محنة كونديرا التي لا تحتمل

(1)

“نعم، إن رواية اليوم تمتحن الشرك الذي استحال العالم إليه.”

(2)

“كروائي، أشعر دائما بأنني ضمن التاريخ، وهذا يعني، أنني أقف على الطريق، محاوراً أولئك الذين سبقوني، وربما حتى أولئك الذين سيأتون (لكن بدرجة أقل). بالتأكيد أنا أتكلم عن تاريخ الرواية لا عن تاريخ آخر، وأتكلم عنه كما أراه.”

(3)

“ها أنذا أعلن عن اهتمامي الكبير بتاريخ الرواية، في الوقت الذي تتنفس رواياتي كلها الكراهية للتاريخ، لتلك القوة العدوانية، اللاإنسانية، التي تقتحم حياتنا من الخارج، دون دعوة، لتقوم بتدميرها. مع ذلك، فتصرفي المزدوج هذا لا يفتقر إلى الاتساق، لأن التاريخ البشري وتاريخ الرواية شيئان مختلفان تماماً، الأول لا يتحدد وفق إرادة الإنسان، بل هو يقوم بالاستيلاء على مصيره كقوة أجنبية، لا يستطيع التحكم بها، بينما نجد تاريخ الرواية (أو تاريخ الرسم والموسيقى) ثمرة حريته، معنى الفن يتعارض تماماً مع التاريخ نفسه، وذلك بسبب طبيعته الشخصية، تاريخ الفن هو انتقام الإنسان ضد الطبيعة اللا شخصية للتاريخ البشري.”

(4)

أن تهزم، أن تقوى وأنت تقرأ “ميلان كونديرا”، لكونه لم يحتمل خفة الكائنات من حوله، فتحول إلى كتابة تستدعي مناعة القارئ لتلاحقه بالهزائم، لتكتشف معه مدى الغموض والسخرية التي تغلف لغم العالم.

ميلان كونديرا، أحد الكتاب التشيكيين الذي لم يحتملوا وهم يكتبون ليل الورق احتلال الدبابات الروسية ذات غزو عنيف، لطراوة أجساد فتية تعني لهم الكثير، لم يحتمل ربيع براغ، ومشاهد تطوح أشلاء ودماء طلاب علم تتوازع الساحات، لم يحتملهم وهم يعلنون شهيقهم الأعلى من قامات القذائف. لم يحتمل جثث تغطي الساحات، لذا راح يحلم كل حبر بيأس لا يقل قسوة عما يراه ويدعونا لنحاول الاحتمال.

ببساطة، أتاح لنا وقتاً للهزيمة. لنعرفه ونمضي لانسلاخ محتوم، لصيرورة الصمت القاتل كل جرم، كل ورقة تعلو وتهبط، وهو يحاور العقل ليتخطاه، يقطف بذرة المخيلة ليقصيها عن عاديات التخيل.

كونديرا.. كائن آخر، يستفز تاريخنا الإنساني، معلناً قدرته على اختبار مناعتنا عنه. كما قال في حديث بعيد: “من المؤكد أن حكم التاريخ حكم غير عادل، وربما يكون حتى حكماً غبياً. إن القول بأن التاريخ سيحاكمنا-والذي هو قول مألوف وعادي- يعني بأنك وبشكل آلي تفهم التاريخ على انه الأساس المنطقي للأشياء، وله الحق في إصدار الحكم، وله الحق في إحقاق الحق، إن هذا الفهم تجده عند الأمم الكبيرة التي عبر صنعها للتاريخ، تنظر إليه دائماً على انه حكم وإيجابي، لو أنك أمة صغيرة فأنت لا تصنع التاريخ. فأنت دائماً موضوع التاريخ، التاريخ شيء عدائي، شيء لا ينبغي عليك أن تدافع عن نفسك تجاهه. فأنت تشعر، عفوياً بأن التاريخ غير عادل وغالباً ما يكون غبياً، ولا يمكنك أخذه بجدية، ولهذا السبب تشكل مزاجنا الخاص، مزاج قادر على رؤية التاريخ على نحو متسم بالإحالة أو البشاعة، شيء خيالي.”

منذ صرخته الأولى في روايته “المزحة”: “التفاؤل أفيون الشعوب.. الجو الصحي ينتن بالغباء.. فليعش تروتسكي” حتى “غراميات مرحة” وما تلاها من “الحياة في مكان آخر” و“خفة الكائن التي لا تحتمل” حتى آخر حبره، لم يزل بترصدنا ببداءة كاتب شغوف بالانهيار، انهيار الزائف والمتكلس من ذرائع الاتصال بالآخر والعالم.

كان يهتف ذات حرب:

“التاريخ بالنسبة لنا صلب ومحسوس، إنه الحرب إنه نظام سياسي، إنه نهاية أوروبا، إنه مسيطر تماماً- نحن مقبوض علينا، إذن هو الشرك.” ليسأل ذات كتابة:” ماهي الاحتمالات في عالم تحول إلى شرك لنا، لقد تحدى كافكا أكثر الأفكار قبولاً في المجتمع، وهذا هو بالتحديد واجب الروائيين: أن يتحدوا باستمرار الأفكار الرئيسية التي بني عليها وجودنا المحض.”

كونديرا كاتب شغوف بترجمة الذات، يتحصن بآليات الإبداع التي تكتشفها خفايا الروح، لذا تأتي كتابته بمتعة الاكتشاف، وترسل مراهنة لا بد منها لتلهي القاريء: نديم التعب، رغماً عن خيانة الترجمة: خليلة الخيانة، نتصل بكتابته ونعيد تكثيف أعماقنا لتتشظى على يديه، وهو يوحي لنا باحتدام إرسالنا ببطء إلى مبتغاه: حنين الهاوية.

قد لا نعترف بضعفنا آن القراءة، ولكن ما أن تغادرنا كلماته حتى نجزم بقدرته علينا، لما نراه من حوار مؤجل، حالات لا تنسى، تعرية لمخبؤات الذات ومكبوتات تتسربل بها كائنات تلهو بنا لتنال منا، جسارة تلغي جسورنا نحوه، لنتهدم على مهل.

(5)

“خيانة الوصايا” كتاب وفي لبوح كونديرا كله، فيما يتعلق بمشافهة الإبداع، تقرير يتلو حرصه على مداهمة الموهبة، تفتيتها، لكز آخرها، جرأة لا تنتهي وهو يعلن كل ورقة بإسرار تتلوها الذاكرة، هذا الكتاب نهل معرفي لمن أراد أن يعرف مبتغى كونديرا الجهنمي، غرفة حروف تعترف بمبتغاه، اعتراف حرفي بسيرته العصية على الكتمان. باختصار أجمل المحترفات والمختبرات لتلقين سحر الإبداع.

(6)

منذ العسف الاشتراكي وسواقي الشمولية الفكرية والتأليه العقائدي لآليات العنف الحديدي، كانت الترجمة العربية تمضي دون أن تكترث بأن ثمة كائن وحيد مثله يكتب وكائنات معزولة مثلنا ترصد عزلتها لتكتشف كم كانت تجهل كاتباً وحيداً يتردم بين اعتقال وآخر، جسد منذور لنبذ فكري ونفي جسدي صادر من مراكز الإلغاء الحزبي المهيمن آنذاك، هكذا كان يجترح عنف مصابه:

-” من القسوة أن أخسر، فجأة، الجمهور الذي اعتدت عليه حتى سنين الأربعين.

-لكنني لم أكن وحيداً.

-كانت تجربة فاتنة لأن تعاش.

-كل ما حدث كان مثيراً.. حتى الحزن.

-لقد تم الحظر على كتبي.”

هكذا كونديرا يقود الطواحين بقدرة القمح لا بخشب المهرجين.

ناديا

(1)
أهمس بكلمات مثقلة بالأسى: هل أكتب لأستضيف دمها المهدور، أم لأفضح معها عالماً شرسا، لم يعد يحتمل وداعة حروفها؟ كلماتي ليست رثاء، بل سلاماً لذهابها الأخير، المندفع لحرية موت أكثر رأفة من حياة لم ترحمها.

(2)

الشاعرة الأفغانية “ناديا أنجومان” (25) عاماً، طالبة في كلية الآداب – جامعة “هيرات”، ما أن تفشت لها حرية البوح ذات ليلة، ما أن بدأت تكتب على الورق، ما ينتاب روحها من ضيم هذا الزمان، ما أن انتفضت على صمت حياتها.. حتى اقتادوها سريعاً للقتل.

بعدما أصدرت باسمها الحقيقي، كتابها الوحيد “غولي دودي” أي “الزهرة القرمزية”، الذي أضاء شهرتها الشعرية في أفغانستان وإيران، انقض زوجها الأفغاني (الأستاذ) “فريد أحمد جيد ميا” حامل إجازة في الآداب من جامعة “هيرات” ذاتها، وكذلك يشغل منصباً إدارياً مهماً في كلية الآداب، ليشج رأسها ويضربها حتى الموت، لتتهاوى كريشة تحت أقدام زوج راعه كل هذا الشعر، زوج أفزعته موهبة “ناديا” العصية على الكتمان، قدرتها على فضح الكبت، حفر كلماتها على وريقات قليلة، دفاعاً عن كل حرف يقف الآن شامخاً ضد حرفة القتل.

اندلق الدم تحت جسد “ناديا” المترنح من عنف الضرب الذي شج أحلامها، توسدت التراب الأفغاني كغيرها من ضحايا العائلة، ارتمت لحنو موت شفيف، لتراها طفلتها الممهورة بشهورها الستة، مدماة أكثر مما ينبغي لقتلها، تراها بعينين لن تنسى يوماً، كم قتلتها اليد برعونتها الذكورية بنزوعها المتسيد، ستتذكر بوضوح، كيف فقدت أمها راعية الخمسة وعشرين وقتاً من الكبت والنبذ، كيف ارتاح أخيراً أبوها المذعور من حروف “ناديا” الصغيرة.

(3)

حتماً، لم تمت “ناديا”، لم تذبل زهرتها القرمزية، بل تحولت إلى قربان شعري مبجل، يقف بصرامة على مذبح هذا الوقت الصعب، غصة هزت نهر الشعر، صرخة تداعت كعاصفة تنفض كل هذا الغبار، ألهبت “ ناديا” قلوبنا بعنفوان جرأتها وهي تعلن هويتها على الملأ الرافض عورة صوتها، أذهلتنا بقدرتها على مواجهة الظلم المتحصن في غبار الكهوف، المتلفع بشريعة الذبح لكل امرأة تتعالى بكلماتها، لكل حنجرة تستجرئ على البوح، لم يكن زوجها غير مستبد آخر، طال شيوعه ليس في أفغانستان فحسب، بل في كل واد يهيم فيه البغاة من أولياء الأمر، حماة الوهم، من يتحصنون بعنف القيد ضد بسالة اليد، ضد قدرة النساء على نحت الحرف، هؤلاء القتلة يتفقون على هذا الفعل، لكن بتلاوين لا تختلف كثيراً، منهم من يقتدي بضرورة الضرب، ومنهم من يستهويه التسلط بقوة الأمر، بنفوذ المنع، بمصادرة الحق الإنساني في التعبير الابداعي.

(4)

ثمة مفارقة أليمة، تسنت لي، قبل أن أكتب عن “ناديا”، كنت أحاور قناعاً مستتراً- عبر فضاء الانترنت الأزرق- لموهبة بحرينية، شعرية واعدة، تكاتبني من خارج الوطن، سألتها: لماذا تخفين حقيقة اسمك.. حتى عني؟، باحت لي بخوفها من الأهل الذين يرفضون بشكل قاطع أن تكتب أو تنشر، فلم تجد خياراً بين الصمت أو الصد، غير هذا الذبح العلني لهويتها، غير أن تختفي تحت بطش قناع آخر، أكثر رأفة منهم.

القتل هذه المرة ليس بشج الرأس، لكنه بمحو ملامح نبض القلب، كبح الذات، قسوته تتمثل في مراكمة الأقنعة على قلوب النساء، فالوجوه لم تعد تكفي.

هذه الظاهرة الأكثر انتشاراً في دول الخليج تحديداً، وأعني بها تدخل الوصاة من العائلة حتى الزوج، لمنع النساء من الكتابة، مما يضطرهن لنحت اسم مستعار، أما من تختار ذلك من دون عسف يذكر، فهذا مناب آخر، ليس للمداولة الآن على الأقل، هذه الظاهرة تعبر عن حجم المصاب لمن تكتب من النساء، ظاهرة جلية بمفرداتها التي تشي بمصادرة التابو الاجتماعي بتلاوينه، لحرية الكتابة تحديداً، حيث من النادر ممارسة أي فن من الفنون الأخرى بتمويه الهوية، وحده الشعر.. لكونه ينضوي على خطورة إعلاء الصوت، بلاغة الحرف، قدرته على الكشف والفضح، ومما يضاعف الصد الحاصل له، صدوره عن امرأة مكانها البيت أو القبر.. حيث الصمت.

بقدر الألم الذي يكتنف هذه الظاهرة، بقدر التعاطف مع من تختار جرأة الكتابة تحت قناع مستعار على الخضوع للصمت التام، احترام خيار المواجهة بالكتابة، حقيقة نتجرعها على مهل، وعلى أمل أن يأتي ذلك اليوم، الذي ينتصر فيه الحرف، لحرية ينوعه تحت الضوء.

