أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه

 

“النور الحقيقي هو ذاك الذي ينبثق من داخل الإنسان، ويبين سرائر النفس للنفس، ويجعلها فرحةً بالحياة، مترنمة باسم الروح”

“المحبة لا تعطي الا نفسها، ولا تأخذ الا من نفسها، المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد لان المحبة مكتفية بالمحبة”.

جبران خليل جبران

 

عندما غادر “جبران” أرض لبنان متجهاً لغربة أبدية نحو غرب العالم، كان متيقناً من اكتنازه برسالة كونية يخفيها في ذاكرته، سرية تتشي بها طفولته العسيرة، موهبة دعته للبحث هناك عن أمل صعب تبدى له، سيرورة محكمة دشنته بالحكمة لتبليغ كتابة لا تدعو للمحبة وحدها، لكنها تستحث الكون لتلاحم فريد، يشبه نبض القلب، نبض يتدافع بانسجام تام، دون أن يكترث بالفرق بين الدم والعدم.

لم يكن جبران شاعراً عادياً ذهب للمهجر ليرسم وهو يكتب الشعر، بل صار رائياً بامتياز الحنان الذي يشع من عينيه نحو العالم كله، بقدر ما اتقد بالميثولوجيا اليونانية والأدب العالمي، تأثر بكتابات “نيتشه” وفلسفة القوة في كتاب “زرادشت”، داوم على الاستنارة بفلسفة “ابن عربي” ومحاوراته حول “وحدة الوجود”، استلهم الفلسفة العربية والكتابات المسيحية واليهودية والثيوصوفية، ليوثق عراها ويسردها نحو هذا الغرب المعتم بصلافته وعنفه ضد الانسانية، ليعيد البهاء لتلك التعاليم نحو النور، نحو منشئها البكر، كتعازيم تحققت لهداية القلب نحو محبة أصغر ذرة تنتشي في هذا الوجود:

“كل ما في الوجود كائنٌ في باطنك، وكل ما في باطنك موجود في الوجود. وليس هناك من حد فاصل بين أقرب الأشياء وأقصاها، أو بين أعلاها وأخفضها، أو بين أصغرها وأعظمها. ففي قطرة الماء الواحدة جميع أسرار البحار، وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض، وفي حركة واحدة من حركات الفكر كل ما في العالم من الحركات والأنظمة”.

 

صبي في الثانية عشرة من عمره، رأى ذاته البريئة تقف أمام عالم “نيويورك ثم بوسطن” المعقد، عالم متمدن، فاقد الدفء والحكمة، مكتظ بالعمارات الشاهقة، والجفاف المكدس في الأرواح، صبي لا يتقن اللغة، لا يعرف غير الغموض الذي يقتاد مصيره، واثق أن عليه العديد من التحديات ليسبر أغوار الذات، في عام 1895 من الصعب أن تحاور هذا الغرب الصناعي المادي، الواثق من معارفه المتكدسة في العقول، البعيدة كل البعد عن السمو الروحاني، تلك العقول المشبعة بنواهي التعصب الفكري المستبد بثقافته المادية والاستهلاكية، من الصعب ايضاً الاختلاف مع ما يراه، وهذا ما فعله بقوة المعرفة والمحبة الانسانية، بعمق التجربة الروحانية، هذا ما فعله جبران عندما بدأ مكاشفة ذاته ومحاورة أعماقه الخرساء:

“أنا غريب عن نفسي،

فإذا سمعت لساني متكلماً، تستغرب أذني صوتي

وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة، باكية، مستبسلة، خائفة.. فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي، ولكنني أبقى مجهولاً مستتراً، مكتنفاً بالضباب، محجوباً بالسكوت.

أنا غريب في هذا العالم

أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة،

وأنثر ما تنظمه،

ولهذا أنا غريب وسأبقى غريباً حتى تخطفني المنايا

وتحملني إلى وطني”.

“ما اشغفني بهذه الذات الصغيرة المحدودة. هي الذرة التي تحسب نفسها عالماً لا حد له ولا قرار.. هذه النواة المشغولة بقشرتها عن جمال الغاية وكمالها”.

كلما عاودنا قراءة كتابات جبران، نراها تحاورنا على مستوى معرفي مختلف في كل مرة، وتمضي معنا لاكتشاف معان مختلفة وتأويلات غير مستقرة، ان المتعة المصاحبة لإعادة اكتشاف حكمة جبران لا تنتهي، في كل مرحلة عمرية نتأمل المعنى بعمق مختلف كأننا نتهادى في أعماق بئر لا تنضب.

إن جنوح فلسفة جبران نحو التأمل العميق لمسارات الروح ببعدها الكوني أسعفه بمحبة طاغية، تفشت في كل حرف، هكذا نتذكر وصاياه:

“قد ولدتم معاً وستظلون معاً الى الأبد. وستكونون معاً عندما تبدد أيامكم أجنحة الموت البيضاء.. أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها”.

وصايا كتبها قبل أن يفارق الحياة عن عمر لا يقل عن الثامنة والأربعين، حيث أعيد دفنه في مقبرة وطنه، قريته “بشرّي”، مترفاً بكلمات صغيرة أراد أن يراها محفورة على شاهد القبر:

“أنا حي مثلكم وأنا الآن الى جانبكم، اغمضوا عيونكم وانظروا حولكم، وسترونني”.

 

 

 

 

لا أخاف أحداً،  لكن ما الذي سأفعله هناك

المجد
”المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى
الذي يعني السيطرة لحظة ما
فيدفئ اسما مغموراً
لم يعرف حرارة الشمس،
لينقله بعد ذلك
برفق
نحو العدم!”
أيميلي ديكنسون

صار الشاعر الفرنسي”رامبو” يقول لصديقه” ديلاهاي” بعد أن صعقت قصيدته الأوساط الشعرية في باريس:
”آه نعم! لم يكتب أحد قصيدة مثلها من قبل، أعرف ذلك.. لكن.. ذلك العالم من أدباء وفنانين! تلك الصالونات الفخمة!  لا أعرف كيف أتصرف هناك، أنا سمج، خجول، لا أعرف ما أقول.. لكن حينما يتعلق الأمر بالفكر، لا أخاف أحداً.. لكن.. آه! ما لذي سأفعله هناك.”

هناك،
هناك.. المكان الذي اشتكى منه ”رامبو” يشكل قدراً صعباً لمن يكتب بفرادة روح لا تعرف معنى لنرجسية المكابرة أمام الابداع تحديداً، مكان عليه أن يتواجد فيه، ليغدو كائناً أليفاً، متسقاً، منسجماً بما يحدث هناك، ليرى ذاته، فيما بعد الذهاب إلى هناك، وحيدة، موحشة، لا تتقن لغة قوم يتشاكلون في مماحكات لا تنتهي، ذات لا تجيد لهجة المجاملات، طقوس التهاليل، لذا تراها وحيدة كظله، تتوسد بخوفها الرهيب أحدى الزوايا الرحيمة بها.

قدر صعب وأصعب منه، ضيافة الآخرين له، عندما يجتاحون صمته، بأسئلة تدين صمته، قلة معرفته بنواميسهم الطاغية، صعوبة انسجامه مع ”أجندتهم المتغيرة” بل المتفاوتة في تقديرها لمصالحهم.

هذا القدر بتحولاته، يعتري صاحب الموهبة في كل شأن فني، لكونه يمثل أبلغ التحديات الراهنة، كلما انزاح قليلاً عنهم، ليفتش عنه، في ظلال ورقة تحنو أو وتر مشدود لموسيقى ترأف بعزف أصابعه، لوحة بيضاء تنسكب عليها توازيع صباغه، تنادوا نحوه،: أينه؟
ليست مكابرة أوغلواً منه، أو سكناه في رفاهة برج عاجي كما يحلو لهم التفكه كل قول، جل ابتعاده عنهم، يشير لشفقة قليلة عليه، تنسرح نحوه، وهو يراهم يتلاهون بنزفه، غياب النص لا يشكل هماً لأحد، لكن غياب الجسد يدفعهم ليرتاعوا منه، بل يكيلوا عنف التهم تلو التهم عن ابتعاده وانعدام مشاركته في برامجهم و مهرجاناتهم.

لماذا ما يحدث له؟
ببساطة، لكون روح من يشتغل في مهابة الإبداع المغاير، أشد شفافة، رهواً، قلقاً و قابلية للخدوش من النص، لجسده قابلية للكسر، متأتيه من ضعف دفاعاته نحو متطلباتهم، من كونه يحتمي بإبداعه الكفيل بهم، النص يتضاد دوماً مع صانعه، لذا نراه يتشي بحزم بالغ، مضمد بخبرة الحبر، قدرة الحرف على المجابهة، متخثراً بعمق التجربة الحياتية والفكرية والنفسية، لجسد يفسر برد الورق بأتونه، يزج الكون نحوه، مجاهد يتحمل بصبر ودعة غياب العالم عنه، هجرة تلك الأحداق التي تترصد كل حرف يحتمي به.

