي، يتعلق في عدم مغادرة القتلى من الكرد لحدود أرضهم، ولا لسور عزلتهم، ولا لكامن قلوب نسوتهم، ولا لعنف نسلهم، في تدليل بالغ الشأن على حضور الدم المغتال كل غدر، رغماً عن رصاص قساة الغزو.

فيما بعد يتتالى حضور الأشباح أو النورانيين، لنشهد حلول فلول تتبع قائد ثورة عامودا “سعيد آغا الدقوري”، صعود طيوف هائلة ترسل السلالم عالياً، حشود تتناهب المشهد كله، حضور كل قتلى وجرحى العراء الكردي في تطويق لمحنة الهضبة ضمن “قيامة” بالغة المعصية والافتتان.

4- الغزاة:

غرباء أيضاً – يتماهون بعيون زرقاء، فرنسيون، مستعمرون على أرجح القتل، يسحلون العراء- الغافل ببراءة ينوعه – بجرافاتهم، ومداحلهم، زفير إسفلتهم، حديد عرباتهم، وعداوتهم لبداءة المكان القصي، الهضبة الندية اللاهية عن يباس كل أداة للبطش بها، كل هذا الضجيج، لتشييد ممر حربي، لاندفاع طائراتهم التي بالغت طيلة الرواية في حصد كل وريد، كل انتفاض مهد نفضة الدم لاندلاع “ثورة عامودا” وقصفها في آن.

حضور الغرباء امتاز بوصف مريب، متسارع وغامض، عدواني يشبه قسوة اغتصابهم لبسالة المكان، دوماً يمرون من خلال الوصف السردي، كوميض نصل، في رصد دقيق وعاجل كملامحهم، وآلاتهم وشرور مبتغاهم، لذا شكلوا المصير المحرض والمقنع لمدى عدوانية الغز والكامن في أحوالهم.

5-اللغز:

كائن النار، الذي يمثل وحده مستوى سردي بالغ الدلالة وصقيل مرموز خطير، لكونه بؤرة المشكل الذي يربط النص الروائي، فهو اللغز الذي يستدرج حيل الحكي كلها بما فيهم الراوي، نحو سلالة الناري، ذاك المحرض بوجوب انهيال الماء نحوه من الناعورة، ما تاق له الغرباء، وأشباح الموتى، حتى عصا حارس النهر “جوجان بوزو”: الفريد المتلبس بحرص الكرد على حراسة إحدى مسببات شقاءهم، من غير المياه، لذا تهل هذه الشخصية لتشيع الحذر بسماتها اللاذعة، هذه المنحوتة بمرارة لتعميق غور الدلالة تجاه هذا المصاب..

كائن النارة المصير الأعمى، هو الإشكال الذي انبرى الروائي المبدع سليم بركات ليصيب به تخومه كل حرف، وهو لا يكاد يمسه، أو يصفه، بل يدعه غامضاً لجلوة المصير الذي نال نصيبه القاسي من حيرة القارئ، يدعه يتصاهل كمصهر مغوي حتى آخر الرواية، آن تبدى لنا كيف تحول عندما تم إطلاق أسره من قبل حامل الأقفال والخرائط “قرينه في التعب” الذي سأله: اختر جهة تناسبك أنت، ليرد عليه: إلى الشمال إذن، ألن تسألني لماذا اخترت الشمال؟، ليقول له: تختار جهة المياه.

لتنطلق “القيامة” من شرارة أرداها الكائن الناري، وحدت كل طيوف الهضبة وكائناتها وعناصر الطبيعة في مشهد خالب لتطويق انقضاض الغزاة على عزلتهم وأرضهم وكردهم.

6- بهاء الكائنات:

في كل كتابة للمبدع سليم بركات، ثمت هواء يصون حرية الكائنات، بوح حنجرة تحترم حقها في الحضور، لإعلان مكبوتها، ولكن في “معسكرات الأبد” تميز هذا الحق باندفاع موقف فعلي لها، تجاه ما يحدث لسكناها. كان لملاسنة أحوالها، وقعاً مختلفاً، عمقياً ورؤيوياً، بما يميل لتحويل هتفها، برفق، دون عسف، إلى إدانة ورفض لا يقل عن تمرد الآخرين، لتبدو كل الكائنات كشواهد حية على عدوانية البشر وغلواء شراستهم، هنالك مواقف تسترعي الدهش، انتابت كل الكائنات التي أسرف الكاتب في حكمة البوح عن ردود أفعالها تجاه الأحداث، بالذات الكلبان “توسي” و“هرشه”، هيجة الأوز، سحر الدجاجات، احتراب الديكين، الهداهيد.. حتى عناصر الطبيعة – البرق، الرعد، المطر، الأرض. ـ لم تبتعد عن بذل الغبطة أو بعث هزيع الغضب، مما شكل مصيراً يعضد به تفلت المصائر الأخرى.. للتنديد بغزاة الهضبة وهيل تاريخ أهلها الاهون عن قدرة تقتص بمغبة القتل.

ثانياً: المهارات:

“معسكرات الأبد” مكيدة تنجز حال أقوام من الكرد يلتهي الغياب بهم، أمة منذروة لنرد المصاب، غيلة الأبد، محاطة بمعسكر دائم – يتعدد حتى الآن -لينجز لهم بلوى الفقد، هكذا نصاب بسرد مذهل، يصف عسير نسوة فقدن أولياء الحب – ذات أم وأب وزوج داهمهم فتك الرصاص- وهن يغزلن في عزلتهن مناكفة بهية تبدأ من حقل يفيض بحنق الدجاج، حتى ليل يستوي لهن وحدهن، خلوة تتضافر مع تداخلات سردية تؤجج رهافتهن، من هذا البهاء الأنثوي الوديع الذي أتقن مبدعنا حبكة مداه، لإيصال صرخة تدين كل البطش ،المستعر، المتحلق حول براءة لا توصف، ينحاز فيها الحكي الشفيف لمكاشفة كل شيء، رافق تلك العزلة .. كل شيء.. حتى هوى الغبار.

يبدأ التناص والتضاد بين المصائر كلها، ضمن عنف إبداع رؤيوي لم يفلت كامناً يحيا إلا وأجاز له حق الدفاع عن هبة الحياة فيه، ولكي يتضح الحديث، أرى أهمية إيلاء كل مسار حرية الكلام، لكون “معسكرات الأبد” التهت بنزوعات ومهارات إبداعية، لا بد من الإلماح لحضورها الذي أسس لمبتغى السرد، ولي العذر في تداخلات لا بد منها، ذلك للتلاحم والتناغم الذي حدث بين المصائر والمهارات التقنية والإبتداعية… من الصعب فصل حوافها، لاستعصاء النص على الفصل.. للفصل بين أعضائه الحية، والنابضة بهواء الموهبة، الجثة وحدها – كل مشرحة – من لا يستعصي على التشريح، كل فأس يلذ للنقاد من هواة المشارط إيغال فعله، ولكن هنا ـ وهذا ليس تبريراً لفشل ما قد يعتريني، كوني أحاول مقاربة هذه الحياة المحبرة في كتاب.. لا أخفي صعوبة ملاغاة نبضه – ولكنها حقيقة قد تقسو على من يبجل النقد كتشريح منهجي، لا أقوى عليه:

1- مهارة إعادة الزمن:

هنا يتجلى نزوع مبدعنا سليم بركات للاحتيال بزمن السرد، وذلك عبر إعادة المشهد ذاته ليتلو لنا كيف تحقق في أوان مضى، بمرافقة مشهد ثان كان يحتدم به. في هذا النص بالذات تحقق تركيب، ومزاولة للحدوث النصية لم تتحقق روائياً بهذا التعقيد المبهر من قبل، أو على الأقل لم أتعرف عليها كتقنية خطيرة، كأن سليم بركات يؤكد حدوسه التي باح بها، معلناً ذات حوار: على من سأقوض الهيكل إذن؟

و هاهو يقوض هيكل الرواية العربية التقليدية على صدوغ من تحملوا بلواها منذ أكثر من نصف قرن على الأقسى، لذا لي أن أسرف في هذا الملمح الفني المحدث : زمن الرواية زمن ماكر، ذو تكرار مقلق، والمتتبع لسيرة الوقت يتأكد من معاودة ملازمة ذات الفجر والظهر والمساء والليل، ملازمة بديعة وغير رتيبة إطلاقاً، لكونها كل مرة تذهلنا بحدوث لم نرها في ذات الوقت الذي اعتقدناه مضى، كأن المبدع يصر على إبلاغنا بغرائبية الحياة ذاتها التي تحدث للبشر وللكائنات أيضاً وللسماء وللأرض ولكل شيء، يقنعنا باحتمالية أن نغتني كل مرة تعاود فيها المثول، بعصف من الإشكاليات فاتت علينا، هاهي تعاود التحقق بمزيد من السرد الذي لم يطالها آن حدوثها لأول مرة، وهذا ما حقق “لمعسكرات الأبد ”غاية الإمتاع والذهل، لكون القارئ ما أن يبتسم لعودة ذات الزمن مرة أخرى، حتى يجفل سريعاً، وهو يرى ما فاته من ألم لا يحتمل .

2- غواية السر: ذاكرة الكرد:

هنا شأن الكائن الناري، الخفي في عتمة الكوخ، المرافق ما يبعثه من طنين وصدى عويل موجع، سعير يستمر طيلة الرواية، المنبعث على الدوام بصورة تبعث الريب، لقد شكل هذا الونين، منعطفاً لا يستهان به لتعميق الإشكال الجوهري الخفي المستتر، كل ذلك، لشحذ مصائر السرد، ولإغواء القارئ الذي لن يدع الورق حتى يعرف ما هنالك، بالذات للسعي الحثيث الذي رافق غموض الغرباء لإطلاق قيده، وإصرار الأشباح على إهدار الماء نحوه لإخماد أنينه السرمدي.

