آخر القساة

في صباح نادر، بينما كنت أكدس الورق نحوي لأشتغل على صمته المعتاد، صاح الهاتف، فأصغيت رغماً عني لصوت يخاف الخبر، لبوح أغمد سيف الهمس وغاد رني، لأغادره غصباً عني، منزوية نحو الجدار، أحدق بهدوء لا يصدق، لئلا أصدق أن ثمة قريبة للقلب – بعناية – رماها الموت، لأجهل أن هناك.. الآن. امرأة فقدت ضيافة الهواء لرئتين لم تسأما يوماً من حضوره المديد.

بين الذهول والذهان أمضيت قاس الوقت وأنا أتزود بملامح حنونة تسردها لي خزائن الذاكرة، لئلا أنسى أنها غادرت قبل أن يمهلني هذا الوقت الصعب وداعها الأخير.

للموت غدرا يطاق، بغتة يدعك وحيداً وحزيناً تتسربل بحز الألم، لا ترد عنك سخونة الدمع لا تسأله – لقدسية قراره المهيب- لماذا الآن؟

لماذا له صفة الصواعق إذ تشرخ السماء فجأة لينتحب الغيم؟

بعد ما استعصت على أسئلة الموت، إلتجئت لبيت مكتظ بالسواد، ملتحفة بحزن لا يقو على رد هجمة العباءات، أحذية لا تحصى تشغل عتبات تتهامس بريب عن سر كل هذا الخطو، حشد من الأكباد ادلهم بها الألم، مقاعد لا حصر لها مثقلة بحزن كسير يستسلم لمحنة الأجساد، في غمرة السكون المبعثر بهواتك الدمع، يتهادى صدى القرآن، رتم يهاتف خشعة الروح، ترنيم يهيم بحدود مرهونة لخوف المصاب، مجابهة مشكل المجهول، كلما علا ترتيل الحنجرة، همت النفوس أكثر، مصغية لمخيلة تسرد ظلام الوحشة الغامر، كفن من كانت تحيا بشهقة العمر.

ليس غريباً أن تصاب بعزاء الفقد، الغريب ما تصاب به من أحاسيس لا طاقة لك بها، هيل من الحزن يتضامن معك، لتبدو معرضاً لملامح ترمقك وسواك بصمت واحد وأسئلة تتشابه، رغم السكون المتقطع بنحيب خافر لا مفر منه، تستنفر الحواس لتعادل غياب الحياة المؤقت عنك، لترد نظرات مربكة ترسلها نسوة مفعمات برهبة الموت وملهيات عن درسه في آن، بلا مبرر مقنع -على الأقل لك وأنت لم تزل تبكي ما راح منك- تفزع من تشبثهن العنيد بكل مكر الحياة.

نظرات يترجمها سيد المكان والزمان، الحاكم بأمره، الموت المبجل بسطوة تفتح القبر، لينحدر جسداً مرشحاً لنهايات التراب، ملفوفاً بحرير الكفن بعد آخر وداع لغمر الماء، جسد تعطر بكافور الأسى وأوراق الحناء تمجيداً له، عابقاً بزعفران يؤله الذهاب، مضمخاً بصندل العرس وعطف القطن ورعاية المسك وماء الورد كأنه لزفاف الغدر يمضي.

كل هذا الود يفيض بعناية الأقرباء، أقرباء توصوا بشموخ الجثة آن الموت، أكثر بكثير من عنايتهم، وحنوهم على الجسد الذي كان يراود حلم الحياة ليحتمل عدوانهم.

للميت حظوة أراها لا تطاق، بالذات حين هبوب الأصدقاء، لأسأل: لماذا لم يصدر عنهم كل هذا الانفعال بذات الحب والحنان وهو وديعاً بينهم يتنفس ذات الهواء؟

لماذا وهو ذاهب للموت يذهبون إليه بخشوع رأفة لا توصف؟

هل فاض الوله بهم -الآن – والقلب يلوذ بسكرة القبر؟ أم هو الندم ما لا براء منه.

للميت قداسة تتنزل على جفوة العائلة كلها وعزلة الجيران وحيرة الأصدقاء، حتى ألد الأعداء تراه يتبدل من حنق مسبق لا يفسر، إلى حب لا مبرر له، سوى ذعر الانطفاء المبكر، هيبة العزاء، ما يبعث لهواء البيت رائحة التراب وخوف النسيان.