لم تمت ناديا حين القتل:

تلكما العينان الصغيرتان لطفلتها، لم تزل تحدق فينا،

حروفها المضمخة بدمها تحيا على بتلات زهرتها القرمزية،

روحها لا تزال تجوب جبال أفغانستان مزدهاة بحريتها الوحيدة.

(5)

: هكذا كتبت الشاعرة ناديا قبل الموت قصيدتها” نبرة الأغنية

ضوء النجوم في القفص

كيف قلبك اذن

لا شك في انه يرفرف بوحشية

دائما يغني ضد الظلام

الظلام الذي يعرفه

ليشعر أخيراً بلدغة الخدر

بالموت

تمر بهدوء

هذه الرؤية المختصرة للحياة

للشخص الذي لا يرى أبداً

للضوء الخالص يمسك قلبك

انينك المسمم بمخلب يزدرد كل خوفك

حتى الآن لم يكن مثلك

من باع قراره ولم يقو على الغناء

لا تكن هادئا

احتضن قبرك

قفص المرمر الأبيض

المساحة الشاحبة

الرثة البائسة

لن أسجن هنا،

كطائر حكيم

بحرية تحلق

تطير وتعيش

مرة أخرى

لايمكن قتلهم

(1)
طيلة تاريخ الثقافة العربية.. لم تتأخر جاهزية القمع عن إهدار حريتنا الابداعية، بطرائق شتى، لتحقيق منالها الأوحد: إقصاء صراحة الصوت، كل هذا لإدامة سيادة النظم الهائمة بأمر السيف والناهية عن حرية الروح.

ما يحدث الآن من تصعيد مخجل لحملات التكفير والترهيب، نصب خيام التفتيش للتنقيب من خلال النصوص الابداعية والفكرية، عن ردة تبيحها حنكة التأويل الباغية، لمفردة هنا وجملة هناك، تجريم وسفح دم الآخر، تحريض الناس للشغب ضد سطر في رواية أو شعر.. ما يحدث، يضاف للأسف العميق، لمثاقيل الهزائم التي قصفت كواهلنا.. هدمت شعوباً لا تكاد تفرك عينيها من ملح الحلم حتى يتدلى العنق. ما يحدث الآن يزاحم اندلاع شرخ من اليأس بدا يتسع ويتسع، ليكاد يلغي كل شيء.

(2)

الرقيب صاحب المقص لا يشكل ذعراً للكتابة، وهو يغتنم في زمن القهر مهنة القص، لكونه يمنح الكتابة التي تعي طبيعة نفوذها طاقة كفاحية لا تبارى، تدعها تدفع التحديات، تصقل رؤاها بحد الحرف، كلما جابهت قصاصاً سوف يتعب من دم ذبيح لا يندم.

لكن الخطورة تسطع عندما يفوز هذا المستبد، ويخترق بآليات المصادرات التي يحتمي بها.. ذات المبدع، أي تحقق الرقابة الذاتية للكاتب، غزو الحذر، اجتياح المنجل اللامرئي الذي يحصد سنابل الحروف، يكبح فعل الحرية ويبدد أفق النظر.

يعمل الرقيب الرسمي صاحب المقص مع الرقيب المتطوع والمتحزب- دفاعاً عن ملته – الحامل عدسته المكبرة بحثاً عن ردة ربما توردها الكلمة الغافلة هنا أو هناك، يعملان معاً بمتعة وثقة أمام النصوص الأدبية، الأول يقص ما لا يروق له، ليقصي الشك باليقين حين تتلوى جملة تبدو فيها اللغة نافرة بكيدها العظيم، والآخر ينصاع لأول تأويل يحتمل ما يظن به، أو يأمل بكونه دعوة للإلحاد أو مناهضة للأخلاق التي يذود عنها، بصفته الداعي الأول لرعاية الرأي العام، والمسؤول عنه، دائماً يشحذ خنجر القمع قواه تحت شعار “حماية الحياء العام” من الخدش، رعاية أمن العائلة، نقاوة النسل.

أي خدش تضارع به الكلمات ما يحدث الآن من خدوش.. كيف لها أن تضاهي ما يتفسخ وما يتعفن. سريعاً وعلناً وجهراً وجهاراً.. بلا حياء يرف له وريد قلب واحد.. هكذا؟

(3)

يلتذ الرقيب بمتعة القص ورفيقه المتبرع لإهدار الدم، هكذا يتكاتفان معاً، لا لنبذ الخسارات، إدانة التفسخ العلني والردة الحضارية، لا للنيل من هجمة الاستهلاك وما تلاها من حروب مهلكة أدمت عواصم العرب، وسقت القبور بأجنة لا تزال ترضع التراب. لا.. كل ما مضى لا يكترث به أحد.. ما يحدث مراقبة هذا الشعر أو ذاك الكتاب، أو أغنية أو فيلم يحتدم به العقل.

لأن الكتابة تهطل في وقت مملوك، لم يزل يهتم بمهن قروسطية، وينمي مهاراتها أيضاً، لا بد لوظيفة القسر أن تزدهر، كلما تطور الابداع وتقدم لنيل موافقة المشرط على النشر، كلما تبارت النصوص لإغراء الناس للإنصات لها، بعد رضا العارفين من ولاة الأمر.. لا بد لها أن تتعرض لكل هذا القتل.

هبوط المقص لاجتزاء كلمات من النص يؤلم صاحب العمل الفني، لكنه هذا الجز العنيف لا يتعدى آه الألم، إذ يتفشى المصاب حين تتحول رقابة المتسلط إلى عقاب يحتل ذات الكاتب، إلى مشنقة تتمايل وتئد ما تبدى من جرأة “لا تصلح للنشر” إلى ما “يثير الرأي العام”، ما يستفز أمان الخراب ويحرض ضد السائد.. سقوط الكتابة في حقل “الربما” التي ينصت لها الكاتب هامساً في نفسه: ربما يفهمه الآخر على غير قصد، ربما هذا النص قابل للتحوير والتأويل المفضي للصعب.. ربما.

كل هذه “الربما” تتوافد بفعل حفاوة القمع، ورعاياه المتغلغلون في تلافيف اللاوعي لإلغاء حرية الكاتب بيده، نحذره من الداخل، إفساد رحابة قوله، طمر المشتهى منه، وأخيراً ليؤسس حصاراً من البدائل اللغوية، لإجبار كلماته على الانحدار نحو العدم المفضي إلى تهرؤ المعنى، الرقيب العلني يعمل على تحدي النص، تشويه انتقام اللغة، لتمويه سلاح المخيلة ببعض الحواجز، لكن عنف ذات الكاتب – الرقابة الأقسى- تكسر هذا السلاح، إذ تتحول إلى سلطة نافية وجازمة بمحذورات لا بد من انحياز النص لمقدراتها، رعب يستميت لتبرير حياد الرأي، لي عنق المعاناة، هلهلة التجربة لإقصائها عن مرارة الحدوث، تحويلها إلى وعظ إرشادي لا شأن له بما يحدث على صعيد كبت الروح.

الرقابة الذاتية للكاتب تخلق عسس الذات الأشد هولاً ونكاية بكل مفردة، شرطة تراهم يراقبون الصورة، لعبة صعبة تتوسل لجاه الرضا، حرس لا يغفلون.

(4)

مقص الرقيب وصديقه المدافع عن ورع الأمة، خبرة أنجزتها دكتاتورية موغلة في القدم.. منذ المقصلة التي طوحت رؤوساً عديدة كانت ترتشف الهواء لتدافع عنه، رغم ما تطشر من دم غطى الميادين.. إلا أنها لم تزل تزاول مهنتها القديمة، لتضمن عدم تفلت أحد، وبالذات غريمتها الذاكرة التي لا تنسى ولا تغفر ولا تموت.

كل هذا السحل لتحويل الإنسان إلى مسخ عاجز عن التصدي.. وحيد منذور لترجي الوهم.. كالمقص لا يغادر قماش الذات، جاهل بقوة أضعف الإيمان: صوت القلب ودمه الحبر، كائن مهمش غافل عن هواء الحياة: الحرية..

ليس كما ذكرنا فقيد الجرأة “غسان كنفاني” كل رسالة وهو يحكي لنا عن “الرجال الذين لا يمكن قتلهم”، وهو يدعونا:

“لنتعاون لنضع نصل الصدق الجارح على رقابهم”.

دجلة والفرات وبدر شاكر السياب

(1)

“آهٍ على بلدي.. عراقي: أثمر الدم في الحقول

حسكاً.. وخلَّف جرحه التتري ندباً في ثراه

يا للقبور.. كأن عاليها غدا سفلا، وغار في الظلام

مثل البذور.. تنام في ظلمِ الثمر ولا تفيق.

جثث هنا.. ودم هناك..

سقف يقرْمدُهُ النجيع..

و في الزوايا.. صفر عظام من الحنايا”.

(2)

“حدق الشاعر المفجوع، لاح له

نعش عليه اصفرار النور منكسر

تلطخت بالدم القاني جوانبه

ولم تزل قطرات منه تنحدر”

تحت المطر، الشوارع خالية من الخطى، ينتحب الصديق الشاعر علي السبتي قادماً من الكويت، مترنحاً من الفقد، حاملاً جثمان بدر.. نحو البصرة، تحت أنشودة المطر الأخيرة، كانا معاً، يبحثان عن قبر حنون له، وحين وصلا إلى بيته لم يجدا أحداً هناك، لأن الأمن السري أخرج عائلته عن دارها في ذلك اليوم، لنصغي لنبوءة تفتت الكبد: “يتمهل لا يقرع الباب: من ذا يؤوب/.. من سراديب الموت عبر الظلام”.

دفن جثمان بدر في مقبرة الحسن البصري، ولم يحضر جنازته إلا عدد قليل من الأصدقاء، واليوم كما اعتدنا كل شاعر عربي بعد الموت، يقف لبدر تمثال شامخ في البصرة وشاهد على مرارة القتل.

مرايا تاريخنا العربي، تعرضنا كل شاعر، لحياة حافلة بالقسر والقيد، تدلنا عليها جذوة الكتابة، وخطى كلمات انحفرت في الصخر لئلا يمحوها الصد، كتابة ترشدنا لإرث إبداعي يعاود الحدوث بعنف مأساوي، حتى يكاد الماضي يبدو أكثر وضوحاً من عتمة حاضر تلغي وميض المستقبل، ثمة إرباك هائل ويأس لا يغادر.. يتخللنا، نحن الممهورين بشهادة الشعر، منذ سجع الجاهلية حتى سيادة الجهل.

(3)

“أرأيت قافلة الضياع؟ أما رأيت النازحين؟

الحاملين على الكواهل من مجاعات السنين/آثام كل الخاطئين.. / النازفين بلا دماء/السائرين إلى الوراء/ كي يدفنوا هابيل، وهو على الصليب ركام طين!”.

طيلة “صوت” تغاويت كثيراً عن الكتابة عن “بدر”، بصراحة لم أقوى على الكتابة عن شاعر يترجم ألم جسده ومحنة شعره في آن، شاعر فريد في إدغام الدم والحبر معاً، لكنه.. كما الوحي راح يستحث الحرف نحوي، وأنا أتغاضى عن حدوثه كلما ارتأيت تأجيل نزف جسدي وإهدار روحي، ثمة صعوبة بالغة في مقاربة بوح السياب، لا لكونه رفيق ذاكرتي، ولكن لفداحة الحدس الذي تعتمل به موهبته الفذة، كتابة لا تسرد لك ماضي العراق فحسب بل تفيض بك حد البكاء، وأنت تقرأ ما يحتدم من مشاهد شعرية، رأيتها – بالدمع – قبل قليل من الوقت على شاشة فضائية لم تكترث بنفضة أحداقك:

“فذكرني بماض من حياتي كله ألم: طفولتي الشقية، والصبي، وشبابي المفجوع/ تضطرم مشاعري البريئة فيه: كيف يجوع آلاف من الأطفال ملتفة بآلاف الخروق/ تعربد الريح الشتائية بها / وأظل أحلم بالهوى، والشط والقمر؟”

لقد أسهب السياب في تحرير كلمات لجسد جاهر بكل ما سوف يتحدر نحو شعب العراق وقتلاه، حدس جنائزي، أتاح لنا محاذاة رؤى شعرية، ترى بوضوح ما سوف يصول من ألم وحصار وأنين لشعب أعزل إلا من الهواء، ولأرض مجبولة بحكم الحديد منذ خلافة الأرض: “أنا أيها الطاغوت مقتحم الرتاج على الغيوب/ أنا قارئ الدم لا تراه.. /وأنت. أنت المستبيح” “أبصرت يومك وهو يأزف.. /هذه سحب الغروب”.

(4)

بالرغم من الريادة الإبداعية التي ساقتها تجربة السياب، إلا أن ما تعرض له من عنف لا يطاق، اكتمل بانتصاره على الموت، بانتحاره البطيء، بموته وحيداً في الكويت وهو يهمس للدمع: “أنا ميت مازال يحتضر الحياة/ يا ليل.. أين هو العراق”.

