الوحيدة التي تترجم عبء الروح


حوار مجلة الوسط.

الشاعر: أحمد الشهاوي

1- هل تعتبرين الشعر “ملاذ الروح” من جنوحها وإحباطها، أم هلاكاً يأكل الزمن؟

– دوماً.. كنت أرى الشعر بطبيعته الحنونة والرهيفة ملاذاً رحيماً لكريستال الروح التي تتعرض كل هذا الوقت الراهن لخدوش وانتهاكات لا تتريث في نزوعها نحو تدمير شفافية الذات، كلما شفت النفس أكثر، كلما تصدعت بقسوة تشتد، وهي تشهد تصاعد عنف يغالي في إلغاء الحياة، وتدمير بهاء كائنات لا ترجو غير نهضة الهواء، تتواكب مشاهدات العنف، بحتم عسير على النفس، على الذات التي تقارب بياض الورق كل فقد يسري، روح محمومة تلتهي بجموح الحبر لتعبر عن غدر مبتلاها كل ليل.

أي ملاذ مليك قادر أن يحتويها في ظلام الأسر، غير حرف يشعل عصف الشرفة ولا يرى غير جناح الشعر.

من يصغي لعذابات أحداق تتأسى بعزلة الدمع.؟

من غيره؟

لذا أسميته ذات شعر: “توأم الأم”، من يستعير رائحة الحنان، دفء الأضلاع كل حضن، ليغمر جفاف الجسد بعطر الطفولة، بالذات آن تحتدم الذاكرة بفقد الأم ذاتها، الشعر ملاذ يغري الزمن بمداومة هطوله أكثر، رأفة بجسد.. لا يحيا بسواه.. ملاذ يحميه. لا هلاك يلغيه.

2- لاحظت أن ثلاثة دواوين شعرية من أعمالك الخمسة كتبت عناوينها على طريقة المضاف والمضاف إليه: “حنجرة الغائب”، “آخر المهب”، “ملاذ الروح”. فإلى أي مدى تضيف لك هذه التقنية “المضاف والمضاف إليه” والتي أراك تستخدمينها بكثرة وافرة داخل النص، على الرغم من أنك تعرفين أنها تقنية تقليدية كرستها قصيدة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وصارت تأخذ من الشعر أكثر مما تضيف إليه، فهل لديك تصور ما إزاءها؟

– آن الكتابة، أمهل اللغة، رئيفة الوقت، لتبوح بما أشعر به، لا يعتريني أي ملمح آخر يهتم بتقنيات أو مهارات ما، غير ما ينبعث بصدفة بالغة، لا أقلق حين الكتابة بما ينبعث من تقنيات، هل “قديمة أو تقليدية” كما أشرت، أو ناهزتها الأجيال، لا وقت لدي حينها، لا حيرة تسع هتفي إطلاقاً، نحو فعل الإضافة التي ستضيفها لتجربة الكتابة لدي، لذاك الوميض الساهم بسجدة الليل، أبدو غائمة بما ينتاب حال الروح، منهالة لنحت آخر يعلن الألم، أو يشعل بهجة تهيل القلب كله، متاه رجفة تتحول فيها اللغة ليد تحنو، لغة تغاور برد البلاغة لتكتويني بجمرة الحب، كل ما يهتويني آن الكتابة هو تحدي قدرة الروح على تحقيق رعدة الطاقة التعبيرية التي تحتلني، ترجمة جنوحها على الورق، دون إلتفات لشكل التقنية البلاغية.

3- في نصك ” فيما أحسه أو أحسبه الشعر” ذكرت في النص عناوين أعمالك الشعرية جميعاً في إطار توظيف النص وكتابته، كأنك تعلنين بيانك الشعري؟

– هذا النص محاولة لاكتشاف ماهية الشعر، رجفة همسه، مس جوانية عذوبته، لمعرفة مدى تماس الذات به، حصل هذا القلق لحلوله الدائم كل نص بشكل يبتغي تحريضي للكتابة عنه، ثمة غيرة تحققت لديه – وهو العارف أحوالي- كل كتابة أحاول فيها مقاربة شغاف تصطلي بوهدي، كأنه لا يريد لأصابعي أن تكتب عن سواه، لذا – لأتلو مبتغاه – بدأت الكتابة عنه ولم أنته بعد، كما أشرت في آخر النص.

إيراد عناوين نصوصي الشعرية لا علاقة لها ببيان شعري أو ما شابه ذلك.. ولكن لاحتمالها أيضاً على تعريف يقترب من هتف قلبي تجاه الشعر: هو “آخر المهب”، “ملاذ الروح”، “حنجرة الغائب”، “إستفاقات”، وهو صاحب محنة السؤال الذي داوم هلعي كل كتابة: “هل أرى ما حولي هل أصف ما حدث”.