هكذا يتوافدون والأحذية تتلاطم نحو الباب، الباب الوحيد الذي عليه مجابهة كل هذا الانتهاك، هكذا يسرفون في هجمة الوجد والتذلل نحو مآقيهم التي تعجز عن هطول الدمع، حتى تسعفهم آهة مفاجئة، يتبعها سيل النواح.

ليس الميت وحده من له زهو تفازع الناس، لكن للأقرباء الأحياء حضوراً لا بأس به من حنان الغرباء، لهم شفاعة مريرة تتجلى في خطاب ممل للمواساة، يتكرر، ليصل الآذان ممسوساً بفنون التعازي وأداء الواجب البارد، المصحوب ببكاء جاف، لا مرد له سوى شراكة النشيج.

سبعة أيام من الحزن وثقل العباءات، كل يوم يتلو ما بعده، ذات الطقس يتردد كأنه صدى انهيار النهارات، هدير الأمسيات، لا يتبدل فيه سوى رتم الألم الذي يبدأ عتياً شرساً كأنه نهاية الهواء، حتى يتلوى وهو يلملم حقائب الجزع ليبتعد رويداً، ملوناً خطاه بمشاعر تبدأ من خلجة الموت، تمر على ترانيم الخسارات، لتصل واهنة إلى شفاعة الصبر.

عناية الموت بعائلة الفقيد لا مثيل لها، تبدأ من مقبرة فارغة تكتظ فجأة بمواكب المشيعين، ليمضون وهم يحملون نعش جثة مدللة برفاهية الموت – حارسها الوحيد – محمولة على الأكتاف لآخر مرة، منذ طفولة تتذكر حنو الأكتاف جيداً.

يصطف ذوي القرابة، وهم يتكاسرون خوفاً وحزناً بليغاً يكاد يصل المثوى الأخير، حتى يستقر جسد الفقيد لدفء التراب، لنوم لا يقظة فيه، يتفازع الأهل برجفة لا تبدو لسواهم، لينهال التراب وهو يغمر هواء الفراغ بين الحجر، مغموساً بالأدعية والتراتيل التي لا بد منها لتغفو الكلمات في وداعة جسد أتعبه حديد الحياة.

سبعة أيام تتصل فيها بأهل وأصدقاء وأعداء يتجاورون كالرمل، يتعاضدون كقطرات الدم، يتوحدون لرشم الذاكرة بتفاصيل تحفر دربها الموجع – بهدوء – ضد نسيان جسد قسى عليك بذهابه المبكر.

هكذا يتآزرون لتشييع الجنازة في نهار صعب، فيه يرتلون صفات الفقيد، ويدعون ما تبقى من صور ليتكفل بها الليل الحليم، مليك الخيال، من لا يتأخر ليسرج الصفات ويرسل صعق الكوابيس التي تبالغ في نفض الأعضاء.

الموت عدو ضرير، ينتضي ضحاياه بفراسة الأعمى، مخلب غرور، لا يكتفي بما نال، منذ أول دورة ارتآها هذا الكوكب اليتيم لعبة له، ضد سأم الوقوف كسيراً في سديم الفراغات، تتربص به عداوة النجوم زاعمة انهياره الوشيك، وحيداً يتقن قدرته على البقاء بعبث الدوران، دار ثم دار حتى أحتال على الفناء، لينسى أن ثمة كائنات – كانت للحب- اقتدت بفعلته اليائسة من حتم البقاء، كائنات ظلت تدور مثله، لكنها فقدت الدليل لتدور حول سواها، لا حولها مثله، لذا لم يتأخر عنها الفناء.

وحده الموت -آخر القساة – من يتجرع قسوة الناس كل قبر، ليراهم يصطفون بذعر حوله، لرثاء جسد ليس الأخير؟

 

ليل شهرزاد

(1)

الصخرة: امرأة تجف على مهل

ولا تغفر للهواء

هل كانت تروي بعذب الشغاف معجز الحكايات، كل ليل يطيل العذاب، لتسري نحو غلالة الروح، تكاشف نهب المصاب، أم كانت تفر بانهيال الروي لتنجو من شهامة شهريار، هذا الأسير المتكئ على وحشة الحرير، وترف الديباج يهف له حفاوة الهواء، أمام سياف قرب العرش يتأهب سقطة العنق.

