بين الوردة والبحر

(1)

يا حارس النبوءة،

أنبئني

بأي ذنب صار صوتي

فدية لعداء القبائل وزند المحاربين.

(2)

كعادتي أفيق كل صباح وأعيد شتات الحلم، ما مزقه الضوء، لأمضي لنهار آخر ربما يطاق، ألملمُ الستائر، أتلهى بضيافة القهوة، أسأل الصحيفة: عما انهمر من دم، لنحصي معا، ما تصاعد من أرواح لشهداء يفرفرون كالذبائح على تراب فلسطين، عما تهجر من أجساد نحو قيد الأسر، أسألها عما أستجد من كسر لكرامة تاريخ وطني العربي، عما تصدع وأحترق وتهاوى من حضارة عواصم عربية تمتد من البحر للبحر، فتومئ الصحيفة لي، بخجل لا يغفر لي، مدى سؤالي.

بعد ذلك، أجتاح العتبات، مندفعة، في طريقي للاستبداد بعربة تسعفني لأسفح الطرق، مرورا بحديقة ساهمة في سر هرولة البشر والتهاء النظر – بالذات- عند بلوغهم فتنة إبداعها البهي، أمضي مسرعة، دون أن أري ما حققه النبات من نمو، وما تفجر من براعم طيلة ليلة غزلتها الكوابيس، لا أتريث والماء يلاغي الغصون، لا أشهد شيئا ولا…

أغادر مرأى الطبيعة بأسرع مما أحتمل، لأواجه هجمة البحر، طيلة الدرب، كان يتهامس وبياض نوارسه الفاضحة عن مبرر تلاهي قادة العربات عن رواجه المخيف، حاضناً يأس القوارب وهدأة الأشرعة.

البحر.. ويا له من مهيمن على أرخبيل من النخل نسميه البحرين، يابسة جذلى تسمى حدوداً يحفها مالح الماء من كل متاهة، البحر عاشق متيم ليابسة تتلاهى بغنج عنه، مأخوذاً بها لا يكف عن سهاوة الحب، رغما عما يكتظ في أعماقه من هدير ونزاع لا ينتهي بين كواسر الكائنات وما يصطرع هناك من خفايا تخلب ذاكرته بمرارة العنف. محب، رغم كل شيء، يهديها هدايا الحب من قواقع وأصداف وعشب طري يترامى على رملها العصي، بحر لا يمل من هديل يرسله الموج، بوح فريد لموسيقى القلب.. لغة من الصعب أن تصل لحنو الورق، لغة، شبه شهقة تنهض في شهوة الزبد وتصفع صخرة اليأس، لتصطدم بعنف موج رهيف على راحة اليابسة.. حرير همس بحب يباهي بهاء هذا الشعب.

كلاهما الحديقة والبحر يتفننان في تحدي احتمالي لبسالتهما، وأنا اتماهى بالصمت لأتحاشى مواجهة التحدي.

عندما أعود، للبيت، مثقلة بتباريح الوقت، ارمق، خلسة، أفق البحر وأتحسر، فيرسل لي، رائحة كائناتها

الرهيفة ذوات الزعانف ويرمقني بزرقة لا أحسدُ عليها، كأنه يعاتبني على اندفاعي صباحا دون تحيته، وغمره ببسمة تضاهي مرح موجاته، ولأنه يعرفني، يغفر لي مرارة شرودي عنه، يؤجل قصاصاً لا يهون عليه.

أما الحديقة فتقتص مني حال أعود، تراني متشظية الأنفاس، حافلة بالصدوع، ببساطة تلد التربة وردة تنتظر قدومي لتواجه ما تبقى منى، لأرى غصناً حالماً، يخضر كلما دنوت منه، مترف بنداوة الورق، هائم بوردة تتمايل غنجاً أعلى العرش، مليكة بيضاء تثير ألق العطر، مغمورة بحمرة صافية إلا من الكيد بي، أراها وأتمهل قبل أن يحتويني ظلها، أجلس بقربها، لأشكو لها حال النهار الذي ألّم بي، لا أتوقف عن دفع الكلمات، المشفوعة بالدمع، نحوها حتى تهمس لي والضباب يلف أسرها الناصع كمساء من بلور الضوء، هكذا:

“فوز، لا تذهبي للنوم قبل انهيال البوح كله، عما اهتواك ونال من رفيف روحك طيلة هذا النهار بالذات، لا تغفلي عن ذاكرة تحتدم بك، لئلا تفتك بك الأحلام وتغتالك الكوابيس، أنت من البشر وهكذا أنتم.. ترتهنون لخديعة النوم، تخضعون لرحى معترك الليل وقصاص النهار وبينهما قسوة كوارث الإنسان، أما نحن النبات ففي منجى منكم، لا وقت لنا ولا مكان، نحن من يتقن فن الحياة وحرية الخلق، هكذا نتعرش في كل الأنحاء بصحبة الماء والهواء، نتبرعم آن نشاء ومتى وكيف… ننهال بصراحة الكبرياء وبصيت الإبداع الكامن في ذاكرة التربة.. بجسارة لا تبارى، نعلن تاريخ البذرة.. لا ننسى شيئاً ونحن نبوح لكم عن تاريخنا، عن عتمة ضارية ومهالك تستبد بها الجذور، ظلم الظمأ وعنف التربة.. لكننا نترجم ما يحدث لنا هناك بأجمل ما نقوى عليه، نبوح لكم بكل الحب، بفتنة الورد وعطر الهواء.. هكذا نلاغي صمت الحياة نحوكم… نحيا حتى نموت بحب لهذه الحياة القليلة، بما يكفي، لنعرفها أكثر منكم، مثلا أنا وردة.. طالما ابتعدت أيديكم عنى، سأحيا بمجد التربة وفخر الجذور حتى يجف النسغ، وأتهاوى بغبطة بالغة، لأني أمضيت حياتي مزهوة بمتعة اللون وفداحة العطر، حنين النحل، نار الفراشات وحرية النبات، شهوة النسغ، لكن إذا ارتضت أظافركم، ومناجلكم، وكل ما أعددتموه من مكتشفات لخلعي، أن تكسرني عن عرش الغصن، وتغمرني في ماء آسن لتتباهوا بي، وبطاعتي لرفاهية الطاولة، فسأحيا في كأس التجربة، ما سوف يعلمني ازدراء حقدكم الأعمى، سأمضي أسيرة، حرة، حتى أخذل عفونة الماء، وأنتحر.. قتلاً، كقتيلة تقف أمام رصاص يتساقط، لأموت كوردة تجف على مهل ولا تغفر للهواء… بل سوف أواجهكم، وأراكم كقتلة، لم يكتفوا بتراث الحروب ونهب الغنائم، بل تمادوا.. ليغتالوا وردة كانت في وقت مضى دليل على براءة الأرض منكم.

تنهدتَ قليلا واسترسلت بإيجاز كلمات، أشعلت حيرتي:” يا فوز، لا تذهبي للنوم، لا تثقي به، اندفعي، كعادتك، لمشافهة الحبر وحفر بئر الروح، ليس لك النسيان.”

ابتعدت عنها قليلا، لئلا تطالها شفقتي، ولئلا ترى انكساري الموجع.

عندما إلتجئت لموهبة البيت في حماية اندلاع روحي، أغوتني صراحة الشرفة، وما أن استنجدت بسورها الأبيض حتى رأيت البحر يحدق في دهشة تنال مني، من بعيد الرمل، كان يرسل لي، كلمات تترنح كالزبد على صهوة الموج:

“انا مليك اليابسة، حارس حرية الماء، أهاتف كل شفق يقسو حزن الرمال، كل شكوى تزجها الكائنات في قناني فارغة إلا من العذاب، يا امرأتي، لا تأخذك سنة من اليأس، دام لك كل هذا البحر، صديق الأفق، خالق الطرق لجرأة القوارب، أراها تحتدم الآن، بعنف الأشرعة فأغريها بآخر المهب، لتبحر نحو جنون الريح، لتتحدي صلافة المرفأ، غرور البوصلة، قيد المرساة، خيانة اليابسة، ها أنذا، أراها تخوض مغامرة الغرق الأبهى من وهم النجاة، قوارب وحيدة تتشبث بمجاديف ترتجف. لكنها تتأهب لمغامرة تعانق فيها، كل مدِّ يندفع، بكل صرخة للموج..

لا تتأخري- يا فوز- عن نجدة المغامرة، دعي خطاك تتعثر على الرمل.. خطوة.. خطوة حتى تصل، أو لا تصل، ليس مهماً، دمت، كل حرف لا تهاب روحك ملاذ الماء.. لك أن تقرأي درس البحر، بعيداً عن يأس اليابسة.. ما لك سواي..

أنا البحر واهب “البحرين” عذب المطر، بريد الغيم، ولي كالملائكة جناحا رحيما يحن ويعصف. لئلا تنسوا زرقة المستقبل.

لتأخذك شرفة الأمل وجرأة النظر لمتاهي، فأنا عليم الأعماق أنا من صان “أوال” كل هذا الدهر من مخلب البأس، فلا تتناسوا كل ذلك، رحمة بذاكرة دم لا تندم.”

بين وصايا “الوردة وهتف “البحر”، تدافعت للوراء، لأغلق الشرفة، لأتناهب فضاء الورق وأغدق صراحة الحبر..

لأكتب “صوت”.

عذراً.. فيتنام؟

(1)

كم من الاعتذارات علينا أن ننتظر بعد كتاب وزير الدفاع الأمريكي السابق “روبرت ما كنمارا” الذي أعلنه بمناسبة مرور عشرين عاما على قتل ثلاثة ملايين فيتنامي وثمانية وخمسون ألفا من الشعب الأمريكي، ناهيك عن مئات الألوف من الأسرى والجرحى والمعاقين والمفقودين وسيل المآسى التى ألمت بأبرياء خضعوا لحقد الحرب و” أخطاء” ساسة الحراب.

الآن يعلن جنرال الموت أسفه البالغ والعميق لما تكبدت به سياسته الرعناء من كوارث بشرية ما كان لها أن تحدث لو احتكم لعدالة الحق وألغى شأن وشر النفوذ الأمريكي الذي كان متيقنا من حتمية انتصار هدير الآلات على إرادة الناس.

اعتذار يبالغ في حزنه وهو يبكي أمام المشاهدين في المنازل، أولياء دم الضحايا، لأنه كمسؤول عن الدفاع كان مولع بالحساب والإحصاء وعقلانية الأرقام والتقارير التي تؤكد على خطورة استقلال فيتنام، لذا قرر التدخل العسكري وآزر حساباته العنيفة على حساب تاريخ شعب اكتوى من رعونة القرار وحرق الأبرياء في قرى فيتنام وقتل وتشريد الناس، رغما عن طرود الجثث المشفوعة بالعلم الأمريكي التي تهّل عليهم، المحمولة جوا وبحرا وأسفا وعذاباً.

يعتذر الجنرال الجريء، كأنه يحرض ذوات الأوسمة والنياشين ليقفوا على منصة الاعتراف ويعلنوا ذنوبهم لما مضى -فقط -دون الآن حتى لا يعم الغفران.

من شدة وحشية حرب فيتنام إنها خلقت ظاهرة ليس لها مثيل في تاريخ الحروب، حيث تفشت حالة من الاعتزال لدى المحاربين الأمريكيين، تجلت في نفور من الوطن والذات معاً، لإحساس بالذنب لم تنفع معه وصايا الأطباء ولا هبات العلاج النفسي، فإلتجؤا للغابات، حيث يسرحون وكلابهم الوفية، ويقيمون في أكواخ بعيدة عن المدن، منعزلين عن المجتمع بأسره، يمضون الوقت وتصاعد حالات هستيرية يتعرضون لها كلما أضاءت الذاكرة لهم – كأنها تنتقم – مشاهد الرعب والعنف والقتل الجماعي الذى أحدثوه لرعايا حقول الأرز من الفلاحين والنساء والأطفال، وما ذاقوه على أيدى “الفيتكونج” من مقاومة لم تصل إلى سادية قادتهم .