في هذا النص هنالك صدى لصوت يحاول مقاربة سمو الشعر، عبر محاورة ما يتصف به من سحر، قد يجلو أسره.

4- الشعر اعتبرته “كتابة لا تشبه شيئاً” فهل من إضافة أخرى لتعريفك هذا من خلال خبرتك الشخصية ورؤيتك الخاصة؟

– دائما يتوق الشعر لأن يتحقق بفرادة لا تشبه شيئاً، بمعنى أن يدون نحت ذات تحترف اشتغاله برغبة ساحقة على التمرد والتفرد.. رهان لا يشبه أي رهان آخر، يجلوه المبدع وحده، كل ليل له وحده، عبر إعادة صياغة هدايا الحياة بداخله – كل التجربة الإنسانية والحضارية بمعناها الكوني- ليصل إلى بلورة جنته، بذل حلمه، مشافهة الأمل الذي لاح له بمتعة طاغية آن مزاولة مذاق الشعر، هذا الحلم أراه طريقاً صعباً لا بد للأصابع وهي تكتب من دحرجة خطاها عليه.. أن تصل أو لا تصل.. ليس مهماً، دامت تحاول أو تسعى للتعرف على غريب غوايته، تذوق بهجة الغرق: أول الطريق إلى لا منتهى عذبه.

5- في ديوانك “ملاذ الروح” اخترت هذا المقطع لكي يكون معبراً عن الديوان “امرأة تنام في الكون وتفتش عنه” فوزية السندي التي تسوح في الكون وتجول وتسافر في لغتها.. عن ماذا تفتش كل يوم؟

– عن كل شيء، الكتابة محرض عظيم لدهشة الذات، وهي تتداول شأن الحياة كل نهار لتجلوه كل ليل، الكتابة مسٌّ يكتسح النفس، لتقرأ مقترحات الكائنات الإبداعية الأخرى، ولتراقب ما يحدث لها وعليها في آن، تجترح نرد الخسارات، تتلهى ببسمة تهيل الحب هنا لوميض يضيء الأمل هناك، كل هذه المهاوي لا بد أن تثير الأسئلة كل كتابة تورق البياض.. لتصاعد حمى البحث ومحاورة الذات كل حبر لا يرى إلاه.

لكوني امرأة ولهذا دلالة مضنية، وتحيا في زمن عربي بامتياز الهزائم المثخن بها، وأنام في الكون الذي أرعى يأس مستقبل له قد يصل، ولقسوته البليغة – بالذات آن القتل، كل حرب، تجفل فيها الجثث من هول ما يعتريها- لا بد أن أفتش عنه.. ضد حياد القاتل فيه، لأدين ما يفسد نقاوة الحياة، ما يكسر أمل اليأس، لذا أفتش عن كل شيء يقتحم بزناده طراوة الذاكرة وهواء الذات بغموض هائل، لا يفسر لي: لِم ما يحدث لي؟

6- تحاولين إتقان لدغة الحبر، رغم الذين يحاولون طعن حافة حلمك، كيف تتقنين لدغة الحبر، وما حدود حلمك أو على الأقل تذكرين لي مستوياته وطبقاته وتراكماته؟

– للإبداع لغة لها نفوذ انتقام مهيب لا يوازيه أي شيء آخر، بمثل عنفوانه وقدرته على اختراق عصا التواريخ، هكذا.. للمثول كشاهد يسرد ما حدث ويتقصى ما سوف يحدث، شاهد يستمد طاقة التعبير- كهرباء الفضح- من جسد يتماهى بقدرة الحياة على الخلق حتى آخر القبر، هو سلاح القتيل، الوحيد القادر على درء ألم طوح بذاكرة الدم، الابداع في شتى أشكاله المتقنة يتحول ويتقد بقدرة لا تضاهى ولا تبارى للدفاع عن سيادة الروح وسطوة الذاكرة، هذا ما أتوق إليه كل شعر، أن أتقن كتابة كلمات تلتحم بنبض دمي، لتقوى على مكاشفة الآخر والحياة على ما تبدى لي وبالذات كل انتهاك، لم يرأف بي، كما كتبت ذات حبر:

“أينما طعنوا حافة حلم لي

طغوا بفأس ليس لي

ارتعت، لأتقن لدغة الحبر.”