هل كادت تسرف في بدعة الوصف، لغواية المليك الذراف عنف الحواس، تبالغ في مهارة الصمت وتلاوة الخيال لاقتناص سهو الجلاد، أم لتحاكم ليل الشرق… ومن سواه أغلي بهدير القلوب وبلوى الروح.

تتفرد شهرزاد بأبهى أسطورة اختبرت متعة تتالي الكلمات، موهبة الكتابة على هواء الليل، امتحان جدوى الكلام لدرء مغبة القتل، اسطورة نالت من تاريخنا كما لم يفعل أحد، بحرية شاسعة تحكي رتم جسدها المبذول لمصير يتأرجح بين شفرة لذبح العنق أو إصغاء لسلطة لها سطوة الأمر كلاهما هلاك مؤجل، صيرورة لا منجاة منها غير تتابع الحكي.. بترف مخيلة تنضح السحر الذي لاح لها، مهب لا ينتهي رأفة بهواء يديم نهضة القلب، كتابة ضد الموت، كأنها تحكي لئلا تموت، لئلا يقتحم السيف وريد عزلتها، ويجتز دفق دم كاد يسند جسدها طيلة الحياة.

شهرزاد رمز عتيَّ، داول محنة القول الفاضح، الطالع من خفايا الذات، لذا أقل ما عليه أن يعلو بذاك الصوت: برهان الرفض: سلاح القتيل: جزية الأمل.

شهرزاد من مكانها القدير كضحية تنتظر، امرأة تقول ما تكبت، كأنها تكتب عن ضيم ذاكرة تتناسل، ضد نير طغى بحرية الإماء، جور لم ينل من القيان فحسب، بل استبد بذوات الخدور ورهافة المحصنات وراء السور، كل النسوة اللواتي تداعين لتاريخ اختض وداعة القيد، ضد وأد لم يتأخر.

 

(2)

الليل يلهيه السهاد، كان السيد العبد – شهريار- يذعن لقدرة خيال قادر على مشافهة رهائن الأعماق، المكنوزة بألم وذكريات تنتشل النصال لتدسها بعناية تلوب بمسراه.

كان صوتها، يرسم له حياة الحلم، يستفرد به، يؤجل تهديد الضوء، صيحة الديك المنذور لفجيعة الفجر، كان كغيره من الولاة لا يتعظ ولا يعدل، وحده يخاف فضح النهار لقتلاه المهدورين على جفوة المشانق، أسراه المغلولين برنين الحديد، زنازينه المكتظة بدواهي الصريخ، شعبه المشرأب حتى الخنق بضيق الهواء.

كان شهريار ولي الدم يهاب النهار: رادم الحكاية، لذا تمادت في الحكي، لكونها تتقن ما يفضح الصوت وما يفعل الصدى.

مثلها لا يسأم الظلام: ولي عهد المساء، لم تكن تحكي عتم النفس لتؤانس وحشة شهريار، لكن لتنتقم، كأفعى تذيع سهو السم ببطء، لتراه – وهو المليك المعتصم بنصال لا تخطيء دمها – يستنفر عتم الحواس، مشرئباً بجسد كأنه في جوي الجحيم، يتمرغ كل حادثة بخدر السرد، يلهو بحبكة تنال منه وهي تندلع هاتفة بسيرة شعب تلظى على يديه، كالبحر وهو يحذف الموج، تثير الحكايا ببراعة رياح تشبه الأمل نحو مهب صعب أوله اليأس.

جابهت شهرزاد بحكمة وعدالة الكلمات إرث كل الضحايا من عذارى وسبايا، غالبوا قدرة القتل فما استطاعوا، حتى إنهدرت ذات عرس هاوية الليل – شهرزاد – واستحثت غريزة الأنوثة الكامنة للدفاع عن حياة لا ترتضي السفك طريقاً، استنزلت صيحة تدفع الكلام ليصهل كل ثأر، في تحدي الجائر جهراً.. هكذا دوخت سلطة شهريار، دعته ليصغي -غصباً عنه- لانفلات الحكي، يفغر واه الأشداق، منصتاً لصاهلة الصوت.. شهرزاد.

(3)

هكذا عرَّت كرسي المستبد، أمام عرش مخيلة لا تأتمر إلا لمهب الكلمات، لنراها تتقن تحفة صوغ الحرف ليخترق شمع السمع لديه، مذهولاً بخطو السرد، سرها العصي على الكشف.