الكائن الناري هو ذاكرة الكرد التي لا تكف عن بعث الأنين، هو جمرة الفقد العصي على النسيان، هو اللغز المتشبث بعتمته خلف شجيرات التوت بانتظار من يحرر أسره، هومن يفتح بابه – لمن يهبه بوصلة للطريق نحو الشمال- للغرباء: مكين وأختيه وقرينه المثقل بالأقفال والخرائط التي تمثل عبء التاريخ الكردي : ضالته ، هو الدليل لجهة الشمال حيث المياه: مبتغاه – وهذا ما يفسر محاولة “موسى موزان وأهله” لحفر طريق من الناعورة حتى بيته، لغمره بالمياه، لإطفاء حنينه الأزلي – هو السر الذي عندما انفلت ..أشعل الهضبة كلها ليقود طيوف تاريخه، وبأس حشوده من الأحياء والقتلى والشهداء، ليمضوا مندفعين ضد الغزاة، نحو طريق يبدو أقل يأساً.

عند تتبع منحى الرواية، يقطر مبدعنا ببطء قاتل دلائل لا تفشي غموضه بل تشير بحذر له، لئلا يفقد الدليل سحره اللازم، لحث كل المهارات وحيل السرد لتجلوه على مهل. لذا أسس هذ المصير لأعتى المهارات التقنية التي إدلهمت بكل ما عداها، ذلك لمهب الدلات التي اعترت هذا الكائن الناري، التي تصل إلى حد التشظي، ليرى كل قارئ ما يراه بحرية تامة، هل هو ذاكرة الكرد- كما أراه- أو هو اللغز الخفي الذي يفسر قدرة هذا الشعب على معاودة التصدي لمغتالي دمه، كل خسارة اصطلي بها طيلة قرون.. لم تزل، أو هو روح زعيم مبجل “سعيد آغا الدقوري” مؤسس جنة عامودا الموءودة.. مثلاً، مأسوراً يئن بانتظار صحوة الأحفاد نحوه، هذا المرموز يحتمل كل تأويل، مما يتيح للمخيلة أقصى اللذيذ من جن المحتمل.

3- تخليق التوتر:

لتصعيد الغموض البهي، تم تخليق تواتر تصويري وحواري، طغى على كل مشهد أو حوار، ليبدو النص الروائي شديد التعقيد، كلما تنقل من حال لحال، وهنا أشير إلى لزوم مثل هذه المهارة، لكونها تتناسق مع مبتغى السرد ومصائره، لذا أستحق النص إيلائه كل هذا التوتر، لعبته المثلى لإدغام المتلقي بذات العبء، لنسج نبض يتعالى كما خفق المحن، وهذا الملمح الفني اشتغل علينا بمهارة تلتها لنا عدة أدلة : منها طبيعة قلق النسوة الباهر المتبدي في توتر علاقتهن ببعضهن – بالذات “هبة” و”ستيرو”ـ من جهة واسترخاء حضورهن اللاهي بحاضر وديع، ومستقبل يلفه انتظار الغامض من جهة أخرى، كن من يلطفن أهواء الرواية المغالية في حذر التوجس، وأيضاً من يوتر الحدوث في مشاكسات لا تنتهي، يلي ذلك ما إنهال من توتر حواري، شمل : أحاديث الأغراب،النوارنيون، رفقة ثورة عامودا، حتي الطبيعة ذاتها لم تسلم من تصعيد للتوتر، انحدر كل ذلك بارتياب مضلل، يبعث ذات القلق الملغم لذات القارئ، وهنا تألقت “هبة” بعذرية هتفها.. كل سؤال، قلق “أحمد كالوا” و“موسي موزان” بحكمة من مات، بالذات لكونهما حققا حضوراً يقاسم فرادة الفانتازيا حضورها المعلن.

4- نفاذ الحيرة، طغيان القلق:

لتحيا وقت الراوية لك أن تلوذ بالحيرة، كسقط قدري، لا بد منه، حيرة تشمل كل شيء، حيرة تحاذي هيبة يرسلها الغرباء، حيرة تلتبس بإغواء داهم بسالة النسوة، كذلك ما أصاب غفلة العراء من احتدام المداحل والجرافات، حيرة لاستنهاض الصبر من قلوب القتلى، حيرة تجاه الحلول الملغزة لإبقاء ذريعة لاستئجار البيت الآخر، وكل ما رافق ذلك من غوامض – بالذات أثاث الغرفة والخرائط والأقفال والرقع الجلدية – حتى تخبط الأوز في ذهابهن وعودتهن من طين النهر، حيرة لغمت لهو الغجر من داهموا حيلة المكان، حيرة انتابت حوارات الأشباح، والمصير الأعظم للحيرة ناهز حضور المغول الذين تناهبوا المشهد، يفتك بهم ، قائدهم” تيمورلنك” من حث الكلام ليعود إلى قرون من الاغتصاب لهيبة المكان، كذلك التوتر الذي أحدثه البرق بإنارة سفينة تضطرب خلف جبل “الجودي” .. وحدها كانت مزاراً لاحتمال التأويل كله، توتير سفينة نوح-خشب النجاة من الطوفان- جاء في وقت، كادت فيه النص أن يلتهب.. دونها، مع ذلك عمقت حسُّ القلق، اندلاع الطيوف التي تحلقت حول الهضبة، تنتظر الملاذ الذي لاح بقدوم الحلم المستعصي على الموت، من غير “سعيد آغا الدقوري” ورفقته. لنشهد على حالات لا تنتهي، وهي تدلل على حيرة الأدوار، وتيرة أراقت النص كله، لتتناغم الحدوث بهذا المحتوى، وليشتعل تصاعداً هارمونياً لدراما نصية محدثة إلى أبعد مدى.

5- فصاحة الغياب، متاه الحوار:

لقد مهدت فداحة حوارات القتلى من الأهل، مرتكزاً إبداعياً مذهلاً، أمعن في غرابة المعارف، وهنا لي أن أستوقف الكتابة قليلاً، لأحوز على كامن أذهلني آن القراءة، كيف تناهب المبدع سليم بركات قوى المخيلة لتحضير حواراً، لا يستوي إلا للأموات؟

ثمت كلام لا يمكن أن يصدر عن ذات تحيا، خفوت تام للحياة ونهضة خارقة لدلالات لغة الغياب، دوام فصاحة لمذهل الماوراء، التباس من الصعب أن يتجلى إلا لمن مات ورأى ما هنالك، ليعيد مداومة الحياة.

ثمت إدراك ـ حدوسي ـ لطبيعة التفكير المغاير تماماً عمن يتنفس، هجس بوساوس لا يمكن أن تطال الأحياء أبداً، حوار بعيد أن نعمل التفكير بمثله، مجاهيل مغمورة بالغياب.

بعد هطول المخيلة لاستقراء حديث الموتى، هنالك مستقر آخر، لا يقل عنه دهش وبغت، آن نتعرض لحوار غريب، يستقرئ طبيعة تفكير الكائنات، الكلاب والطيور الأوز، الهداهيد، الديكة، الدجاج، لنستغرب من قدرته على استكناه ما يشغل ذواتهم من ملغزات لا تستوي إلا لهم، الأدهى من ذلك، مهاتفة المكان والغبار والغيم والمطر.. وغيرها من العناصر، لم يسلم من ذات المهارة الحلولية أحد.

كل هذه الاستحكامات التقنية، جلاها الكاتب وانجلى به، ليعلن عن موهبة نادرة أيضاً، ولمن يستهوى الاستنارة أكثر بتحقق هذا المنحى، له أن يعاود قراءة محاورات الموتى مثلاً ، وهنا لي أن أومئ : مع كتابة المبدع سليم بركات بالذات، أنا في حلٍّ من الأدلة على ما تأخذني إليه الكتابة حول “معسكرات الأبد”، لصعوبة حرفة التدليل، التي تشبه فصل خلية عن الجسد لإثبات حركة الروح، لكون هذه الكتابة تمثل مهاتفة وعرة، لما أحسست به آن القراءة وعند تحبير الحروف، بالذات أمام نص منحوت بمخيلة قاتلة، كثافة تعبيرية ورؤيا كشفية لا يستهان بحصولها، من الصعب اجتزاء عبارة أو أخرى لتأمين ثقة القارئ فيما يحدث فعلاً، التعويل الوحيد هو إعادة القراءة، لمن يستهوي سبر غواية لسليم بركات لا ينازع عليها.

دمت في شأن متاه الحوار، لي أن أشير لطبيعة يكتنز بها إبداع التجربة، إلا وهو إيلاء الحوار لمنحى ترميزي يثير متعة الشغف، ويشغل العقل في تدبير معناه، حوار لا يؤسس للمعنى بمعناه المعتاد عليه، كما تعودنا – كل رواية عربية يلغي فيها الراوي حرية شخوصه وعقولهم أيضاً، لينوب عنهم بثقيل رغبته في إفهام القارئ مبتغى قصده – لكنه الارتكاز لتضفير الرؤية الفنية التي تتصاعد كل حدث، بجلاء الحالة المستبدة بها، التي لا تعتمد إطلاقاً على مشافهات شخوص الرواية، بل على نفوذ مخيلة القارئ المحاذي بشغافه رئة النص ، قدرته على النفاذ إلى كينونة الذوات المتخيلة التي تؤسس مبتغى السرد، إقترانه بجوانية الأحاسيس، وعذرية المشاعر التي يبلغها الوصف، وهذه مهمة صعبة يتلوها المبدع، حين يقتصد في شأن الحوار إلا فيما ندر- الحوار من شدة الاختزال يتحول إلى مشافهات فلسفية، تراجيدية، عبثية، ساخرة وأيضاً ملحمية – لكونه يستعيض عن هواء البوح المباشر بقدرته الجلية على الوصف وفضح خفايا الشخوص ، تعرية المخبوء، نحت الملامح، تعبئة كل شيء لوصف الماحول، إسراج الصورة الشعرية لمزيد من الكشف الدلالي، توتير الأرجاء، لاستمالة القرب من غوامض الذات، وكل ما هنالك من تقنيات تقف ضد الهذر وسماجة الحوار المباشر.. شأن فن البانتومايم – وعر الإبداع – الذي يتقصى كل عضلة في الجسد لتوصيل ما يحتدم به من مشاعر، هكذا يتأهل مبدعنا بقواه الإبداعية، ليدعنا نستكشف المكيدة دون كلام، لنتعرف على مشافهة الصمت، لنتعرض للإصغاء لذوات تبدأ بالبشر.. لتنتهي بهتف الهواء، استنطاق هاذ لخرس المشهد، يعول على مرآة ذواتنا في صقل صدى صمته، نيل حكمته، لنتذوق على مهل ما يراه هناك.