من يجابه محنة المكاشفة الابداعية، بشتى تلاوينها، يتقن صعوبة صد المتربصين بعزوفه عن هواء لا يشبهه، عازفاً، عن مشهد عربي- كان ثقافياً- يراه يتصدع أمام ناظريه، محتلاً بشللية تدعى ثقافية، مرؤوساً من قبل زعماء النقد القبلي، معرضاً لاضطهاد دور نشر ترفع عاليا شعارها البائس: إدفع ثم أنشر، مذ تحولت من مؤسسات تتحمل مسؤولية حضارية ما، إلى بورصات علنيه لا يهمها فعلها الشائن ضد الثقافة، بقدر انغمار جيوبها بالنقد.

هذا حاله، لم ليس له؟ أن يطوي وريقاته على صمت ليله، دون اللجوء لغير ذاته، ما عادت المنابر الثقافية المدعومة بالمجاملات والعلاقات الخاصة والنفاق العلني تستهويه لا كلمات المديح والهجاء تسترضي نزوعه الدائم بعيداً عنهم.

قديماً كان القارئ ينتظر صدور الكتب التي تشتمل على حصافة الحرف، أسماء مذهلة كانت تترقب عينيه، أما الآن، حيث تم غمر المعارض بكتب الطناجر والشعوذة و التنجيم، دون أن يلتفت أحد، لمدى التخريب الثقافي الشاسع الذى لم يزل يتحدر.

لذا التاذ بهروبه المتسلح بفضائه الأزرق، بحرياته البعيدة ، عبوره هواء ”الانترنت”، أن نشر كتابة روحه على حنو هذه السماء، لهو أبلغ دليل على عنف هذه اليابسة.

العديد من الكتاب بدأ يلتجأ للنشر الإلكتروني، لئلا يخضع لاستبداد دور النشر، وعنف الهيئات الرقابية في بلادهم، بدأ الغالبية منهم تدشين المواقع لتعريف الآخر على سهوهم عنه هناك.

الكتابة وحدها، هي المواجهة الفعلية والعميقة، بين الأنا والآخر، سرد الذات، كشف السر الذي تأسى كثيراً في عزلته.

ذات ليلة، حدثني ابني ”وليد” بما يتوافق بمحنة ”صوت”:
” الكتابة متعة خالصة، لا تتحقق إلا حين عثورنا على الكلمة التي تفي بمبتغانا التعبيري، حين ننتهي من الجملة التي تفضحنا، وبالتالي  تعبر عن ذواتنا، حينها نكون استرحنا منا، للكتابة شأن خاص، بكل ما تحتمله من معرفة وحكمة وموقف إنساني وجودي وفلسفي أيضاً، لا علاقة لتجربة الكتابة بكل هذا اللغو المسمى حضوراً، مجداً، انتشاراً، مدحاً، ذماً، قبولاً أو رفضاً، إن سعي الآخرين نحو محافل الاحتفاء، أو مراودة وهم بلوغ العالمية في أفظع صورها، ما هو إلا تكريس لخديعة ”الإيجو”، نرجسية الذات، غرور التفرد، نزعة التسيد، المستحكمة فينا، يتوجب علينا الا ننصاع لها، ونحن نسرد ذواتنا نحوهم، علينا أن نكون بجدارة الحرف الذي لا يكترث إلا لقيامه.”

هكذا- أيضاً- باحت الشاعرة الأمريكية ” إيميلي ديكنسون”:
أنا لا أحد
من أنت؟
هل أنت لا أحد أيضاً؟
إذن فنحن اثنان من نوع واحد
لا تخبر أحداً
لأنهم سيعاقبوننا، كما تعلم
كم هو كئيب أن يكون المرء معروفاً
كم هو أمر عمومي مثل ضفدع
أن تردد أسمك طوال يوم يحيا
لمستنقع متأمل.

 
   

 

واقف يشهد نفسه

 

هكذا اعترى ” فريد رمضان ” شغف الكتابة ليشهد ما رأى بنفسه، هالكا من تصاعد المشقة منذ مرتع الطفولة ” فريق البوخميس” لذا صاحب وقتا لإضاءة الكامن في ذاكرته، المهاجر في وطنه، وأنه المرتد في زمنه.

” التنور” نص يتعرض لسرد القهر العالق بحداثة الألم. إطلاق لعناصر البنية الروائية بموازاة الهمس من “عسلوه” حتى ” المحرق” لطمأنة الغربة والوحدة بأمل انتظار القوارب.

حاك ” التنور ” ليروي تفاعل الرؤى وتقنيات العرض الروائي، وما يتحقق من مشاهد جديرة بالتنصت والمساءلة، حضور للاستحواذ الشعري عبر لغة تحطم الفواصل، وتلغي الضفاف أمام نهر الإبداع. ليجهر بحذر المكتشف نبض الشعر – سر اللغة:

” أيها التنور يا واهب هذا الحب. أي شيء كان يمكنه أن يوقف ذلك العذاب غير هذه النار الحنون التي تستقبل طراوة العجين من أيدينا المفترسة في اكتشاف دروب جديدة لأسمائنا المفجوعة بالغياب، سنابل الطحين تنشد نعمتها وهي تختمر في دفئنا. توقظنا النار..”

أعلن ” فريد رمضان” تجربته ” البياض” وتلاها بـ ” تلك الصغيرة التي تشبهك” والآن ” التنور “.. ليحقق من مدى عنايته بفضح أوار التجربة، وليسأل: هل حقق حضور الروح بصقل ما يتجسد منها وينبري بالهتف شاهدا على ما يحدث.

لتقرأ ” التنور” لك أن تتمهل وطبيعة الحدث حيث تتوازى لوحة العرض وهدير تداعيات لأقنعة تشبهنا، لنرى ونصغي في آن. لضحايا تسرد بطولاتها ليصل العويل.

وأيضا لك أن تتمعن برعاية اللغة ما يضيء الحدث ويفاجئ الصمت، ترصد حميمية التواصل وعناصر روائية استطاعت أن تشمل معاناة ما قلت الجمر وهي تلهو بتنور الأرغفة.

ومن الصعب إغفال المراهنة التي تعرض لها ” فريد رمضان” وهو يكتب نصا روائيا، أراد من خلاله تقديم تجربة تعبر عن الواقع المعاش، دون الإخلال بجمالية العناصر الإبداعية الأخرى، والتي تأتي الصورة الفنية واللغة الشعرية في مقدمتها، دعوة مكونات الحياة لأفق النص بسماتها المحلية من ملامح وأصوات، بيوت، غبار، نباح وحسّ إنساني يتدفق كل صباح ليضيف دفئا لمشاهد الرواية دون تعطيل لطبيعة التناول الذي يسعى لتحقيق اتزان ما بين شاعرية البوح وتلقائية السرد، ليكتمل المشهد المنسي في تجربة الكتابة.

هكذا: ” خضوعا هذه أرض صغيرة تزهو بدمها، خضوعا، خضوعا، تحمل في فيئها سنينا مغمورة بالحلي، بالأحجار الكريمة، بسبائك اللؤلؤ، بعويلها الفاحم. خضوعا، خضوعا، ها هي تفتح رخام عزلتها لبطش الغزاة”.

لنرى ” التنور” إضافة تمثل تحد فني يراوغ بين لغة منتقاة برفاهية وتداعيات عنف المجابهة الإنسانية بين كائنات تغزوها قسوة المنفى الذي يقاول بانكسارها المؤقت وكيد العالم.

كتابة تسلك غمار المسكوت عنه، والملغي من ذاكرة المنفى.

” أعرف أيها الأصدقاء لأنكم لا تصدقون هذه الحكاية، لكم أن تسألوا مصطفى ابن الصياد حسين، الذي يقرأ لي رسائلهم. ماذا تريدون أن أقول لكم؟ أي خبر منذور لموتهم في غربة بعيدة، أي ريح قاسية تعصف بهم؟”.

-2 –

” أي فتنة تدعو للارتياب في هذه اللحظة؟”.

 

شيخ الوقت

 

هو شيخ الوقت “أبو يزيد البسطامي” المتصدر لمعارج الحكمة والرؤى التي لا تضاهى، في وقته حيث عمت الفتن والمهالك، وفي كل الأوقات حيث لا تزال، هو العارف المفتتتن بالمجاهدة الغنية بالوصل، كما يصف درجة العارف حين سئل عنها فقال: ليس هناك درجة بل أعلى فائدة العارف وجود معروفة. العابد يعبده بالحال والعارف الواصل يعبده في الحال، كما قال عنه ” الجنيد بن محمد”:

الناس يرتاضون في ميادينهم،
فإذا بلغوا ميدان أبي يزيد هملجوا

قول فيه الكثير من العمق في وصف حال الشيخ الذي”صارت أنملته عريضة من كثرة ما كتب” في عصر تلاونت فيه الملل والأحزاب، وقت اتصفت فيه الكتابة الملازمة للتجارب الصوفية بالبعد الفلسفي الغائر في تفنيد المعنى، المعنى بمعنى عدم المعرفة (كلية المعنى) وليس المعرفة المجانية المتعارف عليها، اجتهاد نحو البحث عن صيغة أخرى لليقين، مداولة الشك، كشف المستور، تنوير الرؤى الباطنية بالهتك الدائم، هكذا كان الحال، عندما تتحول الحياة بأكملها لأتون حي لصهر التجارب الانسانية بحمى البحث عن النور الأزلي.

كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة.
تكلموا ممزوجاً وأتكلم صرفاً.
الناس كلهم يقولون به، وأنا أقول منه.
من نظر إلى الناس بالعلم مقتهم، ومن نظر إلى الناس بالحقيقة رحمهم.
من باع نفسه كيف تكون له نفس.
العارف لا يكدره شيء، ويصفو له كل شيء.

في رؤى مكثفة، مقطرة بالصبر والصقل المنير، تبدأ الكتابة مسراها، حيث التجربة أزهى من النتيجة والطريق أبهى من الوصول، تجربة الشعر الآتي من حكمة التصوف يتباهى بقدرته على إدهاشنا في كل حين، لا نمل من معاينة تدابيره بل نتواصى على إعادة معاينته، التجربة الشعرية لا تصدر من الذاكرة الثقافية أو الاشتغال الذهني كما يحدث الآن، هي ليست رصف حروف تتشابك في مصادفات الكلمات، بل تجربة روحية عميقة، هي مبتلى الجسد المتشظي برؤى الروح، جسد مهلوك من شدة الحدوس، محنة التصاوير الذي تتوارد على شفتيه ما أن يبدأ تلاوة الأعماق.

كيف الطريق إليك
قال: دع نفسك وتعالَ.
لا يشكونَّ قلب العارف وإن قطع بالمقراض.
كن فارس القلب، راجل النفس.
أنا كل السبعة.
دق رجل الباب على أبي يزيد فقال أبو يزيد: ماذا تطلب! فقال: أبا يزيد. قال أبو يزيد: وأنا كذلك في طلب أبي يزيد منذ عشرين سنة.
إن لوائي أعظم.

البحث الحثيث في أسرار النفس هو مسلك العارف، وهذه التقانة هي التي تنير طريق اليقين والمعرفة المبشرة بالحكمة والمحبة، عندما نقرأ ما كتبوا لنا، لا نتوه في البحث عن المضامين المراد سردها لنا كما نفعل الآن مع الحديث من الشعر أو السرد، لكننا نقرأ.. بصمت الممسوس بالذهل، ثمة كشوفات أنيرت لهم غلفت الكلمات بسحر الرؤية اللامتناهية الحضور:
من تكلم في الأزل يحتاج أن يكون معه سراج الأزل.

سراج، بالفعل، يحتاج الذاهب في طريق المجاهدة الروحية للبحث عن الحقيقة الكامنة في أقاصي الروح عن سراج، ضوء الحكمة، مشكاة النور.. نور بكل ما في القلب من خبرة الروح.

في مقال كالذي نحن ببابه، من الصعب أن اكتب أكثر، من الجلي أن نصغي معاً:

المحبة هي استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك
العارف ما فرح بشيء قط، ولا خاف من شيء قط.
غلّقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح.
العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول.
الزاهد يقول كيف أصنع، والعارف يقول كيف يصنع.
لولا اختلاف العلماء لبقيتُ متحيراً، واختلافهم رحمة.
قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟
فقال: ببطن جائع وبدن عارٍ.

 

 

 

أرجو أن تعتبرني حلماً

 

قال قبل الموت:

“أرقد على الشرفة وكأنني أرقد على طبل يقرع المرء عليه من الأعلى والأسفل، بل من كل الجهات. وأفقد الإيمان بأنه ما زال يوجد هدوء في أي مكان على سطح الأرض.

لا أقدر أن أسهد، ولا أقدر أن أنام، وحتى لو ساد مرة هدوء بشكل استثنائي، لا أقدر أن أنام بعد الآن، لأنني محطم للغاية. كما أنني لا أقدر أن أكتب ولا أن أشرب، ولا أقدر أن أتحدث مع أحد”.

 

عندما دفن جثمان “فرانز كافكا” في “براغ” عام 1924 لم يكن قد سمع بهذا الاسم سوى أفراد قلائل، وبعد وفاته بعشر سنوات بحثت عنه الدائرة الحكومية كي تسلمه وثيقة تثبت إنهاء وضعه بالنسبة للخدمة العسكرية.

– لقد أبدع أدبه الذي جعله: “الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن لا نستطيع فهمه من دون كافكا”. وأهم روائي في القرن العشرين خلال أحد عشر عاما فقط ونصف العام.

في عام 1988 بيعت مخطوطة “المحاكمة” في المزاد العلني في لندن بمبلغ 1،1مليون جنيه ، وقد ابتاعتها حكومة المانيا الاتحادية بعد أن كانت قد رصدت مبلغ 2،3 مليون جنيه من أجل شرائها ، وكان الألمان يعتبرون الحصول على هذه المخطوطة مسألة كرامة وطنية.

 

“ذات مرة أيقظت “دورا” في المصحة “كافكا” الذي كان ينتحب وهو نائم، فهمس إليها قائلاً: من الحياة يمكن للمرء بسهولة نسبية أن يخرج كتباً كثيرة، لكن من الكتب لا يمكن للمرء أن يخرج سوى قليل من الحياة، قليل جداً”.

عندما وصلتني ترجمة” الآثار الكاملة” التي أنجزها عن الألمانية الكاتب والمترجم السوري إبراهيم وطفي، خفت من قراءة الكتاب الذي – وهو الجزء الأول- يناهز الثمانمائة وخمسين ورقة، تعتني بإيراد كل ما وجد وحقق لغاية النشر من كتابة حول إبداع “كافكا”، بل حول كل شيء عانقه طيلة حياته.

عادة يحدث أن تقرأ رواية ما، وتتأثر بها، وتظل تثير دواخلك بعض الوقت، حتى تنتقل لتفاصيل الحياة التي سوف تلهيك عنها بتراكم الأعباء، هذا عادة ما يحدث، لكن عندما تقرأ رواية واحدة لكافكا، عليك أن تودع ذاتك قبل الرواية، لأنها لن تكون ذاتها بعد القراءة، لسبب يكمن في عنف موهبته القادرة على تغييرك من الداخل، إعادة صياغة أفكارك، خلخلة رؤاك، شحذ أحاسيسك، تحريف الجهات، هز ميزان النظر، العديد من التبدلات تخضع لها، فما بالك إن كنت أمام تحد خارق يضعك في مواجهة كل شيء يتعلق بكافكا الذي يقول:

– “إن لم أنقذ نفسي في عمل، فإنني سأهلك”.

المخيف في هذا الكتاب، هو اشتماله على بلورات معرفية لا متناهية في الصغر، تلتئم شيئا فشيئا بفعل القراءة والتفحص لدلالات الحالات التي نشهدها، ويشير لها كافكا ورفقته، وكلما تحصلنا على بلورة كبيرة الحجم تكفي ليتحصن بها الوعي، شاهدناها تتهشم ثانية، أمام معلومة أخرى تتضاد وحصيلة المعنى الذي كدنا أن ننجزه.

ذلك لقدرة كافكا المذهلة على إثارة الشك وتقليب اليقين، إدراكه ومحاورته لعوالمه الحياتية، والكتابية التي تحدث شروخاً عديدة في ثوابت المعارف، إن فعل تحدياته الإبداعية لا يكمن في مجابهته للإبداع أو الحياة، بل بينهما كضدين متحدين، وبينه كجسد وحيد.

في يومياته كان حريصا على تدوين مراحل كتابته الإبداعية، كل ليلة:

الكتابة: “لا يزال الليل ليلاً أقل من اللازم، من أجل الكتابة أحتاج إلى عزلة، ليس مثل زاهد، هذا لا يكفي، وإنما مثل ميت”.

العائلة:” هي الصلة القسرية الوحيدة التي لا يمكن فسخها”.

البيت:” سجن أقيم لي خصيصاً، وهو أكثر قساوة لأنه يماثل بيتاً عادياً لا يرى فيه أحد- غيري- سجناً”.

قلقه الإبداعي وندرة النوم:” صحيح أني أنام، لكن أحلاما قوية تدعني مستيقظاً في الوقت نفسه، إلى جانب نفسي أنام، بكل معنى الكلمة، في حين أروح أنا نفسي أتصارع مع الأحلام، لا أفعل شيئا غير مشاهدة الأحلام، وهذا أمر متعب أكثر من اليقظة. عند الفجر أطلق تنهيدة في الوسادة لأن كل أمل قد ضاع بالنسبة لهذه الليلة”.

محاولاته للانتحار: “قفت طويلاً إلى النافذة، وكان يطيب لي مراراً أن أفزع الجابي على الجسر بسقوطي”.

حين يحيا كافكا، يكاد أن يتحول إلى فعل الكتابة ذاتها، بمعنى قدرته على التشيؤ والتحول الذي يزيح خصائص الكائن عنه، ويهبه لطقس إبداعي سحري وسري في آن، من الصعب تفسيره أو الإندغام الكلي به، هذا ما يتكشف لك، عندما تتابع سيرته ويومياته بالذات، تتيقن من كونه لا يعرف معنى له دون الكتابة، ولا يتعلق أو يكترث بحقيقة أخرى غيرها، ثمة تجاسد كلي بينهما، هذا الاشتراط والاحتراس الإبداعي، بلور موهبته لتنجز التحول العميق في وقت قصير جداً لا يتجاوز أحد عشر عاماً.