منذ آنذاك.. حتى الآن، كلما قرأنا قصصاً روتها له، نغور في كمائن الرواية، نحترف عصي التأويل، لنحصي عذابات امرأة شافهت بأس الحياة.

امرأة جايلت عبء تاريخنا، لا لتذود عن النساء وحدهن، لكن لتحاكم منظومة لا تمل شره القيود، شرائع استهوت نزف ضحايا يلذن بقبر البيوت، يرتهن لفتوى قبائل أرست سياطها، وتعسفت في تحوير – جنس الجسد- إلى سلطة يتباهى بها الغفلة من الذكور.

لذا لم تتعب وهي تفضح المسكوت عنه من ألم اعترى شعباً اعتاد الهمس.

 

(4)

كادت كالليل تفضح عناء الضوء.. حتى يدب العياء بجسد شهريار ويؤجل مرام القتل، تبوح عما أصابها من وأد جائر، ما أن تبدأ حتى تتحول سلطة التاج، سلاح الصولجان وكل ما يحتمي به شهريار إلى اسطورة من الكلمات، تزدهي بها زمردة البوح شهرزاد، يالها من سهرة مدججة بحراب الحروف.

وشيكة على الموت، لا مفر أمامها غير أن تخدش فاشية المشهد، بكلمات امرأة حاصرتها أوتاد القوم طويلاً، وآن لها كخيمة طال بها الركوع، أن تصدع حرية الصحراء بصوتها النبيل.

لنرى النقائض تروي نزاعاً مريراً، بين حنجرة تتلو المصاب بكلمات ترث الجحيم، وسيف يتغنج بعنف ذاكرته، ألف ليلة – ونكاية بهم- ليلة أخري… بينهما شهرزاد وشهريار وعبيد يؤثثون القصر بهمس للذل.

هكذا أضفت امرأة تؤجل موتها أسموها – شهرزاد – لتراثنا العربي نصاً يفوق قدرة الوصف والاحتمال، لا لجمالية تتصل بحرفة الحكايات كما ارتأى الرواة.. لكن لكنز يحتدم بحريف الحكمة، حرية الحرف، طعنة الذاكرة التي رأت ما نرى الآن، وما سوف نرى حتى.. آخر الكلام.

لم تزل وحدها

(1)

قبل القبر، قالت:

“كيف أصنع رأساً من تلك الصخرة التي تعتلي منكبي؟

كيف لا أروي تلك المساحات الشاسعة من الرمل؟

وأنا لا أملك إلا قطرة دم واحدة

منحني إياها جمع غفير من الأجداد

وأخبروني إنها سري، فانتابني نوع من الحيرة:

كغد أدخله جسدي، لا لضيق المكان، وقلة الشرايين،

بل لأنني لم أعتد على الوجود بعد؟”

سنية صالح

(2)

“لم يكن الاكتئاب مجرد حلية تتحلى بها الكتابة النسائية، لقد كان نتيجة، وهي نتيجة تبدو الآن وبعد زوال الحدث طبيعية ومتوقعة ذاك لأن دخول المرأة إلى الكتابة هو دخول في منافسة سافرة مع الثقافة الذكورية. هذه الثقافة الراسخة والمهيمنة، وهذه الثقافة التي أحتكرها الرجل لنفسه على مدى قرون. ولم يك من السهل خطف القلم من يد الرجل. ولقد أحتاج هذا إلى ثمن باهض دفعته المرأة كاملاً ووافياً. ولم يسلم الرجل بالأمر فقد جابه المرأة مجابهة شرسة كما أن الثقافة ذاتها لم تسلم قيادها للأنثى. وهي ثقافة تمكنت الذكورة منها حتى جعلتها مركبا صعبا وشعابا وعرة. وكان لكل ذلك أثره على جيل النساء الرائدات.”

د. عبد الله الغذامي-المرأة واللغة

(3)

من” مصياف” في سوريا، بدأت تجربة الشاعرة “سنيه صالح” – 1953-1986- في التخلق الإبداعي وهي تندفع كما الصخرة، لتدون القليل المباح لها من الشعر في “الزمان الضيق”، “حجر الإعدام”، “قصائد من بيروت”، ” غبار بيروت” وأخيرا وهي في وحشة الكفن عمدت ورقتها الأخيرة، التي أصدرها زوجها الشاعر محمد الماغوط، كتابها الأخير القاسي على القلب، ذاك الذي صاحبها حتى سكرات الموت:” ذكر الورد”:

“سوف يترنح رأسي تحت عصي الكلام

وليس في يدي سوى ورود ابنتي

أهش بها..