5-تلغيز الحكمة:

من داوم على قراءة إبداع سليم بركات، لا بد أنه توقن من حدوث كل كتابة بإصرار على ملازمة إيقاظ كل شيء، وهنا أشير لانهمار البوح الذي يداني بديع الشطح لديه، حين يسرف في تقصي قلق دجاجات الدار وولعهن بمكاشفة الأسرار، حكايا السحب وأهوالها، هبوب الغجر ضمن قافلة جاءت لتعري فصاحة السفك لعذرية الهضبة.. لتشكل دلالة رمزية بالغة النفاذ، لنداول شأن الأثرياء من ذوات المزارع وهيجة الغزاة الفرنسين، وهم يداعبون بغائية بالغة التقصي هيل الدلال الغجري المتبذل لهم، المطر ومواكبة حدوثه ملتحفاً بغدر الغيم، كل ما هنالك من طير وعشب ونبت وحجر.. حتى بركة لا يرى فيها الأشباح ذواتهم، ناهيك عن أسر الليل، لمعة البرغل الساخن المسجور بالزيت، هيجة الأوز ورؤى الهداهيد- أدلة سليمان – من اكتنز بدلالات رائجة في منحى الحكمة بالذات، لغة الغبار، فضة الماء المحروس بعصا “جوجان”، ورق اللعب وشططه الفكيه.. كل شيءإعتنى بانحداره نحو “معسكرات الأبد” ليجلوه على مهل.

و هنا ألمح لا لقدرة المبدع على إنابة ذاته لتصير حنجرة الأخرس من العناصر، لتعلن بما هي مبتلاة به فقط، ولكن لتلغيز الحكمة : بمعنى تقصي أحوالها وإهدار مكبوتها حتى آخره، ليأتي مفشياً عن مناب الحكمة، مشافهة مصاب هذه الحياة التي لم تتشكل صاخبة بأحياء مضخمين بهائل الصفات عبثاً، ولكنها تداعت مرهونة لعبء سر لا بد من إعلان هدره ..كل إبداع يراها كذلك، أيضاً لرغبته الحثيثة في الإفصاح عن مدى هوانها، ارتأى مراودة تلك الصفات البدئية، ليتعاون وموهبته على الكشف عن حكمة مثولها، فضح فلسفة تجلياتها، الغور بكنه علاماتها، للكشف عما يتخفى من حكمة تستجير بها، كل هذا…لصد قسوة الغدر العابث بمصيره ومصيرها في آن ..

هكذا يستجلى فداحة الحكمة، مرافقاً حساسية الموهبة لتشف عن وهدها، هنالك تجل إبداعي يلاغي محنة الغبار، نستكشف هوله حين إنداح آخر النص، ليلازم الغبار كمشكل أزلي، كرسول للزمن، مشافهة غاية في الإبهار العليم، تدلل على هذه المهارة التقنية في كشفها للحكم التي تنطوي تحت غلالة هذا الغبار.

كل النزوعات التي حادثت العناصر في عموم الرواية، هلت: لتعميق تلك الصلات الواعية لسبر خوافي الطبيعة وعلاماتها الأزلية..

هكذا أناب الشاعر سليم بركات ذاته، وذاكرته لتصير صدى لموهبة الهبات التي يديرها بعناية تجاه هذا الكون المبجل.

7- ضراوة الاغتصاب:

غير تلك الملامح الدلالية والمهارات التي تمثل ضفيرة الحكي وجمرة الاحتدام، التي شيدت مناح الإغواء الأساسي، هنالك مهابة تتعلق بشأن تعالق المجابهات كلها في آن، اضطرامها، تفشيها بقسوة تدمر كل ينوع أو براءة كنا لها.

يبدأ عسير الردم باحتدام المداحل وهي تسوي العراء الكردي لإرضاء غرور المستعمر الفرنسي، ولتنفيذ خرائط الاحتلال، هنا يشكل فعل القار الأسود الذي أستبد لتسوية ينوع التربة، إخضاع بداءة الأرض الطرية الحافلة بضراوة أخضر النبت، لتتصخر لشأن يستهوي رعونة الطغاة … فعلاً مدوياً، وهو يتكرر بين كل اختلاج روائي وآخر، ها هو الضجيج لا يكف، البراميل المعدنية تصطفق، ملقاة بعبثية مهيبة، احتلال الحديد لسفوح تعصف بطراوة نبضها، تغالي بهتف نبتها الرهيف، دك الطرق بعنف يبالغ في قسر الرمل.. ، لنتعرض والأرض الرمل. اغتصاب شرس، تيقن مبدعنا من حتم الانحياز لتصعيده، ومداومة شراسة سقوطه لإيصال عته عنفه، حتى كدنا نصغي لاحتلال ذات الضجيج لصدوغنا، طيلة وقت الرواية، لنرأف بمياومة عمال مستأجرين، لا يعرفون غير عضل يندك، آن هتك المطارق لعنف الحجر الأبيض، الذي يتلو تاريخ القسر لهم.

لقد شكل هذا النهب ألماً يسحل الروح، كلما انتقلنا من مشهد بهي وديع، لنصاب بمباغتة هذا الاغتصاب العلني المستكبر لطيبة الأرض، ولنزاهة ساكنيها من أقوام لهم بلاغة الحب وعليهم شفاعة القتل.

بشكل ثري، تبلر فعل الاغتصاب في تلاوة سهرات تضم الغجر وأثرياء القرى من الأكراد والفرنسيين، لنرافق مشهداً نافراً يصف حدة الانتهاك التي ترسلها الرغائب، وتباين اندفاعها بين جرأة الفرنسيين الذي يبالغون في علانيتها بعنف، وبين الأثرياء الذي يتماهون بوقار الفحولة، وحيطة الحذر من إعلان النظر.

كذلك التماعات تخللت الرواية، لتشي باختراق المغول لذاكرة المكان والناس معاً، بالذات لكون هذا الحدوث المضني، انزلق من أعالي الصورة في بيت النسوة، وتمادى في تفصيل يصف – عنف -حرثهم الغازي لتاريخ المكان.

النص في غالبه، يداول مشقة الانتهاك التي تجازي الحياة وبداءة عناصرها، تعادي بسالة ناس يقفون بصرامة ضد النسيان، وهم يتعرضون لسيل القذائف.

لكني أحسست بقسوة الانتهار، لترقبي لهو دجاجات تندفعن بفضول لطيف لالتقاط كرات القار من على أول الطريق، ليتعرضن لأقصى العقاب ولنحر لا يتأخر، كأنما جرم الغدر من قبل الغازي لم يغفل عن أحد.

8- إشعال الأضداد كلها:

اغتيال ثورة عامودا، ضراوة الغزاة المحتمين بحديد طائراتهم، نهضة القتلى، شكوك الغرباء، اضطرام الكائن الناري، رهاوة النسوة وخيالهن الضاري بعزلة لا يفسح عن هواءها اللحوح، غير أجيرهن السائق “نعمان حاج مجدلو”: نذيرصمتهن (لهذا الرهيف شأن جميل، قد لا يسعني وقت الورق لأسترسل عنه، ولأستدرك مدى طيبته، هو المتعب من انهيال غبار المسافات، الغاوي زناد الطرق، لكنه بشفافية قلبه وردح نبضه.. كل حب، أحدث ترطيباً غاوياً لخفق النص، لكونه تمايل بمعجز أتلف القلب، ليرسل توله العاشق مغمياً عليه) كذلك جنوح حارس النهر “جوقان” المتعكز على عصى، تندد بمن يتجبر، للإخلال بحصانة نهره، اندفاع الأوز بغرور غامر، تراتب صرعى الثورات المنكسرة، انهيال المطر كنذير شارح على مهل الغيم.. مبتغى الإدانة.. كل يابسة تقسو، صمت الليل المهدور بطنين ينبعث من خلف شجيرة التوت، قوافل قتلى وهزائم رئات لا تنال من عناد دم “سعيد آغا الدقوري”، كل إرث الهضبة، عنف ديكة تصبغ الغيم بدم لعنفوان الريش، حرقة القار، قذائف البارود المزودة بأجنحة من حديد تستبد بسماء الهضبة:

كلها تصاعدت، نحو أعالي المحنة – معضلة الكمين- لتمثل مفاصل احتدام روائي فاعل، ينتقي منه مبدعنا سليم بركات، ما يتوالى على صراحة الحبر لديه.. ذات الوقت لإحالته – كل مشكل على حده – إلى سعير ذا مذاق خاص، يلتهب لتصعيد أوار النص، وتحفيز النقائض كلها لتشتعل بخواصها، محاولاً بفوز بالغ، إعلان الفداحة كلها، ليشهر نصل ذاكرة له، لم تعد تحتمل أكثر : مدى خطورة هذا العراء الكردي الذي يتصدى له، مدى قسوة مبتغاه منذ طفولة كانت له، كذلك تسديد طعنة – تجيدها حرية الأصابع كل حبر- ضد تاريخ لا عدل فيه، لفضح حياد القاتل فيه، هكذا يستبد ذا الموهبة سليم بركات بوطأة ذاكرته، لحفر عبء روحه على صخر زمن لم يرأف به، لإبلاغ راهنه العاصي، بمدى بلوغ محنته أوراها الصعب، أيضاً لتبليغ الآخر- الشاهد الأصم- بصدأ صمت يثقل عليه، لا يجوز له .

هكذا يدعنا لنسأل، كل نص شعري أو روائي: كيف تسنى ولم يزل، لذاكرة وجسد هذا الشعب قدرة لا تضاهى على رفض الموت، ردَّ النفي، صد زناد يتوهج برصاص للمحو؟ نسأل: لإبلاغ نفضة الحياة كم هذا الإرث عصياً على السفك، كم هو قادر على التشبث بمخالب تغرس محنتها بأوردة له، يحيا رغماً عن القتل، ليعانق ما يحنو على الروح: من غير الجبال نديم دمه الوحيد.

9- ضد النسيان، دم لا يجف:

هنا أتوقف أمام ظاهرة انسلال الحكي من عمق المشهد، ليصل بنا الراوي إلى وقيعة وأخرى تعمق شأن الروي، بدلالة تأريخية تثمن قيمة السرد، الأمثلة لا تحصر ولا ترد، من الصعب ترديد سيرة وقعها لكونها تحتل أغلب المشاهد، وهذه علامة مخلدة، امتاز بها سليم بركات دفاعاً عن دم تاريخ لا يجف، دوماً وفي كل عمل روائي وشعري له ، يتأصل هذه الامتياز بفرادة عالية، لكنه هنا توطن بمتاع خاص، بمذاق يليق بحسرة القلب وحده، آن يصلنا متاه الحكي بحدث تاريخي مفعم بالألم وبجسارة الأمل، ليدعنا نراه منتضياً منصة الشاهد – غفير القبر -لندرك ما حدث لماضي كرده من سفك بالغ.