كتب صديقه روبرت:” يمثل هذا العمل جهداً هائلاً، ليس روحياً فحسب، وإنما هو نوع من معاودة لقاء ذهني يؤثر فيه ويهزه، بحيث تسيل دموعه طويلاً على وجنتيه، ورغم حالته الرهيبة، فإنه يرغب في مواصلة تصحيح “فنان الجوع” وإن كان مقتنعاً بأن هذا العمل سوف يثير الاضطراب في نفسه. لقد قال لي: ينبغي على أن أعيش الحالة من جديد، إن حالته الجسدية، التي يموت فيها جوعاً مثل بطل قصته البائس، هي فعلا حالة أشباح”.

كما قال له:” أرجو أن تعتبرني حلماً”.

 

الكتاب المبين

 

دواؤك فيك وما تشعر

وداؤك منك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

وانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر

علي بن ابي طالب عليه السلام

 

في تاريخنا العربي ثمة طرق متعددة لانتهاج الحكمة الناهضة من تجارب الحياة، حكمة نيرة، متقدة بالمعارف المتعالية من مقامات الوصول، رؤى نقية تضئ الروح.

حكمة محفورة بحروف من نور تشكل سيرة الوعي المتعمق في تعاليم الحياة.

 

دواؤك فيك وما تشعر، حقيقة اكدتها كل العلوم الانسانية والتعاليم الروحانية، من خلال استلهام قدرة الجسد الانساني وخفاياه على العلاج الذاتي، علم العلاج بالطاقة أحد هذه العلوم ويسمى الريكي ، هو علم ياباني قديم من اصول صينية، ما يقارب 4000 عام ويستند على اكتشاف يتعلق برفع طاقة الجسد من خلال موازنة لمراكز الطاقة فيه، بحيث يتم  تنشيط جهاز المناعة في داخل الجسم وموازنة الطاقة الداخلية وتفعيل مراكز الطاقة ليحدث الاستشفاء الذاتي، ويتم التخلص من كافة الامراض الناتجة من انخفاض طاقة الجسم، علم الاستشفاء الذاتي- الريكي-  كان منتشرا  لدى الفراعنة والهنود الحمر وقبائل المايا وغيرها من القبائل، وايضا لدى العربية وكان يسمى علم اللمسة الشفائية،  وهناك العديد من النصوص والاحاديث تؤكد وجود هذا العلم، كغيره من العلوم التي كنا نتباهى بها كالفلك والطب والفلسفة والرياضيات والكيمياء والبلاغة والفنون بشتى تجلياتها، وضاع منا مع غيره من العلوم عندما بددنا  النعم والمعارف واتقنا لغة العنف والحروب والنزاعات والصراعات والطوائف بشتى صروفها .. من اجل الغنائم والعطايا ودوام السيادة والتسلط.

 

ثمة شعوب قدرت هذه  العلوم والحكمة وكافة المعارف التي تركتها اسلافها، لذا عملت على اعادة اكتشافها من أجل ان يستفيد منها الاحفاد وليزدان المستقبل بها، علم العلاج بالطاقة أو الاستشفاء الذاتي تم اعادة اكتشافه وتقديمة للعالم على يد البروفسور د. ميكاو يوسوي-1865- 1926 الذي امضى سنوات طويلة من عمره في تعلم اللغات القديمة ومنها اللغة السنسكريتية، بدأ رحلة عميقة في دراسة الطب الهندي القديم وكافة علوم الاستشفاء القديمة ليعيد اكتشاف علم الريكي، كلمة ريكي تتكون من كلمتين “ري” وهي الطاقة الكونية المنبثة في الكون و”كي” الطاقة الحيوية في اجسادنا، الريكي هو اتحاد الطاقة الكونية التي نتنفسها كل لحظة مع الطاقة الحيوية التي في اجسادنا وتتدفق من ايدينا، وهذا يحدث لكل كائن حي في هذا الكون، كلنا نملك طاقة شفاء في ايدينا، وهذا ما يفسر وضع اليد على مكان الألم،  الاكتشاف الياباني يتجلى في قدرة الماستر او المعلم على رفع هذه الطاقة الى المستوى الأول ثم الثاني وهكذا حتى الماستر، عندما يتم رفع الطاقة  من خلال موازنة مراكز الطاقة في الجسم تتدفق طاقة الريكي في ايدي المعالج ويستطيع علاج نفسه وعلاج الآخرين، بدأ علم الريكي في الانتشار في العالم من القرن التاسع عشر حتى الآن، وبدأ العمل به في اغلب المستشفيات والمراكز التعليمية والصحية الاوروبية والامريكية.

 

المرء عدو ما يجهل.

هذه الحقيقة هي التي تسند قوى الجهل عندما تستشري، عداوة بالمطلق لعلم لم نتعلمه ولم نصغي لمن درسه ومارسه وتحقق من قدرته على الشفاء ثمة خوف داخلي يتناهض في أعماقنا أمام كل شيء جديد يشي بالتغيير الحقيقي، لأننا نخاف التغيير، نبدأ في الرفض المباشر دون أدنى حوار، وربما تقودنا السخرية ايضا الى المزيد من القهقهات الفارغة من معنى الحياة. لذا تأتي الحكمة وتقول لنا: داوؤك فيك وما تبصر.
البصيرة هي العين الثالثة، الناصية، مركز من جهاز الطاقة في اجسامنا يقع في منتصف الجبين بين العينين ويتصل بالغدة النخامية في اعماق الدماغ، مركز يبث الوعي النقي، وامكانيات الحدس والتخاطر ومهارات عديدة لا تحصى، وكذلك يمد النصف الايمن والايسر من الدماغ بالطاقة، ومنطقة العينين ايضاً، العين الثالثة هي المسؤولة عن الاحلام والرؤى والوعي الحقيقي:

تزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر وانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر.

 

 

يعطي الحياة لكل شيء

 

حينما تستيقظ صباحا.
اشكر، نور الصباح. لأجل حياتك وقوتك.
اشكر، طعامك، وبهجة أن تحيا.
إذا لم تجد سببا للشكر، فإن الخطأ يستوطنك.

من حكم الهنود الحمر

 

كلما فتشنا كتب التاريخ وأوراقه المصفرة بحثاً عن حكمة نتشبث بها في هذا العالم الاستهلاكي الأصم الذي لا يصغ لصوت القلب ولا يعرف معنى محبة الأرض، العالم الراكض نحو المال الزائف والجاه المندثر، نحو تغليب العنف من البيت والعائلة حتى ساحات الحرب، حيث يتعالى الدخان مفسراً حجم حقد الانسان على أخيه الأنسان، حيث الحضارة تتصدع على دوي الانفجارات وتلتحف السماء برماد الموت.

كلما فتشت عن حرف رحيم ألوذ به في ليلي الوحيد، لا أجد حرفاً بمثل عطف وحنو وحكمة الهنود الحمر، سكان الأرض السخيين بالمحبة على كل قطرة مطر تهبط من علياء الكون، حشرة صغيرة تحدق من على غصن يميل، غيمة عابرة، رملة وحيدة، خيمة ملونة، قلب ينبض بالحب آخر الليل.

حكمة الهنود الحمر تتجلى في قدرتهم على التسامح والعفو وتعلم الدرس ممن شنوا المذابح وأشعلوا حروباً شعواء لتشريدهم ومحوهم من تاريخ الأرض عبر القتل والإبادة حرفياً، مع كل ما تعرضوا له من قتل واغتصاب وطمس لتراثهم العظيم، الا انهم وهو يدافعون عن أنفسهم لم يتأثروا بصفات وسلوكيات المعتدين الغزاة، بل تعلموا منهم ثمن الحرية، وعلموهم كيف يحترمون كائنات ومخلوقات الله على الأرض والسماء وفي كل انحاء الكون.

هكذا كتبوا في ذاكرة احفادهم العصية على النسيان:

“الطبيعة الأم، لها القدرة الكلية، إنها الخلود. ما هي اختراعات البشر، المدن المتعالية التي تنمو على تخوم الصحراء؟
الأسلحة الفتاكة التي يستعملها، لكي يضمن ويدافع عن غزواته؟
لا شيء غير حفنة من الغبار المنظم، ستعيده القوي الطبيعية إلى شكله البدائي. أهجروا الحصن، لبعض السنوات. تخلوا لأشهر عن المدفع والرشاش، في المرعي. علي الفور، سيكتسح العشب والشوك، الحجر. ثم يأكل الصدأ الفولاذ الصلب.
لمرات كثيرة في سالف الزمان. تكاثرت مدن قوية فوق صحاري واسعة. لم تبق منها اليوم إلا الأطلال، تنتهي بدورها متوحدة بالأرض العذراء دائما.
مهما كان شأن الأفراد الذين يمرون؟ فقط ينفث فيهم الفكر ثم يندثرون إلى الأبد! إذن، أبناء الأرض يستعيدون الأرض ثانية. وتعود من جديد الأزمنة الأولي.”