أرى أسناناً حادة، ليست رماح الحروب

أمضى ومخالب تلتقطني من الأعماق

وليس غيرك ما يحميني أيتها الورود.”

تجلت الفرادة في تجربة” سنية صالح” عبر قدرتها على تحويل الكتابة لحياة أخرى تحياها وتحوير الكتابة ذاتها لتشبه حياتها، من يقرأ لها لا يشك في حدوث هذا المرام، لكونه يشكل مهمة لحوحة وصادقة، امتزجت بدمها وحبرها لتحيا -وحدها-وتموت بهدوء شديد.

كتبت” ذكر الورد” لتدعونا لدهشة الأسئلة وهي تحتضر كانت ملهية تماماً عن موتها المتعثر نحوها، تصف لنا أشد حالات اليأس والألم والفرح أيضاً.

وحدها على سرير أبيض كانت تلازم بياض الورق، مصابة بداء يحتل خلاياها برعونة سرطان لم يدع لنا وقتاً لنصغي لها أكثر، لنصغي لشاعرة وفية لمشقة اللغة وسنديان الروح وهو يتصدع بكبرياء الجسد.

كانت تروي الموت، مفتونة بالورد، نديمها الأخير في غرفة تضج بمكر الدواء، بانتهاك المعدن لطراوة أوردتها ونفاذ مرارة المصل لرهاوة دمها، تجابه حيرة الأطباء. بحيرة أخرى تعترك ومشاغل الشعر المبدع الصعب.

لقد أهدتنا عذاباتها، كمن يسحق الدم المصاب بوفير الحبر المعافى، يعيد صقله بالأنين، ليتوسد تجربة الشعر العربي كحجر زمرد مؤتلق الخواص والفرادة، لم تبتعد عن ملاغاة اللغة كلما أشتد الألم، بل كانت تحيك بزرقة الأصابع وصارية القلم كل ما يعتري تاريخنا من خجل ووهن.

كانت تلك السنية المكبلة برواج الحقن وهدير المهدئات، تكتب بحرية بالغة كل يقظة تهزم بها غيبوبة الاحتضار، حيث تنتشل يديها من صقيع الرعشة لتتفقد ما أضاعت من قدرة الحروف، لتتنفس كلمات عصية على الفقد:

“أضغط الجلد والعظم

لأخبئ العميق في نفسي

لكنه يفلت عنوة ويسير نحو مصابيح المطابع.”

رغم المرض الذي يعدو ويدمر كل ما ينبض فيها، تكتب عاشقة الليل، كساحرة تزاول الحرف، تؤجل هجمة الشياطين نحوها، كلما تمادى القبر في الاقتراب منها، تمادت أكثر في الكتابة على أصداء أنين المرضى، واعتنت أكثر بترجمة العويل ورعدة الاحتضار الطويل، في منصف الليل تظل وحدها، متيقظة، تداري وحدتها بأنة هنا وصرخة هناك.. لتكتب:

“لا شيء يكسر وحدتي. ” لست أهذي لكن شقائي هو الذي لا يصدق. ” جسد تحكمه الخسارات.”

حتى ينكسر الليل، وترفع السماء فضيحة الشمس، تصحو “سنية صالح” مذعورة من اقتراب نهار آخر من الألم، نهار لن يخلو من زفير الوجع، وغليان الانتظار، لاقتراب جنازة تدعنا نشك كثيرا في قدرتها على كتم نار هذه الحنجرة.

كلما قرأت لها” الذاكرة الأخيرة” وهي تناجي الوطن، تعرفت أكثر على مدى النبل الذي يواكب شفافية شعرها، عندما تصفه:” وطن يثقبه في الوسط قبري كهاوية.”، أو تنادي طفلتيها” شام” و” سلافة” هكذا:

“ينادي مناد على الموت.. فأتقدم

لكنني أخرج من ثقوبه العليا

كما دخلت ممتلكة قصدي وغاياتي من أجلك يا أبنتي

يا ابنتي ان تاريخ المذابح وأجساد النساء مسيرة العبيد الفاشلة

الأعناق المنحنية أمام الطغاة والجلادين، جميعها تمنعني من الاقتراب.”

“يا وطن شام وربوع سلافة

جميع خيول الشوق أطلقتها صوبك

ولا تزال مجنونة في دمي.”