(2)

وأنا أقرأ ما كُتب عن الاعتذار، طافت بي الذاكرة، بالمعارض التي كنا نراها على حائط القاهرة، حيث الجامعة وطلابها العرب يتهافتون تضامنا وشعب فيتنام، كنا نرى ما يفعل النابالم إذ يلامس الأطفال، وكيف تتساقط القرى كل قصف لا يتوقف، كيف تحتضن النسوة ما تبقى من حريق الأعضاء، كيف القائد “جياب” يهتف بالحرية والناس، كيف تكوي القذائف أفئدة لا ذنب لها سوى دفاعها عن أرضها ضد المحتل، كنا نرى كل ذاك. حتى انتصرت فيتنام وتحولت جمرة الحرب إلى نار للذكرى انتظرت عشرون عاماً للاعتذار.

وأنا أقرأ عن الاعتذار، تاهت بي الذاكرة لتهيل المشاهد المؤلمة حد الخجل من الهوية وضراوة الانتماء العربي، صمت الحناجر والسواعد العربية التي كانت فيما مضى تلوح بقبضتها ضد الضيم، شهامة لم تقبل ما تشهده وتراه من عنف يساق نحو فيتنام، تحسرت على زمان الدم الحر والصوت الأعلى من أزيز الرصاص، وأنا أرى كما الآن:

نزيف الجنائز الملتفة بنحيب الأهل في العراق وهي تتحدر من مدن الشهداء حتى فندق الرشيد، ليصل عويلها البالغ لدعاة الحضارة المجتمعين في أروقة ترعاها الأمم المتحدة، علهم يشهدون على ما اعترك من أفئدة غادرت شر الحياة، مواكب ترفع الرضع عالياً، محفات تتدافع محمية بأذرع آلاف الثكالى من الأمهات الهادرات عويلهن الأقسى من صريخ الاحتضار الذي أدمى شغافهن طيلة وقت مضى كالموت وهن يشهدن طراوة رضع يعتصرون قلوبهن برجفة واهنة، بزرقة تغالب الأعضاء دفاعاً عن حفنة هواء، عن شهقة واحدة تعيد لهم يأس هذه الحياة، رأيت أكفاناً صغيرة بما يكفي لتفضح مدى ضمور الجثث الهانئة في نعيم الموت، ملائكة غادرت الأرض سريعاً، مطعونة بمخالب الألم، دون أن تعرف أي معنى لكل هذا العذاب الذي تضورت به واهتوت من سياط عنفه، لم تعرف بعد:

من الوجيه الجالس خلف كرسي القرار الذي أراداها قتلاً بجريرة حبر، ليترنح بنخب القرن فيما بعد؟

من هم الساسة الأشاوس – أحفاد نبوخذ نصر-الذين تعاونوا تحت إمرة خليفة كالسيف سلَّ دم الشعب، استحل الأرض وظل الله، طغى واستبد ليكسر حاضراً كان لها ويلغ مستقبلاً لم يعد حتى لسواها؟

أي أمم تدعى حرية الصوت، تحوطت – كلها- حول طاولة أجازت قسوة القرار، لتقصف رهاوة أرواحها؟

أي عروبة شيدت حاضراً لا يخجل، غزلت حدوداً لا تكترث، أرست شعوباً خرساء حتى القبر، شيدت ولاة لا يتعبون من جبي الخراج، ولا يكتفون من مجد الخراب؟

ملائكة صغار ماتوا ويموتون.. فمن سيعتذر:

لشعب كالعراق تجاوز عدد قتلاه من عنف الحصار الأمريكي أكثر من مليونين عراقي منذ السادس من أغسطس عام1990 حتى أواخر أكتوبر 1991، بينهم -للألم – مليون وخمسة وعشرون ألفاً من الأطفال، وللدقة في شهر أكتوبر وحده عام1990 قتلوا سفكاً5369طفلاً، هكذا توزعوا بين خناجر للغدر: احتضر من الإسهال 1181 طفلاً، تشنج من ضيق التنفس 1506، انتحل حتى العظم من نقص التغذية2051، وللفاجعة كلهم نالوا العذاب كله، وهم أقل من الخامسة من سنوات العمر الجائر.

قفا لنسأل: كيف لإحصائية تقديرية – أكدتها أغلب المصادر الدولية حتى غير العراقية، هذا ليثق هواة التدقيق الإحصائي- قفا لنسأل: كيف لهذه الأرقام التقريبية أن تعلن لنا أن قتلى هذا الحصار البشع فاق ضحايا أعنف حرب في تاريخ البشرية، خاضتها أمريكا الواثقة من سيادتها على حرية شعب فيتنام، حرب مزنره بالنابالم والقذائف وحرق القرى وقصف المدن.. لم تصل في عداد قتلاها لضحايا هذه الحرب المسماة حصاراً، كيف لها أن تحصد من الأطفال والمسنين ما بلغ تعدادهم التقريبي أيضاً مليون وأربعون ألفاً طفلاً ومسناً عاجزاً لا الدفاع عن نفسه بل عن الحياة ذاتها.؟

(3)

هنالك العديد من قتلى العالم ينتظرون من خوذة للدفاع العسكري الأمريكي ومن سعاة الكراسي الواهبين ذاتهم شأناً يلغي – لدوام مجدهم- حرية الشعوب، ومن قادة العرب الصامتون إلى الأبد، أن يتقدموا ويعلنوا عن خطاياهم، ضحايا لا يحصون في كل العواصم، لاجئون على الحدود، أسرى في الوطن، غرباء خارج وداخل القبور.. ينتظرون.

منذ عهد “الهنود الحمر” الذين تلوعوا من نصيب الرصاص وهجمة البارود، إبادة كل جنس بشري يراه من يدعي السيادة لا يمت للحضارة بصلة… حتى الآن، هنالك مجازر لا تنته، جثثاً تنتظر وهي تقطر حيرة دم يسأل إلى متى؟

الآن:

من يجرؤ على نكران أوسمته التي نالها لقاء ما أهدر من دم حيّ، ويتقدم.. من؟

من من خلفاء الكراسي يكسر بين يديه سطوة الصولجان نادماً على ما انتهك من وطن ويغادر ريش العرش؟

هل علينا أن نتأهب عشرين عاما أخيرة، والذخيرة تستبد، ليشهد أحفادنا بكاء تراث الأخطاء.

من سيعتذر باختصار يليق لقتلى فلسطين ولبنان والعراق والجزائر واليمن والسودان والعديد من العواصم العربية المكتفية بصمت النعام لجز الأنام… عربيا على الأقل.. من؟

لست أسأل واليقين يشكو من الشك.

أي اعتذار يحلو الآن ولمن ومن؟

لست وفيتنام تحتفل بنصرها، وترسم مستقبل شعبها أسأل، لكن وأنا أرى جنائز و“مجازر” العراق تفيض بدمها الخجول على ضفاف دجلة والفرات، وأنا أصغي لمساخر التاريخ وهو يهيل نحونا الملاهي ويحذفنا بنبال العبر، لئلا نتهاون أكثر.

يعتذرون.. ربما ليثق القتلى بنصرة الحق وسماحة القاتل المدجج بالحراب، الذي سوف يتأسف بعد وقت يراه- قد-يكفي لتنسى القلوب وتبترد القبور.

يعتذرون.. فمن يقبل؟

صمت الموت

دم يرصد النشيج خفيفا خفيا، كالخلية الخرساء التي ترخيه في حسرة الروح، محتدما لا يذعن لوصايا المذابح التي تحتل بمخالبها ذاكرة الهيكل، بل يمعن في سرد خفاياه في هواء يرسم البحر، ومن جرح لآخر يخضب سيرة الجسد، بزيت يكتشف مسارب الأمل ويداهمنا موجة موجة، تفاجيء تعب القلب بذريعة الخفق.

(1)

هل تعرف بماذا تصاب وأنت ترى بحرك الحنون الرحيم بموج وديع يرتل رتم الماء بخجل عميق نحو جفاف يابسة حليمة بحبه الغريق ببوح القلب، هل تدرك كيف سينتفض جسدك كله وأنت تراه مثقلاً بالموت… هذا ما حدث.

انفجار مهيب سحق الحديد، دوي أجج جزيرة المحرق، ألقى بسواعد صبية من رعايا القرى القريبة من البحر نحو أقاصي الموج، بعناد داهموا مجزرة حديد أعمى أودى بجثث لا محد لها، كلها تعرضت لتقصف لم يقو عليه الحديد الذي تلاشى، هكذا أصطبغ الأزرق الرئيف بحمرة أطراف مجزورة من الوريد إلى الوريد، بحر انتهل مصب الدم ومناب الدمع الذي جاء بعد هول المصاب لتبدو البحرين جزيرة تلتهب بسخاء الدم الشهيد ونشيش بكاء ما أن يلامس وجنات الأهل حتى يحترق الهواء.

(2)

بلادي جزيرة صغيرة جدا لدرجة لا تراها في ساحة الخرائط، لكنها ممتدة إلى أعمق الحدود، بتاريخها الدلموني العريق وبساطة الناس، بلاد ازدهت بالحرف منذ “طرفة أبن العبد” حتى أحفاد لا يقلون عنه خروجا وإبداعا، جزيرة صغيرة لكنها مأهولة بتراب الحب حد بحرها المنسرح، جزيرة تحتد بجزر تتعدد، كلها تحتضن زرقة الأفق، أرض تضم شعباَ يرسو علي يابسة صغيرة ترعى شأنه، ببساطة هي وطن للقلب وهذه التعرفة التراثية اشتهرت بها البحرين بين جيرانها من أثرياء النفط، اشتهرت بتراب يلتحم بدم واحد تتوازعه عائلات تتعدد، لا أحد في هذا الوطن الصغير لا يعرف من يستوطن آخر اليابسة، كلهم جيرة يندغمون معا بخفق الحب، هكذا تحيا البحرين بقلب واحد.

(3)

كيف لها أن تقترب من مساء قاس يدعوها على حين غدر، لتشهد البحر مقتولا بدم فتيتها، لتراهم جثثاً منحورة الروح، يرتمون على ماء يهدهد أطرافاً تطفو على بحر يلهث بحريق الدمع من هول ما احتواه. كيف لهذا البيت الواحد القريب من البحر كما القلب أن ينزف آخر الدم لغاية ارتياع الجسد، كيف له أن يحتمل شهامة بحارة عراة ألا من سواعدهم راحوا يقذفون بأرواحهم نحو غياهب الأمل، عندما تفزعت حواسهم لأول الانفجار، ليهرعوا وحدهم نحو قوارب خشبية تدار بمحرك واحد.. تضام وهلعهم الذي باغته الهدير العصي، بحارة صغار اندفعوا ليستجلوا عبء المصاب.

حين استشرفوا حطام الحديد، أوقفوا محركات القوارب الخشبية لئلا تعلك براءة اللحم أكثر، أغلقوا نهب الكهرباء عن محركات كادت أن تجهش بالبكاء، ليسقطوا في عمق الماء المنهار وهم ينتشلون ذراعاً هنا وجمجمة هناك، اندفعوا بذعر كبرياء فاتك وهم يفتحون حزام الأمان عن “..” ليخرجوا ما تبقى من أجمل جسد لأطيب امرأة على الإطلاق، امرأة ماتت القلوب كلها وهي ترثيها لملائكية معدنها الأصيل، لا.. لن أحصي ذبائح البحر، كلهم راحوا لموت لن ينتهي، كلما رحنا لنرى البحر.

لن أحصي مالا يحصى من صيرورة غصة شهدت فتية أشداء جاورا حتف الكارثة، راحوا يشدون الجثث وهم يخوضون دم البحر، بحرنا السماوي الهادئ الذي تغار منه السماء، لمدى وداعته ونقاوته، هسيسا ليس بحراً، ماء غاف، مصاب بملح وفير يدفع موجاته لتهمس لرمله المعشوق بشفيف حب يتأوه..، يا الله.. صار جبانة مهتاجة بأفئدة الناس، صار موجا يتردم بأعضاء أهالينا ويتهالك بحشرجة أصدقائنا الذين ارتطموا هناك، كانوا يحلقون كالغيم. هكذا.. بغتة دون إنذار يلهم الرئة لترتشف قليلاً من الحياة، لا لم يرتدوا سترة النجاة، لم يتدل لهم الهواء ولم تفتح مخارج الأبواب، بل انسحقوا بدم عانق المعدن الأليم في هبوط مفاجئ ذريع أفرغ الهواء من رئاتهم وعراهم تماماً من أي ثوب أو قلب ليتقصفوا بلا قبر حنون غير حضن البحر.

(4)

رثاء أهل البحرين آن الكارثة التي أشعلت الجثث لا يوصف، كل جسد حي فيها بكى قائمة استهلمت أشلاء الضحايا كلهم. لا لم نكن نبكي جثث أهل احتواهم ملح البحر ولكنا كنا نمتحن العيون لتترمد على ذكراهم.