كل كتابة له، لا تنسى فيها أصابعه أن تنزاح قليلاً عن صهوة الورق، لتدع لحديد الذاكرة حرية الاقتصاص.. تدعها لتتلو تلاوة الذبح، في “معسكرات الأبد” أفجعنا، عندما انسل من بهجة حوار ذو حبر فكيه، ليصف لنا كيف انحاز “موسى موزان “ وصهره “أحمد كالوا” للالتحاق بصاحب ثورة عامودا “سعيد آغا الدقوري” لنتكشف على منهل فجَّر الدم كله، بجرأة عصب يدون لتاريخ أسلاف احترفوا بحرية الروح فن الدفاع عن حدود الجسد وهواء الرئة، اندفاعا من قبضة لليد، حتى مصاهرة بارودة واحدة بذات الأصابع، ناس مجدوا ظل قائد مبجل، قاسى الهزم، التشظي تحت وابل القصف، ليعاود رعونة القتال، عندما عاد إلى الهضبة بلا جسد، بل كروح تعول على استنهاض قتلاه وقيد أسراه، راهن على رنين الجرحى أيضاً ، ليراود محاولة أخيرة يعتروها أمل اليأس ، لدوام النصر على أعداء مثقلة بعتاد الأرض، لنقرأ كيف تحامل “موسى موزان” وصهره، على هلع غامض لا بد منه، هلع لازم نهضة دمهم ، عندما تركوا شغاف القلب – نسوة يتناوبن بلاء الوحشة- لينتهبوا الروح دفاعاً عن تراب كردي يعني لهم كل شيء، ليتردم العراء بهم، إثر قذائف لم ترحم اندفاع صهوة الجياد، ولا هيجة الموكب السخي، المندفع، للنيل من وطأة استحلت ذاكرة لهم، تشظ بالغ في ذبح الأمل، لتتخلع الصهوات الجليلة، وليندحر شأناً آخر من تاريخ كردي باسل، على الأقل حاولوا فيه مناوئة غزاة الدم، آن الفشل لم يستكينوا لموت يلتحف التراب، ولم ينتهوا لذاكرة تغمد أوار الجثة في ثلجة القبر- هكذا أراد مهندس المحنة سليم بركات أن يعمق حرقة السلخ التي استبدت بهم – لا.. بل تحلقوا كأشباح حول أرضهم ونسائهم وأحفادهم وشمسهم وهواء كردهم، ليطلعوا على شأن الحياة – من هناك- بمهارات نادرة يستطلعها الموتى وحدهم، ليداهموا مشكل الفناء، كأرواح عتية لا تموت أوان انحسار الجسد، لا تستسلم حين انحدار الخسارات.. كلها، بل ظلوا كوعر الجبال، منشدهين بمهب المطر، ليلازموا ذوات الفوارغ حين إنسراح الجسد، ليتعرفوا على محنة الغريب الناري الذي أستأجر داراً تقترب من نسوة يقترن القلب بهن، حتى آخر الرواية، حين إستبسل نبل التضحية ليصل أقصاه- وهم أموات أيضاً – ببلوغهم قراراً جريئاً – يصل فيما بعد القتل- ليعاودا ذات البذل، ليناهضوا عته الغدر مرة أخرى، ليرافقوا فلول القائد القتيل، الدامع العينين “ سعيد آغا الدقوري” الذي لم يفتَّ الموت شيئاً من عزمه على مقاتلة الغزاة، بل استدعى كل طيوف القتلى منذ بدء تاريخ هذه الأرض .. ليمضي يستحث الطريق، عجولاً.. عجولاً..

01- نهب الخلود، هول الذاكرة:

“معسكرات الأبد” تلاوة لروح كردية بالغة النهل، لا تنسى أن تؤسس لكتابة ذات نزوع كوني، بامتياز لا يُشفى أحد من أنينها المداهم شفير ذاكرة تلتهي بشغف المبدع سليم بركات، لكونه من أتقن هولها، كتابة تشارف مصاب المصير الأزلي، حيرة الأبد، لتدين قذائف تلغي الروح، في تحبير مدو، لعنف فاشي حصد جماجم هذا الشعب الكردي، لتظل ذاكرة -كل حرف له- ترأف به، ذاكرة تنوء بمصاب تاريخ صعب، لتحفر على بياض الورق، رواية تلهج بحرفنة غزيرة، كأنها تقاطع الحياة وتتماهى بقدرتها على إيتاء المثال تلو الآخر، لتكون جديرة بهواء لها، وبإبداع يضاهيها.

كل هذا عبر تعدد لمهاو السرد، لا ينفذ منها أحد، كلها تساءل ما حصل، ولكن بسر بالغ يستوي للمبدع وحده.

كلما حاولنا مقاربة ذات الجزع، نصاب بصعوبة النص، لماذا؟

لأنا لسناه، لسنا فداحة سليم بركات، هو الوحيد القادر على تلاوة روحه وترجمة شأن بوحه، هو المشرف على طاقة المخيلة المستترة بطفولة لا تطاق.

ولي أن أثير مكامن نصية استرعت الذهل، سفحها لنا هول الذاكرة:

1- الذاكرة البصرية : تلك المتعلقة بميكانزم غريب يتعالى بتعدد مصادر ثرائها ، منها : القدرة التصويرية التي تواكب إحالات تتصف بحدوث الشخوص، انهيال عدسة سينمائية بحتة ترصد العراء وحيواته لترسم ما تراه، عين إخراجية ترافق كل المؤثرات الحداثية، المستجلبة لنية إخراج يقود بدعة المشاهد التي تناول تنوعاتها التقنية :الصوتية، الضوئية، السينوغرافيا، الحراكية بأحابيلها المنفذه لتعميق المشاهد- مثلاً تقديم صورة تستقبل النظر، يعززها ماضي الحدث دون الإخلال بحتم السرد، شبة حركات إستعادية تلازم حاضر المشهد، دون الإخلال بصدق الحدوث.

هذه المهارة توهم القارئ طيلة النص الروائي بانحدار عدسة بصرية ترقب المشهد، وتواكبه بتقنيات سينمائية تبدل المشاهد، لا يد تكتب أمام الورق، فعلاً لاستواء التنقل البصري الذي يعتني بين انحدار الضوء ووضوح الفعل التمثيلي المشهدي معاً، بما يوحي بحركية نظر يبتدع موهبة إخراجية – ذات ذاكرة بصرية غالباً- تقود كل العناصر لتأزيم الحدث بنزوع درامي، لنراه يستحيل إلى سيناريو روائي يعتني بكل تقنياته الواجبة لإيقاع مشاهدة مكتوبة تشبه ما يستوي على شاشة العرض أو منصة العرض المسرحي، التي تلتهب بكوادر فنية تستحث الرؤي لتبلغ غاية الإبداع، التي آن لها أن تكتشف ما تخفيه عنها “معسكرات الأبد” .

2- ذاكرة الإرث: عادة تحفل الذاكرة التي تعول عليها المخيلة بملامح لمعارف روتها الطفولة، أو حقائق قديمة راودت هيجة الصبا، لتحاول – كل كتابة- استحضار عنفها بضبابية لا بد منها، وبالذات وأنا أقود الحديث عن مبدع نالت منه المنافي مبتغاها.. بعيداً عن “القامشلي” ثلج بيته، لا عن كاتب يستضيف كمائن الأرض حوله.. كل حرف، أو يقارب حين الوصف لغة مكان قريب من القلب، فيه يحبر الورق محاطاً بذويه، تفاصيل وطنه، علامات قومه، لكني أتحدث عمن يكتب في بيت غريب على اليد، محاط بهواء يابس على رعشة الشهقة.

لذا استعر التحدي المدوي، استبد النزع القاتل، ما روته له حموة الروح، الذي استنار بها سليل الذاكرة: سليم بركات، كل كتابة لا تغفل عنه.

لنسأل: كيف له أن يستضيفنا – كل رواية وشعر أيضا- لنحل على داره، نقتفي إثر خطاه، لنعتاد على معشر إرثه حتى التناهي، كيف له كل هذا الهطول، وهو يدلي نحونا بغايات صعبة، قد لا يدركها غيره ممن يآزر حرص الكتابة، من يتوصى بحدوثها، وهو يقيم هناك في الشمال المستعصي على سليم بركات سكناه؟

هذا المنشأ الصعب، استعر لمبتلاه، داوي الذاكرة: سليم بركات، مذ تحقق له، منذ “فقهاء الظلام” حتى الآن.. آن “أنقاض الأزل الثاني”.

ثمت غرابة لم تتبدى – كما أرى على يقين لا يقلقه الشك – لمبدع سواه، تتعلق بقدرة المخيلة على النفاذ المتبلر، الانزياح الروائي البالغ في رصد رمل التفاصيل، ما أعنيه ليس انهيال مبتغى السرد، ولا قدرة الذاكرة الثقافية – كما يتوهم البعض، بكونها المنهل الكافي لهطول الكتابة، آن يستحضر الكاتب الملازم المعرفية، ويستمد من المراجع التخطيط الوافي، لجمع حصيلة من الحدوث التاريخية، لتدوين كتابة تستحصل، لا إبداعاً يصل – ولكن ما أعنيه هو استحضار رفيف الحي، مشافهة المتجسد، مراوغة القويم الحاصل بالفعل في ذات التذكر، محاكاة الحياة التي تلهو هناك، لنعتادنا كل وقت .. كأننا هناك، لنحتمل انقيادنا لأقوام تتعرق بتشبث مهيب بحموة الأرض، كما الجذور تماماً، ولسكنى مكان غريب علينا، لنشتاق لفقد أصبنا به، علاجه الوحيد: إعادة محاذاة النص كل مساء قاس، مجاورة عمل إبداعي يماثل خلق الحياة، لا أعرف تدليلاً غيره.

كالحياة تماماً، ينقاد المحدث بداءة القول: سليم بركات، لهوى مخيلة مشحوذة بذاكرة لا توجز له من حصول المشكل ولا رفاهية الحي …إلا ما تراه.