(4)

كلما قرأت للشاعرة سنية صالح، قاربت وقتا مذبوحا يؤرجحني كما للشنق، كلما تمعنت بإيقاع غريب تدفعه نحوي عبر وصاياها، ضقت ذرعا بانعدام عدالة ترعى مشهد الشاعرية العربية، يتقدمها أساطين البلاغة وحماة الإبداع الذكوري، كيف تسنى لهم أن يتغافلوا عن كتابة تقاطرت من جرح الذاكرة كما الدم القتيل. هكذا؟، كيف تم تجاهل تجربة ثرية بالرؤى والتأمل الشاعري والرهافة كتجربة سنية صالح؟ لا أبالغ أن قلت، لقد تعرضت هذه الموهوبة لعذاب كان أقله القبر، بل لقد كان القبر رحيما بها أكثر.

تلك الشاعرة القتيلة كانت وهي تكتب تتدثر بوجع لا يطاق، وحدها – كما هي الآن وحدها- في قبر يتسع، ليقرأ لنا آخر كلمات عانقت دمها قبل أن تغادر الروح:

“بينما كنت على الرصيف جذبني اثنان

وأخذا يجرانني حتى وصلت إلى طرف الهاوية

فقذفا بي، وأخذا يردمانني بالتراب

وكنت كلما خرجت أعاداني

كان خوفي فماً يناديني فانهض وكان

نصف البشرية يصرخ في أذني اليمنى

والنصف الآخر يقبع صامتا في أذني اليسرى

العاصفة سحبت خيط الكلام من فمي

ملوثا بالدم منذ ملايين السنين

قلت…”.

(5)

أسألكم: لو كانت الشاعرة “سنية صالح شاعرا، هل أصابها كل هذا التغييب والتهميش والنفي والموت قبل القبر بكثير؟!

(6)

لو كانت تكترث بسيادة منظومتكم الذكورية اللاإنسانية على الإطلاق، والتي تحكم وتتحكم بعالمنا، لما قالت:

“هيا نقتسم الكون:

ما أمام الأفق لكم

وما وراءه لي”

ثقافة الاستهلاك

(1)

1999

من أين يستمد النهب قواه ليستشري أكثر؟، كيف له أن يتغلغل في كل مرافق الاقتصاد، ليحوله بقدرة مستغليه لمهب استهلاكي بشع، لا يشبع من ركام السلع التي تتهاطل نحونا، بل يعمل على تدوير عوائدها بامتياز، وتسويق بريقها، لارتشاف آخر قطرة نقد من قلب المستهلك، الغافل، المطمور بزيف هبات التمدن الذي يعتقد بنشوتها الباذخة؟

كيف لهذا العنف النقدي أن يحول العالم لحصالة واحدة، تستولي على جيوب تذرف الدراهم نحو مصارف المتنفذ، والساعي لتخريب تاريخ من يستأهل بجهله كل هذا الدمار؟! نفوذ يستبد، عبر طمس أسواقنا وناسنا وفلذات أرواحنا، أحفادنا، جيل المستقبل بالكماليات والمستحضرات المبالغ في ترويجها، والأدهى ما يترتب على ذلك من تشويه لثقافتنا العربية، حتى تتلاءم وبنية غير منتجة، بل مبتلاة بشعارات تنموية مؤجلة!!

نهب شرس لا يكترث إلا بهوى التدمير، وهو يخرب حاضر الإبداع ليؤسس لثقافة الاستهلاك، نهب لا يجد من يتحداه ويقاوم نفوذه الشرس، لذلك يستنسر أكثر.

(2

لا يغفل الناظر لمشهد الثقافة العربية وبالتحديد ما يتلاطم منها في عواصم الخليج، عن مدى استبدادية النهج  الاستهلاكي، الذي مهدت له، ورعته أرضية اقتصادية، استطاعت أن توائم بين طفيلية الشركات المتعالية الأذرع، اللامنتجة، اللاهفة لخضرة النقد، وبين إستشراس إخطبوط إعلامي مدمر، بدا يغزو بمجساته الألف، كل الحصون الثقافية والحضارية للمنطقة العربية حتى أهلك – أغلب – ما تبقى لنا من شرفات إبداعية كنا نتباهى بمنعتها وازدهار عطاياها.