أما كيف يتم ذلك الحلم وما مستوياته، تراكماته، طبقاته؟ فلا أعرف منه، غير إنهدار حلم الكتابة كل ليل، ذاك الحلم الأكمل المشمول بكل شيء، حلم يدعني أكتب ممهورة بحرية الحرف، دم الحبر، شرفة تتسع لبوح يؤرق جسدي، ليعلو.. وحيداً.. كما هبوب ريشة تحرض هواء الورق.

7- “للقلب ولِما تبقى من الليل” في ثمالة الليل، ماذا تفعل الذات الشاعرة فيك، هل تبدأ البوح والكتابة، أم تدخل حلم التفكير وشعرية الزمن؟

– آن يستوي الليل لي، بمعزل عن صوت العالم، بمعنى انزياحي لخفوت الوقت، لا مليك لي، غير بوح نفوذ وحيد يستحق هذا الظلام الساحر، من غيري يواريه ويتمرأي به؟

من غير جمرة الشعر أو مهب الحلم أو شهقة الحب؟

دوماً أتوق لكتابة ترحم الليل، لترجمة ما يعتريني بعد كل نهار أضناني، بضوء ساطع بالكاد ينحدر بعيداً عني، أهوى كتابة الليل.. ربما لسيادة الهدوء التام، غواية الغموض المتفحم، المتلمس هبوب الظلام، حتى حين ألوذ كسيرة بصمت يستولي علي، ولا أكتب شيئاً.. أحيا.. لأنحت الهواء بما يستبيني منه، أسهر ليل الشعر ممتنة لهديل شمعة تتكفل بي، مستهامة برفيفها الخجول، أرى ليلاً.. لا يكفي.

8- متى “يستوي للشاعر شيئاً آخر غيره” هل الذات تتحدُ بسلوكها، أم أن الأنا الشعرية منفصلة عن خارجها؟

– الشعر تجربة تشافه خفايا النفس، بدربة تتلقاها المخيلة كل كتابة، تتحقق، ثمة فعالية خاصة – ميكانزم غامض- تتنقل بحرية بين الوعي واللاوعي، لتكشف ما يحدث هناك من غوامض يجلوها الشعر بطاقة البوح التي تتصاعد لتمس أعتى مجاهيل الدماغ، وهنا يُظهر لنا النص الشعري ذاته مدى تصدع الذات أو اندغامها، تختلف المسألة من شاعر لآخر ومن نص لآخر أيضاً.. لكون حدوث هذا التجلي الشعري خاضع لمدى حساسية التجربة الشعرية والحياتية، أحياناً يستوي للشاعر شيئاً آخر غيره، كما يلوح لي ذات كتابة، عندما أبدأ الكتابة بذاكرة كائن آخر أغتلي بخرسه، كالحجر مثلاٍ أو الحب أو البحر أو الجمر، لا أعرف أيني تلك اللحظة، وأنا أتمثل تفاصيل ينوء بها هذا الآخر الذي يفعمني بصمته، وهو يرسل لي كل هذا الونين الذي يدلل على روحه العصية.

أيضاً ثمة منازعة تستولي على النص ذاته، لنكتشف فعالية التصدع التي تثخن نفس الشاعر، دوي الحياة المتصاعد، هو الذي يشظى ذات الشاعر ويعتري مهاوي الشعر، هكذا – ربما- يستوي الشاعر شيئاً آخر غيره.

9- ” للكتابة تهمة” إلى متى ستظل الكتابة تهمة موجهة في صدر الشاعر أو الكاتبة العربية، كأن الإبداع حقل ينبغي لها ألا تحرث أرضه؟

– هكذا بحتُ:

” للكتابة تهمة لا يجلو همها غير سعاة اليأس
بجدارة القتلى آن الحرب
بهول الجثث كل قبر واحد. “
كتبت في استشراف لمدى المسؤولية التي يتعرض لها – من يكتب- من سعاة اليأس، محترفي فضح التواطؤات التي تؤرق مستقبل الأمل، لتغدو الكتابة المحتملة جرأة المكاشفة.
تهمة، لكونها خروجاً على حديد القيد الذي يدرز الدرب لمستقبل الأحفاد، وتستوي خطيئة تلك الخروجيات الرؤيوية والإبداعية لمن يكتب، تبعاً لمدى حضور النص الإبداعي وقدرته على تعرية المسكوت عنه.