كل هذا ليمضي سارداً قدرتها الفريدة، مؤصلاً طاقتها التعبيرية الصعيبة – كل عصب يحتمل- في كتابة ضد محو الوقت، لتحتل بذات الحبر عنف الورق لديه. لولا هذا الانقياد الأعمى، الحميم المحترف لذاكرة تعي وطأة ماضيها، ذاكرة صقيلة بشهقة روحه، لولا خضوعه لانصياع الرؤى لمصابها.. لما أنجزت له جراح ماضيه، لما أنارت يأس حاضره، ولا نالت مبتغاه من مستقبل للخسارات، لما استدام كنرد يتحداه، لما ابتلى بحرفنة موهبة ضارية في وفاءها لدم من تشظي من ناسه، استنفاذ لحكمة إرثه، لما …حقق كل هذا الخلب المغوي.

11- ضروب من التفكه الكريم:

آن الحياة نصاب بأتراح تزجج فينا عبء البكاء، ولكنها أيضاً – أحياناً- ترمينا بساخر من البسمات على رسل يرسلها الهواء، ضحكات طرية قد ترأف بنا، وهذا ما تحقق لمن لاسن احتفاء مبدعنا بها كل كتابة، لتشكل وحدها مهارة لازمة، لتستنير متعة الرواية بحصول فكاهات تريق فن غزل المفارقات، التي تختلف بين كل منحدر للروي وآخر، لكنها تستديم كمهارة فنية يصاهر مثولها، طيلة الرواية لتعزز ما أردت الذهاب نحوه، إلا وهو شغف سليم بركات بإمتاع مسار الروي، لإلهاء القارئ ببسمة تأخذه بعيداً، عما سوف يقترب من حزن يداوي قلبه ، من هنا تشتعل المكابدات، لكونها نابعة عن رغبة أكيدة في تسريح الروح قليلاً عن مبتغاها، لتغفل قليلاً عن حديد الصهد..

لذا يسرف نحونا لنيل الفكاهة، ليُسهل على القارئ، أو يحنن عليه من هبوب وطأة الأليم فيما بعد.. هذا ما يحدث، لتمضي المفارقات بين هزل الكوميديا وبكاء التراجيديا لعقد موازنة ما، بين ما يشظى الروح من حزن يؤلم وبين ما يقترب من لهو طاغ حتى أوان الضحك.

21- آخر الألم:

هكذا كتب فقيه “معسكرات الأبد” سليم بركات: “الإنسان غضب: ذلك هو الكمين الذي تتحفز فيه الحياة لانقضاضها الشهواني. ومن دون غضب لا تتأكد المسيرة الصامتة للحقيقة في قناعها الممزق، دون غضب لا تكون للمكان خاصيته كمكان”.

ليروي فيما بعد: “توقف الدقوري الشاحب، المتقدم كسهم، دون أن يلتفت إلى “موسى”: “لا أحد يجهل الآخر في هذا البرزخ. أيها السيد. أنت شريكي”، وتابع من جديد سيره المحموم في الزوبعة المحمومة لخفق العباءات من حوله. لكن “موسى” أدركه ثانية: “إلى أين تمضي يا سيدي سعيد؟” “أنا لا أمضي، أيها السيد موسى. الجهات تأتي إلينا”.

“حدق” سعيد” في شبح الرجل الطويل: “لدينا متسع من الوقت” “أي وقت تعني يا سيد سعيد؟” سأله “موسى” بنبرة قلقة، فرد عليه ذو اللحية الزرقاء مبتسماً: “لماذا أنت قلق؟ لديك متسع من المكان”، وأشار بيده من التخوم التي توقف فيها – لصق الحدود التركية السورية المتداخلة – صوب الهضبة: “لديك المكان المشرف على المياه يا سيد موسى. أنت في الكمين”.

لنستهل على معول أخير استهام “بمعسكرات الأبد” باغت النظر في انعطافه السردي، حين أفلت آخر الفصول “القيامة” التي التحفت بما غادرها من فصل لا يقل عن هيلة هزيعها “أحلاف الغيم”“، ليبعث آخر التصدع، خاتمة المصاب، التي تحدت كل حدس تناهب ذاكرة من جاور النص، لم أتخيل أن يكون المصير الأخير، يحتمل تداخل التناقضات بين الأحداث، بحيث يتوازى مستويين من السرد، ضفتين للحكي : الأول يشعل التصديات بين الحشود المتضادة، والآخر يسرج عفوية الحوارات والأحداث اللاهية عما يحدث، لنشهد ذات الملاطفة التي لم تحدث تغييراً – رغم عنف ما يتقدم نحونا- في طيبة النسوة وهن يهرعن لاستجلاء التحول الأخير للهضبة، كذلك أغلب تداعيات الحوارات المدهوشة من مشاهدة الطائرات وهي تحتل السماء، ليسألن بعذوبة نقية ومعذبة في آن:

“هل سيطلقون علينا النار؟” لتستمر المعابثات الحوارية ذاتها، التي للمفارقة تجاور ما يتأود من منجز عنيف يجترحنا، ما تمثل في بدء هائل لطيوف تطوق الهضبة من حماة الإرث الكردي، اندفاع سلالم ترتقي السماء – طريقاً آخر استهله النورانيين نحو الأعالي-، تصاعد أشباح يعتنون بحدود الأرض، رفٌّ من الأرواح يتبعون “سعيد آغا الدقوري”، التماع سفينة للنجاة كل برق يعلو قمم جبل ”جودي”، اقتفاء الغرباء لحشود رهيبة لخطى تقتفي سلالة النار، رفقة يندفعون، يرافقهم حارس النهر- جوجان بوزو- بما اعتراه من تحد تأصل برعونة عذب النهر، يتقدمهم الكائن الناري : جحيم الذاكرة : دليل الكرد .. منجاة الجنة المؤجلة..

ضدهم من الجهة الأخرى للهضبة:

انهال الغزاة بملابسهم العسكرية، معتمرين خوذ الحديد، ملتحفين بعدساتهم الامرئية، محفوفين بجلافة خطاهم، هاهم يندفعون نحو المبنى المستطيل ذو العيون المتعددة، الممتد من أمامه، كعصف، مدرج صاغه الضجيج واعتلاه الإسفلت، لهبوط طائرات مهيأة لقصف القلب.. كل كمين يضرج الهضبة بانهيال قوافل الدم.

كل هذا الهبوب العظيم لهذا الجلل، داهم الحضور كله، من هيجة الغيم حتى آخر الكائنات.

لينهال – آن القيامة – كل شيء.. عنف الرياح المصحوبة بغيم لا يستكين، فتك الأوزن كل ملاغاة غريبة تدشن صمت الهضبة، لهاوة المطر العازف على جفلة الرمل، برق نبؤة أنارت سفينة نوح: وهم النجاة، حتى آخر ما ابتلت به الهضبة من مصائر تدلهم، لا أبالغ إذ بحت.. بأن ثمت أوركسترا من الكائنات تعالت، لتصير آلات نفخ.. استحث هواء الروح، تجاه مبدعنا الذي تنقل بين صفوفها لإهدار جللها، لتصعيد شغف تجلياتها، الذي توزع.. من وتر لآخر.. ليزدحم بعصا الموهبة.. كما المايسترو تماماً.. وهو العارف بمدى حلول محنته، كل قوس يشد الوتر- ها هو يهيل الحشد المثال لينال مبتغى الأزل، صعق الأبد، عزف يتشارف ويتصاعد، متوصياً بحرية فضاء للكائنات كلها، موقناً بأهمية حز أرواحها، تعزيز خطاها نحو رسن الهاوية، للإبلاغ عن التحامها الأبدي بصيرورة الأبد.

هكذا انهالت جرأة الحبر: من تحريض بالغ برعونة الأوز حتى طريق للنهر الواهب لعصا “جوجان بوزو” حراسة عذبه وعذابه في آن، هتفاً رافق هيستريا ناوشت الكلبان ذوي الخرس.. حتى مشيئة خلعت أهل “موسى موزان” و“خاتون نانو” من سهو عزلة تستبي جل وقتهن: لينهدرن نحو الآخرة، من غير: هدله، هبه، بسنه، زيري، ستيرو، ليشعلن هيبة اللحن.. آخر الهضبة..

حشد بالغ لم يتأخر عنه أحد.. تبدى بعنفوانه، مرسلاً “العلامات الكبرى” لأذان القيامة، مقتفياً إ شاراتها النورانية، لتصله بالمياه، محنة الشمال البعيد. حشد إدلهم مطوقاً بعينيه – التي تدين إذ تحدق بعنف يبالغ بحدة النظر- المحتل الفرنسي وآلاته الناهبة طراوة الهضبة، المدشن الأول لزحف طائراته المحتمية بأرتال البارود، عبر ممر شيده بدوي الإسفلت، تحت نير طال عرق زند العمال، اللاهون عن بغته، ذاك الضجيج الذي أقلق الشمال كله، لتهبط عليه أول طائرة تتسم بحقد القتل الذي شظى “ثورة عامودا” بقيادة ذا اللحية الزرقاء “سعيد آغا الدقوري “ : “الذي يقود تلك الفلول، لاهثاً تحت لحيته الزرقاء، ممزق العباءة، لكنه يحاول – جاهداً أن يصل جهة بجهة أخرى، بدموع خفيفة على خديه امتصها شارباه “ هكذا يصف سليم بركات حزنه العاصف.. لنكاد نراه يمضياً عجولاً وحشوده المضاءة كتمائم حوله.

آخر الروح:

آن الخاتمة التي أغلقت آخر ورقة كادت ترتعد بين يدي، فيها اصطلى:

كمين الرواية:

ما انهال لنشرف على من ينازع رعد الذاكرة، من غير: “رَشْ” و“بلك” الديكان اللذان تناوبا على نهايات تعصف بجمر الكلمات.. لنصغي لذوات تتصدع.

هل هكذا انعطف صراع الأبد، ليبلغ بعنفه – الآتين على مستقبل، يكاد يصل- عن صيرورة اعتراك ديكين لم نسلم من مهب ريشهما الدامي ولا مخلب العضل، وهما يفتتحان بدء الكلام كل فصل مضى، هل هما حتم حدس، يشي بنكبة اعتراك أزلي يستشرف تاريخ بدأ بخلل مصاب، ناهز مأزق الكرد ولم ينتهي بعد.