من رهافة روحه نال كل الشعر ليحتمل جسارة تاريخ بدأ منذ اليتم، حين فارقته روح الرحم “كريمة”: “هي وجه أمي في الظلام/وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام” التي كان طفلاً يناديها كل ليل، لتصله كلمات أقلها الصعب:” ستعود بعد غد”، داهى الحياة بجرأة صوته، لتتالى عليه النوازل، لازمته الزنازين ليغدو ضيفاً شبه دائم على سجون العراق منذ 1948-1959، فارت به المنافي حتى أستبد به داء دمر ما تبقى منه:” كذاك انكفأت أعضُّ الوساد/ وأسلمت للمشرط القارس/ قفاي المدمى بلا حارس- بغير اختياري، طبيبي أراد! -”، “يكاد يحس التماع الحراب/ وحزاتها فيه.. يا للعذاب!!”،” ويمضي بالأسى عامان، ثم يهدني الداء.. / تلقفني الأسرة بين مستشفى ومستشفى/ ويعلكني الحديد/ ومن دمي ملأ الأطباء قناني، وزعوني في قناني: تصبغ الصيف دمائي والشتاء”. لقد أتقن حصار المشافي التي استعصت على براء جسد لم يعد يحتمل الحياة:” كان جسمه يضمر ويضمر. القروح تأكل ظهره وحين جربوا معه العلاج الطبيعي، كسرت عظمة الساق لهشاشتها، لذوبان الكلس في العظم.” ليتذكر السياب.. ساحلاً يأسه كل حرف له:

“آه، يصك أسنانه الجوعى ويرنو مهدداً. يا إلهي ليت أن الحياة كانت فناء/ قبل هذا الفناء، هذي النهاية، / ليت هذا الختام كان ابتداء.”

(5)

“وعدت إلى بلادي. يا لنقالات إسعاف حملن جنازتي!!

متمدداً فيها أئن رأيت” غيلانا” /يحدق، بانتظاري، في السماء وغيمها السَّافي. /وما هو غير أسبوعين ممتلئين أحزانا/و يفجأني النذير بأن أعواماً من الحرمان والفاقة/ترصد بي هنا،

في غابة الخوذ الحديدية.”

24-12-64 – في الكويت: الشاعر قد مات بذات الرئة: بذات الحسرة بعيداً عن “بويب” ماء جيكور، بعيداً عن الحرف بهزال يضعف الأبصار، بجفوة منفى أذاب الحنين كله، ميت ومنبث نحو فقد أهلك الأهل، جزع أرجف قلب “غيداء” و“آلاء” ووطن الحب” وفيقة”، جسد وحيد ليموت طغى بآه لقلب العراق:

“كم من ليلة ظلماء – كالرحم- انتظرنا في دجاها/نتلمس الدم في جوانبها، ونعصر من قواها.. /شعّ الوميض على رتاج سمائها مفتاح نار/حتى حسبنا أن باب الصبح يُفرج، ثم غار

وغادر الحرس الحدود/ واختص رعد في مقابر صمتها.. بعد القفار/ثم اضمحل إلى غبار بين أحذية الجنود..”.

انتحر ببطء لئلا نقول كان يحتضر، فالفرق عميق بين حياة تأتمر لغدر الموت، وموت جسد يتحدى الحياة:

“أعلى من اليباب يهدر رغوه ومن الضجيج/ صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق/ كالمد يصعد كالسحابة، كالدموع إلى العيون والريح تصرخ بي عراق/ البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون، والبحر دونك يا عراق”.

 

كم من المحن يأويها تاريخنا العربي، وهو يبدع في التنكيل بمؤصلي ذاكرته الإبداعية، بدءاً من أول شاعر جاهلي بكى واستبكى، من غير أمرؤ القيس “فيالك يا ليل كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل” حتى آخر شاعر طالته رماح اليأس.

بدر شاكر السياب، ذاكرة اتقدت لتشعل كتابة انضمت لسلالة تهب الروح ولا تتنازل عن حرية الجسد.

سيرة السياب داومت تسائل عراقاً يغتلي بشفير المهج، رغماً عن الموت تاه بالصوت، ما على واستعلى على قمم العذاب، تجربة نحت حبرها على ورق شاغر آنذاك من جرأة شاعر يوصي الحراب ألا توغل في الطعن، والنوائب ألا تتمادى تنكيلاً بمصاب الناس، لكن المجازر تعالت وتمادت ما أحتمل الشاهد آنذاك، حتى طوح بارود العسكر بوطن بابل وعراقة آشور ولم تجئ عشتار.. لتر كل هذا الدمار: “بعد أن سمَّرُوني.. وألقيتُ عيني نحو المدينة: / كدت لا أعرف السهل، والسور، والمقبرة: كان شيء مدى ما ترى العين.. كالغابة المزهرة.. / كان في كل مرمى – صليب وأم حزينة.. /قدِّس الربُّ هذا مخاض مدينة”. جابه بدر كل ما هنالك، من جيكور حتى القبر في بوح حر، عليم بحال ألم اعتري ليل العراق، مصاب اغتال عينيه من عنف الرؤى. كما باح لنا:

“إذن ها هو الشاعر العربي، يتخطى بدوره زمن العافية والانسجام، ينوء تحت عبء الزمن الرهيب، يشرع في تمزيق أقنعة المنطق والمتعارف عليه، يطمح لأن يثقب جدران المعقول، يسمر عينيه على وجه الواقع العاري، ليبصر بالخطايا، وهي تطبق على العالم كإخطبوط هائل.. فتفترس الرؤيا عينيه”.

(6)

بدر شاكر السياب حرية لها المجد، هكذا أتاح للخليج نبوءة تحققت وأذهلت الدهر:” جلس الغريب/يسرح البصر المحّير في الخليج/ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج.”

هكذا. أباح للعراق موته النبيل:

“متُ.. كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم،

كم حياة سأحيا.. ففي كل حفرة. صرتُ مستقبلاً.. صرتُ بذرة

صرتُ جيلاً من الناس.. في كل قلب دمي

قطرة منه أو بعض قطره..”

حديث القلب

أقبلُ..

محملة بتفاصيل صغيرة

تشعرني بالألفة:

منضدة واسعة، غيمة بيضاء

حروف كثيرة ملونة

وأنا

منفلتة كقارب صيد في ليلة مقمرة.

(1)

هيامي بالكتابة لا يوصف، تدلهي نحو الحبر لا يشبه أي شيء، حتى الحياة ذاتها، كأني أحيا لأكتب ما يرجف في خفايا الروح من رعدة الحرف، أحيا لأقرأ ما يقترب من الخفق من رفيف أصدقاء القلب، منذ طفولة هائمة في ملاذ الخيال، مذ بدأت بصعوبة تجعل الجسد يرجف وهو يحاول أن يتهجى إنحناءات الحروف.. صرت مفتونة بكل حرف يلتحم بآخر ليصنع لي كلمة قادرة على إرضاء تعبي الشاق، منذ طفولة مضت سريعاً لا أتذكرني إلا وأنا ملتحفة بدفء اللحاف، منزوية نحو أقرب جدار حنون، منعزلة تماماً عن ضجيج العائلة وأحاديثهم التي لم تسترعي اهتمامي قط، هكذا كنت ألتذ بعزلتي التي تشبه لمعان الشمعة الوحيدة التي كنت أخفيها تحت سريري لئلا أتلقى تأنيب الكبار حول خطورة وميضها آخر الليل، أبتعد عنهم منكبة على تصفح وريقات صفراء تطوي في بسالتها كل الكلام، منذ الصغر كنت شغوفة إلى أبعد حد بما تطويه هذه الكتب، أراها كأنها الآن، مصطفة على رفوف مكتبة مغبرة، كلها تعدني بقرائتها ذات مساء، المكتبة العامة لم تكن قريبة من بيت العائلة، لكنها كانت على مرمى حصاة في مخيلة تتوق للاندياح نحو رفيف ورقها الرهيف، ما أن أدلف سور مدرسة تحتمي بها المكتبة وأتهالك نحو بوابة كبيرة جداً علي، حتى تنهال أمام عيني الصغيرتين ألوف الكتب.. لأبتهج وأنهال مذهولة لاندفاع قلق يتصاعد يدعني أتشظى وأنا أسأل النفس فيما سوف أختار؟

(2)

للكتابة.. طقس قدسي، لم أجرؤ على محاذة تقواه، كلما احتدمت صدوغي بمبتغاه، كنت أتغاوى عن ذلك الانهيار، كأني أسألني آنذاك: ماذا سوف تكتبين أمام مواهب ألهبت ليلك كله؟ كيف ستتجرئين على انتهاك هذا البياض الجليل؟ لذا كنت ألغي حبري الفقير، وأنتظر كتاباً آخر يلهم ضيق الروح.

حتى إدلهم ذاك المساء الكثيف، ذاك الأزرق الذي غمرني بحريق الدمع وهو يرتشف مبتغى جمراته من حافة أحداقي، حينها تناولت القلم ودسسته بين أحضان أصابعي.. أسرعت بخفق القلب لأول ورقة بيضاء ورحت أنزع عن جسدي كل بلوى ذاك البكاء حرفاً حرفاً.

عند أول الكتابة انهال صمت حزين، لم يره غيري، تداريت بخجله ورحت لأول السرير، مغشيا على من هلع لم يرأف بي، لأحاول النوم الصعب بادعاء اغماء فاشل لعله يحميني من عثراتي المخجلة وعندما استدام سهادي رحت أحتوي يباس قلمي مرة أخرى، لأستريح نحو نفسي، لأقاوم خوفي.. لأستطيع على الأقل أن أسرج سر الحبر لأول أخت لي، أمينة ومن غيرها تلك الحنونة التي علمتني كيف أرى المساء وأنصت لليل، كيف أمشي بصمت وأرقب النجوم وهي تلهث نحو ضوء ينتحر، أمينة الوردة التي لن أنسى ولن أكف عن تذكر طفولتي دونها، أمرأه تحتوي القلب بل تحتضن الكون كله.

كنت منزوية نحو جدار من صخر ناتئ، استند عليه لأخط الحرف، فاقتربت لتقرأ ما كتبت لتهمس نحو حواسي المرتعدة: “هذا شعر مؤلم”، لم أصدق ما قالته، حتى أنكفأت لوقت طويل أرعى فيه حبري وأشحذ دربة أصابعي في عزلة بدت ممهورة لي.. وحدي.

(3)

جالسة على كرسي أبكم، مصابة بغدر الوقت أترقب نصيحة العلم، أنظر لكلام طبيب مختص يحاول أن يغادر شفتيه، وما أن يراني له حتى يختم بتوقيع مؤلم آخر الهواء نحو شغافي، كأنه يقول بصراحة أكاديمية لا ترأف بشأن الروح: دامت عينيك تحت معالجة العقاقير، أنصحك بالابتعاد عن إجهاد الكتابة والقراءة. حينها ابتسمت، كأني أسأله: دونهما ماذا على أن أفعل؟ وأنا منذ الطفولة حتى الآن لم أفعل سواهما.

لم أكن أحيا إلا لأقرأ هدايا حبر الأصدقاء، من يتلون آخر الروح تجاه الورق، من يسرفون في آه الألم، لم أكن أمضي الليل إلا لتدوين ما فعل النهار الجاهل المرير بي، لا أنام حتى يرتاح الرأس من مكابدات إدلهمت على قمم صدوغه، لا يغيب جسدي إلا على بهو سرير يطلق عنان هتفي نحو سحر الحلم أو راحة الحبر؟!

كيف لي أن أمضي الوقت دون صديق القلب” صوت” ذاك اللحوح الذي طيلة الوقت يقترح على كلامه الجدير به، كيف لي أن أبتعد عن جهازي الفاتن وأنا أحفر عليه كل سطر حروفي، كيف لي ألا أكاتب الصديقات والأصدقاء أمام ضوء الورق أو مهارة البريد الإلكتروني، كيف لي ألا أرى كل هذا الهواء؟

بعينين منهكتين، حاولت أن أتعلم فن العماء، على الأقل لأقوى عليه. الفشل كان حليفي الأول كل مرة حاولت فيها الكتابة دون ضوء عيني، قلت لي: اقرئي الحياة بعيداً عن الورق، طبيبك العالم لم ينهيك عن قراءة الحياة كل نظر عليل، فبدأت التوغل في أبهى كتاب، يا له، بدأت بزرقة البحر، كان محمولاً على موج وفير ومهتاجاً يكسر الصخر ويدمي الرمل، رأيت الشمس خجلي من عنفوانه المرير، تغمر رونقها الدامي في سدة حكمه الأزلي، تنتحر عميقاً رأفة بغدره، لينتفض البدر خجولاً يفضض فتنته وهو ينحدر لحلكة زرقاء داكنة أقرب لرماد الليل.

عندما عدت للبيت، قرأت فتوى الباب وهو يفشي لي سر الأحذية التي واكبت عتباته الخجولة، استدرجت صمت الجدران لتبوح لي بسهو الآجر، لهوت بسر الستائر التي تحد من تهور زجاج النوافذ، بدأت أترجم ضحك أطفالي وهم يتعاركون في لهو ينجيهم من عبث الصبا الذي بدا يقترب، لأشهد تشبثهم العنيد بصخب براءة تكتظ ضد مراهقة مرهقة، صرت أمشي في منحدرات بيتي لأقرأ كل شيء خارج الورق البعيد الذي منعوه عني، فاكتشفت أن رحى المخيلة لا تكف عن وميض الثأر ولا عن لمعان الخلق الذي يكاتب كل شيء.

لأنام أبدأ الكتابة، بجفنين مغمضين تماماً، أكتب على وريقات الظلام، تنعتق روحي نحو صفحات بدت تنعس، لتنسكب الحروف كلها، غصباً عني ينحدر نهر الشعر بعذب كثيف لم أعتده، أخاف عليه من المحو، فأفتح جفني وأنسرح نحو ورقة قريبة لأدون مبتغاه بسر يبالغ في الفضح، صعب وأنت لا تحيا بسواك أن تبتر عنك يديك، ألا ترى غير ظلك يتسع ويتسع ولا يراك.