ثمة رؤى فلسفية غير مسبوقة تجلل كلماتهم، وانت تقرأ تستعيد الدرس تلو الآخر، عمقه يكمن في طبيعته الكونية، كانوا مؤسسين فكرياً ليستلهموا التعاليم المقدسة من احترام كائنات الله في كل مكان، من كونهم يتقصون المعرفة عبر التجربة الحياتية لا من خلال الثرثرة والشعارات كما يحدث الآن، يمارسون قناعاتهم بصدق وحرص على ان يعم الخير في كل الانحاء، حبهم للحياة يعلمهم الاصغاء لها ولدروسها، وما كنا نراه من نقوش وألوان زاهية على خيامهم ووجوههم وملابسهم القليلة هو الدليل الساطع على اكتنازهم بروعة المخيلة والتباهي بحضور الجمال.

كانوا يجتمعون في العراء ويصغون لكلمات الحكيم المتدثر بردائه الملون، أمام النار المشتعلة يتحلقون ونسائهم واطفالهم وحيواناتهم وغيومهم من حولهم ويصغون له:

“أيها الفكر الكبير، صوتك الذي أسمعه في الرياح وهبوبها، يعطي الحياة لكل شيء، استمع إلي.
أنا قادم إليك، مثل واحد من أطفالك الكثيرين، أنا ضعيف … صغير…، أحتاج إلى حكمتك وقوتك.
أتركني، أسير بين الجمال. واجعل عيني تكتشفان دائما احمرارات وكذا أرجوانية كل غروب للشمس.
علم يديّ احترام الأشياء التي خلقت، وأذنيّ أن تكونا مرهفتين لسماع صوتك.
اجعلني حكيما، حتى أتمكن من فهم ما لقنته لشعبي، والدروس التي أخفيتها في كل ورقة وصخرة.
أطلب منك القوة والحكمة، ليس لأترفع على إخوتي، ولكن لأغدو قادرا على محاربة أكبر أعدائي، أي ذاتي.
اجعلني دائـما متأهبا لكي أتقدم أمامك بيدين نقيتين ورؤية مستقيمة.
هكذا، حينما تنطفئ حياتي مثلما تغرب الشمس، يمكن لفكري الحضور عندك دون خزي.”

الجمال أمامي، على أن أمشي.
الجمال ورائي، على أن أمشي.
الجمال فوقي، على أن أمشي.
الجمال من كل جهة، على أن أمشي.

 

 

ًنعرف شيئاً واحدا

 

عندما استهل الزعيم الهندي “سيتله” بدء دفوعاته عن الحياة، كان متيقناً من خلود كلماته عير الوقت، الوقت اللازم لتنهض حكمته عندما تتوالى النوائب على البشر.

في عام 1854 حضر زعيم البيض الكبير من واشنطن للتفاوض على شراء منطقة كبيرة من أرض الهنود الحمر مقابل أرض بديله لسكناهم، لم يدر بخلد الزعيم الابيض انه سيكون امام مواجهة لمعضلة أزلية ناتجة عن تراكم أفعال المستعمر العدائية تجاه البشرية طيلة حياة الأرض.

هكذا بدأ الزعيم “سيتله” الحديث:

” لسوف نفكّرُ في عرضكم أن تشتروا أرضنا. لكنّهُ لن يكون أمراً سهلاً، لأنّ هذه الأرض مقدّسةُُ لدينا. الماءُ اللامعُ الذي يجري في تيارات وأنهارٍ، إنهُ ليس ماءً فقط، بل دمُ أجدادنا. حين نبيعُكم الأرضَ، فينبغي أنْ تتذكّروا انّها مقدّسةُ، وأن كل انعكاس سريع في ماء البحيرات الصافي يحكي وقائعَ وقصصاً عن حياةِ قومي. دمدمةُ الماءِ هي صوتُ أجدادي. الأنهارُ اخوتنا، انها تسكّنُ عطشنا، الأنهارُ تحملُ قواربنا وتسدُّ جوع أولادنا. حين نبيعُكم أرضنا، فينبغي أن تتذكروا وأن تعلموا أولادكم، أنّ الأنهارَ هي اخوتنا واخوتكم، ومن الآن فصاعداً يجبُ أن تكونوا طيبي القلبِ مع الأنهارِ كما لو أنكم مع إخوةٍ. نعلمُ أنّ الرجل الأبيضَ لا يفهم طريقتنا في العيش، وايُّ جزءٍ من هذه الأرض هو بالنسبةِ لهو كأيِ جزءٍ آخر، لأنهُ أجنبيُّ، يجيءُ في الليل ويأخذُ من الأرضِ كلّ ما يحتاجُهُ. الأرضُ ليستْ أختهُ انما عدوهُ، بعد أنْ يفتتحها فإنّهُ يُتابعُ طريقهُ. يتركُ قبورَ أجداده خلْفهُ، وهي لا تعني لهُ شيئاً. يسرقُ الأرضَ من أولادِهِ ولا يهتمُّ بذلك. قبرُ والده وحقوقُ أولاده منسيّةُ. يُعاملُ أُمّهُ الأرضَ وأخاهُ السماء كأشياء يستطيعُ الإنسانُ أنْ يشتريَها، يسلبها، يبيعها كغنمٍ أو كلآلئ لامعةٍ.

جوعُهُ سوف يلتهمُ الأرضَ ويتركُ وراءهُ صحراءً. لا أدري، طبيعتنُا هي غيرُ طبيعتكم.

 

العدائية تجاه الآخر، اشكال انساني مرافق لتنوعات التسلط ونفي الآخر على الأرض وتفاقم أوجه صراعات النفوس والحدود، في المشهد الثقافي نراه يتصاعد معبراً عن وجوده في ثيمات متباينة، كلها تشي بعدم قبول الآخر، ليس المختلف بل حتى المتوافق لكونه آخر فقط.

كلما ازداد الحديث عن الحرية وقبول الاختلاف واحترام الرأي في مجتمعاتنا كلما ازداد رفض الآخر وتعالت العدائية المتمثلة في النزوعات العصبوية والطائفية وغيرها، ويحدث ذلك لأننا لا نحيا الحياة بتصالح مع الذات، مع محن الماضي والحاضر، لا نتعلم من التسامح الذي يجلب الحكمة والمعرفة، لا نكن محبة لأنفسنا، ولا قبول لذواتنا، لذا نستطيع قبول الآخر إذا كنا في عراك دائم مع أنفسنا وعدم قبول لها، عدوانية عميقة متجذرة نحو أرواحنا والكون، نراها تنضح في أول مواجهة مع الآخر، وفي أول حرب.

الأنا هي الآخر، والآخر هو الأنا، هذه حقيقة أزلية، منبع لحكمة الوجود، وجودنا الفيزيائي أساسه الذرة التي تشكل أصغر جزيء في خلق الكون كله، ذرات متجمعة في أجساد، ومن حولنا الهواء والأرض والنجوم والكواكب، كل شيء مخلوق من ذرة أي طاقة للحياة مصحوبة بوعي ملازم لها.

نحن كل واحد، لسنا أفراد أو أجزاء، من يؤذي الآخر يؤذي ذاته، ثمة وحدة لهذا الوجود، هذه الحقيقة أدركها الجدود وعاشوا الحياة في منظومة متحدة ومتوافقة مع كل كائنات ومخلوقات الله، توائم تام يخضع لقانون عالدة كونية: لكل فعل نتيجة سلبية ام ايجابية، الكل مسؤول عما جدث ويحدث وسيحدث، لأننا واحد.

قيم الفردية التنافسية، سيادة الجشع والطمع والإثراء اللامحدود، قيم عززتها الثقافة الرأسمالية ورعتها الثقافة الاستهلاكية، قيم تنخر نقاء الانسان منذ الطفولة حتى يكبر ويتحول الى اخطبوط بشري لا يهتم بغير النهب.

خطاب الزعيم “سيتله” مؤلم ومبهج في ذات الوقت، وللأسف من الصعب إيراده كله:

“كلُّ الأشياء مترابطةُ ببعضها. يجبُ أن تعلموا أولادكم أن سطح الأرض تحت أقدامهم هو رمادُ أجدادنا، كي يحترموا هذه الأرض، احكوا لأولادكم أن الأرضَ ممتلئةُ بحياة أسلافنا. علموا أولا دككم ما علّمناهُ أولادنا، أنَّ الأرضَ هي أمُّنا. كلُّ ما يحدثُ للأرضِ يحدثُ للذين سيأتون الى الأرضِ.

حين يتفلُ البشرُ على الأرضِ، فإنهم يتفلون على أنفسهم ذاتها.

نعرفُ شيئا واحداً. الأرضُ لا تنتمي الى البشر، الإنسانُ ينتمي الى الأرض. الكلُّ مترابطُ ببعضه، كما الدمُ الذي يوحّدُ عائلةً. كلُّ ما يحدثُ للأرضِ، يحدثُ للآتين الى الأرض. ”

 

 

 

الشعر حصاري الوحيد الشاسع

جريدة السفير.