هل هو مشكل أبدي، لإصطراع لا يكف، حتى يهدر آخر الدم، خلاف يلازم نرد الماضي، ولا يفيق على مستقبل قد يراه، هل أضاء النص كله؟

لبلوغ المصير الأخير، انحدرا – كشأن غواية السر، الكائن الناري – آن العراك الأزلي، ليغيبا خلف شجيرات التوت، الشجيرات ذاتها، التي أمعنت في حراسة طنين كائن النار: ذاكرة الكرد، روح القائد القاسي على الموت، ذاك اللغز الذي ما أن تخلع من قيد بابه، حتى أشعل المنتهى به.

آخر الكلام:

لنهايات كادت تعصف بصدوغي، لا أدري كم استحصلت من حرية الحبر العصي، ولا من نهضة البصر المرير.

هل اعتريت أسر بوح غالى تجاه كتابة أسرت ذاكرتي؟

لا أدري كم حاولت؟ أو هل اقتربت من مقاربة “معسكرات الأبد” بما فيه الكفاية لصراحة دمي؟ ما آخى مبتغى القول كل هذا الوقت، لنص إبداعي بدا لي ولم يزل.. كجسد فاغر حتف الذاكرة، معلناً جحيم السؤال، ماراه..

مناولاً بمعصية الروح، جمرة الجنة.. مآواه.

الحرف: رعدة الروح الحرية: هواء الكون

(1)

عندما نتحدث عن علاقة المبدع بالحرية، فإننا نتعرض لعلاقة مركبة شديدة الحساسية، متصلة بتماس الموهبة بحرية الإبداع وتماس المبدع بحرية الحياة.

حين يحيا المبدع في وطن لم يذق بعد معنى الحرية، نراه يحتمي بحريته الوحيدة، الكتابة، هذا ليحتمل ما يلتئم من حروف وما يتناهض كل سطر من كلمات.. أكثر جرأة وتألقاً منه، كلمات يكفيها كونها حرة، ليست كمثله، كائن مكبل على الدوام، يحيا كمواطن يتألم من خلو حياته من مبررها، من ضرورتها، من حريته كحق إنساني، هنا تكمن المفارقة المؤلمة، حيث يحيا المبدع في تقصف نفسي وجسدي بين حريته الوحيدة التي لا تقاس لحظة الكتابة، وبين حياته الأخرى التي تخلو منها.

مبتغى الحرية هذا، لا يقف عائقاً أمام انتفاضة التجربة الإبداعية، لكونها تصريحا علنيا بفن مقاومة الموهبة الإنسانية للظلم، موهبة تقوى ضد كبح الصوت واندفاع الكلمات على الورق، لذا شهدنا أغلب التجارب الإبداعية شفافية وحرية، تم إنجازها في عتمة السجون، في أشد العصور التوليتارية قمعا للفكر وللإنسان، في أضيق الأمكنة وتحت وطأة تلاوي الحصار، هذا ما يفسر لنا مدى تعلق المبدع لحظة الكتابة بحريته الوحيدة، تلك التي لا ينازعه عليها إلا الموت، فضاء شاسع يتخلق على الورق، تنتضي هبوبه أشرعته صواري الكلمات.

التجربة الأدبية في البحرين لم تكن في غفلة عن هذا المراد، أي نزوعها الطاغي نحو فعل الحرية- الذي شكل أحد أهم السمات الإبداعية- بل تجلت في أبرز تجاربها الإبداعية، ضمن هذا المنحى والمصاب في ذات الوقت، طيلة تاريخ القمع كانت التجارب تتقدم لساحة النشر ولمنصة الصوت لتقديم النص الإبداعي الرافل بحرياته الغير قابلة للتجيير أو التحييد عن فن جرأة الصوت، بالرغم من مزاحمة وتفشي ظاهرات النفاق والارتزاق الكتابي الذي أسست له دنانير القمع، لكونها تشكل كرنفالات تدوينية للمدائح والتزلف الرخيص، كلها تقع خارج التجربة الإبداعية البحرينية ولا يعول عليها إلا المأسورين بزيف مدائحهم، والفرحين بغبار عطاياهم، في هذه الكتابة أنحاز للمنجز الإبداعي الذي تماهى رؤيويا ونصيا وحياتيا بمدى وأفق تلك الحرية، المتخلقة من إيمان المبدع وحرصه الشديد على صيانة شرفته الوحيدة وحبره الوحيد بحرية لا تقل عن حرية نبض دمه.

(2)

هذه التقدمة لا تعني أبداً.. بانعدام أهمية الحرية الإنسانية للمبدع، أو بضرورة القمع لدوام الإبداع، كما يعتقد البعض، العلاقة مشتبكة، هي تعني تحديداً بكون المبدع الذي يحيا ضمن شروط أكثر إنسانية ورأفة حضارية، لابد لتلك الحياة من أن تتجلى في نصه الإبداعي، عبر حساسيته الرهيفة، لكونه يحيا حياة أقل غبناً، على الأقل بالنسبة له، هذه المسألة تتمحور بشكل رئيسي حول طبيعة اختراق وتجاوز الموهبة، كلما كانت أكثر اكتنازا وعنفواناً، فسوف تتجوهر وتلتمع في أقسى الأحوال لكن الجسد الذي يصقل ليلها كل كتابة، سوف يحيا بطراوة أقل بكثير من غيره، بل أكثر تشظيا روحياً ، لكونه ذاك المحاصر المبتلى بالحديد كله.

يشكل معضل الحرية إشكالاً فكريا ونصياً للمبدع، لكونه لا يرتبط بوطنه، بمعناه الانتمائي المحدود، بل ينتمي للكون كله، هنا تشتغل لديه الدلالة الإنسانية، الأشد عمقاً، تلك التي تجترح بها الموهبة كل نهار وليل، فعذابات العالم كله، تعنيها لحظة الكتابة، لكونها تكتب وفق منظور رؤيوي يتسع ليسع المجرات، فثمة روح تكترث بألم الكائنات كلها على هذا الكوكب.

(3)

ما حدث في البحرين من انفراجات على الصعيد السياسي والأمني، تتعلق بمشروعية إعادة الحقوق الإنسانية للمواطن، تمثل مكتسبات حضارية تضيف رصيداً لا يستهان به لحاضر ومستقبل هذا الشعب، ما يمس المواطن من متغيرات ومكتسبات حقوقية تبشر بعدالة ديمقراطية قادمة، لا بد أن تؤثر على علاقة المبدع بالحياة ذاتها كمواطن وكمشتغل في الإنتاج الإبداعي، حيث تشترط العملية الإبداعية لتحقيق تواصلها والآخر، المزيد من فضاء الأقنية لتوصيل الإبداع، تتقدم تلك المتطلبات، حرية النشر وحق التعبير، كمطلب ضروري، طالما طالبت به الحركة الأدبية، في ظل المعاناة التي لا مثيل لها، وهيمنة التسلطية الإعلامية الساعية لتهميش التجارب الإبداعية البحرينية، عبر إغراق منافذ القول من الصحف والإذاعة والتلفزيون بكل ما ليس له علاقة بالأدب البحريني، هذا ما يفسر ما يشبه خلوها طيلة تلك السنوات التي ناهزت نصف قرن من الزمان، من حضور المبدع البحريني، ذاك الذي تألق أكثر خارج الوطن سواء عبر الكتابة أو المهرجانات الأدبية.

هنالك قائمة طويلة من الحقوق المهدورة للكاتب البحريني، يقع عليه العبء أولا للعمل من أجل الدفاع عنها والمطالبة بها، من ثم على المؤسسة الأدبية التي يتوجب عليها رعاية حقوقه، أيضا على الهيئات الثقافية الرسمية أن تسعى من أجل تحقيقها لترافق جملة الحقوق الوطنية الأخرى، قائمة الحقوق المصادرة تمتد، منها حقوق المؤلف، تلك العبارة المطبوعة على كل غلاف يصدر له ولا ير منها شيئاً، كذلك حضور المبدعين البحرينيين وتعزيز مساهمتهم الفعالة في كل الخطط والبرامج المعنية باإستراتيجيا الرؤيا الثقافية في البلاد، مشاركة الأدباء والفنانين في الفعاليات الأدبية والثقافية التي تقام كمناشط ثقافية وحضارية للتعريف بمنجزنا الإبداعي خارج وداخل البحرين، دعم “أسرة الأدباء الكتاب” والتعامل معها كمؤسسة أدبية ذات تاريخ أدبي عريق لا يجوز تجاوز دورها، تسويق الكتاب البحريني بما يليق به، وما يتبع هذا المنحى من مهام تبدأ بضمان طباعته بعيداً عن مقايضة تجار مؤسسات النشر، أخيراً. احترام وتقدير المبدع البحريني-يستحسن قبل موته بقليل- وهنا تنحدر العديد من المطالبات التي لا أشك بكونها غامضة، على ولاة الأمر، لأنيرها بمزيد من البوح.