فيما يتعلق بكتابة المرأة، هنالك خصوصية يحققها واقع الاستلاب الإنساني الذي تحياه كل نبذ، ثقيل إرث يعتني بالغبن الذي تنوء به، هذا التمييز الجنساني يضاعف من تهمة الشعر ويحولها لجريمة لا معصية، مساءلة لا تغفر لها حرية القول وبذل الكلمات- وبالذات تلك الكلمات التي تدين كبح وقتها وتشير بأصابع تمتد كما النصل لقساة يدمرون هواء حرياتها- هذا العسف تجاه كتابة المرأة في راهننا العربي يلغي احتمالية احترام وإصغاء الآخر بحرية وبلاغة لصوتها الشعري، لما في هذا الشعر من قدرة على مواجهة واستكناه الخافي من مشاعر الكبت والنفي والوأد، بالذات آن حرية الحب، لذا تتكالب التهم، تتعالى المقاصل، وما تفشى في آخر الأوان من تبذل في الصحافة الثقافية العربية، سيادة مصطلح مشين، مستخف، استشرى في مصطلح “الأدب النسائي” ليس إلا معولاً صدئاً يراهن على إقصاء كتابة المرأة وتحويلها إلى قيد الهامش، المغبر، مرة أخرى.

10-أنت شاعرة “تنتابها حمى الحرف” مسكونة بجحيم اللغة، واللغة لديك تنطلق الشعرية منها، بمعنى أنها تجيء في أوليات تقنياتك الكتابية، خصوصاً في ديوانك “ملاذ الروح”، حتى صارت إجاباتك عن أسئلة الكتابة الشعرية تحفل بالإنشاء اللغوي أكثر مما تقدم معرفة شعرية ورأياً لشاعرة؟

– لا أتفق مع ما يعنيه السؤال “عدم تقديم معرفة شعرية أو رأياً لشاعرة” هل لكوني أتعامل مع الحوار حول الشعر بذات اللغة التي تأسرني كل بوح أراود فيه البحث عن شكل تعبيري، وهل هذه اللغة – التي أحاور مبتغاها كل العمر- والتي أحاول من خلالها رصد أسئلة تحاور الشعر- ملتهى النفس، ذاك الغامض بعزوف محنته – هل تعتبرها “نشاءاً لغوياً”؟

ما يحدث كل حوار يقتفي تجربة الكتابة لدي، أن أرافق مقترحات الأسئلة بكثير من الهتف الذي يستنهض قدرة البوح لدي، ليتشكل هواء الحوار بحرية أكثر، وذلك عبر ارتياد حميمي يحاول تضيق المسافة بيني وهواء الآخر، الذي يقرأ أو يحاور، لا أدري لماذا؟ كلما بدأت البحث عما يقتفي حيرة السؤال من مقاربة لاكتشافه ومحاولة محو غموضه، لا أجيد غير كلمات تحفر الحروف غصباً عني، بلغة لا أجيد سواها، سوى حضن رحيم تجاه أسئلة تتراصف نحوي.

11- “ولي يدان تهطلان كسيف الصواعق، ذاكرة لا تهدأ” هذه الذاكرة الغائرة، ألا تعتقدين أنها يمكن أن تؤثر سلباً على الشاعر لو لم يستخدمها في الطريق الخاص والموائم الذي يمنح للشاعر ذاكرة جديدة وخاصة به، تتواءم مع الذاكرة التي وعت وعرفت وخبرت وقرأت؟

– الذاكرة، أراها كالبئر الذي تتصاعد منه كل هذه الدلاء المكبوتة، الأحاسيس الملغاة كل شهيق، الوحيدة التي تترجم عبء الروح، عناء الحبر نحو هواء الورقة، هي مشكل يعيد شحذ ذاته، كل حياة تدلهم نحو كائن الشعر، ذاكرة تتعدد بمستوياتها المعرفية والحسية وخبراتها اللا محدودة كلما شحذها الشاعر بمصادر الحياة المتناهية النحز والحفر، هي من أعتى المجاهيل التي نشهق أمام بغتها الفازع.. كل كتابة.

أرى حتم أن تتخلق ذاكرة فاعلة تتنامى وجسد من يكتب، هي معين لا بد أن يتميز برتم حالاته، وقلقه، ومصابه.

ليمنح الشاعر ذاته ذاكرة ابداعية تتواءم وذاكرته المعرفية.. ليس له غير تعميق تجربته مع الحياة والكتابة، لا ثمة طريق غير تحبير تجربة الكتابة لاستكناه ما تحفل به هذه الذاكرة، مع أهمية شحنها بمعارف وتماس مع الكون كله، ربما لتحقيق ابداع يليق بهذه الحياة، كل ليل يهطل ليمنحنا حريات تفوق قدرة الوصف ومهب الخيال،

على الأقل شفقة بنا، دام الآخرين لا يشفقون.