وحيد في هذا العالم من يفتديك.. غيرك من؟!

حديث الروح

(1)

أصعب من الطريق

خطوي الكفيف.

بلادي رملة لا يراها المحيط

ولكن إذ تزدهي بمجد الحرف

يتعوذ العالم من رعدة تعتري آخر البحر.

 

دون هتف حرير دمي

أكاد كالغيمة أجف

دون هتك بروق حبري

أكاد لا أكون.

(2)

دوماً.. كنت أرى الشعر بطبيعته الحنونة والرهيفة ملاذاً رحيماً لكريستال الروح، تلك الغفلى التي تداهم كل هذا الوقت الراهن بخدوش وانتهاكات، لا تتريث في نزوعها نحو تدمير شفافية الذات، كلما شفت النفس أكثر، كلما تصدعت بقسوة تشتد، وهي تشهد تصاعد عنف يغالي في إلغاء الحياة وتدمير بهاء كائنات لا ترجو من الكون غير شهقة الهواء.

تتتالى مشاهدات العنف، بحتم عسير على النفس، صعب على الذات التي تقارب بياض الورق كل فقد يسري، روح محمومة تلتهي بجموح الحبر لتعبر عن غدر مبتلاها كل ليل.

أي ملاذ مليك قادر أن يحتويها في ظلام الأسر، غير جرأة حرف يشعل عصف الشرفة ولا يرى غير جناح الشعر؟

من يصغي لعذابات أحداق تتأسى بعزاء الدمع.. غيره من؟!

لذا أسميته ذات شعر: توأم الأم، لكونه الوحيد الذي يجرؤ ويليق به أن يستعير منها رائحة الحنان، دفء المهد، كل حضن رحيم يغمر فيه جفاف الجسد بعطر الطفولة، بالذات عندما تتهدم الذاكرة بفقد الأم ذاتها، الشعر ملاذ الروح، كما الغيمة ملاذ المطر، ملاذ يغري الحبر بمداومة هطوله أكثر، رأفة بجسد لا يحيا بسوى ملاذ يحميه. لا هلاك يلغيه.

(3)

حين الكتابة، امهل اللغة رئيف الوقت، ليتسنى لها بأن تبوح بما أتأسى به، لا يعتريني أي ملمح آخر يهتم بتقنيات أو مهارات ما، غير ما ينبعث بصدفة بالغة، لا أقلق حين الكتابة بما يتبدى نحوي من تقنيات، لا وقت لدي -حينها- لحيرة تبدد هتفي إطلاقاً، أو تثير الشك نحو فعل الإضافة التي سيضيفها هذا النص لتجربة الكتابة لدي، لكوني أعتمل بعنف لأنتحل ذاك الوميض الساهم بسجدة الليل…، غائمة بما ينتاب حال الروح، منهالة لنحت آخر: يعول على نقد الألم، يشعل بهجة تهيل القلب كله، للقلب سخاوة يعتاد عليها الحب وقساوة لا تكتمل إلا به، متاه رجفة تتحول فيها اللغة ليد تحنو، لغة تغاور برد البلاغة لتكتوي بجمرة الحب، كل ما يهتويني حين الكتابة هو تحدي قدرة الروح على تحقيق رعدة الطاقة التعبيرية التي تحتلني، ترجمة جنوحها على الورق، دون أي إلتفات لشكل التقنية البلاغية والإيقاعية.

تتحقق الكتابة كتصدير للمحن، من قدرة البصر على التحديق وتأمل خوافي الذات، وأنا أحدق فيما مضى، يتراءي لي أفق النص، ثمة حالات شعرية تهيم برؤى النصوص التي تتحول لأصابع تضم الروح، تتناهى الحروف لتشهد على فضاء يتحول فيه الشعر لمتاه للقلب في تقصفه الجسور.

احتمالات عديدة تأتي تلبية لإعتمال الذات الحاضرة بتلك الأخرى، الغائبة، الغائرة في حنايا الخافية، خفوت يؤرقني وحين يتخفى.. أنتظر حتى يبوح لي عن غيابها، بصوت يعلو قليلاً.. قليلاً.. بصراحة تهيل حنجرتي.

(4)

“ فيما أحسه أو أحسبه الشعر” لقد شكل هذا النص محاولة لإكتشاف ماهية الشعر، رجفة همسه، مس جوانية عذوبته، لمعرفة مدى تماس الذات به، حصل هذا القلق لدي، لحلوله الدائم كل نص، بشكل يبتغي تحريضي للكتابة عنه، تعريفه، لي أولاً ومن ثم للآخر، ثمة غيرة تحققت لديه كنص -و هو العارف أحوالي- كل كتابة أحاول فيها مقاربة شغاف أخرى تصطلي بوهدي، كان يتملى حضوره بإلحاح غريب، كأنه لا يريد لأصابعي أن تكتب عن سواه، لذا – لأتلو مبتغاه – بدأت الكتابة عنه ولم أنته بعد، كما أشرت في آخر النص، جاء لي هبوب مريب، ضمن تعريفات متشظية.. هكذا:

“حمى، بلاغ غامض، تهويدة تغتال ذاكرة مشحونة أكثر مما ينبغي، انزياح كلي عن غفلة الجسد، ترويح للحواس، مجاهدة للنفس، طاقة للخوف، فروغ الروح، صلة بتاريخ يتحدى المجد، طريقة لتعريف الجسد وتعريضه في آن، كالهواء حر لا مرد له، مارق إلى أبعد صعلوك، عار من القبيلة، حلول نوراني يبعث للأصابع دهشتها الأولى، غرق لا يليه الموت، نوبة الورق، مناب الألم، ما لا أحيا دونه، غالب الأسر، مدار السماحة، ما لا أقدر عليه دوني، دفين الذات، تراب القبر: من يواسي روحاً للهلكة ويضم جسدا للفزعة من بعده، القاسي حين لا يصل، كاره المجد، الآمر وحده، ما لا براء منه، المستفحل وحده، غريم الصعب، موهبة الهول، موت مؤجل، غيبوبة ترخي الماحول وتوقظ الماوراء، صبر الثواكل كل يوم يأتي دونه، بأس اليتامى كلما مضى لساحة النشر، مرام العاشقة من بهجة القلب، كيد اليد، عزوف الأوصياء، نفضة الورق أمام اندفاع القلم، قدرة البكاء على نسج أمثولة له، المصير العظيم لمأوى السرد دون تفصيل، جسر بين الكون وجسد الأخرس، كل شيء، فتوة اللغة، فتك الصريح، صديق الدم، ضد كل سلاح يضيء عنف الحياة، الخالب أناي، ما لا أنساه، آمر ساعدي الذلول، راعي جثتي آن الغسل والماء يبكي، حامل النعش المصاب بي، خليلي في خلوة القبر، نفوذ اللامرئي وحصول المعارف، نمرة المخيلة، النابذ جسدي حين أعزف عنه والناده مبتغاي حين أعزف عني، نجل النهايات العاق، وصيف الكبرياء، النبيل غاية الرفعة، هديل العمر، تورية الموت. لم أنته بعد.”

هذا المقطع يشكل تمثيلاً قليلاً عن هذا النص الشعري الطويل جدا، الذي حاولت من خلاله إيراد تعريفات شعرية للشعر، أو بالأحرى تجسيد حروفي لغوره أو تشبيه صوري جمالي لطبيعة إحساسي وتماسي به، إيراد عناوين تجاربي الشعرية ضمن هذا النص، لا علاقة لها، ببيان شعري أو ما شابه ذلك.. ولكن لاحتمالها أيضاً على تعريف يقترب من هتف قلبي تجاه الشعر: هو “آخر المهب”، “ملاذ الروح”، “حنجرة الغائب”، “إستفاقات “، وهو صاحب محنة السؤال الذي داوم هلعي كل كتابة: “هل أرى ما حولي هل أصف ما حدث”..

في هذا النص هنالك صدى لصوت يحاول مشافهة سمو الشعر، عبر محاورة ما يتصف به من سحر قد يجلو أسره.

دائما يتوق الشعر لأن يتحقق بفرادة لا تشبه شيئاً، بمعنى أن يدون حضوره عبر ذات تحترف اشتغاله برغبة ساحقة على التمرد والتفرد.. رهان لا يشبه أي رهان آخر، يجلوه المبدع وحده.. كل ليل له وحده، يعتاد فيه على إعادة صياغة هدايا الحياة بداخله – كل التجربة الإنسانية والحضارية بمعناها الكوني-ليصل إلى بلورة جنته وبذل حلمه ومشافهة الأمل الذي لاح له بمتعة طاغية، وهو يعتني بمزاولة مذاق الشعر، هذا الحلم أراه طريقاً صعباً..

لكن لابد للقدم من أن تحترف وعورة خطوه..

لا بد للأصابع وهي تكتب من دحرجة خطاها على برد بياضه، أن تصل أو لا تصل.. ليس مهماً، دامت تحاول أو تسعى للتعرف على غريب غوايته، وتتذوق ببهجة الغارق:

أول الطريق إلى غيبوبة موجه.. إلى لا منتهى عذبه..

(5)

وحدي كل خضم أليم

أحرض إنتحاري

العصي على غفلة البشر

والسخي على حنجرة تحترف حتم نزفه.

يا قادة الحديد

يا المعتمرين صهوة الضد

لنصاب معاً بمجد الرصاص

أفشيكم طلقة. طلقة.

من ينسى جرأة حديد

استفرد كل قيد بعظام طرية

تتذكر وطناً لا يبرح؟!

(6)

امرأة تنام في الكون وتفتش عنه.

أفتش عن كل شيء، فالكتابة محرض عظيم لدهشة الذات التي تتداول أليم الحياة كل نهار لتجلوه حرفاً، حرفاً كل ليل، للكتابة مسٌّ، يكتسح النفس، يغريها لتقرأ مقترحات الكائنات الإبداعية الأخرى، تراقب ما يحدث لها وما ينقض عليها، وهي تجترح نرد الخسارات، تتلهى ببسمة تهب الحب هنا كوميض يضيء أمل القلب هناك، كل هذه المهاوي لا بد لها أن تستثير جموح الأسئلة كل كتابة يورق فيها البياض.. ذلك بفعل تصاعد حمى البحث ومحاورة الذات كل حبر لا يرى إلاي.

لكوني امرأة ولهذا الإشكال دلالة مضنية، امرأة وتحيا في زمن عربي بامتياز الهزائم المثخن بها، لأنام في هذا الكون الذي أرعى فيه يأس المستقبل، وأحيا حاضراً يبالغ في قسوته البليغة – بالذات حين القتل والتدمير كل حرب، تجفل فيها حتى الجثث من هول ما تلاقي من بطش، في هكذا مكان وزمان.. لا بد لي أن أفتش عنه.. لأكتب ضد من يعمل على تحييد القاتل فيه، يهادن شفرة السكين، لأدين من يفسد نقاوة الحياة، من يكسر أمل اليأس، لذا لزاماً على أن أفتش عن كل شيء يقتحم بقبح زناده، طراوة ذاكرتي وهواء ذات لي.. أشتغل نحو غموض هائل، لا يفسر لي: لِم ما يحدث لي؟!

(7)

لدغة الحبر.

للإبداع لغة، لها نفوذ انتقام مهيب لا يوازيه أي شيء آخر، بمثل عنفوانه وقدرته على اختراق جبروت عصا التواريخ، اندفاع كالرمح.. هكذا. للمثول أمام كل العصور، كشاهد حي، يسرد ما حدث ويتقصى ما سوف يحدث، شاهد يستمد طاقة التعبير، ما أسميها كهرباء الفضح.. من جسد وحيد، تماهى بقدرة الحياة على الخلق، منذ أول المهد حتى آخر القبر، لغة تشبه سلاح القتيل، هي الوحيدة القادرة على مجابهة كل ألم استبسل ضد ذاكرة الدم، الإبداع في شتى أشكاله المتقنة، يتحول، يتقد بقدرة لا تجارى ولا تبارى للدفاع عن إنسانية الناس والذات معاً، هذا ما أتوق إليه كل شعر، أن أتقن كتابة كلمات تحتوي تعب قلبي وتحتمي بنبض دمي، كلمات تقوى على مكاشفة الآخر ومحاكمة العالم على ما يبديه نحونا من قسوة لا مبرر لتصاعد دخانها هكذا ولا لإشهار أشلاء عراياها هكذا أيضاً، كلمات ضد ما ينحز من حزن نحوي، بالذات عند كل انتهاك لا يرأف بي، بل يتمادى كثيراً في الإسراف بهتك حرية روحي، كما كتبت ذات حبر:

أينما طعنوا حافة حلم لي

طغوا بفأس ليس لي

ارتعت، لأتقن لدغة الحبر.

أما كيف هو ذاك الحلم وما مستوياته، تراكماته، طبقاته؟

فلا أعرف منه، غير احتداد حلم الكتابة كل ليل، غير مشارفة ذاك الحلم الأكمل المشمول بكل شيء، حلم يدعني أكتب ممهورة بيراعة الحرف ودم الحبر وشرفة تتسع كثيراً.. لبوح حرية ريش يؤرق جسدي، لأعلو.. وحدي.. كأنني متاحة لهبوب ريح تحرض هواء الورق.. ليعلو نحوي.

(8)

للقلب ولِما تبقى من الليل..

هذه الكلمات شكلت طبيعة الإهداء في كتابي “ملاذ الروح”، حينها، كنت أسألني: لماذا؟!