(4)

في الآونة الأخيرة، من خلال ما احتدم به الوطن من اندفاعات لطاقات وكفاءات ظلت مكبوحة لسنوات طويلة، اندفاعات أراها تترجم مدى تعلق الناس بتحقيق أقل الأمل، حرصهم الشديد على المشاركة في تدعيم مؤسسات مجتمعهم المدني، تأطير مكتسباتهم الإنسانية وصيانة حقوقهم وتأكيد مواطنتهم ليتباهوا ببلادهم البحرين، بالرغم مما أثير من لغط كان أقل بكثير من مستوى الإحساس بالمسؤولية الوطنية أو الأخلاقية على الأقل، تمثل هذا الهرج في تعميم السخرية الباهظة على النفس من جهة ومن جهة أخرى في ذاك التشكيك المبالغ به في مدى إخلاص نوايا الناس، بالرغم من كل هذا ذاك، تم مداولة موقف المبدع تحديدا من هذا الحراك ذوي البعد الحضاري، هل عليه أن يراقب أو يشارك أو لا يرى ما يحدث.. من تحول تاريخي لمسيرة هذا الوطن ذات الدم الوفير والقيد الأوفر، تمت تلك المحاورة بشكل غير معلن، كما لو أن هناك قالباً تنظيرياً واحداً يطبق على الكتاب كلهم، وعليهم أن ينضووا تحت صم حجارته، كما لو أن هناك طريقاً واحدا، يفترض البعض حلول مصداقيته وهدايته، كما علمونا ضمن تنظيرات التجربة العربية القديمة، التي جالت بعلاقة المثقف بالسياسي من زاوية ضيقة وأحادية المنفذ، نظرة غير خاضعة لمحاورة الحياة ومتغيراتها، حين أصرت بأن على المبدع أن يكتب فقط، دون أن تتعامل مع المبدع كإنسان تكتمل العملية الإبداعية لديه باندغامه مع الحياة ذاتها، إنسان له طاقات وطموحات للعطاء، تغتني كثيراً على الورق كلما رافقتها إسهامات وتجارب حضارية، تشارك الآخرين في بلورة صياغات جديدة لمشاريع ندامه الآتي، هنا لابد من محاورة دعاة مثل هذا التنظير الضيق النظر، المستلهم حصانته من فشل المشاريع العربية كلها وتاريخ الهزائم التي عمت تاريخنا العربي، لكنهم لو تأملوا قليلاً، تاريخ الحركات الإبداعية العالمية كلها، الراهنة بالذات، لاسترعى انتباههم مدى فعالية المبدعين في دعم كل المشاريع الثقافية والوطنية والحقوقية تحديداً، عبر تنظيم وقيادة حملات احتجاجية.. أقلها المذكرات والعرائض عبر إسهامات نقابية وسياسية أيضاً، تعتني بقضايا تجاوزات حقوق الإنسان خارج أوطانهم، من “كوسوفو” مروراً بفلسطين حتى “الصومال”، وما مشاركة الفيلسوف الفرنسي” أندريه غلوكسمان” والكاتب الإسباني “مانيول مونتالبان” في الدفاع عن قضية “د. نوال السعداوي”، إلا أبسط مثال على طبيعة التصدي، حتى المشهد الثقافي العربي، بدأ مؤخراً في التململ من تحييد المبدعين لأدوارهم، من ضمور أصواتهم وانعدام مشاركتهم، لذا تناهضت أنشطة عديدة لتستثير ولتقاوم إستشراس هذا الوهم.

حتماً.. تغتني التجربة الإبداعية على الورق حين ترتوي بتوتر نبض جمرة الحياة فيها، بالتناغم مع ما يحدث للمبدع كل حياته الموصولة بعذابات الناس، حيث تتجمر موهبته للتعبير عن ذاته الملتحمة بالحياة بشكل أكثر تألقاً.

(5)

يتحدد دور المبدع أمام النص وأمام الحياة من تقديره الواعي والمسئول لطبيعة هذا الدور الذي لا يقل إبداعاً في الحياة عن الورق، فمن الصعب عليه أن يتوارى صامتاً. عما حدث ويحدث لنا:

من منا لم يتأثر بهبوب المنفيين وهم يرتشفون هواء الوطن لأول مرة منذ ما لا يقل عن ثلاثين عاما على أرض المطار، أحيانا ازداد ذاك العمر ليبلغ الأربعين عاماً؟!

من منا لم يوار الدمع وهو يرى اندفاع المعتقلين خارج الزنازين.. ما أن انفك حديد القيد عن معاصمهم؟!

من منا لم يتأسى من مرأى تدافع النسوة وهجمة الصغار وهم يهللون لعناق أبناءهم وآبائهم؟!

حتى التصفيق الذي ارتجت له قاعات الندوات كل كلمة حق كانت تقال، من منا لم تقشعر روحه وهو يرى كل هذه الأكف تصطدم ببعضها.. لتترجم صمت القلوب الذي طال طويلاً…؟!

(6)

ما مدى الحرية التي تعتمل الآن، هل ستتحقق كما ينبغي أو كما يستحق هذا الشعب على الأقل؟

هذا القلق الحريص على نصرة الحق وحرية العدالة، بقدر ما يستثير هجس وذاكرة المواطن البحريني الموصول بكفاحية مواضيه، فهو يشكل قلقاً إبداعيا خالداً مدى الدهر.. للمبدع أيضا، حين الكتابة وحين الحياة

الحرية هي الجسر الوحيد الذي يمتد من رعشة الروح حتى رعدة القبر

الحرية هواء الكون. كله

هو الذي يتصنع النوم ورأسه مغلق عليك

“خلق جرحه في هذه الطبيعة الصخرية

وادياً للموت تحت سماء جامدة

وجهه الذي كان يتجه نحو زجاج النوافذ

تألق بهذه الأشجار العتيقة حيث الموت.”

إيف بونفوا

في دراسة خطها الناقد ”جان ستار وبنسكي” يستضئي القارئ بالتعرف على ملامح رؤيا بونفوا الشعرية، مكاشفة نقدية تستوقفك بعنف بالغ لا لكونها تستشف طبيعة الكتابة المذهلة لشاعرنا، لكن لكونها تحاور بداهات أودعتنا إياها تجربة الشعرية السوريالية حول الكلمات وتحديها للعالم دون أن يتعرض لنقضها أحد، “إيف بونفوا” اكتشف بصمت سر الكتابة، استطاع مساءلة العالم فأبلغ كلماته لتفضح السر، متفرداً بنصه عارض بشدة المبالغة في تغييب الأرض ـ الواقع ـ لصالح ـ ما وراء الواقع ـ أنتقد ذلك التحريض العبثي الذي احتمل تجارب شعرية وفنية يحتل فيها الإدهاش اللغوي محل الإحساس الإبداعي بالشعرية، ليكتب كل حاو قادر على رسم لغو ما، يتشبه بالحلم.. بلا روح وبلا موهبة أيضاً، كتابة وفية للذهن لا للذاكرة، تصاوير تسرف في فيض جفاف الصور، دون محاذاة لتجربة إنسانية ممسوسة بنبال الآخر، شرفة تعري العالم إذ تكاشف شروره البليغة.

“مواجهة” أنبل تعبير يسترعي فتنة العقل وملائكية المخيلة، عند الحديث عن زرقة حبر تتشكل بحرية الحرف بحراً لدى “إيف بونفوا” فهو شاعر ينبثق من ألم خاص يعتريه تجاه الأرض، رؤى تسحنها الروح، لذا يتحمل ما يلقاه منها ليواجه المصير بذات السلاح الذي وهبته الحياة: جسده: شعراً وقولاً نقدياً ونبضاً أبدياً.. هكذا يعترف:” لكن حياة الفكر لا ترتعب أبداً أمام الموت، وليست تلك التي تَعْرى منه، إنها الحياة التي تتحمله، وتستمر فيه”.

“مارس بونفوا، فترة شبابه، الرياضيات وتاريخ العلوم والمنطق، لهذا يعرف بالخبرة جاذبية الفكر التجريدي والفرح الذي يمكن أن يعيشه الفكر في بناء صرح المفهومات والعلاقات المحضة. لكنه كمثل “باشلار”، وقد اقتدى بإرشاده العلمي، يدرك أن دقة المعرفة تقتضي التضحية بالبداهات المباشرة، وإنه لا يقدر أن يكتفي بذلك، بل يحس بالحاجة إلى واقع بسيط، مليء يحمل معنى إلى الأرض”.

شاعر يمتلك ناصية القول بالتحام مخيف وعناصر الحياة كلها، حيث تتحول تفاصيل المأوى، العائلة، الحب، الغابة، السحابة، لشعر يترجم لوعة فقده وسهاد وحشته:

“أيتها الحجرة الرمادية، إن كان لك حقاً لون الدم،

تحركي بهذا الدم الذي يخترقك،

افتحي مرفأ صراخك، لأجيء فيك إليه،

هو الذي يتصنع النوم ورأسه مغلق عليك”.

بعد هذا المشهد الشفيف، يكتب “ونفوا” ليحذرنا من خطورة الارتهان للغة لا تتصل بمهمة الكشف. تمضي وحدها دون دليل جسد يفضح علاقتها المفعمة وغرور العالم، كما يدلل عن “الخطر المرتبط بممارسة اللغة حين تختار بغطرسة كمالها المستقل الخاص، منفصمه عن العالم، وبخاصة عن الآخر، وهذا ما أشار إليه غالباً هو نفسه، وأهتم به شراحه، بدءاً من “موريس بلانشو”، اهتماماً يكفي لكي نطور من جديد جميع الأدلة التي يسلح بها “بونفوا” تحذيراته ضد الإغراءات التي يمكن أن تحيد البحث عن “المكان الحقيقي” والتي قد تأسرنا في شباكها”.

اعترض بونفوا على “التجميد الشقي” لصالح العالم الآخر أو الإغواء الغنوصي المتمثل ب” الماوراء” “الفصل خطيئة: وهي الخطيئة التي يرتكبها “نظامو الكلمات” حين يهجرون “الواقعي” أو الوجود من أجل المفهومات، حين ينحرف الحلم نحو البعيد، حين تتفوق الصورة في مجدها على حضور الأشياء البسيط، حين ينعزل الكتاب أو العمل في كمالها المغلق على حده، في نقاء بنيتهما التجريدي، إن في اللغة قدرة قاتلة حين تحجب الواقع واضعة مكانه الصورة، الإنعاش غير الجوهري. يجب آنذاك أن ترد إلى الصمت.”

ثمة تجاهل حقيقي لعذابات الإحساس بالعالم، بالغ في سرده تغريب سوريالي جلته بعض التجارب الشعرية لتصطدم بمأوى العبث، ليتعالى الشعر بشأن هجر الواقع ويخضع لاستبداد هذيان لا كابح له، تنامى فيما بعد في حركة الشعر العربي دون الاحتكام لأية مسافة نقدية تذكر.. باستثناء بعض التجارب المؤصلة بفرادة الموهبة.