من الصعب وأنت في البحرين أوان الكارثة.. أن تصطبر أو تسيطر على قلبك ليكون رحيما بك، كونك ترى كل أهلك وهم يفتركون التراب في المقابر حين انحدار الجنائز نحو قبور فارغة، سوف تلتئم على قطعة لحم واحدة فقط لم يشظها عنف الحديد، تستبسل بجذوة الروح لتصمد أو لتحيا أوان صراخ النسوة حين هبوب عويل التعازي التي لا تكاد تسعف امرأة هنا حتى تتهاوى امرأة هناك، وأنت تصغي لأهل الجثث الذين تعرضوا للتعرف على أرواحهم، أشلاء مرقمة، مصورة في كتيبات تحوي آلاف القطع المجزورة، مشقة داهمة ابتلتهم وهم يتفرسون في ملامح نال منها بليغ الانفجار وتفزع الدم وطعن الحديد، هكذا كانوا يتعرفون على نواهب القلب وما تبقى من الأهل، لتنتابهم بغتة هستيريا تفوق الوصف وهم يحتارون كيف سيختارون من شظايا اللحم المؤلم ما سوف يدفن في قبر يترحم.

(5)

كارثة بحر البحرين، لا تعني أطلاقا سقوط طائرة، لكنها تعني سقوط كل قلب ألتحم بدم أهل البحرين، هبوط كل نبض أصغى لقائمة الأسماء، لهجمة الجثث، تحطم كل روح راحت تستجدي الإله ليسعف بعض الأرواح.

فجيعة خلطت الحديد بالدم ولحمت الوجيف بالبحر، كيف لنا أن نحتمل أطفالاً احتلوا أغلب الطائرة، لنراهم عراة فاقدي الأعضاء، كيف لنا أن نرثي أهلاً وأصدقاء تهادروا نحو فجيعة لم تترك أثرا لنتعرف عليهم، صديقات في عهد الورد راحوا لموت يطحن العمر. منذ تلك الكارثة تحولت بحريني الصغيرة إلى مأتم واحد ومسجد واحد. توالت عليهم المواكب والموافد، كلها ترثي نسلها الفقيد، مغمورة ببكاء لم نشهد مثله، كلها تبكي ملائكة ماتوا في انفجار لم يشفق عليهم.. هكذا ماتوا دون أن يلتاذوا بعد مشقة الهواء الصعب إلا بملوحة البحر.

(6)

أرى الموت أول الكائن،

أرى الجسد ملاءة السر

أفضُّ هيبة المشهد

عند أول عتبة من عطايا الألم أحدقُ

فلا توقظ اليأس وأنت تصعد الدم

حدق في نار تطفئ هواء العالم لتراني:

أداوي ترانيم الأرامل

وأطعم المأساة خميرة السلالة.

سلاماً..

لكل قطرة دم انهدرت من سماء البحر

لكل قلب أكتوى برعدة البكاء أمام رجفة شاهد القبر

لكل شهيد أغمد جمرة الروح ليعانق حسرة الموج

لكل وردة غادرت تراب الوطن

لتنحدر في عناق موت كالمطر..

كيف ننساكم

نحن الذين لا نرى غير هذا البحر

تخريب الحواس

– 1 –

أثق كثيرا بدرس الطفولة، كمنهل أولي وقويم لتعلم ماهية الإبداع كهوية وجودية، وقلق إنساني تجاه غموض أسئلة الكون.

في غابر تلك الطفولة، كنا أحراراً بما يكفي، لننقاد لمقترحات جنة المخيلة، بل لنتحاور معها، نبالغ في هيمنتنا على مقدراتها اللعوبة والمبهجة، نعيد من خلالها صياغة عالمنا الصغير ليتحول الى فضاء أو حديقة أو نهر، كل ما نشتهي يتحقق في لمحة مكر طفيف، صغير لكنه ثري بمعطياته الحالمة والرحيمة بصغار يتحسسون عطف الهواء ليتعلموا كيف هو الطريق.

في ذاك العمر الوديع، كانت كل الأعضاء تشتغل معاً، لتصوير مدى قدرة المخيلة في إمتاع الجسد بما تختزنه من حركات وألعاب وخفة وتصاوير لا تنتهي، لم نكن حينها نكتب ما نراه، بل لم نكن نحتاج الى ذلك الفعل التدويني على الورق، لنثق بما نرى أو لنبلغ الآخر عنه، لأننا كنا نحياه بمتعة لا توصف، وهذا يكفي، أن نحيا الحياة بكل همسة فيها وحنو أيضاً.

كانت الحرية هي قدرتنا اللامتناهية لاستخدام وتطوير حواسنا البكر، وهنا نعني تحديداً تلك الحواس التي تفوق قدرة الخمس الحواس التي علمونا إياها في ما بعد، بل حتى هذه القليلة علينا تعمدوا تخريبها وتنضيدها وأسطرتها وتقويمها لتعمل وفق منظور محدد، شديد الثبات، هو الأصلح وهو الأكمل وهو المنجي من شرور الذات، للأسف العميق، ارتهنا- دون دراية تامة- لفتاوي علومهم وشروحاتهم وتربيتهم، لأنهم كانوا أكبر منا، أكثر خبرة في الحياة كما علمونا أيضاً، وأخيرا هم أهلنا الذين أصغينا لهم أكثر مما ينبغي، هم مدرسونا الذين لقنونا قيد الدرس، ونحن في طراوة الملائكة، نصغي لهم بخرس لا يطاق، كتبوا على اللوح، ببياض الطباشير لنحفظ الوصية: من علمني حرفا صرت له عبداً، هكذا تخرجنا عبيداً، لمن علمونا كيف نصغي لهم.. لا لذواتنا، علمونا كيف نشذب مخيلتنا، نحولها من حديقة إلى مقبرة.. نقهرها، لتتقلص وتعجز عن الفعل الإبداعي، تعلمنا كيف نحتكم لوهم حكمة العقل وحده، علمونا كيف نصير عقلاء، نعرف ما ينبغي وما لا ينبغي، صامتين على الدوام.. صاغرين، كالكبار، نتمتع بأهلية كاملة، مواطنين صالحين، نعمل ونحيا من أجل سيادة الآخرين على الكراسي، وقبلها على أعناقنا، نتحول الى رعايا منقادين لعصا الراعي بطاعة القطيع، نقضم تاريخ القمع العربي المتاح.. بصمت تام.

– 2 –

منذ البدء.. تحددت أوليات علاقتنا مع العالم عبر هتف الحواس، تلك الآليات المتصلة بمكامن الجسد الفاعلة، منذ سقطتنا الدموية من عنف الرحم، تعرفنا الى رائحة الأم ومذاق الحليب، تلمسنا حنو الأيادي، أنصتنا لنسيم الهواء ورأينا هبوب كل هذا البياض.. من المهد حتى شراشف الأحلام، كلما كبرنا تنامت حواسنا معنا، برفق غريب، كانت تراعي وتحمي انحدارنا الأول نحو الحياة، هناك حيث لا رقيب على ما نرى، في الحجرة ليس لنا أن نرى الأهل أو الأثاث، كنا نرى ما نريد، المتعة هي سيدة المكان، كل الأشياء تتحول إلى دمى ذات قدرات عجائبية بفعل سطوة وقوة المخيلة، كنا نصغي لذواتنا فقط، لحوار داخلي يحوك خطورة الحكايا المتخيلة، نرافق الحواس كلها وهي تترجم وتحور يباس المكان والوقت لحدائق نلهو في حناياها كل عمرنا الصغير.

عندما يجتهد المجتمع الإنساني لتثبيت نواميسه وقوانينه ويعمل على تعزيز مكامن سطوته عبر تابوات تنظيرية تتوالد وتتحكم في مصائر ناسه-لضمان دوام حكامه- لابد له من تقويم -كما يدعي- ذاك النسل الجديد المتفلت بحرياته، يبدأ في تمرينه وتدريبه وتربيته على حياة محددة سلفاً، يبدأ بقوة العصا لمن عصى، على تكسير جنوحه ومقاومة شغبه البريء، ترويضه بالفعل بسياسة العصا والجزرة، كما يتم ترويض الفرس الطليقة، العابئة بحرية المراعي وهي تقتحم بجرأة الحوافر نداوة العشب، وهي تنهدر نحو البراري، معلنة صراحة الصهيل الحر، ببطش بالغ.. تراهم يطاردون حريتها المستمدة من هبوب الريح، مطاردة عنيفة، لا تهدأ حتى يلجموا نواجذها الأليفة بكلابات حديد تنتهي بسرج جلدي صلد، تتدلى منه شرائط جلدية عديدة، لربط الصدر بإحكام، حتى تتحول شهامة الفرس أو جهامة الجواد الأصهب، الى عربة طيعة تنتهب الطرق.. تحت امرة السوط الذي ينهب أعصاباً تصهل بالألم بدلاً من صرخة حنجرتها بحرية الصوت.

– 3 –

وحده الابداع بجموح رؤاه الإنسانية، يقاوم تشذيب الحواس، يعمل جاهداً على استعادة نقاوتها، على تخليصها من شظف التقليم والسجن والتشطيب والقسر، نراه عبر الشكل التعبيري الذي لم يختره حقيقة بل تشبث هو به، عندما بدأ يشعر بحاجته الى التمرد على هذا اللجام الصعب، أراد أن يفر من ليله الطويل نحو موج البحر أو حرية المراعي أو هاوية المنحدر، أراد أن يتخلى أو يتخلع من صرامة القيد ويحيا حياته كما يراها أمامه لا كما يراها الآخرون تليق به.

تخريب الحواس مهنة صعبة، أصعب من الابداع ذاته، لأنها تبدأ من صعوبة الصفر، تبدأ من إعادة الأسئلة والتريث كثيرا أمام حقيقة الأجوبة.

– 4 –

“ما لذي يمكن عمله مع شخص عنيد قد وقع في براثن هاجس معين استحوذ على فكره؟ كلما مر الوقت، ضاق صدره. مع ذلك، فحينما حلت ساعة الوداع الأخيرة لم يكن يتمالك دموعه، كان يعرف أن هذا هو الوداع الأخير، وأنه لن يرى أمه أو تلك المدينة الملعونة “روش” من جديد، والتي كان يترك فيها قطعة من روحه. قالت أمه: “أبق هنا. سنعتني بك”

فقال لها الشاعر (رامبو): “كلا.. يجب أن أحاول كي أشفي نفسي”.

 

5-
“كان من الأفضل لي لو مت منذ فترة طويلة”

آرثر رامبو

6-

تخريب الحواس هي وصية الشاعر الفرنسي “آرثر رامبو”، أو بالأحرى رائعته التي اكتشف من خلالها الشعر الذي اغتال عمره القصير (1854 1891)، بعد أن أنجز إبداعه الشعري خلال سنوات، قضاها كلها مسكوناً بحاجته “للبحث دائما عما وراء الأفق”، موهبة الطفل رامبو دعته وهو في الصف الأول، أن يكتب:

“حيثما وجد الغنى وجد بجانبه الألم”، أيضاً:

“كانت الشمس دافئة،

لكنها الآن تضيء الأرض بصعوبة”.

عندما أوصى “رامبو” بأهمية تخريب الحواس، التي تم تطويعها، وتقليمها لتتناسب وهيمنتهم، كان يدرك أهمية هذا المطلب، ومدى صعوبته، لإعادة قوة الحواس لما كانت عليه عبر تخريبها حتى تنساب بعذرية وبراءة تامة، تعبر عن بلوى الصوت وعذابات الجسد دون كابح أو صد أو كبت من أحد.

اعتنى هذا الشاب اليافع بصوته الشعري، وبحرية انفلاته، كما لم يفعل أحد من قبله، اهتم بحبره بطريقة مريبة، ليستوي له تمرده القاسي على كل القوانين الجائرة، بل لتتوازى تجربته الشعرية مع تمرده الشعري، كان كالصهوة، متفلتاً إلى أبلغ حد، لا يعتريه أي شيء يجابه حريته، حرية “رامبو” كانت طليقة كالريح، بل أكثر من ذلك، عندما كتب قصيدته “الديمقراطية”، كان ذلك ليعري بشاعة الاستغلال الذي تشنه الدول الغربية التي تدعي التحضر والريادة يقول:

“في البلدان المبهَّرة والمنقوعة! في خدمة أبشع أنواع الاستغلال الصناعي أو العسكري”.