بعدها أدركت، كيف يستوي الليل لي، بمعزل عن صوت العالم، بمعنى خفوت الوقت والضوء عني، حيث لا مليكة إلاي ولا سلطة علي، غير بوح نفوذ وحيد يستحق كل هذا الظلام الساحر، من غيره ما يواريني ويتمرأي بي؟ من غير جمرة الشعر أو مهب الحلم أو شهقة الحب؟!

دوماً كنت أتوق لكتابة ترحم سهو الليل، لترجمة تحترف ما يعتريني من شقاء بعد كل نهار أضناني، بضوءه الساطع، ذاك الساطي الذي بالكاد انحدر بعيداً عني، أهوى كتابة الليل.. ربما لسيادة الهدوء التام، غواية الغموض المتفحم، المتلمس هبوب الظلام، حتى حين ألوذ كسيرة بصمت يستولي على ولا أكتب شيئاً.. أحيا.. لأنحت فداحة الهواء بما يستبيني منه، أسهر ليل الشعر ممتنة لهديل شمعة تتكفل بي، مستهامة برفيقها الخجول، أرى ليلاً.. لا يكفي.

(9)

الشعر تجربة نحياها وهي تشافه خفايا النفس، بدربة تتلقاها قدرة المخيلة كل كتابة، ذهل موهبة تتحقق، ثمة فعالية خاصة تنتقل بحرية بين ضيق الوعي وفضاء اللاوعي، لتكشف لنا، ما يحدث هناك في غوامض يجلوها الشعر عبر طاقة الكشف التي تتصاعد لتمس أعتى مجاهيل الدماغ، هنا يجلو لنا النص الشعري بذاته عن مدى تصدع ذواتنا أو إندغامها معه، تختلف هذه المسألة من شاعر لآخر ومن نص لآخر أيضاً.. لكون حدوث هذا التجلي الشعري خاضع لمدى حساسية التجربة الشعرية والحياتية، أحياناً يستوي للشاعر شيئاً آخر غير ذلك، كما لاح لي ذات كتابة، عندما بدأت الكتابة بذاكرة كائن آخر اغتليت بخرسه، كالحجر مثلاٍ أو الحب أو البحر أو الجمر، لا أعرف أيني تلك اللحظة وأنا أتمثل تفاصيل ينوء بها هذا الآخر الذي يفعمني بصمته وهو يرسل لي كل هذا الونين الذي يدلل على روحه العصية. أيضاً ثمة منازعة تستولي على النص ذاته، أكتشف معها فعالية التصدع التي تثخن روح الشعر، كمثل دوي الحياة المتصاعد الذي يشظى بذات الشعر ويعتري بمهاوي

الألم.

للكتابة تهمة؟ هكذا بحتُ:

للكتابة تهمة لا يجلو همها غير سعاة اليأس

بجدارة القتلى آن الحرب

بهول الجثث كل قبر واحد.

كتبت هذه الكلمات في استشراف لمدى المسؤولية التي يتقدم نحوها من يكتب، من سعاة اليأس، من محترفي فضح التواطئات التي تؤرق مستقبل الأمل، حينها تغدو الكتابة المحتملة جرأة الفضح: تهمة!! لكونها تمثل خروجاً على حديد القيد الذي يدرز حدود الدرب لمستقبل الأحفاد، تستوي خطيئة تلك الخروجيات الرؤيوية والإبداعية لكل من يكتب الشعر، سواء كان رجلا أو امرأة، تبعاً لمدى حضور نصه الإبداعي وقدرته على تعرية المسكوت عنه.

فيما يتعلق بكتابة المرأة، هنالك خصوصية يتقنها واقع الاستلاب الإنساني الذي تحياه المرأة /الأنثى كل نبذ، كل إرث ثقيل يعتني بأثقال الغبن الذي تنوء به، هذا التمييز الجنساني يضاعف من تهمة الشعر ويحولها لجريمة لا لمعصية، بل جريرة لا تغتفر، لكونها تحولت من مكانة الصمت، من سكون البيت حتى فسيح الصوت، تحولت لتهديد خطير قد يقوض سلام الصمت الراهن المتسيد عبر إلغاء حضورها المخرب، لذا يتعرض صوتها لمساءلة لا تغفر لها حرية القول وبذل الكلمات، بالذات تلك الكلمات التي تدين كبح التاريخ الذكوري لها، وتشير بأصابع تمتد وتحتد كما النصل لقساة يدمرون هواء حرياتها، هذا العسف تجاه كتابة المرأة في راهننا العربي ساهم في تمويه وإلغاء احتمالية الآخرين من عموم هذا الشعب لاحترام صوتها والإصغاء بحرية لبلاغة جرأتها الشعرية، حدث هذا الجرم، كمحاولة لاتقاء ما في هذا الشعر من قدرة على مواجهة التفكير والقسر الذكوري واستكناه الخافي من مشاعر الكبت والنفي والوأد الذي رافق تاريخها، يشتد النفي حين بلوغها إعلان حرية الحب، لذا تتكالب التهم، تتعالى المقاصل، وما تفشى في آخر هذا الأوان، وتبذل في الصحافة الثقافية العربية من مصطلح مشين، مستخف، استشرى في مصطلح “الأدب النسائي” ليس إلا معولاً صدئاً يراهن على إقصاء كتابة المرأة وتحويلها نحو قيد الهامش، المغبر، مرة أخرى.

(10)

الشعر حصاري الوحيد الشاسع.

فيروز

(1)

ليعلو الصوت كالبرق فاضحاً غفلة الغيم تتقدم نحونا، رافلة بثوب أبيض غالباَ، يعلوه وشاح الليل، تهف كالياسمين، تتخطى صفوف العازفين وعصا المايسترو في ذهول من رشاقة الخطو، تتقدم برفاهية المليكة، وتقف أمام حشود من رعايا الذهل، تصّدع الكراسي من رنين الأكف، وهي ترسل التحايا لرائدة الحب: جنة بيروت.

تقف لترانا نراها، قبل أن تحلق عاليا ترتاد بنا فضاء النغم، أوج الصدى، تغني ما لا تنسى “سنرجع يوماً إلى حينا ” لتغمرنا بحنين لا ينته كالدمع.

كفراشة تشدو بأجنحة من رفيف النار، تغامر بألق حنجرة كالماس تشدُ عنان الآه حتى آخر الليل، فيأتي الصوت منتشياً، ناهزاً بكنوز الأعماق.. يغترف ندرة الأمل.

(2)

فيروز حجر كريم، تخضب بعشق فريد لإفلات تفجَّر الحواس، امرأة أعطت الوتر من بوح شغافها ما يعجز عنه مشكل اللحن، لا ملاذ الشعر وحده، بسمو نادر امتشقت ذرى كلمات كالعصف، لتندد بعنف الأرض ونهر الدم، راحت تنال من ترامي المحن بفيض الروح لا بشموخ الجسد وحده.

فيروز ماء لا يجف، محاط بعذب الهوى كل منصة تنتضيها مليكة الغيم.

حين يستوي للمبدع شأناً من التشكل يكاد يشبه الوطن، بكل ما فيه وأحياناً يضفي عليه، يتبدى له خيلاء التألق، حثيث يسعي لتحقيق الاكتمال الذي يصل الأقاصي، محمولاً على أجنحة تختال، بمثل حنجرة تأتلق بها فيروز في مهب فرادة لحن للهمس كأنها الجمرة الأخيرة اللاهبة أمام هجمة هذا الطوفان.

هكذا تبدو أميرة الورد ” فيروز”.. امرأة تشبه بيروت بكل ما فيها، تغني كأنها تعانق سر المدن، تسهر على رتم يشكو فزع البيوت من قتل يعري الطرق، منذ عنف الحرب وقبل وفيما بعد.. مضت – كعصفور يندس بين الغصون – تهندس بصوتها العذب ولّه الحياة لميلاد سفوح تتقن معنى “الأرز” رمز الحرية والأرض.

(3)

عندما تفشي لحناً اختارته ليترجم ظل القلب، لا ندري وهي تصدح بالحرف ما ترى، ليست كسواها، مكسوة بعينين قادرتين على احتواء ظلام الحفل كله، دون إلتفات يذكر، بصمت تغني، بروح تناهض الظلام، كآلهة تحيل المعبد درباً يصعد نحو الله، كما لا أدري، تحدق كأنها ترى ما مضى منها، وما يندفع من مستقبل يراها، هكذا… كشمعة يتيمة تتقد، تدع الهواء يتهادى وحيداً، لتصغي الآذان لتوتر موسيقاه، تأتلق بيد مرفوعة نحو ذهب شعرها المنداح حول الكتف، وأخرى تمتد نحونا لتنهب آخر المدى.

آن تنحني بخفة الملاك.. طاوية خطوها الرهيف وما تبقى من حميم الصدى، يصعد نحوها هدير الأيادي، صفير الحناجر، قبل أن تذهب لخفاء الستار، ترمي نظرتها الأخيرة لصحبة الموسيقى، وأخرى لذوي الهتاف، لتمضي محفوفة بمجد الخطى نحو رهافة لها رعشة الذات.

وأنت تصغي لفيروز، لا تتبع بأذنيك صوتاً جميلاً يرافق هديل النغم، لكنك تباح لسلطان المخيلة، يغمرك فردوس الصوت بحة كلمات تتهاوي في بئر ذاكرتك، لترتفع قليلاً عن حرير الأريكة… تطفو… تنسى يباس الأرض، لا تدرك غير هواء ينهض بك، لتتلو فداحة النغم الشجي الذي أحتل مرارة جسدك، مرغم تشتعل بشسع الفضاء، تلهو بروح تفيض بك، هالكاً في تشظ يتسع دائرة… دائرة… ما يخلب وقار العقل من حنين امرأة تطرز موج النغم، ينتابك هبوب البنفسج، والليل يسرى من حولك، وأنت تصغي بشرود القرنفل: ” أنا زهرة من زهورك.. ساعدني. ساعدني.. إذا كلهم نسيوني وحدك ما بتنساني ”

كلمات وكلمات مصابة بعطر الجنة، لملمتها فيروز لتستوطن نبض الجسد وعصب الصبا، ما أن تبدأ هطولها حتى ننهال بثقة الغوافل في ترف الغياب.

هكذا امرأة تجلت بفرادة الحضور، كل هذا الوقت الذي تهالك فيه كل شيء، ولم يبق منه سوى هشيم حضارة قد تتذكر، هذا الهزيع الذي يحلو للبعض مديح خواءه، وتمجيد ما يذروه من هباء لنهب الريح.

(4)

شامخة تقصت خطاها.. أسرفت في عناق الروح، أرسلت نحونا ماس الغناء، لنثق على الأقل بقدرتنا على الحياة في خضم مقبرة تحفل بالاحتضار، في عالم يسرفُ ببلوى المحن، في شرور ساطعة ترث كالمقاصل حرية الأعناق، على الأقل لنتشبث بإبداع يتصاعد ضد حاضر يرفل بهزائم تستولي، إبداع لا يرتضي أن يرافق خيبة يلوح بها مستقبلاً قد يسمو.

على الأقل.. لننجو برفاهة نادرة.

لقنت فيروز كل حواس العرب، لا الأذن وحدها، أو تاريخ التخت العربي، لقنتهم درساً في رعاية موهبة الصوت ـ درَّة النجاةـ علمتهم كيف ينهلون فن الإصغاء، يتقدون بملائكية النغم من حنجرة فارهة، كيف يغادرون هرج الملاهي التي اعتادوا فيها على بذخ الضجيج، تلوي الأجساد لنهب سهالة النقد، كيف يتعرفون على حرير امرأة تداوى الجراحات كلها، وتتلو همس السهول، على رفة جناح يروي هياماً يطوى هلكة المساء، كالليلك تشدو بلحن تترنم به من جفوة المنفى، لتسكبه نحونا بطلاوة الأثير، حيث الظلام الكفيف يستفرد بهواء الحضور، عدا دائرة من الضوء تضم فيروز وحدها.

“ردني إلى بلادي مع نسائم غوادى.. مع شعاعات تهادت بين شاطئ ووادي… ردني ردني إلى بلادي. “”

خفقة خفقة تتسلل كلماتها مزينة بغوايات الحلم وسلالة الريحان، كالسنبلة تنفض الغبار عن أرواحنا وتمضي.

نار ليست للرماد

(1)

“عبد الحليم حافظ” النادر من المبدعين العرب الذي أتاح لنا النار، ليجتاز حريق الحياة في غناء مرير، أجهد فيه الجسد بأداء صعب طالع من بئر لا يجف كمطر الروح.

من وهيد التنهد، جاء اليتيم، ليترجم قسوة قبر أمه الذي ابتعد كثيراً عنه، بعيداً عن طفل مثله، لم يزل يتلوى في قطيفة المهد، ليحيا وحده، يكاتب كل بوح لحني ماضي القرية وبلاء الترعة التي وهبت أعضاؤه الرهيفة محنة الداء، كان يترنم سارداً برد “الملجأ” وعنف ذاكرة طفولة تقسو بإيقاع لن ننساه:

“جئت لا أعرف من أين، لكني أتيت، أين أحلامي وأنا طفل رضيع، كانت كيفما سرت تسير، كلها ضاعت، ولكن أين ضاعت لست أدري…؟ أنا لا أعرف شيئاً عن حياتي الماضية، أنا لا أعلم شيئاً عن حياتي الآتية..”.