 

بعد “آخر المهب” و”ملاذ الروح” ثمة “رهينة الألم” للشاعرة البحرينية “فوزية السندي”. “السندي” شاعرة، تسهم بكتاباتها في أكثر من مجال، في الإبداع والنقد وفي أكثر من منبر إعلامي عربي مقروء. مجموعاتها الشعرية مشغولة باللغة والإيقاع. في “مهرجان المرأة والإبداع” الذي انعقد مؤخرا في قصور الثقافة في القاهرة، التقينا الشاعرة “السندي” وكان هذا الحوار:

1- تتميزين بلغتك النثرية في نتاجك الشعري، هل من تباين ما، بين اللغة الفخمة ونجاح القصيدة الفني بمعنى ان الاعتناء باللغة على حساب عناصر القصيدة من صور وبناء؟

– لا أميل لتعبير “اللغة الفخمة” لكون لغتي الشعرية تخلقت ضمن تجربتي الحياتية وتناغمت لتصوير ما يعتريني من أحاسيس ورؤى تعبر عن طبيعة القلق الوجودي الذي أراني مسكونة به، العناية باللغة بالنسبة لي مسألة غير مفتعلة أو مقصودة لذاتها، بل هي تحقق لينوع مفردات وعلاقات لغوية تستوي في ذاكرتي ومخيلتي، كنتاج ضروري لرغبة الكتابة لدي، أو بتعبير آخر هي مكانيزم ما، يتصل بمخيلة أجهل طرائقها، لكنها تعمل على تخزين طاقة تعبيرية في ذاكرتي، لكونها متيقنة من حاجتي الشديدة الحساسية لحضورها في نصي.

لا أرى هذا الاشتغال العفوي الذي تخلّق لدي، يؤثر بشكل سلبي على عناصر النص الشعري الأخرى، بل بالعكس هو المصدر الوحيد لإثراء وتأثيث هذه العناصر في النص الشعري، ان تأثير الصورة الشعرية، تشكيل البنية اللغوية، تفشي الامكانات الدلالية، حصول الإيقاعية البصرية والتكوينية في النص ترتكز بشكل أساسي على مدى ثراء اللغة الشعرية، القادرة على استكشاف علاقات دلالية ورؤيوية متفردة.

آن الكتابة لا أجتهد لأفتعل ما أسميته بالتفخيم اللغوي أو غيره من المصطلحات، بل أستوي نحو القلب لئلا أتحقق بأقل من خفق الدم.

2- ما الذي أضفته، برأيك في نتاجك الأخير “رهينة الألم” على مجموع ما كتبت؟

– تجربتي الشعرية الأخيرة “رهينة الألم” تعبر عما اهتواني طيلة الوقت الذي امتد بعد كتابي “آخر المهب” و”ملاذ الروح” ، فيها دونت القليل مما احتمل ضمن نصوص شعرية، ربما استطاعت ان تعبر عن تجربتي الحياتية ومدى تشظيها في روحي، لا أعرف ماذا أضفت، ولا أثق أيضا بغير ذلك، كل ما هنالك أني احتملت ترجمة صمتي، أغويت ذاكرتي لتسرد لي ما أثقل جسدي كل هذا الوقت، كنت في “رهينة الألم”.. أكتب الشعر لا لأكتشف الألم بل لأعرف مداه.. كما كتبت:

“دون حرير دمي أكاد كالغيمة أجف

دون هتك بروق حبري أكاد لا أكون.”

“قبل الورقة قلما أرى وبعدها يضل النظر.”

“ربما ارتديت درباً لا أعرف آخرته

لكني انتضيت خطوي،

مذ علمني الطوفان طبيعة الطفو.”

3- ما نوع قراءاتك، لمن تقرأين وبمن تأثرت بشكل غير مباشر؟

– فعل القراءة شديد التنوع بالنسبة لي، يستهويني التاريخ كثيراً، لكونه مفعم بطاقة الذاكرة، مكتنز بعمق الخسارات، أيضا أغلب العلوم الإنسانية، الأدب بشكل عام، يستهويني “أبو تمام” و”المتنبي” كذلك “ليلى الأخيلية”، في الرواية “ميلان كونديرا”، “سليم بركات”، “ميشيما”، في الشعر الراهن “أدونيس” و”سليم بركات” وآخرين، تأثرت كثيرا بتجربة الشاعرة “سنية صالح”، تلك التي لم تنل ما تستحقه روحها الشعرية الشديدة الرهافة، أيضاً الشاعرة الأميركية “اميلي ديكنسون” و”رامبو”، التأثر بإبداع الآخرين كان بالنسبة لي بمثابة الإلتحام بتجارب حياتية أخرى، مكتنزة بمقدرات المخيلة التي تستفز قدرتي على محاورة مقترحاتها التخيلية، بل مقاربة روحها الإنفعالية بذات الإندفاع والإحتداد، دون أن أغفل عن أهمية مراعاة المسافة النقدية التي أعتمل بها، ان مقاربة نص الآخر يستهويني بحدة لأشتغل عليه كمختبر إبداعي، منه أكتشف طرائقه في تفسير ملمات الروح وتسريح أذى الجسد، بل احتفي كثيراً بتمايزاته وأشتعل بطموح غريب لأحاول أن أتعلم منه مدى مثابرته لتحقيق قسوة ذاكرته، لأكتب:

“للحرف جنون يستهوي محترف الجن،

لذا يديم الجسد ليستنزل به.”

“لماذا كلما جبرت كسراً

بالغ في فسخ بياض العظم عن مبتغى الدم

توالى على هيكلي هشيم التشظي.”

“مذعورة،

أعود جسدي لئلا يعول علي.”

 

4- هل ما زلت تؤمنين بالشعر حيال مادية العالم المستشرية؟

عندما يكون الشعر حصاري الوحيد الشاسع، عندما أكتب لئلا أموت، أثق كثيرا بي وبالشعر، لا تعنيني مدى شراسة العالم ما دمت قادرة على فضح شراسته، بل كلما ازداد شراسة تشبثت أكثر بالشعر لكونه سلاحي الوحيد، سلاح القتيل، هكذا:
“لأقسو.. لكم ان تزدادوا شراسة

بلا اعتذار،

بذرة تعذر عليها الالتحام بذريعة الحياة،

تقود الأنياب إليها لتشفى من تفرس لا تعلم مداه،

تمادوا أيضاً وأيضاً،

متاحة لي، خليفة الحبر

شهوة البئر،

كل إغماءة توقظني،

لأحترف الحرف،

كما كنت أحيا،

أستحيل قشة إذ يراني الحقل،

أخوض معارك تغمرني بالجثث،

أحيا كالصمت..

صوت الموت،

مذبوحة بما يحدث بما لا أقوى كالحديث عنه..”

5- حدثينا قليلا عن محيطك الشعري؟

– تتعرض التجربة الشعرية في البحرين لهجمة الإستهلاك التي تشكل أقسى المعتركات، بمعنى حلول الاستهلاك الثقافي الذي هو نتاج حتمي للاستهلاك الاقتصادي التسليعي لكل شيء في هذا الوطن، بدءاً من تسويق السلع حتى تسويق القيم الاستهلاكية، للعمل على إلغاء الذاكرة ومحو التاريخ وتدمير الهوية العربية، هذه الهجمة تعتري أغلب البلدان العربية وفي مقدمتها دول الخليج، هذا التفتيت لكل المنجزات الحضارية والمكتسبات التحديثية التي تحققت طيلة تلك السنوات، عبر كفاحية هذه الشعوب، نراها الآن تتعرض لتدمير بطيء يطال كل شيء، من الصعب إذلال الشعوب العربية سياسياً واقتصادياً دون إلغاء ذاكرتها الثقافية والإبداعية عبر كسرها واحتلالها بترهات لا تنتمي للحياة بل تعتنق الموت البطيء، هذا ما يحدث لنا الآن. فيما يتعلق بالشعر، هناك اهتمام محموم لتسييد الشعر العامي، الشعر الموسوم بالنبطي، الذي تم إعادة استيراده من تاريخ قديم اندثر بمعطياته وتدابيره الفنية، تم معاودته، للعمل على تشويه ثراء تراثه، عبر تعميمه بتكلف باهظ، لمداولة أثاث الصحراء الغابر والكتابة بلهجة لا تتصل براهننا الثقافي أو الحضاري ولا تكترث أيضا بمشكلاته ولا أسئلته، كما تم تسطيح أغلب منابرنا الثقافية والمؤسساتية والإعلامية للترويج لهذا الشعر الاستهلاكي، بالرغم من صعوبة تلك التحديات، إلا أن هنالك العديد من التجارب الشعرية الرصينة والإلتماعات الشعرية الجديدة، تعمل بجد من أجل التفلت من مؤثرات هذا التدمير، بل تجتهد لإيصال تجربتها المتميزة، بالرغم من كون الإصلاحات السياسية الأخيرة في البحرين حققت هامشاً مهماً لحرية التعبير والفعل الثقافي، إلا ان حلول هجمة الاستهلاك ببشاعتها الأخطبوطية تشكل إحدى أهم التحديات لمآلات الثقافة في البحرين، تلك التي أثق كثيرا بقدرتها على قبول بل مجابهة هذه التحديات.