حتى عندما اتجه وحيداً نحو القطار كتب لنا “ذكرى”:

“وحاسرتاه،

كان مثل ألف ملاك أبيض يفترقون على الطريق،

يرحل خلف الجبال!

في حين هي تعدو، مترددة وكئيبة! خلف الرجل المرتحل”!

هذه الكلمات كانت تطرز سيرة الوداع لأمه وأختيه قبل ذهابه لباريس.. ذاك الذهاب الذي لن يشفى منه.

7-

بدعة “رامبو” تتجلى في ريادته الفعلية لخطى الطريق، بمعنى ارتياد الوعر، اكتشاف المجاهيل، لا على الورق فقط، بل على الطريق الترابي ذاته، الذي علمه صعب الشعر، مما دفع الشاعر فيرلين ليكتب له: “إنك مسلح تماماً لخوض المعركة بطريقة مذهلة”.

كتب رامبو في رائعته الخالدة “المركب السكران”:

“لكنني، في الحقيقة،

بكيت كثيراً،

إن الآصال محزنة،

كل قمر مبرح،

وكل شمس مرة”.

ضمن هذا المنظور لواقع الحركة الثقافية التي لم تهتم بنبوغه الشعري، صار “رامبو” يقول لصديقه “ديلاهاي” بعد أن صعقت قصيدته الأوساط الشعرية في باريس:

“آه نعم! لم يكتب أحد قصيدة مثلها من قبل، أعرف ذلك.. لكن.. ذلك العالم من أدباء وفنانين! تلك الصالونات الفخمة! لا أعرف كيف أتصرف هناك، أنا سمج، خجول، لا أعرف ما أقول.. لكن حينما يتعلق الأمر بالفكر، لا أخاف أحداً.. لكن.. آه! ما الذي سأفعله هناك”.

أمام سيرة رامبو احترت كثيرا فيما ينبغي إيراده، لكون هتفه كله مهما بل بليغاً، كأن هذا الصبي أينع على هذا الكون، ليعلمنا معنى ومهوى موهبة الشعر معاً، بل أصر في وصيته الجليلة، بأهمية تشويش أو تخريب الحواس، إعادتها لبراءة الطفولة، تدريبها من جديد، للعودة للبدء الذي تم تدميره، وتهذيبه، وتحويره نحو عبودية لا توصف، وهذا ما تجلى في كل “إشراقاته” الخالدة.

8-

“في كل دقيقة تتحول شعرة في رأسي إلى بيضاء”

هكذا كتب إلى أمه وأخته وهو على هاوية الفقر والمرض، ذاك الذي أودى به نحو الجزع والعجز كله:

“مامن فائدة في إخباركم عن العذاب الفظيع الذي تجشمته في رحلتي، لم أستطع السير خطوة خارج محفتي، كنت أرى ركبتي تنتفخ، والألم يزداد باستمرار”.

في رحلته المريرة نحو فرنسا تجرع “رامبو” العذاب كله، وهو يعاني من ورم ثقيل في إحدى ركبتيه مما دعا الأطباء هناك لبترها حتى أعلى الساق، ليساق مرتكزاً على عكاز خشبي يواسيه في طريق المجاهيل، مصاباً بالحمى وبدء الاحتضار، لدرجة أن الاستقبال الذي حظي به ومناشدة الأهل نحوه، دعاه ليصرخ بهم:

“أنتم تظنون أني جئت إلى بيتي في فرنسا هذا الصيف طلبا للزواج! وداعا أيها الزواج! وداعا أيتها العائلة! أنا لا أكثر من جذع شجرة ميتة”.

حتما كان كذلك، شاعراً تهدم في عالم لم يكترث لوميض موهبة تجلت له، عالم مهزوم، بل ميئوس منه، أمام كل قطرة دم جفت في وريده، وهو ينتحل حتى مشارف غيبوبة رحيمة أمضاها في هلوسات وأحلام وهذيانات، كانت أكثر رأفة به.

مات رامبو.. وعاد بعد سبع وخمسين عاماً، حينما وضعت اللوحة النحاسية التالية في الساحة الرئيسية “هنا 10 تشرين الثاني 1891 عند رجوعه من عدن.. الشاعر آرثر رامبو واجه نهاية مغامرته الدنيوية”.

دون أن يراها أحد

1-

تصف الروائية الامريكية “فرجينيا وولف” من تكتب كمن تسير في حجرة مظلمة ممسكة بمصباح يضيء ما هو موجود في الحجرة بالفعل.

تشعر “مارجريت لورانس” عندما تكتب أنها يعقوب يصارع ملكه في الظلام وهو فعل يجتمع فيه الجرح والسباب والمباركة في آن واحد.

الشاعرة “ايميلي ديكنسون “، الفريدة في رؤاها العميقة والتي غيرت مسار الشعر الامريكي، كانت توصي اختها “لافينيا” بحرق اوراقها، بالرغم من استمرارها في الكتابة في سنواتها الاخيرة، وكل ما نشرته في حياتها لا يتعدى دزينة من القصائد، وبعد رحيلها اكتشفت شقيقتها ما يقارب ألف وثمانمئة قصيدة تنتظر ان يراها أحد:

” لا اسمع أبدا كلمة ” هروب”،
دون أن يفور دمي،
ويراودني تنبؤ فجائي،
وأجنحة تطير بي إلى بعيد

ما أن سمعت ُ أن جنودا،
قد حطموا سجنا ما،
إلا وقمت كالطفل بعض ّ قضباني،
فأسقط مرة أخرى!

2-

الكتابة فعل اختراق للصمت واكتشاف للذات في آن، ذاكرة ننصت للحياة من خلالها وونرصف السطور بحروف لا تنشغل الا بحوافها الصعبة وأسئلتها النادرة، حرية لا تحد، الزمان والمكان مكونان يتقاطعان ويؤثران عمقياً في أتون الموهبة، لكنهما لا يحكمان تلك الجذوة المتقدة بجرأة الكلمات وجنة الرؤى، فهي دائمة البحث عن مكان يتسع لأقاصي حريتها، وزمان يحتمل آفاق رؤيتها، الكتابة وهي تكتشف مغاوير الذات الانسانية وهمومها، تجتهد لتتقن نحتها بفرادة تدوم على الورق.

الكتابة دوماً تعبر عما يتوافد في اعماقنا من اسئلة وحوار دائم، وعما يتدافع نحونا من تجارب حياتية مكتومة بمقاديرها، عندما نكتب تتقدم تلك الاعتمالات الفكرية والفلسفية بتلقائية وتندغم في صور شعرية تتراكض نحو نهب المنتهى، ثمة تجربة شعرية تتخلق بذخائرها التي احتدت وهي تصطك في اعماق أرواحنا قبل ان ترى نور البياض.

شاعرية التأمل طريقة لاستعادة الروح لاتزانها وسكونها بعيداً عن ضجيج العالم، للعزلة بمعنى الانفراد بالروح ضرورة بالغة لتشريف الشعر لضيافة الورق، بطبعنا نحب الهدوء والصمت، الشعر يزيد من توقنا لمشاغله الذات ومحاورتها، سواء عبر الكتابة أو خارج الكتابة، ثمة عناية فائقة لترتيب المكان ليبدو أكثر ليلاً، لتهيئة الروح لتغدو اشد اشتعالاً.

الكتابة كالهواء.

كالحياة لا نشعر بصعوبة ينوعها على الأرض وهي تبدع الحدائق والغابات والأنهار والجبال العصية على التحديق، الحرف وهو يتقد على الورق لا يقل عن الفحم الذي تبلر في غوامض مناجم الروح ليضيء كالألماس واهب الرؤى.

عند الكتابة ثمة استعداد فطري يحرض المخيلة لتمد اليد بما تستهويه الروح من كلمات قادرة على تجسيد الحالة النفسية لتتخلل الصورة الشعرية بنشيج الخفايا، وتلعب القراءة – بمعنى محاذاة ابداع الآخر كتابة أو تعبيراً فنياً كتشكيل اللوحة أو هيام الموسيقى نعمة الاستغراق في تقصي الدلالات الإبداعية – دوراً في شحذ المخيلة ومدها بمعين لا ينضب من الصور الفنية والعلائق التأويلية لإثراء اللغة، وهذا ما نطمح لتحقيقه، لئلا ننساق لنمطية اللغة التعبيرية ومراودة ذات الكلمات.

كذلك تشكل الحياة شلالاً من الدفق التصويري يسعف المخيلة التي لا تنسى أن تخزن كل ما نتعرض له من ملمات لتتحول على الورق إلى كلمات تشكل طريقاً آخر أقل تعثراً وحياة أخيرة أكثر رحمة وحنواً.

من الأوهام التي عمت تجربة الشعر العربي بالتحديد خضوعها لدرامية الثنائيات التي لا تنتهي، من الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الشكل والمضمون، إلى آخر القائمة، وذلك لتفنيد الشعراء كل حسب خانة النقد، في حين تصوغ الرؤية الشعرية جماليات النص الأدبي بمعزل عن هذه التعارضات.

الكتابة لغة تعبيرية عن طريقها يتصل الكاتب بذاته ليتعرف على ما يضنيه ، لذا تتخلق الصورة الشعرية بمعزل عن وهم التضاد بين ( الخاص و العام ) لكونها تجسد ما يفيض في أعماق الشاعر من ألم التكوين و تعبر عن حساسية اتصاله بعالم شرس لا يُحتمل لما يشتعل فيه من هوى التدمير ، لذا لا لتعسف الفصل بين ( الذات و العالم ) هناك التحام بين الشاعر و الحياة لا مفر منه لتخلق الشعر ، الحديث هنا يطال الإبداع لا النظم أو التدوين .تتجسد هذه المعاناة في رؤية شعرية عندما تتجمر بالفعل في ذات الشاعر ، لا عندما يتم تصنع حضورها ، حينها يسقط الشعر و تظل الحروف بلا روح على الورق. للكتابة ضوء خفيف لا يراه الا من يرى التماع الروح في دمعة الوحيد.

3-

لها

لوردة النهر، كبرياء الكتابة

موهبة أضاءت وميض إاحتضارها

وأتقنت إيلام إمرأة إعتادت صمت إنتحارها

إلى حد،

يخجل الموت منه

تعجز الحياة عنه

وينحني له الحبر.

درس الطبيعة

(1)

أًقبلُ يدي،
أقدُ لي ذراعين من عظم التناهي
وأدير أقداح العوادي.

قبل أن تزهر أصابعي،
تفرعت روحي بضلالي
قبل أن أستبشر بملامح العماء العليم،
تنضدت أعطافي بشراهة زمني
جاورت لجة ليل لا يصغ
للفجر عريف الحفل،
تناويت تكسير المعضل
أعرفُ،
قلمي: خشبة خلاصي المثقلة بغوامض أقداري
طاولتي: رعونة عذابي البارد المستتب
أعرفُ،
ليس لي،
غير أكتاف مجرجرة وأعناق مدماة من شدة النيل.
هل أعرف؟

اغمرني أيها العشب الهاطل بنواهي عطوفك
لأرتضي ما يمنحني الدوام الرحيم،
ولا تذلني بحنوك،
ولا تضعفوني بحبكم،
أيها الأدلاء البكم
ما عدتُ بعد،
من طواف النجباء الراتقين جروف المنحنى
بوفير المفر الصعب،
ولا من حرير الرنين الدامغ أعلى الرأس.
أجيروني بحلولكم
لأجير مقتبل هذا العناق القليل.

(2)

للطبيعة قدرة لا تحد، حكمة لا تطال، لكننا للأسف الذريع لا نتمهل امامها، بل نغترف منها أقل الصفات بما تيسر للبصر، كل عناصر الكوكب تتوافد نحونا بمشيئة الخلق، بصمت عارم تتأمل ضجيجنا ولا تسأل، بل تمهلنا الوقت لعلنا نرى ما يرانا ننشغل عنه.

الغبارُ حكمةُ الصحراء
به تداوي غرورَ تلالٍ تتصاعد.

الصحراء وحدها تهب وعر فنونها بصمت ولا تدين الجفاف، بل تتباهى به، حينما يحتمي منه نبت الصبار بأذرعه المهيبة وشوكه النافذ بصلادة صبره على ندرة المطر، حينما ترتمي الرمال كحقول من فضة الألق على مدى النظر صانعة سرابها الرحيم، تكتسح الصحراء هيبتها من صمتها المباح لكل ساكنيها وصبرها الواجم على وعر تشتهيه كائناتها العزل، نهب صقور تكسر أقاصي المدى، خفر نياق ضالة ترتوي أمل السراب.