لو لم يكتوي “عبد الحليم” بهذا السيل الجارح من رعونة الحياة، لما استطاع أن يمسد أوتار حنجرته بهذه الطاقة التعبيرية المنحدرة من أقاصي الحواس، لما تجلى بحساسية خارقة، تصقل صوته بأنين خفي يؤهله لعناق المستقبل، ثمة لمعان غريب يستبيك وأنت تنصت لخلب غناء يغويك.. كل مساء تدير فيه عتاب “عبد الحليم”:

“بتلوموني ليه، لو شفتم عينيه، حلوين قد إيه، حتقولوا إنشغالي وسهد الليالي مش كتير عليه، ليه بتلوموني…؟!”.

“عبد الحليم حافظ”: راعي الحنجرة، قاهر القاهرة، هو من أرغم تاريخ الموسيقى العربية وتراث التخت الشرقي، كما فعل خطير الطرب “سيد درويش”، لتخضع للحن الجسد الشاهر محنة تاريخه، لتصغي لحرير الآه.. وكل ما ينداح من عزف رنيم غامض لا نراه، بل يستولي علينا، كل هواء قدير بأن يراه.

لقد درس سلالم الموسيقى، بل تعلم العزف على أغلب الآلات، منذ طفولته اليتيمة حتى صار فتياً، لا ليوآزر خشب الآلة أو معدنها فحسب، بل ليوازيها برتم توتر الروح، الأكثر رقة ونصوعاً من رنين النحاس ورفيف الوتر، إيقاع باسل ترسله أعماق العاشق المكبوت بسريان الوله، المغنى المغتال بخلايا لا تستسلم سراً، بل تشعل وريد الغناء بأنينها العذب، تدفع الأنفاس عالياً.. عالياً حتى يضج الحب برائدة القلب، كل لحن تصاعد من رعدة الروح.. كاد يكسر فضاء العود، يشظي هسيس الكمان، هكذا يشدو بصوت يحتدم بشجو الغناء، كل حفل يحفل به، نراه يتقدم حتى حافة المنصة، يسرد النغم كعاشق فريد، كلما رفع مايسترو الحب “عبد الحليم” يده اليمنى، مطلقاً نهضة الآه.. آه.. ترسلها كبد تنهشها بنهم أفاع “البلهارسيا”، ذات الكبد المكلومة بعشق مؤجل، فالحب شريك لم ييأس من لوعة فقده، بل إزدان به كقلادة قلب لا بد لها من رعدة دمه.

(2)

“عبد الحليم حافظ” الوحيد الذي تعرضت جنازته لهبوب عاشقات ينتحرن من أقاصي الشرفات، مع ذلك ظل وحيداً، لسر ما، كامن في حرية الصوت، شبه تشبث عنيد بحتم حياة المبدع مع الإبداع وحده، رغم سريان وهج عشق بعيد، كان “عبدالحليم” يحيا ضد اغتيال فضة الحب بهيمنة حديد العائلة، ضد مأوى الحجر، كالنار كان ضد سطوة الرماد، صار يمضي العمر وفياً لجمرات تؤجج فحم الذاكرة، مهتاجا ببهجة حب يروي حديقة القلب، عاش وحيدا لئلا يفقد ماس الحب بحديد الحب أيضاً، هكذا تلاهى”عبدالحليم” بإبداع غناء يشف عن جسد كان يتهاوى حباً طيلة الوقت:

:” نعم يا حبيبي نعم، أنا بين شفايفك نغم، أيامي قبلك عدم وأيامي بعدك ندم، نعم يا حبيبي نعم..”.

لم تكن الحياة- تلك اللئيمة – حليمة بعصفور مرهف، حافظ كل العمر على وهب ذاته جناحاً لها، أحبها بملائكية الهواء لتحاصره بهتك الكبد، كل نزيف دم تخبط بوداعة السرير، ولمن أراد أن يرى كل ذلك، له أن يذهب للقاهرة، ليتعرف على غرفة “عبد الحليم” التي تعتبر مزاراً لأفئدة رافقت عذب عذابه، لابد له أن يتسمَّر طويلاً أمام سريره، وهو يلمح كدمة غامقة نحتتها إتكاءة رأسه من طيلة الاستناد عليه أواخر لياليه، مرتخيا على السرير، يدرس كل نوتة موسيقية سوف يحترف فيها آخر النبض والنبر.

أي أسير للحب نلنا، أي مبدع كالحياة تحقق لنا، كان يكتوي بشظية الحياة ليتقن نار الحب:

“نار خلتني أحب الدنيا وأعيش لياليها، نار مش عايز أطفيها ولا أخليها دقيقة تفوتني ماحسش بيها”، رغماً عن سيادة اللهجة، لم تزل أغاني عاشق النار تتحدى دواهي الحياة كلها وتترنم بعطايا مفعمة بالألم.. هكذا:

أمام الناس المنشغلين بوفير المقاعد، يتقدم “عبد الحليم” مرتدياً عنف ذاته، ملوحاً بيديه، لجمهرة شعب لا تقاوم الصرخة التي اعتادت على هرجها تحية له:” يا عُبد”، بعد قليل من الصبر، ينهال الصمت كله ليواجه والليل إنصاتهم المدمر، واقفاً على منصة تسع المسرح، خلفه يصطف قادة الوتر، وزراء الآلات، وما أن يشير لهم بعصا الروح الخفية، رافعاً يده اليمنى ليؤم اندفاع اللحن.. حتى تنهال عذوبة تضفر حرير اللحن بجنة الكلمات.. ليتصاعد صدى كل الحناجر: “الله”. ليجتاح وحده كل الفراغ، باندفاع صوته دافعاً صدح الحنجرة، ليخضب وقت الناس “بزي الهوا ”بسر النغم:” وخدتني من إيدي والفرح يضمنا، ونسينا يا حبيبي فين إنت وفين أنا..”.

(3)

“من علمنا الحب”، هكذا باحت الفنانة “يسرى” وهي تصد سؤالاً يسأل عنه، لنسمو بتعريف طاغ، منحوت لوصف المصاب الجريء لمبدع لم يعلم آه الألم وحدها، لكنه أسرف في تدريس آسر الروح، هكذا أسس “عبد الحليم” لمرجعية تامة، تستوفي شفافية البوح وشفير الوجد، تدوين لتحصيل عاطفة عمت تاريخ كل من جايلوه، بل تعدت ذلك، لتأسر شغاف صبية ترتشف المستقبل، هذا ما يفسر لنا جرأة حضور تجربته الإبداعية العصية لا على التنحي أو الانزواء، لكنها المنتابة بقدرتها المذهلة على تحدي راهن الغناء العربي وإكروباته الفضائية، لاكتنازها بطاقة الحب التي جلاها “عبدالحليم” في نتاجه الفني متقصياً سيرة عشقه كله، منذ بدء النظر.. حتى آخر الحب:

“أول مره تحب يا قلبي وأول يوم أتهنا”، كذلك لوعته:” آه ما لحب وملي جرالي وخدني إليه”، فقده:” ياما قالتي عينيه ساعة الفراق خليك شويه، ياما ناداني بدمعه ساعة الوداع وأترجى بي” حتى انكساره:” مشيت على الأشواك وجيت لأحبابك، لا عرفوا إيه وداك ولا عرفوا إيه جابك، رميت نفسك في حضن، سقاك الحضن حزن، حتى في أحضان الحبايب شوك يا قلبي”.

 

بدأ حياة النغم صدفة ب” صافيني مره” ليختم سيرة الإبداع النادر بحدس “قارئة الفنجان”: “قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب ياولدي”.

هكذا أخترق “عبد الحليم “بلاء الغناء المكرس للمواخير، مكثفاً أتون ذاته نحو وحشة عمره، معلماً درس الحب لكل تجربة اجترحها مكتظاً بعنف خسارات الروح، ليغني إنثياله الشقي نحو كل غادة تغاوت بعيداً عنه وأخرى أغراها الموت لدوده العدو، ليعدو وحيداً مندفعاً كبركان يهدي صهد الحمم، يدله وهاد الشغاف، ثاقباً كل قلب تبدى له الحب يوماً.

(4)

محتمياً بجنون الوتر، رافق تيه الطرب، شدخ الصمم العربي، كحصان فادح استبق الحواجز، كل لحن طهر بتقوى العاشق حديقة الغناء، مثل كهرمان عتيق تبلر بجوى التوق كل منجم قاس اهتصر بحجارته العنيدة هفو الفؤاد..

أي مبدع نلنا، بين شدو وآخر، يندفع خلف الستار ليرتمي على كرسي معد له، خاضعاً لكمامة تهيل له الهواء، مرتميا نحو موته المؤجل، يرتجى نجدة “الأوكسجين” الذي سوف يصله، ليسعف زرقة الدم، بل ليترفق بعذوبة صوته ليهبط القلب والصوت سخياً لنا.. فيما بعد.

لقد نلنا “عبد الحليم”، من علمنا كيف نصغي كل ليل لعناء اللحن وبحة حنان الصوت.. مراراً ولا نمل..

العبد الحر، الحليم المنتقم، حافظ السر

اليتيم الذي -بغتة- فاجأه الرحم بفقد صعب لحنان الحضن، لتليه الحياة بتروسها الألف وترافق ينوع موهبته بكل هذا النبذ، ليصرخ نحونا:

“قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه، دمعتي جف جفنها، ضحكتي مالها شفاه، صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة؟”.

“عبد الحليم حافظ” عاشق لم يجد السيف في بيته، فأشهر جسده.

عنف الاستبداد في تهجير الجثث ونفي الحروف

(1)

“ماهية الإنسان هو العلم والعلم هو المعلوم من جهة وهو غيره من جهة أخرى فإذا جهل معلوما ما فقد جهل جزءا من ذاته وإذا جهل جميع المعلومات فقد جهل ذاته فنفي هذا العلم عن الإنسان هو نفي علم الإنسان بنفسه لأنه إذا انتفى عن العالم المعلوم من جهة ما المعلوم والعلم شيء واحد انتفى علم الإنسان بنفسه.”

“تهافت التهافت لأبن رشد”

(2)

“من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك لأن الله خلق الإنسان حراً قائده العقل، ففكر وأبى إلا يكون عبداً قائده الجهل.”

“طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي”

(3)

لقد تأسس الاستبداد، كمنظومة قمع لا توصف، طيلة تاريخنا، ماضينا العربي وحاضرنا المرتهن له، على العديد من التداعيات التي مهدت لنفوذه، لمداولة اجتهادات “عبدا لرحمن الكواكبي” ضمن كتابه” طبائع الاستبداد”، لنا أن نستنير بأقسى تجربة قمعية، نافية للآخر، تجربة لازالت تؤلمنا، كلما قرأنا ماذا فعلت بنا سطوة الاستبداد، عندما تمثلت في أعنف تجلياتها، المستندة على سلطة الفقهاء، ونالت من الفيلسوف “أبن رشد”، لتحرق منجزه الفلسفي وتنفيه، بل تجتث جثته من قبره، لتنفيه مرة أخرى.. هكذا:

“ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا ومعي الفقيه الأديب “أبو الحسن محمد بن جبير”، كاتب السيد أبي سعيد “الأمير الموحدي” وصاحبي “أبو الحكم عمرو بن السراج”، الناسخ، فألتفت “أبو الحكم” إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الأمام “ابن رشد” في مركوبه؟ هذا الأمام وهذه أعماله-يعني تواليفه! – فقال أبن جبير: “يا ولدي، نعم ما نظرت! لا فض فوك! “..فقيدتها عندي موعظة وتذكرة.”

هكذا أختط الشيخ “محي الدين ابن عربي” في كتابه العريق “الفتوحات المكية” تدوينه البالغ التأثير لحادث إبتلت به ذاكرته، وهو يرافق جثمان الفيلسوف “ابن رشد” في شهر آذار سنة1199م من “مراكش”، حيث تم نبش قبره، وطرد موته بعيداً عن أفريقيا، ليدفن مرة أخرى، بعد أن قطع وعر الطريق كله، ممتهنا مشقة السفر إلى “قرطبة” عاصمة “الأندلس” التي دفن فيها “أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد” الفيلسوف الذي أثرى تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني كله، ولم يزل يعمل فيه كل محاورة تستنهض مستجدات الاشتغال الإغريقي، الملتحم باستدعاء محنة التفلت العربي الفكري، آنذاك من مقاصل السفك، هذا المفكر الذي نال من الهجوم ما لم يقو عليه أحد، ومن التمجيد ما لم ينله أحد مثله.

لقد انشغل” أبن رشد” طيلة حياته بتحدي التفاسير لأساطين الفلسفة الإغريقية وعظماء الفكر اليوناني، من تلخيص أرسطو طاليس، حتى تفسير كل عبارة أنهى بها عمره. هو من لقن علماء الكلام آنذاك درسا في سبر قدرات العقل ومجابهة النصوص، لا في التفذلك البلاغي كل بيان يتماهون به لمديح ذوات الجاه من سلاطين الوقت، وحواشيهم الذين لا يقلون غدرا عنهم، لذا تم نفيه إلى “أليسانه” وهي على مقربة من “قرطبة”، بعد أن أمر السلطان “ أبو يوسف يعقوب المنصور” بإحراق كتبه وكل كتب الفلسفة، وبعد أن حظر الاشتغال بالفلسفة وبالعلوم عامة، “و حسب أقوال من ترجموا له فقد كان يخصص الليل للنظر والقراءة إلا ليلة وفاة أبيه وليلة زواجه” وللمفارقة المؤلمة نرى أن من سوف يشهد له على عظمة آخرته هو “ابن جبر”، ذاك الذي ساهم بفعالية عمياء في اضطهاده والنيل منه، بل نظم الهجاء ضده:

الآن قد أيقن ابن رشد أن تواليفه تَوَالفْ

يا ظالما نفسه تأمل هل تجد اليوم من توالف

(4)

موت “ابن رشد” وتهجير جثته إلى الشمال لا يعني سوى ترحيل الفلسفة العربية واشتغالها الفذ نحو مدارس وجامعات الغرب، إرسال فكره إلى الشمال الأوروبي الذي اعتنى شديد العناية بمكتشفاتها الصادمة، وهو يتمحص الأثر لفكر صعب، ناهز الفلسفة اليونانية، تهجاها حرفا حرفا، استنطق مدلولاتها، لذا نهلت جامعات الغرب في “باريس” و“أكسفورد” و“بادوفا”، ترجمت كتبه إلى العبرية واللاتينية، تعالى حواره المبدع مع مؤلفات “أرسطو” وشروحه لتغمر مناهل الدرس الأكاديمي هناك.