هنا لابد من توضيح التباس قد يقع كلما صار الحديث عن “الواقع ”باعتباره مصطلحاً إشكالياً رافق الإخلاف الإبداعي طويلاً في تجربة الأدب العربي وللأسف لم تزل، حتماً الحديث هنا غير معني بمفهومات الواقعية الاشتراكية ولا سذاجة المنابزة التي احتدمت حول الغموض أو الكتابة للشعب والشارع، لكنه يتعلق بطبيعة الرؤيا الشعرية وتماسها مع الحياة بشمولية وحساسية إنسانية تفوق الاحتمال، التجربة السوريالية ذاتها خضعت لكتابات فنيه اختلفت في فهمها لعلاقة المبدع بالحياة، وفقاً لطبيعة تماس كل فنان – بحرية بالغة- وعناصر العالم، منهم من استهوته لعبة الكلمات وإستيهامات المخيلة الخاضعة لسريان العقار الفكري أو الكيميائي المضاد لصحوة الجسد، ومنهم من أستطاع تخليق عالمه الإبداعي مستنيراً بتجربة جسدية استنفذت ذاتها ضد مخالب العالم، مرتكبة فتوحات نقدية وإجتهادات رؤيويه عبر عنها رواد التجديد ضمن الحلم السوريالي، “المشروع الذي عبر عنه بونفوا مراراً هو “جلاء” بضع من الكلمات “التي تساعد على الحياة”، كما كتب: ”إن عالم هذه الكلمات لا بنية له في الواقع إلا عبرنا، نحن الذين بنيناه من الصلصال والرمل الذين أخذناهما من الخارج”.

مكابدة الشعر بقربه تستهوي الغافل لا المتيقن من تأويل الألم، لأنه ببساطة يلاغى مخلوقات الحياة البكماء، يمتهن دور العراف إذ ينبئ بعتبات المعنى ويسرد ليل الجرح:

“الطائر الذي تخلص من كونه الفينيق

يسكن وحيداً في الشجرة حتى يموت

تغطى بليل الجرح

لا يحس بالسيف الذي يخترق قلبه”.

هنالك فرق بين قراءة نماذج لا تفي بحرية شاعر مثل “إيف بونفوا” والعودة لسجل حافل بالكلمات: ضد أفلاطون، دوف، حركة وثباتاً، سائدة أمس الصحراء، حجر مكتوب، في خديعة العتبة.

هل أكتب لأتوصى بشهادة كلمات أوصانا بها تراث الجسد الذي يبدو حياً أمام هجمة الجهل أم لأستدرك فن الصمت: صوت الليل، لا أعرف…؟

صوت

“كنت أتعهد ناراً في الليل الأكثر بساطة،

وأستخدم وفقاً للنار كلمات نقية

كنت أسهر قدراً، صافياً وبقدر معتم

على الفتاة الأقل اضطرابا في شاطئ الجدران

كان لدي قليل من الوقت لكي أفهم ولكي أكون،

كنت الظل، وكنت أحب أن أحرس البيت،

وكنت أنتظر وكنت صبر القاعات،

وأعرف أن النار لم تكن تشتعل عبثاً”.

آخر القساة

في صباح نادر، بينما كنت أكدس الورق نحوي لأشتغل على صمته المعتاد، صاح الهاتف، فأصغيت رغماً عني لصوت يخاف الخبر، لبوح أغمد سيف الهمس وغاد رني، لأغادره غصباً عني، منزوية نحو الجدار، أحدق بهدوء لا يصدق، لئلا أصدق أن ثمة قريبة للقلب – بعناية – رماها الموت، لأجهل أن هناك.. الآن. امرأة فقدت ضيافة الهواء لرئتين لم تسأما يوماً من حضوره المديد.

بين الذهول والذهان أمضيت قاس الوقت وأنا أتزود بملامح حنونة تسردها لي خزائن الذاكرة، لئلا أنسى أنها غادرت قبل أن يمهلني هذا الوقت الصعب وداعها الأخير.

للموت غدرا يطاق، بغتة يدعك وحيداً وحزيناً تتسربل بحز الألم، لا ترد عنك سخونة الدمع لا تسأله – لقدسية قراره المهيب- لماذا الآن؟

لماذا له صفة الصواعق إذ تشرخ السماء فجأة لينتحب الغيم؟

بعد ما استعصت على أسئلة الموت، إلتجئت لبيت مكتظ بالسواد، ملتحفة بحزن لا يقو على رد هجمة العباءات، أحذية لا تحصى تشغل عتبات تتهامس بريب عن سر كل هذا الخطو، حشد من الأكباد ادلهم بها الألم، مقاعد لا حصر لها مثقلة بحزن كسير يستسلم لمحنة الأجساد، في غمرة السكون المبعثر بهواتك الدمع، يتهادى صدى القرآن، رتم يهاتف خشعة الروح، ترنيم يهيم بحدود مرهونة لخوف المصاب، مجابهة مشكل المجهول، كلما علا ترتيل الحنجرة، همت النفوس أكثر، مصغية لمخيلة تسرد ظلام الوحشة الغامر، كفن من كانت تحيا بشهقة العمر.

ليس غريباً أن تصاب بعزاء الفقد، الغريب ما تصاب به من أحاسيس لا طاقة لك بها، هيل من الحزن يتضامن معك، لتبدو معرضاً لملامح ترمقك وسواك بصمت واحد وأسئلة تتشابه، رغم السكون المتقطع بنحيب خافر لا مفر منه، تستنفر الحواس لتعادل غياب الحياة المؤقت عنك، لترد نظرات مربكة ترسلها نسوة مفعمات برهبة الموت وملهيات عن درسه في آن، بلا مبرر مقنع -على الأقل لك وأنت لم تزل تبكي ما راح منك- تفزع من تشبثهن العنيد بكل مكر الحياة.

نظرات يترجمها سيد المكان والزمان، الحاكم بأمره، الموت المبجل بسطوة تفتح القبر، لينحدر جسداً مرشحاً لنهايات التراب، ملفوفاً بحرير الكفن بعد آخر وداع لغمر الماء، جسد تعطر بكافور الأسى وأوراق الحناء تمجيداً له، عابقاً بزعفران يؤله الذهاب، مضمخاً بصندل العرس وعطف القطن ورعاية المسك وماء الورد كأنه لزفاف الغدر يمضي.

كل هذا الود يفيض بعناية الأقرباء، أقرباء توصوا بشموخ الجثة آن الموت، أكثر بكثير من عنايتهم، وحنوهم على الجسد الذي كان يراود حلم الحياة ليحتمل عدوانهم.

للميت حظوة أراها لا تطاق، بالذات حين هبوب الأصدقاء، لأسأل: لماذا لم يصدر عنهم كل هذا الانفعال بذات الحب والحنان وهو وديعاً بينهم يتنفس ذات الهواء؟

لماذا وهو ذاهب للموت يذهبون إليه بخشوع رأفة لا توصف؟

هل فاض الوله بهم -الآن – والقلب يلوذ بسكرة القبر؟ أم هو الندم ما لا براء منه.

للميت قداسة تتنزل على جفوة العائلة كلها وعزلة الجيران وحيرة الأصدقاء، حتى ألد الأعداء تراه يتبدل من حنق مسبق لا يفسر، إلى حب لا مبرر له، سوى ذعر الانطفاء المبكر، هيبة العزاء، ما يبعث لهواء البيت رائحة التراب وخوف النسيان.

هكذا يتوافدون والأحذية تتلاطم نحو الباب، الباب الوحيد الذي عليه مجابهة كل هذا الانتهاك، هكذا يسرفون في هجمة الوجد والتذلل نحو مآقيهم التي تعجز عن هطول الدمع، حتى تسعفهم آهة مفاجئة، يتبعها سيل النواح.

ليس الميت وحده من له زهو تفازع الناس، لكن للأقرباء الأحياء حضوراً لا بأس به من حنان الغرباء، لهم شفاعة مريرة تتجلى في خطاب ممل للمواساة، يتكرر، ليصل الآذان ممسوساً بفنون التعازي وأداء الواجب البارد، المصحوب ببكاء جاف، لا مرد له سوى شراكة النشيج.

سبعة أيام من الحزن وثقل العباءات، كل يوم يتلو ما بعده، ذات الطقس يتردد كأنه صدى انهيار النهارات، هدير الأمسيات، لا يتبدل فيه سوى رتم الألم الذي يبدأ عتياً شرساً كأنه نهاية الهواء، حتى يتلوى وهو يلملم حقائب الجزع ليبتعد رويداً، ملوناً خطاه بمشاعر تبدأ من خلجة الموت، تمر على ترانيم الخسارات، لتصل واهنة إلى شفاعة الصبر.

عناية الموت بعائلة الفقيد لا مثيل لها، تبدأ من مقبرة فارغة تكتظ فجأة بمواكب المشيعين، ليمضون وهم يحملون نعش جثة مدللة برفاهية الموت – حارسها الوحيد – محمولة على الأكتاف لآخر مرة، منذ طفولة تتذكر حنو الأكتاف جيداً.

يصطف ذوي القرابة، وهم يتكاسرون خوفاً وحزناً بليغاً يكاد يصل المثوى الأخير، حتى يستقر جسد الفقيد لدفء التراب، لنوم لا يقظة فيه، يتفازع الأهل برجفة لا تبدو لسواهم، لينهال التراب وهو يغمر هواء الفراغ بين الحجر، مغموساً بالأدعية والتراتيل التي لا بد منها لتغفو الكلمات في وداعة جسد أتعبه حديد الحياة.

سبعة أيام تتصل فيها بأهل وأصدقاء وأعداء يتجاورون كالرمل، يتعاضدون كقطرات الدم، يتوحدون لرشم الذاكرة بتفاصيل تحفر دربها الموجع – بهدوء – ضد نسيان جسد قسى عليك بذهابه المبكر.

هكذا يتآزرون لتشييع الجنازة في نهار صعب، فيه يرتلون صفات الفقيد، ويدعون ما تبقى من صور ليتكفل بها الليل الحليم، مليك الخيال، من لا يتأخر ليسرج الصفات ويرسل صعق الكوابيس التي تبالغ في نفض الأعضاء.

الموت عدو ضرير، ينتضي ضحاياه بفراسة الأعمى، مخلب غرور، لا يكتفي بما نال، منذ أول دورة ارتآها هذا الكوكب اليتيم لعبة له، ضد سأم الوقوف كسيراً في سديم الفراغات، تتربص به عداوة النجوم زاعمة انهياره الوشيك، وحيداً يتقن قدرته على البقاء بعبث الدوران، دار ثم دار حتى أحتال على الفناء، لينسى أن ثمة كائنات – كانت للحب- اقتدت بفعلته اليائسة من حتم البقاء، كائنات ظلت تدور مثله، لكنها فقدت الدليل لتدور حول سواها، لا حولها مثله، لذا لم يتأخر عنها الفناء.

وحده الموت -آخر القساة – من يتجرع قسوة الناس كل قبر، ليراهم يصطفون بذعر حوله، لرثاء جسد ليس الأخير؟