هنا الصمت هو سيد عزلة الخلق.

تورق الحدائق وتبذل الغابات روعتها، حيث تتعالى موسيقى الخلق، ثمة غناء شفيف ترفل به العصافير في غيبوبة العناق، ذاك الرنيم الذي يعتصر الصدوغ نحوها، أصداء نحيب وعويل تبذله كائنات الغابات آن الخطر، وما عدا ذلك.. سكينة تصوغها أقدار الزرع، يبللها انهيار الغيم برذاذ المطر، ويرنمها الشلال بانحدار عذاب الماء نحو بسالة صعب أن يحتويها الكلام.

نتأمل مفردات الطبيعة وهي تعزف رتم تحولها ببطء رهيف، كمن يرقب نهراً تلهو فيه أسماك صغيرة ملونة تتقاطع ومرونة الماء بزعانفها بين الأعشاب وخبايا المرجان، كمن يتعرف على اوركسترا مزودة بسادة الوتر، تنفرد بتصاعد هارمونيا لحنية تبالغ في حيائها.

 

بقدر ما تأسر الطبيعة الناس، بقدر ما يتغافلون عن تعاليمها، ثقة منهم بمدى العماء، غرور يستحوذ على يقين الوهم، كلما ترهلوا أكثر بمكتشفات معدنية تسخر لهم الصعب، كلما التحفوا ببيوت تحوطهم بقسوة الإسمنت، استقوا عنيف القيم التي نراها تتناسل وتحاصر جموح أحفادهم، ثمة حديد يتصاعد من حولهم بمعزل عن حضور الأخضر الطاغي، ورواج البحر، وسحر جنيات الورد.. بعيداً عن حنان الحب وعطف اليد.

(3)

عندما تتعثر في الطريق بحجر ما، ما عليك إلا أن ترفعه وتراه، لتتعلم من انحناءاته ونتوءاته الصلدة وترف الرمل المتحدر منه، تتعلم ما يجمع كل هذه التضادات في حجر مهمل، استطاع أن يضلل خطوك لتتعثر به وتسأل.

الطبيعة شاعرة تنتضي منصة الحقل وتقرأ شهوة الأخضر، لندرك ما تحتويه من الزهور النبيلة التي ما أن تنشق عن غصونها حتى تسمو. لتسهو عنا..

رفقاً بنا، تتألق بعطر فريد يحرض المساء لينتشي على سهاوة العشب، قرب بحيرة طاغية بأزرق الدفق، لترانا ملتفين بهواء بارد، وحدنا نرسو على همس يرتشف الأفق العليم بحال أرواحنا، نلملم أوقاتنا الشقية، لنشهد على بلاغة غيم لا ينسانا، ثمة مطر رحيم ينهال بغتة ليغسل جفوة لا تطاق..

عندما ينهمل المطر
ليجازي صبر نافذتي
أكسر أسيجة قلبي
لعناق قتل لا يستوي لسواي.

أمهلوني سحابة أخيرة لأباغت الرعد
لأكأد كالمطر،
أباري صعقة الذات
كل هطولٍ أفيض به وجداً.

التجربة التي لن تصفها أبداً

-1-

لامرأةٍ تناهت عنها،
مثقلة بحجرٍ ميت، ارتمى بين ضلوع تخسرها،
مكتواة من صدِّ تاريخ رماها،
تجرأت على برودةِ سرها،
لتغمد ذاتَها نحو مغاليق عمياء،
انتهبت موتَها، نحو عذوبةٍ ترتقي نحولَها الأبدي:
لم يسألها العشبُ إذ رآها تتعثر بنضارةِ جرأتِه
لم تثنها الوردةُ النادرةُ، الملتهبةُ من ضراوةِ صمتها
لم ينتبه الغيمُ اللاهي بممراتِهِ الكئيبة، لخطى تتوسلُ الحصى
لم يهتم البابُ الأصمُّ، بصدى نحر، أرداها من وفيرِ زفيرها
لم يجتنب ثوبُها الزهريُّ الخامدُ، معطفها الكئيب المتهالك،
أظافرها الحنونة المحبرة، خنق لهاث أدمى رئتيها
لم يصغ الهواءُ لصبرٍ أضناها
لم يتحاشَ الممرُّ الضيقُّ شيوعَ ظلالِها المريرة
لم يعبأ أحد..
بلهجةِ دمٍ ضريرٍ تخثّرَ حتى أغرقَ آخرَ الورق.

” ليتني أستطيع كتابة ما يعتلج في صدري من أحاسيس في هذه اللحظة.. إنها فريدة وغير سارة أبدا، ثمة إحساس جسدي كأنني أطرق طرقا خفيفا في عروقي، أشعر بالبرد الشديد، بالعقم، بالفزع، وحيدة جداً.

أنا أعرف أن علي أن أستمر في رقص هذه الرقصة على آجر حار إلى أن أموت.

بوسعي أن أختبيء وأنظر إلى نفسي وأحس بالسكون التام الموجود تحت الماء، ولكنه نوع من السكون فيه من القوة ما يكفي لرفع الحمل بأسره وأنا أستطيع بلوغ هذا السكون في بعض اللحظات، لكن اللحظات المكشوفة دون حماية هي لحظات مفزعة، نظرت إلـى عيني ذات مرة في المرآة فرأيت فيهما فزعاً.. وهج ذلك المصباح الأمامي على جسدي الصغير الشبيه بالأرنب يُبقي الأرنب مبهوتا في منتصف الطريق أمام السيارة”.

 

-2

تحتدم،
لتحتملَ حمولةَ حياتها:
طفولة تجرعت عنفَ مراميها،
انتهاك عسير على عذرية لم ترحم ذاكرةَ تنحت نقاوتها،
يتم مثخن بقبر مبجل عن تراب يتقدم،
انهيارات الصبا، احتمالات المشافي،
مواقيت الألم الحاقن غلاوة النبض،
تكديس الكهرباء نحو صدوغ تتحجر،
ارتجاج يحتدُّ بجسد وحيد حد الخلع،
خبرة الحجرة البيضاء بحلول جفوة لا تطاق،
انسراح هزائمَ تثقل القلبَ وترجم خلجةَ الأنفاس،
أوجاع بهيمة تعصف بنوايا العقل،
غثيان غدر يأزز الفراغات..
انتزاع أوردة تتفجر كل صراخ آت..
كيل حياة لا تهتم بمآلاتِ شلل تام.

في الثالثة عشر من عمرها، أصيبت بأول انهيار عصبي، بعد تدوين يوميات مسكونة بالقلق الإبداعي، كلمات تشي عن محنة سوف تستنزف حياتها كلها فيما بعد:” هذه من أفظع الليالي، لا مفر من الفكرة:

ماذا سأكتب غداً؟ “

كانت بمجرد مغادرة الكتابة تتعرض لأحوال مؤلمة، لم يجدوا لها تسمية آنذاك غير الجنون، مذ بدت ممسوسة بعالم الكتابة بتدفق لا يوصف واستغراق عميق حتى آخر كلمة، لتواجه كلما أنهت رواية ما، صعوبة بالغة في الحياة.

” كان من أهوال جنون فرجينيا أنها كانت على درجة من امتلاك العقل بحيث تتعرف على جنونها ذاته، تماما كالمرء الذي يعرف أنه يحلم، وذلك قبيل الاستيقاظ. لكنها لم تستطع أن تستيقظ.”

تبدأ نهارها بصداع شديد ينتهي بانهيار عصبي تام، يجعلها عرضة لاختبارات التحليل النفسي والعلاج الكيمائي، الذي لم يرى في حالتها سوى إصابة عقلية وخلل عصبي مدمر، لم يكترث الأطباء بتعدد المحاولات الانتحارية، التي حاولت اتقانها كل فشل من الحياة، وبالتحديد بعد كل رواية تدعها وحيدة، تشك بقواها: “لم أجلب الفصول الأخرى معي إلى هنا لئلا أصاب بالصرع. العمل عليها هنا يلونها بالشحوب الناجم عن الصداع “.

هكذا تتقصى ما دواها: ” أما الهول الذي أنتظره بعد هذا اليوم العاصف، خلال هجوع روحي، فلا يسعني إلا الإسراع عند انتقالي من الفناء إلى الغرفة وقد استبد بي القنوط وأنا لا أكاد أحس بأنفي أو أذني، فهو على بعد هذا اليوم الأوحد من الارتياح النفسي أن أبدأ من البداية فأستعرض ست مئة صفحة من البروفات الباردة، لماذا يا إلهي؟ ليس مرة أخرى، لا.. لا..”.

-3-

لقد تحولت حياة الروائية الأمريكية “فرجينيا وولف 1882-1941” إلى حياة أخرى مفعمة بحب أسطوري للكتابة، نادر الحدوث بهذا العنف الذي يصل حد محاولة الموت. رغماً عن الحياة.

في دراسة استغرقت سبع مئة واثنان وتسعون صفحة من القطع الكبير، أرخ المؤلف “كوينتين بيل” وهو أبن شقيقة “فرجينيا وولف” سيرة أسطورية لامرأة انشطرت حياتها كلها بين عالمين لا مفر من فناء أحدهم لترضى روحها وتكف عن تعذيب جسدها الذي كلما انتهي من نحت رواية لها، أو بمعنى أقسى كلما غاب عن روح الكتابة، راح لميعاد الأذى الذي لا مفر منه. في العالم الأول ” كانت في الغالب صامتة، صامتة باحترام وأحيانا بشرود، كانت تتصنع الشعور بالرهبة.”

” قلت في نفسي إذا لم يتوقف هذا، وأعني الطعم المّر في فمي، والضغط الشديد حول رأسي كأنه ضغط قفص من الأسلاك، إذا لم يتوقف هذا فأنا مريضة إذن: أجل من المحتمل جداً أنني محطمة، عليلة ومحتضرة، يا للعنة فقد سقطت على الأرض وأنا أقول: زهور، يا للغرابة.”

وفي العالم الآخر حيث الكتابة: ” ا أنانية جداً بشأن كتابتي ولا أكاد أفكر بشيء آخر سواها، ولا أذكر أمر كتابتي أبداً غروراً مني، وحياء وحساسية، ولك أن تعدد صفات أخرى كما تشاء”

هكذا تقصت ” فرجينيا” مكامن الموهبة في ذاتها أولاً، رغم الألم، أينعت بمهارة الحبر، خطوة، خطوة، قبل انتحارها في عمق البحيرة بكثير:

لها،
لمحارة لم تتأخر كثيرا،
عن اندلاع لؤلؤة، التمعت بعزلة مخبأها
مثلما اعتنت بغيابها، تمادت بحصولها
كما خطت الحبرَ.. تخطت البحيرة.

القلب النقي

1-

“إنني مجرد نقطة خلاص في بحر المعاناة”.
الأم تيريزا

2-
من المواقف الجليلة للأم تيريزا أنها عند استلامها جائزة نوبل للسلام حرصت على ارتداء الزي الهندي المتواضع الذي كانت دوماً ترتديه في حياتها، وهو عبارة عن ساري هندي أبيض اللون موشى باللون الأزرق، ويبلغ سعره دولاراً واحداً. كما أنها طلبت إلغاء العشاء التقليدي الذي تقيمه لجنة جائزة نوبل للفائزين، وطلبت ان تعطى المبلغ لتنفقه على إطعام 400 طفل هندي فقير طوال عام كامل.
وعندما حصلت على جائزة نوبل للسلام كان تعليقها:
“إنني لا استحقها”، ولكنها وهبت قيمتها المالية للفقراء قائلة: “إنها منهم ولهم”.