إن أثر “ابن رشد” في فلسفة العصور الوسطى والمعاصرة لا يكف عن الجدل كل كتاب فلسفي تنتقيه، لالتحام اجتهاداته الإبداعية في تنقية الشروح الفلسفية “لأرسطو” وإمداداته، بحضور التفاسير الراهنة للفلسفة الأرسطية، التي سميت “بالرشدية” في أوروبا المسيحية، ضمن قرون تتالت لتشهد له على عمق تأثيره البالغ على سعي تلامذة يتسعون وهم ينهلون من غور موهبته الفلسفية: تحدثنا د. زينب الخضيري الباحثة في شأن موهبة “ابن رشد”:

“وكان في استطاعة العصور الوسطى المسيحية أن تتجاهله تماما، لولا أنه كان أعظم شراح “أرسطو” ذلك الفيلسوف الذي أقبلت عليه هذه العصور إقبالا عظيما على يد مفكريها سواء كانوا من علماء لاهوت أم فلاسفة، لقد فعل “ابن رشد” لأرسطو ما لم يفعله المؤلفون المسلمون إلا للقرآن، فبدا في معظم الأحيان وكأنه يريد التفكير لحساب “أرسطو” أكثر مما يريد أن يفكر لحسابه، مما جعل فلسفته تمثل عودة للأرسطية الأصلية ورد فعل ضد الفلسفة الأفلاطونية المحدثة”.

(5)

والماضي يمضي، يدعونا بحنان لنقرأ موعظته. ألا نذهل ونحن نراه يعود لنا ببسالة المنتقم، ليرانا أكثر فزعا؟!

كان تاريخا مكتظاً بمواهب لا تؤجل المستقبل بعيدا عنها، مواهب تستند على سعير ذاكرة تدون حروف الحبر، ترسل أبيات الشعر، تكتب رحى المواعظ والأحاديث، ترسي رسائل النثر، تاريخا صعبا، صار حاضراً واهناً يدمينا بتقصف الجثث كل حرب أو نصر لا يهم، بل يكتوينا بالمهج لأصوات تلهج بأتون الحراب.

“ابن رشد” لم يكن وحده…لي أن أتقصى منذ آنذاك حتى الآن: ألاف الجماجم التي اكتوت بسعير استبداد خلافة العرب، الألوف من الرئات التي اغتصت بقليل الهواء كل حكم عربي استبد، ضد كل حرف عربي حر، لي أن أحصي مالا يحتمل من الرقاب التي اندكت كل سيف أخرس، تولته قبضة القضاة، لي أن أفضح كل حديد يصدأ، وهو يجرجر كل قدم تمضي لزنزانة عمياء تماما من الضوء، تلبية لحنكة كراسي الحكام، لي أن أمسد كل قلب عربي تعرض لجمارك المنافي، تجازى ببحثه عن لقمة الهواء بأن يبتعد عن حضن يرفل برائحة أمه، حنو يستبد بعضل أبيه، ليراه في بيت بارد بعيدا عن دفء أخوته وضفائرهم التي تشبه أنهار بلاده، بعيدا عن حنان بيته المكتظ بدوي كتبه، غرفته الشغوفة به، جيران وقته، حبيبته التي تكاتب الدمع الكفيل بإسراج الحبر نحوه، وطن لا يفارق حواسه وهو يتنفس عطر ترابه في ليل الغربة.

هذا والاستبداد العربي الراهن يتصاعد، أسأل: لماذا لم تزل المنافي الصعبة، تنهل من أراضي العرب، مواهب لامعة، مفكرين، مبدعين، مئات الألوف يتعرضون لرحى الغربة ومشقة المنفى.. يا الله، لماذا يبدو الغريب أكثر رأفة وحنوا تجاه من يبدعون؟!

من الملام في هذا المصاب؟ من الملام غير تاريخ عربي راهن وواهن لا يتعب من إلغاء حرية الأجساد والعقول..

غير حاضر مغلول، تبدى لنا منذ ماض مثقل بالقهر والسطوة والقتل.. ماض أعلن حاضراً سوف يرث مستقبلاً لن يرأف بنا أبداً.

(6)

بعد هذه الشرفة التي دعتنا، لنستشرف أهم المواهب الفلسفية العربية، من غير ”أبن رشد”، لنا أن نستطلع ذاكرتنا، ونرتاد ورق تاريخنا، لنصطدم بالعديد من الاجتهادات الفكرية التي كانت تتعامل بحصافة ومسؤولية بالغة، تجاه خطورة وحلول النهج الاستبدادي الذي تعرش في ظلال خلافتنا العربية الإسلامية، بل أخذ في التنامي والتصاعد ليطوح برقاب الفلاسفة والمفكرين والشعراء، ليؤسس لتاريخ دموي، أعتاد أن يواجه بوميض السيف والسم والسكين، حناجر تصطلي بلغة الكشف، الفضح والجرأة التي كانت تتضامن وتاريخها العربي المستنير بأواصره الفكرية والفلسفية والإبداعية.

تتالت تلك الاجتهادات طيلة تاريخنا، لامتلاكها الوعي المعرفي الكافي لإتقان دورها الكفاحي هذا، ممتهنة حبرها الفاضح ضد توالي أنظمة القمع، التسلط، الهيمنة الاستعمارية، التي توجت انهيارات لا بد من حدوثها، لحضارة عربية إسلامية، لم تتقن المحافظة على ثروتها الحقيقية، ومكنوزها الحضاري المتمثل في إبداعات شعوبها، إنجازات عقول ومخيلات مواهب عديدة، نالها النفي والقصل والقتل بما يكفي لتنهار الأمم من بعدها.

أبان غلبة أجهزة الحكم العثماني الباطش، شكلت تجربة “عبدا لرحمن الكواكبي” وميضا خاصا، ذلك لدوره النضالي في مقاومة الهيمنة الاستعمارية الفرنسية في سوريا، تحريضه المستمر لشعبه لمقاومة نفوذها، دعوا ته المستمرة لعقد مؤتمرات إسلامية لتوحيد مشاريع النهضة العربية وتنظيم مجهودات المقاومة المتسلحة بالوعي والفكر ضد المستبدين من الحكام، المتواطئين مع المستعمر، كل هذا التاريخ الوطني، عمده” الكواكبي” بقراءة حصيفة لمسببات الانحطاط والهزائم التي ابتلت بها حضارة العرب، لقد أستطاع أن يحاور العديد من المعضلات، أهمها مداولته لمفهوم “الاستبداد”، ذلك ضمن دراسته لمؤثراته وقدرته على مواكبة تحولاته، بل تجليه في استيلاد صيرورات طبائع الاستبداد، في أغلب كتاباته ومكتشفاته التحليلية، لاسيما في كتابه “طبائع الاستبداد”، لم يكن غريباً، تعرضه لغدر القتل أيضا، ولينال منه المستبد مثلما نال من مجايليه، رواد الفكر النقدي المقاوم، من العلماء والفلاسفة والمفكرين، عندما قتل متأثرا بسم دس له في فنجان القهوة عام 2091، ليدفن في القاهرة، يعتلي قبره شاهدا آخر وليس أخيرا على مدى العنف التسلطي الذي لا يرحم أحداً، حتى مبدعي ذاكرته الحضارية الوحيدة التي يتباهى بها أمام العالم.

استطاع “عبدا لرحمن الكواكبي” أن يشخص سبب الانحطاط الذي تفشى في مجتمعه، ذلك طيلة بحث أستغرق الكثير من روحه، طيلة ثلاثين عاماً، أمضاها في البحث، وهو يرى” أفكار سراة القوم في مصر” تتخبط، وهي تبحث عن مسببات الانحطاط الحاصل، منهم من تداعى لكون أصل الداء هو الابتعاد عن الدين، آخرين شخصوا محدد الجهل كمسبب أساسي، لاستشراء ظواهر التخلف الحضاري، لكنه لم يتهاون إطلاقاً، في إطلاق كلماته، بجرأة تدين المرتكزات السياسية التسلطية، التي عملت على تخريب الوعي الحقيقي، مصادرة تمثلاته المبدعة، لذا كتب لنا:

“وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، وقد استقر فكري على ذلك-كما أن لكل نبأ مستقراً-بعد بحث ثلاثين عاماً.. بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم الباحث عند النظرة الأولى، إنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.”

هنا يكمن اقتدار “الكواكبي” في مداولة هذا المنحى الإشكالي، لكونه بالرغم من بحوثه المتعمقة، إلا أنه كان يدرك تماما مدى الاستيلادات الحاصلة من هذا المشكل البنيوي في التاريخ التسلطي العربي، بمعنى آخر أن اجتهاد” الكواكبي” بالرغم من تعمقه في مطارحة تحولات الاستبداد وتعدديته التي أسميها “إستيلادات الاستبداد”، إلا أنه أصطدم بصعوبة قدرة هذا الداء على استنهاض التحولات، التي تشكل المعضلة الجوهرية، الإشكالية الكامنة في مواضينا وحاضرنا، والتي تتقدم نحو مستقبلنا أيضاً، أصطدم بفعاليتها، تتاليها، وتعقدها إلى الحد الذي استعصى فيه البحث ذاته عن القدرة على رصد تجلياتها.

أهتم” الكواكبي” في بحثه الفكري، بأن يورد مفهومه للاستبداد أولاً، شارحا ماهياته، أصوله، مراتبه، التلفيق الذي تحقق ليستنزل له مرجعيات دينية وقرآنية، ليستخلص من بحثه:” والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة!”

لقد عمل” الكواكبي” على تعميق مقارباته في حقول معرفية أخرى، مثل الاستبداد والدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والتربية والترقي، لينتهي بدراسة مقترحاته حول سبل التخلص منه.

كل هذه البحوث المعمقة بالدلائل، حرص على استنفادها بتحليله لطبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك، بل أستطاع بجرأة لافتة، أن يحاور مكامن التابو الاجتماعي، بالذات عندما تعرض لمحور الدين وعلاقته بالاستبداد، لقد كاشف طغاته بحرية بالغة وأستعرض ما يحدث من أإتلاف مفضوح يوظف الدين لمصالح الطغاة، نستطيع أن نقدر مدى جرأة” الكواكبي” إذا تداعينا لمعاينة تلك الفترة التاريخية-المأزومة بحضور ديني لا يستهان به، بل لتسلط مؤسسي في كل منابره- التي كتب ضد التسويف والتزلف لولاة الأمر فيها ما يلي:

“الأمر الغريب، أن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسن حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكاً مكيناً، ويريدون بالدين العبادة، ولنعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئاً، لكنه لا يفيد أبداً، لأنه قول لا يمكن أن يكون وراءه فعل، وذلك أن الدين بذر جيد لا شبهة فيه، فإذا صادف مغرسا طيبا نبت ونما، وإن صادف أرضا قاحلة مات وفات، أو أرضا مغراقا هاف ولم يثمر، وما هي أرض الدين؟ أرض الدين هي تلك الأمة التي أعمى الاستبداد بصرها وبصيرتها وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدهما المشروع أضر على الأمة من نقصهما كما هو مشاهد المتنسكين.”

بالرغم من جرأة مشروع “الكواكبي” الفكري في تعقب ظاهرة الاستبداد، وتجلياتها المستولدة من صيرورة قسوته، وعنفه كمنظور سلطوي يستوجب التغلغل في كل شيء بلا منازع، بالرغم من كل ذلك الاستشراف الشمولي نسبياً، إلا أن هناك توصيف مهم للصعوبة التي أصطدم بها، تلك التي لم يستطع معها متابعة الكثير من الإحالات التي تعقدت لديه، ضمن محاوراته المتخصصة التي انتقاها لكشف علاقتها بالتسلط، هذا الأمر عبر عنه بموضوعية الباحث والمفكر في مقدمة هذه الكتابة، حسب تعبيره:” لكون القاريء لا يلبث أن يكتشف أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة”، لا ترجع هذه الإشكالية كما يرى البعض لمحدودية الحركة الفكرية التي عاصرها ”الكواكبي”، بل أراها رغم ما سمى بعصر “الانحطاط”، وحدوث الهيمنة الاستعمارية، كانت مرحلة نهضوية، فيما يتعلق باختراقات اجتهادية فكرية، مهمة وجريئة، يشكل “الكواكبي” أحد محاورها الهامة، الإشكال هنا يتعمق ضمن خطاب الاستبداد ذاته، لكونه يشكل حضورا لمفهومات سحيقة حول حلول السلطة بمستحقاتها العنيفة، علاقتها الرعوية المقتادة ”لرعاياها”، منذ بدء الخلافة العربية، تخلق الاستبداد السياسي، المرجعي، الطاغي، ليكون رهناً بتاريخ مثخن بحدوثه، واستمرار نزوعاته التسلطية والقهرية، التي صاغت عمر أجيال من البشر، بل عمرت قرونا من الوقت، كلها تعرضت لتحطم طموحاتها، تكسر أحلامها، لتخضع لمراهنات الاستبداد، بل لطغيان شروحاته التي تناهض لتعميدها العديد من دهاقنته، كما يحدثنا الكاتب “عبدالفتاح كليليطو” في حديثه عن الجرم الذي تحقق لا لغاء ومحو إبداع ”الحريري” وتضييع أغلب منتوجات ”الواسطي” الفنية: “ سأل رسام فارسي ابن عباس: “ألم يعد بإمكاني أن أرسم حيوانات؟ ألم يعد بإمكاني أن أمارس مهنتي؟” فقال له أبن عباس:” بلى، لكنك تستطيع قطع رؤوس الحيوانات حتى لا تبدو حية، واجتهد في أن تشبه تلك الحيوانات زهوراً.”