 

الوحيدة التي تترجم عبء الروح

حوار مجلة الوسط.

الشاعر: أحمد الشهاوي

1- هل تعتبرين الشعر “ملاذ الروح” من جنوحها وإحباطها، أم هلاكاً يأكل الزمن؟

– دوماً.. كنت أرى الشعر بطبيعته الحنونة والرهيفة ملاذاً رحيماً لكريستال الروح التي تتعرض كل هذا الوقت الراهن لخدوش وانتهاكات لا تتريث في نزوعها نحو تدمير شفافية الذات، كلما شفت النفس أكثر، كلما تصدعت بقسوة تشتد، وهي تشهد تصاعد عنف يغالي في إلغاء الحياة، وتدمير بهاء كائنات لا ترجو غير نهضة الهواء، تتواكب مشاهدات العنف، بحتم عسير على النفس، على الذات التي تقارب بياض الورق كل فقد يسري، روح محمومة تلتهي بجموح الحبر لتعبر عن غدر مبتلاها كل ليل.

أي ملاذ مليك قادر أن يحتويها في ظلام الأسر، غير حرف يشعل عصف الشرفة ولا يرى غير جناح الشعر.

من يصغي لعذابات أحداق تتأسى بعزلة الدمع.؟

من غيره؟

لذا أسميته ذات شعر: “توأم الأم”، من يستعير رائحة الحنان، دفء الأضلاع كل حضن، ليغمر جفاف الجسد بعطر الطفولة، بالذات آن تحتدم الذاكرة بفقد الأم ذاتها، الشعر ملاذ يغري الزمن بمداومة هطوله أكثر، رأفة بجسد.. لا يحيا بسواه.. ملاذ يحميه. لا هلاك يلغيه.

2- لاحظت أن ثلاثة دواوين شعرية من أعمالك الخمسة كتبت عناوينها على طريقة المضاف والمضاف إليه: “حنجرة الغائب”، “آخر المهب”، “ملاذ الروح”. فإلى أي مدى تضيف لك هذه التقنية “المضاف والمضاف إليه” والتي أراك تستخدمينها بكثرة وافرة داخل النص، على الرغم من أنك تعرفين أنها تقنية تقليدية كرستها قصيدة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وصارت تأخذ من الشعر أكثر مما تضيف إليه، فهل لديك تصور ما إزاءها؟

– آن الكتابة، أمهل اللغة، رئيفة الوقت، لتبوح بما أشعر به، لا يعتريني أي ملمح آخر يهتم بتقنيات أو مهارات ما، غير ما ينبعث بصدفة بالغة، لا أقلق حين الكتابة بما ينبعث من تقنيات، هل “قديمة أو تقليدية” كما أشرت، أو ناهزتها الأجيال، لا وقت لدي حينها، لا حيرة تسع هتفي إطلاقاً، نحو فعل الإضافة التي ستضيفها لتجربة الكتابة لدي، لذاك الوميض الساهم بسجدة الليل، أبدو غائمة بما ينتاب حال الروح، منهالة لنحت آخر يعلن الألم، أو يشعل بهجة تهيل القلب كله، متاه رجفة تتحول فيها اللغة ليد تحنو، لغة تغاور برد البلاغة لتكتويني بجمرة الحب، كل ما يهتويني آن الكتابة هو تحدي قدرة الروح على تحقيق رعدة الطاقة التعبيرية التي تحتلني، ترجمة جنوحها على الورق، دون إلتفات لشكل التقنية البلاغية.

3- في نصك ” فيما أحسه أو أحسبه الشعر” ذكرت في النص عناوين أعمالك الشعرية جميعاً في إطار توظيف النص وكتابته، كأنك تعلنين بيانك الشعري؟

– هذا النص محاولة لاكتشاف ماهية الشعر، رجفة همسه، مس جوانية عذوبته، لمعرفة مدى تماس الذات به، حصل هذا القلق لحلوله الدائم كل نص بشكل يبتغي تحريضي للكتابة عنه، ثمة غيرة تحققت لديه – وهو العارف أحوالي- كل كتابة أحاول فيها مقاربة شغاف تصطلي بوهدي، كأنه لا يريد لأصابعي أن تكتب عن سواه، لذا – لأتلو مبتغاه – بدأت الكتابة عنه ولم أنته بعد، كما أشرت في آخر النص.

إيراد عناوين نصوصي الشعرية لا علاقة لها ببيان شعري أو ما شابه ذلك.. ولكن لاحتمالها أيضاً على تعريف يقترب من هتف قلبي تجاه الشعر: هو “آخر المهب”، “ملاذ الروح”، “حنجرة الغائب”، “إستفاقات”، وهو صاحب محنة السؤال الذي داوم هلعي كل كتابة: “هل أرى ما حولي هل أصف ما حدث”.

في هذا النص هنالك صدى لصوت يحاول مقاربة سمو الشعر، عبر محاورة ما يتصف به من سحر، قد يجلو أسره.

4- الشعر اعتبرته “كتابة لا تشبه شيئاً” فهل من إضافة أخرى لتعريفك هذا من خلال خبرتك الشخصية ورؤيتك الخاصة؟

– دائما يتوق الشعر لأن يتحقق بفرادة لا تشبه شيئاً، بمعنى أن يدون نحت ذات تحترف اشتغاله برغبة ساحقة على التمرد والتفرد.. رهان لا يشبه أي رهان آخر، يجلوه المبدع وحده، كل ليل له وحده، عبر إعادة صياغة هدايا الحياة بداخله – كل التجربة الإنسانية والحضارية بمعناها الكوني- ليصل إلى بلورة جنته، بذل حلمه، مشافهة الأمل الذي لاح له بمتعة طاغية آن مزاولة مذاق الشعر، هذا الحلم أراه طريقاً صعباً لا بد للأصابع وهي تكتب من دحرجة خطاها عليه.. أن تصل أو لا تصل.. ليس مهماً، دامت تحاول أو تسعى للتعرف على غريب غوايته، تذوق بهجة الغرق: أول الطريق إلى لا منتهى عذبه.

5- في ديوانك “ملاذ الروح” اخترت هذا المقطع لكي يكون معبراً عن الديوان “امرأة تنام في الكون وتفتش عنه” فوزية السندي التي تسوح في الكون وتجول وتسافر في لغتها.. عن ماذا تفتش كل يوم؟

– عن كل شيء، الكتابة محرض عظيم لدهشة الذات، وهي تتداول شأن الحياة كل نهار لتجلوه كل ليل، الكتابة مسٌّ يكتسح النفس، لتقرأ مقترحات الكائنات الإبداعية الأخرى، ولتراقب ما يحدث لها وعليها في آن، تجترح نرد الخسارات، تتلهى ببسمة تهيل الحب هنا لوميض يضيء الأمل هناك، كل هذه المهاوي لا بد أن تثير الأسئلة كل كتابة تورق البياض.. لتصاعد حمى البحث ومحاورة الذات كل حبر لا يرى إلاه.

لكوني امرأة ولهذا دلالة مضنية، وتحيا في زمن عربي بامتياز الهزائم المثخن بها، وأنام في الكون الذي أرعى يأس مستقبل له قد يصل، ولقسوته البليغة – بالذات آن القتل، كل حرب، تجفل فيها الجثث من هول ما يعتريها- لا بد أن أفتش عنه.. ضد حياد القاتل فيه، لأدين ما يفسد نقاوة الحياة، ما يكسر أمل اليأس، لذا أفتش عن كل شيء يقتحم بزناده طراوة الذاكرة وهواء الذات بغموض هائل، لا يفسر لي: لِم ما يحدث لي؟

6- تحاولين إتقان لدغة الحبر، رغم الذين يحاولون طعن حافة حلمك، كيف تتقنين لدغة الحبر، وما حدود حلمك أو على الأقل تذكرين لي مستوياته وطبقاته وتراكماته؟

– للإبداع لغة لها نفوذ انتقام مهيب لا يوازيه أي شيء آخر، بمثل عنفوانه وقدرته على اختراق عصا التواريخ، هكذا.. للمثول كشاهد يسرد ما حدث ويتقصى ما سوف يحدث، شاهد يستمد طاقة التعبير- كهرباء الفضح- من جسد يتماهى بقدرة الحياة على الخلق حتى آخر القبر، هو سلاح القتيل، الوحيد القادر على درء ألم طوح بذاكرة الدم، الابداع في شتى أشكاله المتقنة يتحول ويتقد بقدرة لا تضاهى ولا تبارى للدفاع عن سيادة الروح وسطوة الذاكرة، هذا ما أتوق إليه كل شعر، أن أتقن كتابة كلمات تلتحم بنبض دمي، لتقوى على مكاشفة الآخر والحياة على ما تبدى لي وبالذات كل انتهاك، لم يرأف بي، كما كتبت ذات حبر:

“أينما طعنوا حافة حلم لي

طغوا بفأس ليس لي

ارتعت، لأتقن لدغة الحبر.”