3-
يستوقفني كثيرا مدى الغرور الحادث في الأوساط الأدبية والفنية عند تتبعي لحوارات الكتاب والكاتبات، أو ما يتم تداوله في الأنترنت من مقالات ومتابعات لأخبارهم ونشاطاتهم، لنشهد حجم التهاويل والمقدمات والاستعراضات المخجلة، وكلما مضى الوقت بنا لحظنا تفاقم الأمور، بل تعديها للحد المحتمل من المكابرة ونفاج الذات والنرجسية والأستذة، حتى يكاد الأيجو أن ينفجر بغتة وهم يستعرضون وهم الأمجاد والبطولات برفقة شلة من المنافقين والمطبلين لانتصاراتهم، لنتساءل كل هذا من أجل أبيات شعرية؟ أو صدور ديوان شعري؟ أو دعوة لحضور مهرجان؟

الابداع ليس كتابة مثقلة بالغرور بل بكتابة تخجل من عطاء الحياة وابداع كائناتها ومخلوقاتها، كتابة ترافق القلب بحب ورحمة وحنان يعرف معنى التواضع، هذا هو الابداع الحقيقي: أن يحيا الانسان هذه الحياة برفق كما الفراشة أو الشمعة على أقل تقدير، بحفيف قلب نقي يشتعل بوميض الأمل كلما تقدم الليل.
المبدع من يغادر الحياة بخفة طائر أودع الهواء الكثير من حرية أجنحة تحتمل حنان الريش.

4-
القلب النقي هو اسم بيت الأيواء للأطفال المشردين في كلكتا والذي استطاعت الأم تيريزا بقيمة الجائزة (190 ألف دولار) أن تفتح أبوابه لإستقبال آلاف الأطفال.
“تعاونت الأم تريزا مع السلطات الرسمية في كالكوتا فحولت جزءا من معبد كالي (إلهة الموت والدمار عند الهندوس) إلى منزل لرعاية المصابين بأمراض غير قابلة للشفاء والعناية بهم في أيامهم الأخيرة لكي يموتوا بكرامة، ويحسوا بالعطف والقبول بدل البغض والرفض من مجتمعهم. وتوالت بعد ذلك المؤسسات التي أنشأتها الأم تريزا، فأقامت “القلب النقي” (منزل للمرضى المزمنين أيضا)، و “مدينة السلام”مجموعة من المنازل الصغيرة لإيواء المنبوذين من المصابين بأمراض معدية). ثم أنشأت أول مأوى للأيتام. وبازدياد المنتسبات إلى رهبنة “الإرسالية الخيرية”، راحت الأم تريزا تنشئ مئات البيوت المماثلة في طول الهند وعرضها لرعاية الفقراء ومسح جروحاتهم وتخفيف آلامهم، والأهم من كل ذلك لجعلهم يشعرون بأنهم محبوبون ومحترمون كبشر.
كان عام 1965 نقطة تحول كبرى في مسيرة الرهبنة. فقد منحها البابا بولس السادس الإذن بالتوسع والعمل في كافة أنحاء العالم، لا الهند وحسب. وهكذا راح عدد المنتسبات إليها يزداد وفروعها تشمل معظم دول العالم الفقيرة أو التي تشهد حروبا ونزاعات. من أثيوبيا المهددة بالجوع الى غيتوات السود المقفلة في جنوب أفريقيا، إلى ألبانيا مسقط رأسها بعد سقوط الشيوعية، كانت “القديسة الحية” حاضرة للمساعدة والرعاية وإظهار المحبة الخالصة. ومن أعمالها المشهودة أنها استطاعت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ان توقف إطلاق النار لمدة معينة إلى ان تمكن رجال الدفاع المدني من إنقاذ 37 طفلا مريضا كانوا محاصرين في إحدى المستشفيات.”

عندما أختار الحديث عن “الأم تريزا” لا أتقصد سرد دورها الريادي النادر في مجال العطاء والبذل والرقي الروحي، بل اشعال كلماتها البليغة بالحكمة والبلاغة العميقة، كلماتها التي تمثل جوهر تجربتها الحياتية المتصفة بالملائكية، من الصعب حصر كل الدلائل التي ترسلها سيرتها الخصبة بالمحبة، المفعمة بالحنان على مخلوقات الله وعلى كل ذرة من هذا الكون.
تشكل سيرة الأم تيريزا درساً لا يستهان به لتلقين العالم كله معنى التواضع أمام أبداع الله والحياة، التواضع أمام المحبة الغير مشروطة، وأن حقيقة الأبداع لا تتجلى بالسعي وراء أوهام المجد والجوائز بل بحضور الحس الإنساني تجاه عذابات الناس، ومحاولة رفدها بالرحمة والعطاء، لذا لم تتخلى عن شرطها الإنساني ذاك أمام لجنة جائزة نوبل، ولم تهتم بالمأدبة بل بمئات الأفئدة المنطرحة على أرصفة الهند وهي تفترك كبدها من الفقر والجوع.

5-
هكذا ترسل لنا كلماتها النقية كما الصلوات:
” الصلاة هي رؤية العالم بعينيّ الله.
ـ الحبّ يقتضي قلباً طاهراً، وسيكون قلبُنا طاهراً عندما نصلّي. فالصّلاة اتّصالٌ جيّد، وعلاقةٌ طيّبة بالله. إننا نسمعُ الله في قلوبنا، ونكلِّمه في داخلنا. ولكن من أينَ ينبع ذلك ؟ من الأسرة. الأسرةُ التي تجتمع لتُصلّي تظلُّ متحدة، وطالما كان أعضاء الأسرة، متَّحدين، فسيحبُّ بعضهم بعضاً، كما يُحبّهم الله فردياً.
كرِّسوا، على الأقل ساعةً، كلّ يومٍ للصّلاة، فتتطهَّر قلوبكم، وفي آنٍ واحد، ستنالونَ النور، ووسائل للتّعامل مع الجميع بحبٍّ واحترام، فالحبُّ العميق، والسَّخاء السَّمح هما، أبداً، ثمرة الصّلاة التي تقرِّبنا بعضنا من بعض.
علينا أن نستعيدَ عادةً تلاوة المسبحة داخل الأسرة، فقد ينجمُ عن ذلك مزيدٌ من الحبّ والوحدة.
إن دخَلت الصّلاة إلى حياتنا، وإن صلَّينا حقاً، حينئذٍ سنعرف الفقراء، الَّذينَ قد يكونونَ من أفراد أسرتنا؛ وإن نحن عرفنا الفقراء أحببناهم، وعمِلنا من أجلهم، فالخدمة هي ثمرة الحبّ.
الفقراء هم صلاتنا، فالله فيهم وفينا، ونحن نلقاه فيهم. الصّلاة هي عمل شيءٍ من أجل المسيح. الصّلاة كامنةٌ في كلّ شيء؛ الصّلاة هي العمل.
أُهيب بكم أن تصلّوا، فبفضل الصّلاة ستشرعونَ تعرفون، قبلَ كلّ شيءٍ، مَن يعانونَ العَوز داخلَ أسرتكم، وهذه المعرفة ستمكّنكم من تحويل بيوتكم إلى موائلِ حبٍّ، وسلام، وفرَح.
ـ الصلاة، في نظري، هي المكوث أربعاً وعشرينَ ساعةً، يومياً، في اتّحادٍ مع وصيّة يسوع بالعيش من أجله، ومعه، وفيه.
ـ قد لا تستطيعونَ تلاوةَ صلواتٍ طويلةٍ، ومع ذلك صلّوا قائلين للربّ: “اللَّهمَّ أُحبّك”.
ـ يريدنا الله قريبين منه، والقدّيس يوحنا يقول: إنّ الله يفتح لنا قلبه. أصبحوا صغاراً. صلاتنا هي دعاءُ طفلٍ مليءٍ ورَعاً رقيقاً، واحتراماً، وتواضعاً، وسكوناً، وبساطة.
ـ تكفي التفاتةٌ فكريّة نحو الله: “يا ربّ أُحبّك، وأثقُ بك، وأومن بكَ، وأحتاجُ إليك”. إنّ عباراتٍ موجزةً مثل هذه، لهي صلواتٌ رائعة.
ـ عندما ننتهي إلى فتراتٍ تتعذّر علينا فيها الصلاة، فلندع، بكلّ بساطةٍ، يسوع يتلو “أبانا” في صمت قلبنا. فلئن عجزنا عن الكلام، تكلّمَ هو، وإن عجزنا عن الصّلاة، صلّى هو؛ فلنُعطِه، إذن، عجزَنا وعَدَمنا.
ـ لكي تكونَ الصّلاةُ خصبةً يجب أن تنبعَ من القلب، وتكون قادرةً على مسّ قلب الله. جميع ألفاظنا ستكون نافلةً ما لم تنبع من الدّاخل. والكلمات التي لا تشيع نور المسيح، تزيد الظلمةُ إدلهماماً.
ـ ليست الصلاة الكاملة في كثرة الكلام، بل في حرارة الرّغبة التي ترتقي بالقلب إلى يسوع.
ـ أحبّوا الصلاة، ولْتُساوركم، غالباً، أثناءَ النّهار، الرّغبةُ فيها. وحينئذٍ لا تتقاعسوا عنها، فهي توسّع آفاق القلب، بحيثُ يتأهلَ لاحتواء الربّ الذي يهبُ ذاته. اطلبوا وابحثوا، وسيُصبحُ قلبكم من السّعة، بحيثُ يتقبَّل الربّ، ويحتفظ به احتفاظه بملكٍ خاصّ.
ـ الأيدي المتشابكة للصّلاة، الأيدي التي تكرُّ حبّات المسبحة، قادرةً على بثّ حرارة الله.
عليكم أن تخوضوا هذه التجربة، فعلامَ لا تحاولون؟
ـ سألني أحدهم: “أيُّ نصحٍ تسدينه للسياسيين؟” وأنا لا أهتمّ بالسياسة، غيرَ أنّ إجابةً قد بادرتني عفواً، فقلتُ: “أظنُّ أنّهم لا يفطنونَ للصلاة بالقدْر الكافي. وإنني واثقةٌ من أنّهم سينهضونَ بمهامِّهم على وجهٍ أمثل إن هم استعانوا بالصّلاة..”. وهذا ما نحتاج إليه، عندما نضطرُّ إلى اتخاذ قراراتٍ بشأن الآخرين.
ـ الناس جياعٌ إلى كلام الله الذي يؤتي السّلامَ، والوحدةَ والفرحَ. ولكن لا يسعكَ أن تُعطي ما لا تملِك. ولذلك يتحتَّمُ عليكَ أن تعمِّقَ فيكَ حياةَ الصّلاة. كن صادقاً في صلواتك، والصِّدقُ كامنٌ في التواضع؛ ولن تظفرَ بالتواضع إلاّ بقبول الإهانات.
كلّ ما يُقال في التواضع غير كافٍ لتعليمكَ إيّاه، وكلُّ ما تقرأ عن التواضع غير قادرٍ على تلقينكَ إيَّاه. ولن تتعلَّم التواضعَ إلاّ بتقبّلك الإهانات، والإهانات ستصادفكَ على مدى حياتك؛ غيرَ أنّ أعظمها هي معرفة أنّك لا شيء، وهذا ما ستتعلَّمه عندما ستجِد نفسك في مواجهة الربّ، في الصلاة.
ـ غالباً ما تُمثَّل نظرةٌ عميقة وحارّة إلى المسيح أفضل صلاة: أحدّق فيه، وهو يحدِّقُ فيَّ. وفي مواجهة الله.. لا يمكنكَ أن ترى سوى أنك لا شيء، ولا شيءَ إطلاقاً.
ـ بعد أن تكون أخواتنا قد قضينَ النّهار وهنَّ يصلّين بعملهنّ الذي ينهض به مع يسوع، ومن أجل يسوع، وبيسوع، يُنفقن في آخر النهار ساعةَ صلاة وعبادةٍ معه. أثناء النهار نكون قد لمسنا يسوع، تحت أعراض الفقير والأبرص الزريّة، وفي آخر النهار نلمسه شخصياً في محراب الصلاة.
ـ لا يمكن أن يلتزمَ بالرّسالة المباشرة مَن ليس إنسانَ صلاة. علينا أن نعي أننا والمسيح واحد، مثلما هو يعي أنّه والآب واحد. ولن يكون نشاطنا رسولياً، حقاً، إلاّ بقدر ما نسمح للمسيح أن يعملَ فينا، ومن خلالنا، بقدرته ورغبته وحبّه.
ـ كيف نعرف أنّ الله يحبّنا؟ حسبُنا أن نحدِّق في المصلوب: ذراعاه أبداً منبسطتان لضمّنا، ورأسه دائماً منحنٍ كي يقبّلنا، وقلبه أبداً مشرّعٌ لاستقبالنا.
لقد جعلَ المسيح من ذاته خبز الحياة لأنه شاءَ أن يهبَنا ذاته بطريقةٍ فريدةٍ، بسيطةٍ وملموسة، ولأنه من العسير على البشر أن يحبّوا إلهاً لا يقوونَ على رؤيته.
ـ الإفخارستيّا هي سرّ الصلاة، ونبع الحياة المسيحيّة وذروتها. غير أنّ الإفخارستيّا تظلّ غير مكتملة إن لم تَقُدنا إلى محبّة الفقير وخدمته.
ـ لا يمكننا الفصل بين الإفخارستيّا والفقير، أو بين الفقير والإفخارستيّا. فقد أشبع يسوع جوعي إليه، وباتَ عليَّ إشباع جوعه إلى النّفوس، والحبّ.
ـ الله صديق الصَّمت، والصّمت يتيحُ لنا رؤيةً جديدةً لكلّ شيء.
ـ إنّ يسوع حاضرٌ، أبداً، ينتظرنا، ويسعُنا سماع صوته في الصّمت.
ـ الصلاة هي اكتشاف الإنسان ذاته بالإصغاء إلى الله يتكلّم.
ـ قد تجد مشقّةً في الصلاة، إن أنتَ جهلتَ طريقها. وعلى كلٍّ منّا أن يُساعد نفسه على الصلاة، فيشرَع باللّجوء إلى الصّمت، فلا يسعُنا أن نضعَ نفسنا في حضور الله المباشر، ما لم نمارس الصَّمت، داخلياً وخارجياً.
التزام الصمت الداخليّ ليس بالأمر السهل، ولكنّه جهدٌ لا بدَّ منه. غير أننا، في الصّمت وحده، نكتشف قدرةً جديدة، والوحدة الحقّة. إذ تصبح قدرة الله قدرتنا، فتمكّننا من تحقيق كلّ شيء كما ينبغي، ومن تحقيق وحدة أفكارنا وأفكاره، وصلواتنا وصلواته، وحياتنا وحياته. الوحدة هي ثمرة الصلاة، والتواضع والحبّ.
في صمت القلب يتكلّم الله، وإن أنتَ واجهتَ الله في الصمت والصّلاة، كلَّمكَ الله. وستعلم حينئذٍ، أنّك لا شيء. وعندما تُدرك عدمكَ وفراغك، سيكون بمكنة الله أن يملأكَ بذاته؛ إنّ نفوس المصلّين الكبار هي نفوس صمتٍ سحيق.
الصّمتُ يُرينا كلّ شيءٍ بوجهٍ قشيب؛ ونحن في حاجةٍ إلى الصمت للنفاذ إلى النّفوس. فالجوهريّ ليس ما نقول، بل ما يقوله الله، ما يقوله لنا، وما يقوله من خلالنا. وفي مثل هذا الصَّمت سيسمعنا، وسيُخاطب نفسنا، وسنسمع صوته.
في صمت القلب يتكلّم الله، وما عليكَ سوى الإنصات له. وعندما سيمتلئ قلبك بالله، وبالحبّ، وبالرّأفة، وبالإيمان، يتسنّى لفمكَ أن يتلفّظ.
تذكّر، قبل أن تتكلّم، ضرورة الإصغاء، وحينئذٍ فقط، من أغوارِ قلبكَ المزدهر يمكنكَ أن تتكلّم، وسيسمعكَ الله.
يسوع نفسه قضى أربعينَ يوماً في عزلةٍ تامّة، وأنفقَ ساعاتٍ طوالاً، قلباً لقلبٍ مع الآب، في صمت الليل.
ونحن مدعوّون للاعتكاف بين حينٍ وحين، في صمتٍ أشدّ عمقاً، وفي العزلة مع الله، فنكون بمفردنا معه، في منأى عن كتُبنا، وأفكارنا وذكرياتنا، بل في تجرُدٍ تام، مقيمينَ في حضوره، صامتينَ، فارغين، ساكنينَ، منتظرين.
ما هو التأمُّل ؟ إنه عيش عيشةِ يسوع، هكذا أفهمه؛ إنه محبّة يسوع، وعيش حياته في صميم حياتنا، وعيش حياتنا في صميم حياته.. لكي نرى، ونتأمّل، يلزمنا قلبٌ طاهر، منزّه من الحسد، والغضب، وروح الخصام، وخاصّة من غياب المحبّة. في رأيي ليس التأمّل احتباساً في حجرةٍ مظلمة، بل إتاحتُنا ليسوع أن يعيشَ آلامه، وحبّه، وتواضعه فينا، وأن يُصلّي معنا، ويقيم فينا، ويقدّس العالم من خلالنا.
ـ لا نملكُ سوى صلاةٍ واحدةٍ، واضحة، أساسيّة: إنّها يسوع نفسه. والصّوت الوحيد الذي يرتفع من الأرض إلى السماء، هو صوت يسوع المسيح. الصلاة، إذن تعني قبل كلّ شيء الاتحاد بالمسيح. كثيرونَ هم الذين يفقدونَ طعمَ الحياة والعمل، ويغمرُ نفوسهم الغيظُ والفراغ، لمجرّد أنهم تنكَّبوا عن الصّلاة. إنني أؤكّد مرّةً أخرى، أمراً خطيراً: الصمت بما يشيعه من سلام، يهيّؤنا لسماع صوت المسيح. الصَّمت، شأنه شأن إغماض العينين، يتيح لنا رؤية الله. عينانا المغلقتان نافذتان يعبر منهما المسيح أو العالم، وعلينا غالباً أن نملك الجرأة والقدرة، بالرّوح، على إطباقهما.
ـ الصلاة الفكريّة هي التي تنبع من الفكر والقلب معاً. ينبغي ألاّ يغربَ عن بالنا أبداً أننا مدعوُّون إلى الكمال، وأنّ علينا السعي إليه بلا هوادة. وممارسة الصلاة الفكريّة اليوميّة شرطٌ لا محيدَ عنه لبلوغ هذه الغاية، وفي معزلٍ عنها تغدو القداسة مستحيلة لأنها الهواء الذي تتنسَّمه النفس.
إنّ ملَكة الصلاة لا يمكن اكتسابها إلاّ بالدُّعاء الفكريّ، والتأمّل الروحي. والصلاة الفكريّة تنمو بمقدار ما تنمو البساطة أي إغفال الذات، وتجاوز الجسد والحواس، وتجدُّد التطلّعات التي تغذّي الصلاة. وهي تتمثّل، حسب قول القديس جان فيانيّه في “إطباق العينين، وإغلاق الفم، وفتح القلب”. إننا، من خلال الصلاة الصوتيّة نتحدّث إلى الله، ومن خلال الصّلاة الفكريّة، الربُّ هو الذي يُحدِّثنا، وينساب فينا، عبر هذا الحديث.
يجب أن تُصاغ صلواتُنا من كلماتٍ حارقة تتفجّر من أتون قلوبنا المفعمةِ حبّاً. في صلواتكَ توجّه إلى الله بكثير من الإجلال والثقة. لا تتحامل ولا تستعجل، لا تهتف، ولا تتذرّع بالصّمت، ولكن في خشوع، وعذوبةٍ فائقة، وبكلّ بساطة، ومن غير أيِّ تصنّع، قدِّم لله تسبيحكَ من كلّ قلبكَ وكلّ نفسك.”