ليعلق الكاتب “كليليطو”: محو الرأس، هو محو إشارات عديدة عن العمر، والجنس والأصل، وطبع الأشخاص المرسومين، ومؤشرات عديدة نمطية ومزاجية. وهو بالخصوص محو النظرة، لأن الصورة أكثر ما تؤثر على من يراها بالنظرة، قطع الرأس يعني قطع الكلام. لن يمكن للصورة أن تغري، وتسحر، وتصبح بريئة وغير موجودة. ذلك ما حدث لمنمنمات مخطوط إستانبول، لقد قامت يد كارهة للصور بمحو الرؤوس من كل صورة.”

ضمن إستلابات قهرية وتسلطية تصل إلى هذا الحد، أو بمعنى أشد قتلاً، ضمن استبداد لا حد له، لا منتهى يتراجع البطش فيه أو يتراخى الخنجر فيه عن سفح الوريد.. على الأقل، كيف لنا أن نستحكم رصد تداعياته التي تعيد صياغة مبتكراتها على الدوام.

قدرة” الكواكبي” تبدت في خلق حالة حوارية بين إعتمالات متعددة لصيرورة القمع، من الطبيعي أن تتماهى بخصوصية المرحلة التاريخية التي يهتصر بها روحيا وجسديا وفكريا، بل ليخضع الى حد ما، لكل ما تم تداوله من رؤي نقدية لهذا الواقع الذي يحتضر على مهل، تلك المداولات تعرضت لصعوبة الكشف، لكنها على الأقل استطاعت أن تعري وتفضح ما حدث.

كخلاصة يراها” الكواكبي” لمقاومة الاستبداد، أو كمقترحات للحل كما يرى، أكد على ضرورة مقاومة الاستبداد بالحكمة والتدريج الذي يصفه:

“أن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثم إن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفة، لا يتأتى إلا في زمن طويل..” “ومبنى قاعدة أنه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به.”

لقد ناصر” الكواكبي” المواقف الفكرية لأغلب مبدعي موروثه وراهنة الثقافي أيضاً، ذلك بإضاءة دور المفكرين من الفلاسفة والمبدعين لمناهضة هذا الإستشراس التسلطي، بالمزيد من الجرأة النقدية الفكرية، النهوض الاستشرافي الإبداعي، بل الأدهى من ذلك، كونه لم يعول إطلاقا، على غضب الناس وانفلات مشاعرهم نحو الشارع، الذي كان يراها تعبيرا عن تنفيس مؤقت، لا يرمم طبيعة هذا الخلل، بل أكد على أن يتم مقاومته عبر:

“تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين بل عشرات من السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمني في الطبقات السفلى. والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذر الشديد والتنكيل بالمجاهدين.”

تلك المعطيات التي ساقها “الكواكبي” في تقديره للحلول التي يراها للتخلص من الاستبداد، هي ما يؤكد عليها حاضرنا العربي المبتلى بشرور أنظمة مستبدة، تجز رعاياها على صوان البيعة، يعبر عنها بأهمية أتقاد الرؤية الفكرية السياسية، لتشخيص طبيعة راهننا المجتمعي، ثم الاستدلال منه ببرامج تشكل البديل الحداثي عن تردي هذا الحال الفكري، الانحياز لدور الوعي القائد لم تكن بدعة تكشفت “للكواكبي” بل هي للأسف، شكلت صرخة احتزت حناجر كافة المبدعين من فلاسفة ومفكرين وشعراء، طيلة تاريخنا الإنساني الفلسفي الفكري، شكلت هذه الصيحة، عتادا، وذخيرة رؤيوية، لأغلب شراح إشكالاتنا الفلسفية الإنسانية، دوما كانت تشكل الاشتغال الواعي في تصديرها لنقودات تسهم في تشريح هموم الأمم وملماتها، بل كانت تعبر عن مواجهة حقيقة، جذرية المنجز، تلتاذ بمعارفها السحيقة والمعاصرة، ضد الطغيان الطاغي على مقدرات شعوبها، هذا، بالفعل، ما يسترعينا عند مقاربة كتاب “الكواكبي”، لقدرته على تفحص طبيعة المسببات وعلائقها، وأيضا لتخليصه لدور الوعي النقدي الحداثي على التصدي ضد انهمار حريات كائنات لا تستحق ما تحياه من حياة ملغاة تماماً.

عندما يمعن التسلط في مراوغة ضحاياها، ليحولهم بجهنمية الإذلال، لجلادين يعيدون صياغة الأغلال، أيضاً، عندما يتقن الاستبداد تعميد القتلة، تمجيد الجلادين، تجميل الذبح العلني والجماعي، هنا يتوسد الطغاة عروشهم باطمئنان بالغ، لاستمرارية مسارات سيوف العنف، وتسيد الإلغاء الحتمي لحرية شعوب، بتحويلهم لرعايا يقضمون العشب المتاح بصمت، تخجل منه القطعان السادرة، المعتادة على الثغاء بجرأة حناجرها، المهتاجة بحرية الرياح..

ليس هذا فحسب.. بل بتعويد الشعوب على أن تحيا هذه الحياة، كضحايا يؤجلون الموت..

درس المطر

(1)

آخر الليل، ترتمي نحو سرير هالك لا محالة، وهو يداري شقوة الحياة بمشقة الحلم، هائم تفتش ذاكرة الرحم وتأمل بهبوب الريش، كأنك تسرد لك جناحين ضد الموت، تبتدع ليديك كتابة حميمة تطير بك، ولا تغنيك عن لذة يعرفها الطائر وحده، لكنها على الأقل قد تحميك، وأنت تحاول النوم كل هذا الليل لئلا يصل النهار ويضج بك، تسألك ذات السؤال، الذي اعتدت عليه كل سهرة تفقد فيها عادة سقطة الجفن: لماذا أنت؟

بغتة.. تنهال عليك جنة الغيم، عزف طري يدشن رائحة النوافذ، ماء يزاحم صمت الشرفة، تصغي لسقف يهيم بعذوبة تتساقط لعناق الأرض، بعنف بالغ يهبط شلال الليل، لتسأل النوم العصي عليك: من يطرق باب الحلم؟

مأخوذاً بقلة صبرك، تغادر اللحاف، تنحذف نحو جدار يعرف كيف يحتمل النوافذ، تدير بعيداً عنك مخمل ستائر صالحة للنسيان، لتلقاه وحدك، لتراه حاضناً خوف الزجاج، ينهمر ببطء بارد، هامساً لذاتك المرغمة على مغادرة سطوة السهاد: أهلاً. لك المطر.

(2)

بقطرة تلو أخرى يفاجئ عزلتك، أينما كنت، ساهياً في شاغل البيت، مندفعاً لغربة الأرصفة، متاحاً لحبرك، وحده المطر الرحيم الذاهل الفاتن العاشق الصريع يداهم وحشة تتبدد عنك.. مذ بدا يتهاطل نحوك.

هو الماء غاسل عراء الروح من جور الوقت وجهالة العمر.

هو العارف كيف يفضح قامات الأسمنت في مدن لا ترأف بخطو ينسحل على إسفلت الطريق.

هو العذب المنبعث من بكاء البحر، كل شمس تزدهر بهبوب اللهيب، لترسل سياط من النار تأسر حرية موج مفدوح بجنون الريح، ليتصاعد بخار شفيف يؤلب حزن الملح.

من غير البحر قائد الغيم، مليك يرانا نحفل بامتحان الهطل، ما ينهض منه، ما يتساقط عليه، ما لا يتفاداه.

يرانا المطر: نمشي، مذهولين بأجساد تتعرض لجفاف الطريق وحرارة المدن، نهاتف ما يتأخر من شتاء أصم، بلا مظلات، ولا معاطف كغيرنا من أهالي العواصم الثرية به، ننتظر حدوثه الشقي، كل مساء عليم بأحوالنا، ليعطف على أهوالنا بهطوله الواهب أعمارنا شيئاً من طراوة الوقت الذاهب ضد خديعة مستقبل يجف على مهل.

لأنه المطر، طفل البحر وقتيل البرق يحكي لنا حال الموج، ضحية عشق الرمل، وحال الغيم شاهد الغدر، عادة هكذا يبدأ ليل السرد – لي على الأقل -:

لم تقصد أشعة الجحيم وهي تجر أعطافي نحو الهواء أن تنتزعني من مغبة البحر، عندما أطلقت لهيبها الناري المدوي كل نهار على جسد الماء، لكنها أرادت أن تجنبني محنة الموج، وهي تراه يقذف ذاته المثقلة بهدايا الوله من أصداف منسية وعشب مبلول ونجمة بحر مغوية لرفيقة القلب، تلك اليابسة اللاهية رفيف العشق.

ينداح البحر كل هبوب تشعله الريح نحو يابسة من الصخر لا تصغي لأحد، يابسة صعبة يحتلها قساة من الناس، يرتمون على مشارف رملها الساخن كأنهم يتلاهون عنها، أرض وعرة لا تكترث بانكسار موجات جريئة بالحب تهلك دونها، كلما حاولت وشوشة غياب الساحل بما يعتريها من مهالك الفقد.

هكذا تنكسر موجاته، دون التفات لصمت الرمل، بخجل تنحسر بعيداً تاركة خلف حسرتها، عتاب يتعثر بخطى مريديه.

(3)

أرادت الشمس نهضة الأمل، لترانا نتصاعد نحو قطيع الغيم الهائل، شيئاً فشيئاً نفقد ملوحة التعب والأسر، نودع غفلة بحر يترامى في ملكوت السر بعيداً عنا، نسمو نحو سماء ترحب بنا كطيور من ماء، نحلق حتى يحتضن السحاب ما تجلى منا، لنغيب كأسراب حب في مهب لا آخر له.

كنا غيوماً، نبتهل لمنتهى الأزل.. حتى أنهدر الرعد بغتة، وقصفتنا كهرباء البروق، هكذا بعنف لا مبرر له؟

لم نكن نعلم أن في العالم حقداً إلى هذا الحد، كدنا نهيم في فضاء شاسع لم نختر وصاله، لم نفعل غير ذلك!

فجأة، كالقيامة انتفض الملاذ على آخره، انتثرت أوصال السحب، لننهال لأسفل حقود، لنهب لسع لم نعرف منه غير عواصف تصفع السماء من كل صوب، لنسأل ونحن نصطدم بعبء الأرصفة: لماذا أخذونا من جموح البحر، ليرسلونا ثانية لجحيم الأرض؟

(4)

أوان المطر، كل قطرة منا:

داوت جراحاً ترسم سهاد الجسد.

دارت جفافاً صارماً يكبل العشب كل مساء أخرس.

صارحت بيوتاً من الآجر مثقلة بقرميد للوحشة يصطف.

رأينا ونحن نحتضر:

أشجارا تهزهز الغصون لتنهل من عذابنا العذب.

أطفالا يتصايحون وهم يتراكضون كلما شاغبنا هلع طفولة لا ترتد.

ورداً يرتوينا.

عشاقاً يدفعون الزفير لحنو زجاج يغمر الضباب، كلما انحدرنا رأفة بقلوب كادت تتخلع.

جذوراً ترتشف نداوة التراب ولا تيأس.

ثماراً تتحلى بلمعة الندى، وهي تنهل انهيارنا السخي.

صحراء وحيدة تحتمي بحدة الصخور وعرد النبات، تبتهل إذ ترانا.

كل شيء يسكنه اليباس، كان يترقب انحدارنا.

أن تنهض من ملوحة لا تراك، لتحلق نحو هواء ليس لك، لتحيا قليلاً وتموت واهباً حياة أخرى لكل شيء، هو ما نهفو إليه.

كلما طاشت حموة الشمس، وأنتهك الرعد بسيوف البرق رحم عزلتنا كنا نسأل: لماذا يفعلون هكذا بطفولة تشبه الماء، لماذا علينا أن ننهار.. قطرة.. قطرة حتى آخر الماء؟

(5)

حتى المطر لم يغفل عنه أحد، وأنت كغيرك من رفقة الحلم، من أصحاب الحياة، لا تنام كلما هطل الليل وحده، تترقب طرقة الماء كل نافذة تنبئ عنه، ساهراً.. تقرأ درس المطر، لتتقن غاية هذا الإبداع.. كل هذا العطاء الذي رغماً عن كل ألم.. يأتلق وحيداً.. زاخراً بالهبات..

ولئلا تنساك، تسأل مثله:

لماذا يفعلون هكذا وكل ذلك بك؟