أما كيف يتم ذلك الحلم وما مستوياته، تراكماته، طبقاته؟ فلا أعرف منه، غير إنهدار حلم الكتابة كل ليل، ذاك الحلم الأكمل المشمول بكل شيء، حلم يدعني أكتب ممهورة بحرية الحرف، دم الحبر، شرفة تتسع لبوح يؤرق جسدي، ليعلو.. وحيداً.. كما هبوب ريشة تحرض هواء الورق.

7- “للقلب ولِما تبقى من الليل” في ثمالة الليل، ماذا تفعل الذات الشاعرة فيك، هل تبدأ البوح والكتابة، أم تدخل حلم التفكير وشعرية الزمن؟

– آن يستوي الليل لي، بمعزل عن صوت العالم، بمعنى انزياحي لخفوت الوقت، لا مليك لي، غير بوح نفوذ وحيد يستحق هذا الظلام الساحر، من غيري يواريه ويتمرأي به؟

من غير جمرة الشعر أو مهب الحلم أو شهقة الحب؟

دوماً أتوق لكتابة ترحم الليل، لترجمة ما يعتريني بعد كل نهار أضناني، بضوء ساطع بالكاد ينحدر بعيداً عني، أهوى كتابة الليل.. ربما لسيادة الهدوء التام، غواية الغموض المتفحم، المتلمس هبوب الظلام، حتى حين ألوذ كسيرة بصمت يستولي علي، ولا أكتب شيئاً.. أحيا.. لأنحت الهواء بما يستبيني منه، أسهر ليل الشعر ممتنة لهديل شمعة تتكفل بي، مستهامة برفيفها الخجول، أرى ليلاً.. لا يكفي.

8- متى “يستوي للشاعر شيئاً آخر غيره” هل الذات تتحدُ بسلوكها، أم أن الأنا الشعرية منفصلة عن خارجها؟

– الشعر تجربة تشافه خفايا النفس، بدربة تتلقاها المخيلة كل كتابة، تتحقق، ثمة فعالية خاصة – ميكانزم غامض- تتنقل بحرية بين الوعي واللاوعي، لتكشف ما يحدث هناك من غوامض يجلوها الشعر بطاقة البوح التي تتصاعد لتمس أعتى مجاهيل الدماغ، وهنا يُظهر لنا النص الشعري ذاته مدى تصدع الذات أو اندغامها، تختلف المسألة من شاعر لآخر ومن نص لآخر أيضاً.. لكون حدوث هذا التجلي الشعري خاضع لمدى حساسية التجربة الشعرية والحياتية، أحياناً يستوي للشاعر شيئاً آخر غيره، كما يلوح لي ذات كتابة، عندما أبدأ الكتابة بذاكرة كائن آخر أغتلي بخرسه، كالحجر مثلاٍ أو الحب أو البحر أو الجمر، لا أعرف أيني تلك اللحظة، وأنا أتمثل تفاصيل ينوء بها هذا الآخر الذي يفعمني بصمته، وهو يرسل لي كل هذا الونين الذي يدلل على روحه العصية.

أيضاً ثمة منازعة تستولي على النص ذاته، لنكتشف فعالية التصدع التي تثخن نفس الشاعر، دوي الحياة المتصاعد، هو الذي يشظى ذات الشاعر ويعتري مهاوي الشعر، هكذا – ربما- يستوي الشاعر شيئاً آخر غيره.

9- ” للكتابة تهمة” إلى متى ستظل الكتابة تهمة موجهة في صدر الشاعر أو الكاتبة العربية، كأن الإبداع حقل ينبغي لها ألا تحرث أرضه؟

– هكذا بحتُ:

” للكتابة تهمة لا يجلو همها غير سعاة اليأس
بجدارة القتلى آن الحرب
بهول الجثث كل قبر واحد. “
كتبت في استشراف لمدى المسؤولية التي يتعرض لها – من يكتب- من سعاة اليأس، محترفي فضح التواطؤات التي تؤرق مستقبل الأمل، لتغدو الكتابة المحتملة جرأة المكاشفة.
تهمة، لكونها خروجاً على حديد القيد الذي يدرز الدرب لمستقبل الأحفاد، وتستوي خطيئة تلك الخروجيات الرؤيوية والإبداعية لمن يكتب، تبعاً لمدى حضور النص الإبداعي وقدرته على تعرية المسكوت عنه.

فيما يتعلق بكتابة المرأة، هنالك خصوصية يحققها واقع الاستلاب الإنساني الذي تحياه كل نبذ، ثقيل إرث يعتني بالغبن الذي تنوء به، هذا التمييز الجنساني يضاعف من تهمة الشعر ويحولها لجريمة لا معصية، مساءلة لا تغفر لها حرية القول وبذل الكلمات- وبالذات تلك الكلمات التي تدين كبح وقتها وتشير بأصابع تمتد كما النصل لقساة يدمرون هواء حرياتها- هذا العسف تجاه كتابة المرأة في راهننا العربي يلغي احتمالية احترام وإصغاء الآخر بحرية وبلاغة لصوتها الشعري، لما في هذا الشعر من قدرة على مواجهة واستكناه الخافي من مشاعر الكبت والنفي والوأد، بالذات آن حرية الحب، لذا تتكالب التهم، تتعالى المقاصل، وما تفشى في آخر الأوان من تبذل في الصحافة الثقافية العربية، سيادة مصطلح مشين، مستخف، استشرى في مصطلح “الأدب النسائي” ليس إلا معولاً صدئاً يراهن على إقصاء كتابة المرأة وتحويلها إلى قيد الهامش، المغبر، مرة أخرى.

10-أنت شاعرة “تنتابها حمى الحرف” مسكونة بجحيم اللغة، واللغة لديك تنطلق الشعرية منها، بمعنى أنها تجيء في أوليات تقنياتك الكتابية، خصوصاً في ديوانك “ملاذ الروح”، حتى صارت إجاباتك عن أسئلة الكتابة الشعرية تحفل بالإنشاء اللغوي أكثر مما تقدم معرفة شعرية ورأياً لشاعرة؟

– لا أتفق مع ما يعنيه السؤال “عدم تقديم معرفة شعرية أو رأياً لشاعرة” هل لكوني أتعامل مع الحوار حول الشعر بذات اللغة التي تأسرني كل بوح أراود فيه البحث عن شكل تعبيري، وهل هذه اللغة – التي أحاور مبتغاها كل العمر- والتي أحاول من خلالها رصد أسئلة تحاور الشعر- ملتهى النفس، ذاك الغامض بعزوف محنته – هل تعتبرها “نشاءاً لغوياً”؟

ما يحدث كل حوار يقتفي تجربة الكتابة لدي، أن أرافق مقترحات الأسئلة بكثير من الهتف الذي يستنهض قدرة البوح لدي، ليتشكل هواء الحوار بحرية أكثر، وذلك عبر ارتياد حميمي يحاول تضيق المسافة بيني وهواء الآخر، الذي يقرأ أو يحاور، لا أدري لماذا؟ كلما بدأت البحث عما يقتفي حيرة السؤال من مقاربة لاكتشافه ومحاولة محو غموضه، لا أجيد غير كلمات تحفر الحروف غصباً عني، بلغة لا أجيد سواها، سوى حضن رحيم تجاه أسئلة تتراصف نحوي.

11- “ولي يدان تهطلان كسيف الصواعق، ذاكرة لا تهدأ” هذه الذاكرة الغائرة، ألا تعتقدين أنها يمكن أن تؤثر سلباً على الشاعر لو لم يستخدمها في الطريق الخاص والموائم الذي يمنح للشاعر ذاكرة جديدة وخاصة به، تتواءم مع الذاكرة التي وعت وعرفت وخبرت وقرأت؟

– الذاكرة، أراها كالبئر الذي تتصاعد منه كل هذه الدلاء المكبوتة، الأحاسيس الملغاة كل شهيق، الوحيدة التي تترجم عبء الروح، عناء الحبر نحو هواء الورقة، هي مشكل يعيد شحذ ذاته، كل حياة تدلهم نحو كائن الشعر، ذاكرة تتعدد بمستوياتها المعرفية والحسية وخبراتها اللا محدودة كلما شحذها الشاعر بمصادر الحياة المتناهية النحز والحفر، هي من أعتى المجاهيل التي نشهق أمام بغتها الفازع.. كل كتابة.

أرى حتم أن تتخلق ذاكرة فاعلة تتنامى وجسد من يكتب، هي معين لا بد أن يتميز برتم حالاته، وقلقه، ومصابه.

ليمنح الشاعر ذاته ذاكرة ابداعية تتواءم وذاكرته المعرفية.. ليس له غير تعميق تجربته مع الحياة والكتابة، لا ثمة طريق غير تحبير تجربة الكتابة لاستكناه ما تحفل به هذه الذاكرة، مع أهمية شحنها بمعارف وتماس مع الكون كله، ربما لتحقيق ابداع يليق بهذه الحياة، كل ليل يهطل ليمنحنا حريات تفوق قدرة الوصف ومهب الخيال،

على الأقل شفقة بنا، دام الآخرين لا يشفقون.