6-
في مدينة ” سكوبي” ولدت الأم تيريزا في 27 أغسطس(آب) عام 1910، في الثانية عشر من عمرها شعرت بدعوة الله، ثم بدأت طريق النور وهي في الثامنة عشر عبر انضمامها لأرسالي “أخوات لوريتو” وهن جماعة من الراهبات الايرلنديات، وبعد شهور من التدريب في دبلن ارسلت الى الهند.
كرست جل وقتها للخدمة في أفقر الأحياء في كلكتا،” لقد توسعت الإرسالية الخيرية التي أنشأتها الأم تريزا، وباتت تضم 570 مركزا لخدمة المرضى والفقراء حول العالم، تتولاها أساسا 4500 راهبة، إلى جانب أخوية تتألف من 300 عضو، إضافة إلى ما يزيد عن مئة ألف متطوع يعملون كلهم في مراكز تتولى العناية بمرضى الإيدز والبرص وسواها من الأمراض المعدية وغير القابلة للشفاء. إضافة إلى إطعام مئات الآلاف من الجائعين والعاجزين، ومراكز للرعاية الاجتماعية ومأوى الأيتام.”
قبل أن تموت في 5 أيلول عام 1997 استطاعت أن تحقق حلمها الذي اعلنته حين تلقيها الجائزة والكامن في:
“العناية بالجائعين والعراة والمشردين والعاجزين والعميان والمنبوذين. كل هؤلاء البشر الذين يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم أو محرومون من العناية والمحبة. أولئك الذين يعتبرهم أفراد المجتمع عبئا عليهم فيتجنبونهم”.

دعوها وحدها

(1)

أحيا في يدين تلتحمان بهيبة البياض أحفر بطيئاً. بطيئاً – كمن تغتال الهواء- عتبات طرية تغوي غنج الكلمات المختالة بعريها الضاري، مثل كواسر تقتنص بهاء البصر، لتنهار مناجم الكتابة، تفيض بحيرات الوحشة..

فأرى وأترقب كطلقة نفاذ الألم.

فوزية السندي

(2)

التحديات الكامنة أمام التجربة الإبداعية تتعدد وتتوعد بذات الكاتبة التي ما أن تقارب الورق حتى تتيقن من مدى هذا الوعيد، بالذات عندما يتقد هذا التحدي الرؤيوي والإبداعي في كل نص لنصرة الأمل الذي يعتريها: تحقق كتابة تليق بخفق القلب واحتمال الذاكرة، كتابة لا تؤجل ما اعتراها من محن تتصاعد، كل عمر يمضي ليحتويها بما تستحق من مدى قتل هذا الوريد، نثر حبر الكتابة ليتعالى وهو يشافه رهو الروح.

هذا هو الإشكال الأبلغ، الذي يستفحل لإهدار كل عنف يجاور كتابة المرأة، والذي احتدم به كل ليل يطغى بنفوذ نبال الحروف، لكونه التحدي البليغ أمام كل كتابة تحتد.

ولكن لمنحى الهجس الراهن الذي يتحدر كل الوقت، وهو يقلق النفس، مصراً على محاورة بلواه، السؤال الملازم لطبيعة الصعوبات التي تتعرض لها الكاتبة فيما يتعلق بشأن الأسرة ورعاية الأعباء، من هموم يومية وتفاصيل حياتية تتعلق بالبيت وحده، وما مدى اصطدام كل هذا بمدى مداومتها على الكتابة؟ هكذا يستغيث السؤال.. كل حوار أتعرض له.

أبدأ مداولة هذا المحور باستنهاض ذات الهجس الذي بدأت به الحديث، لأسأل: كيف لمن تتحدى النص الشعري وتسعى كل الوقت لإتقان مدى قدرتها على نحت فرادة البوح، مكاشفة المسكوت عنه، إعلان مرام الشغاف على الورق كل ألم.. أن تُهزم أمام معترك وعبء لا بد منه، وهبته أياها بداءة الحياة كل عائلة، أسأل: كيف؟

هنالك صعوبات لا بد منها، لكن.. لا يمكن لها -و لا أبالغ في هذا الشأن فيما رأيت من وقت صعب- أن تقف حائلاً أو أن تتحول لمسعى تدميري لنبض الكتابة، لكون هذا الخلل – الابتعاد عن الكتابة-لا يحدث من مداهمة التفاصيل التي تحدثها مهام العائلة ولا حتى الحياة ذاتها التي أراها تشكل أقسى التحديات التي لا يقوى عليها الجحيم ذاته، حياة صعبة تجابه الكاتبة في سعيها للشهادة على ما يهديه لها العالم من مخالب وهزائم ويأس يستبد، الخلل يتأصل عميقاً كالصدأ الفاعل على تفتيت حديد الروح، لإحداث القطيعة بين ذات الشاعرة والورق لعوامل ذاتية أخرى، لا العائلة ولا الآخر ولا الأطفال ولا العالم ولا الكون كله … قادر على وأد صوتها أو كسر حرية حنجرتها، لا. ليس هذا ما يشرخ ذاتها ويصدع انكساراتها، ويدعها لتنحاز لانكفاء يبتعد عن مهاتفة الذات، ولكن الخلل يكمن في حدوث قصور ذاتي تنصاع له: انشغال عن الكتابة للإلهاء بروح لا تشعل التحدي ولا تقوى على حتم التصدي والتصدع كل سطر، لا يعنيها النهل المعرفي، لا تديم التحدي الذى تستدعيه الموهبة على محاورة عماء الورق بذخيرة الحبر، مرتابة بانكفاء عن استنهاض رجفة تنير الحواس، روح لم تعد تأبه بما يحتل غوامض الذات ولا خوافي النفس، مصابة بجسد لم يعد يعتمل بجذوة الشعر كما تبتغي له حفاوة الذاكرة التي تكاد تذبل من وطأة النسيان وسهو الغفران عن طغاة يستهوون تدمير رهاوة الإنسان بسيل الرصاص، من غير سادة هذا اللغم، هذا العالم.

(3)

عندما تلتحم المرأة العربية بالكتابة كشرفة لتسريح المكبوت وكسر فخار الذاكرة، عليها ألا تتوهم بطريق كالبحر يحتفي بخطاها، ولكن لها – كما الموج-أن تحتد على كل صخر صعب، بما لم تتخيل مدى قسوته، لكونها

آن الكتابة تستطلع شأن الخافي من لا عدالة هذا العالم، تدين الحاصل من نبذ مجرم، تشعل الورق بما يشهد على زمان ذكوري أصم.. حتى آخر اليأس لم يتوصى بمستقبل للأمل قد تراه لها.

الأمومة واحتمال عبء العائلة، أراها التزام إنساني تجاه شغاف القلب، تتعلق بأقل القليل نحو دورها الأنثوي في هذه الحياة، حنان أزلي زهاء ينوع النبت وطلوع الورد كل طفل يتأهب لوقت قد يراه. العائلة رغم كل المصاعب التي تعتريها، تظل تجربة ليس لها أن تؤجل الكتابة أو تقصيها.. بل جمرة رغماً عن الرماد … تشحذها حتى آخر حرف كالفحم.

للطفولة نعمة لا يستهان بها، هي المعلم الأول لرهافة الخلق، تجربة الحمل والولادة ومراعاة براعم تشهق حتى تتورد، أراها المنهل الأهم لتخليق أتون الشعر، لبذخ حساسية للهتف، كل طفل احتمى بي تعلمت منه فداحة الحرف.. براءة القول، حتى وإن ارتخت الأصابع حين ينوعه بعيداً عن الكتابة، وهذا ما حدث لي طيلة وقت تحصين الرحم وإشعال الحضن لصبية فداحة الحرف مازالوا يراوغون حب الكتابة، طيلة ذاك التمهل العذب عن تدوين الشعر، لم يغادرني الوله لحنان الورق ولا خفة الحبر. لحظة واحدة، كنت أكتشف كيف يتهاطل ينوع الخلق وتبزغ الأعضاء آن الحمل وتعالي الرحم، كيف تبتهل النفس وهي تشرف على براءة رضع يحترفون يباس الخطو كل أرض تبدو رحيمة بخطاهم، ثمة شعر لا يوصف، بدا ينحت لي غمر الهواء كل طفل يحبو ويلتاذ ببسمة الهمس، زخم تجربة لا أواري الدمع الذي يتأهب كلما تذكرت نقاوة وشقاوة حلولها، لذا تيقنت من أن المبتلى برحمة البوح وملاذ الشعر لا يلهيه عنه أي شيء، حتى آخر نبض يتشبث بخلعة الروح ضد نزعة ملائكة الموت، ولي أن أبعث الشك أيضاً.

(4)

ليست العائلة وحدها من يسرف في هبوب الأعباء والتفاصيل التي تزاحم زمن الكتابة ولكنها الحياة ذاتها الأدهى بما لا يوصف، بقدرتها على بعث هجمة كل شيء، لمداهمة امرأة وحيدة توصي الوقت ليبدو رئيفاً بحروف تكاد تصل رفيف الورق، لذا للذات الشاعرة أن تتحدي قدرتها على التشبث بها وحدها، لتستحث الضيم الكامن في تاريخها، وتستدعي ذاكرة إرثها العتي المحكوم بسوط لا يراها إلا مسبية أو من ذوات الخدور، لتجابه رئيف من أصدقاء يستولي عليهم مصاب الكتابة مصير من يكتب في زمن عربي يمتاز بانهيال صدوعه، وتتالي رماحه التي تتصاهل كل هزم.

التحدي الكامن أمام كتابة المرأة العربية يتصف بتقصي رهان المخيلة، بالعزم الجليل الذي يستحث كل ما يتقد آن الحياة لدوام نهضة الكتابة، تدبير الوقت الصعب عبر مفاضلة تتم بوعي صقيل، للتخلي عن زائف الهدر الاستهلاكي المتمثل في كل ما يعمل على التغييب الفعلي لحضورها ودوام انهمار اللغو، التغاوي عن هيمنة سيادة التسليع لكل مظاهر الزيف، وكل ما يبتغي الإسراف وهدر ما لا طائل له من نفيس الوقت..

أخيراً تعريف الحياة والعائلة.. بأن ثمة هواء للكتابة لا ينبغي تخريب حريته، هنالك امرأة تحدق في ليل يتيم لتحتمل فضاء الورقة، امرأة تجفل بجسدها كله. لسقطة الحبر كل حرف يجتبي تركة العزلة ليدون معترك الجسد ورعدة الروح…

لا عذر لأحد ينتهك رهان وحدتها.. ليس لأحد أن يوقظ حلم الحرف الحاضن رؤاها، دعوها وحدها،

دعوها لتكتب ما تراه:

منذورة لمهاوي الممالك التي لا تفيق من الغدر، تقيس الوقت المفعم بطعنات الحناجر وصفعة الرئات.. ومالها غير رحم وارف يفيق على رائحة النسغ، يحبو في رعشة الدم، لتحرث وجنة المحن برفيف بكاء أخرس كلما غادرتها نصال الأحبة، كأنها الضحية تستبد في حلبة النحر ولا تيأس من فرار الأمل

لتمحو ماء المذبح كل مساء وهي تفاجئ العصافير بأحضان الريش، تداعب أغصان الضوء بوحدتها وترضع القمر بياض القلب.

دون أن تتحرك من حديقتها

(1)

“يقيدونني في النثر

كما كانوا يقيدونني، وأنا بعد صغيرة،

في الخزانة، رغبة في هدوئي.

“هادئة “آه لو تمكنوا أن يروا

كيف تتفاعل الأفكار في دماغي،

لكانوا يسجنون الطير لخيانته

وهم عندها يكونون حكماء

يكفيه أن يريد ذلك

ليحتقرهم على سجنه، وهو في دعة كالنجم

وليضحك منهم

وهذا شأني! “

اميلي ديكنسون

(2)

“لقد نوديت”

تلك كانت آخر كلمات كتبتها الشاعرة الأمريكية “اميلي ديكنسون” يوم موتها بالذات، في الخامس عشر من مايو 1886، لتدفن في حفل كبير، وقد حمل نعشها طلاب كلية “أمهر ست” مدينتها التي رأت النور فيها، بعد سقطتها من ظلام الرحم في عام 1830، حتى مرورها بعزلة فريدة، لا مثيل لها، أمضتها تصغي لروحها الوفية للشعر وحده حتى الموت، تحلق، وكلماتها تحفر طريقا قصيا لرؤاها، لتصل أول الحياة بآخرها، ولم تصل خطاها دربا أبعد من سور حديقتها.

“من لم يجد السماء

وهو على الأرض

لن يجدها في العلياء.”

عنها كتب “توماس هه. جونسون” عام 1955:” ارتفع لمائة عام مضت صوت قد يكون أجمل وأوضح صوت في تاريخ العبقرية الأمريكية: هو صوت شاعرة كانت تعيش في وادي “أمهر ست”، نذرت حياتها للدين والأسرة والحب، وكان لها من شعرها وصداقتها وحبها ووحدتها ما يؤكد لنا إنها لم تكن بحاجة إلى المجد: إنها اميلي ديكنسون.”

المجد

“المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى

الذي يعني السيطرة لحظة ما

فيدفئ أسما مغموراً

لم يعرف حرارة الشمس،

لينقله بعد ذلك

برفق

نحو العدم! “

كانت كالحديقة التي تحتمي بها من شرود الوقت وشر الآخرين، كلاهما يكتشفان قدرتهما على الحياة بحب، ويترجمان ما يحتدم في متاهة الذات من شفافية قادرة على درس فنون الشقاء الذي يتعرضان له معا، هي تكتب جواها على الورق، والحديقة تبدع براعمها على الأرض، بلا اكتراث لأدنى اهتمام من أحد، لذا كانت “أميلي “ضد نشر قصائدها:

“إن نشر الأفكار يعني طرحها بالمزاد العلني “وقد طلبت من أختها، أن تتلف جميع مراسلاتها، لكنها لم تشر إلى تلف قصائدها التي لم تنشر إلا بعد موتها.

“تزاحمت الغيوم كتفا على كتف

وهبت رياح الشمال متدافعة

واهتزت الأشجار وسقطت

وانصبت الصاعقة، وقصف الرعد،

وانحدر كالأنقاض أشبه باليرابيع الهاربة

كم يكون المرء مطمئنا في حفرة القبر

حيث لا تقدر عليه غضبة الطبيعة

ولا يبلغ الثأر منه مراده.”

ببلاغة عبر “هرمان ملفيل “عن عظمة إبداع ظل حبيس البيت حتى حان موت جسده وبدء روحه في آن:

“وهكذا رأينا في الولايات المتحدة، منذ أن أصبح لديها أدب مستقل عن الأدب الإنجليزي، قد أنتجت ثلاثة من كبار الشعراء وهم: ادغار ألن بو، ويتمان، وأميلي ديكنسون التي نظرت في أعماق النفس، فكانت نتاجا للحضارة الاميركية وأتت قصائدها حاوية عصارة ما في الإنسان من معان وهي في مجموعها رسالة اعتصرتها من ذات الإنسان.”

رسالة إلى الملأ

“هذه رسالتي إلى الملأ الذي لم يكتب إلي:

أخباري هي أخبار الطبيعة، قالتها لنا بجلال وحنان

هما يدان تحتفظان بهذه الرسالة

ليس في وسعي رؤيتهما

أيها اللطفاء من الخلان

احكموا علي بحنان

رفقاً بهما.”

النقاد وحدهم، لم يتعاملوا برفق يكفي، لتلمس تجربة شعرية فريدة، لا تبتعد عن سائد الشعر الأمريكي، بل تتحداه وهي تعتمد على استقصاء الوعي، وتصعيد ذروة الحساسية الإبداعية، لكشف رهان الذات، وحدهم النقاد، لانحيازهم لدورهم الرادع ضد أي تفلت فني لا يخضع لشروطهم النقدية، لذا لم يهتموا نقديا بكتابة نشرت في نوفمبر 1890حتى عام 1924، حيث كتبوا فيما بعد بخجل لا يقل عن سماحة روحها العصية:

“الأصالة في شعرها انه بدأ حديثاً “.

كتبت “اميلي ديكنسون “عام 1862إلى الناقد “توماس ونتورث هيغنسون” تسأله عما “إذا كان في شعري روح، فلقد تجسمت فيه أفكاري، بحيث لم أعد أميز بينها وليس ثمة من يقول لي “الحقيقة “فهل تقولها لي؟”

فكتب “الحقيقة” كما يراها:

“إن أشعارها واقعية أصيلة لكنها لا تنطبق على قواعد النظم، وهي قد أرادت ذلك كي يكون في نظمها روح.”

قدرة “أميلي ديكنسون” تتبدي في طبيعة انطلاقة طاقة الروح التعبيرية، جرأة الكتابة، تحديها لقانون للنظم مقدس لا يمس يدعي حماية الشعر، كانت تزدريه، وتثق فقط بكتابة حالات الجسد، بما يتلوه عليها من غرائز للتعبير، هذه الفرادة كانت لها قبل ظهور مدرسة التصويريين بثلاثين عاما، حيث لا يكاد الآخرون يتألقون، كانت هي لاهبة وعزلة بدأت منذ عام 1862 هي وبيتها وحديقتها، مرتدية الرداء الأبيض دوما، لا تغادر الشعر إلا للعناية بأمها المريضة وبالزهور ندامى عزلتها.

“لماذا أحبك يا سيدي؟

لأن النسيم لا يسأل العشبة أن تجيبه

لماذا.. عندما يمر

لا تستطيع أن تبقى واقفة في مكانها

فالبرق لم يسأل يوما

العين ابداً

لماذا تنطبق عندما يحصل

لان البرق يعلم

إن العين لا تستطيع أن تتكلم

ولأن هناك أسبابا لا يملكها الكلام

يفضلها أناس عِذابٌ رقاق! “