هذه الكتابة ليست يأساً، بل أملاً يستدرج أسئلة اليأس، هي قراءة تتيح لنا شيئاً من صراحة المكاشفة، هي درباً ينحاز لأقل الأمل.

ثمة خطورة فعلية تشكلها سيادة السوق وطغيان الاستهلاك، على قيم وحضارة الشعوب، هي حرب دون أدنى شك، مموهة بلغات رجال المال والأعمال، وأحياناً دعاة الثقافة، حرب لفعلها التدميري وللخراب الذي عم ولا يزال، لمرأى أنقاض الحلم وخرائب الأمل.. ناهيك عن هول حاضر يكتظ بجثث تمشي نحو مستقبل لا تراه.

لقد تمادت هجمة الاستهلاك بتخريبها العميق للوعي الإنساني، عندما تجاوزت حد دفع الناس نحو مغريات السلع وتكديس البضائع، لتبدأ في تخريب الذات وتحوير المبادئ والمشاعر لتكون قابلة للاستهلاك، حتى الإبداع شرفتنا الوحيدة، تعرض لاغتيال منظم يسعى لتحويله لثقافة للاستهلاك.

لا أسمي ما يذبح عمرنا الحضاري “ظاهرة” لكونها اختلال حضاري، هزم يومي، تخريب متقن لإبداع الطبيعة وفكر الإنسان، مبتغاها إلغاء المنجز الإبداعي بكل تجلياته وتاريخه المشرف، طمس مواضيه، لجم حرية كلماته المراهنة على صرخة صوتها الإبداعي، وسط كل هذا الدخان، أسمي ما يحدث انقضاض تام للخسارات، خلقه فعل الكبت والنبذ، الذي طال بأعمارنا، بما آل إليه من سطوة تتقصد مجابهة حنجرة الصوت المتفرد، المبتعد عن ضجيج صاجات انتهازية تلتهب، وهي تجز جرأة الحرف وتحز حرية الجسد، كل هذه الموانع سعت لصد صوت المثقف والمبدع المندغم بصيت تاريخه، الحريص على الدفاع عن ذاكرته، ليرى ما يتهدم من حلم كان له، وحيداً يجاور حرية الورق، منتزعاً بسالة الحبر لمحاورة روحه، وحدها كمفر أخير.. لماذا ما يحدث لنا؟ هل لنا أن نسأل على الأقل؟

عنف النفط:

كيف أسهم نبع النفط كعنصر بالغ الأهمية لتنمية الكائن المعاصر، رعاية حضارته، تدشين عمرانه، في فعل تشويه وتدمير الحلم، عن أية نهضة نتحدث ونحن أمام هذا المصاب لا نقوى على غصة الهواء لا الحديث عن حرية الشهيق.. وحدها حرقة الزفير أمر متاح ومشروع ضمن مشاريع استنهاض الواقع الثقافي الذي وقع فعلاً.

عندما نبدأ بضخ النفط لنبث الطاقة لبرد الغرب، مقابل فيض النقد الذي أنهال على المنطقة بالرغم من تقافز أسعاره، عندما يغزو الزيت عواصم العالم الباردة بشروط أشد تعسفاً من خسارته في باطن الأرض، حتماً ستتحول كارثية هذه العلاقة الغير متكافئة إلى مصدر تدميري، ينشب بين شعوب تستورد وتنتج وشعوب تصدر نفطها وتستهلك حتى النخاع، كل هذا ضمن معطيات علاقة أخرى مختلة أيضا بين الحكم ومحكومية، بالذات حال انعدام صوت المؤسسات المدنية، وقنوات التواصل الحر لتمثيل صريح الرأي، هذه السمة تستمتع برفاهية كبحها كل شعوب العرب، من لا يتمتعون بحق واحد يجيز لهم مساءلة ما يحدث.

أمام ميزان مختل كهذا، لابد لموهبة إلهاء الشعوب أن تتفنن في تنويع مصادرها، تلك التي يجيد تأطيرها كل دهاة نهب الأموال، ليعم هذا المبتغى لابد أيضا من إثراء أقنيته، ليصل بطشها لكل ملامح الوطن الرافل بشعوب لا تنشغل بتشغيل الحواس ولا السؤال، ولضمان بقاء النهب سارياً لنزف بئر الذهب الأسود بشروط أقسى، لابد لمنافذ القول إن تغلق أو تموه، لتكف عن فعل إرسال حرية الصوت.

هكذا يلعب النفط بمردوده الاستهلاكي دوراً عنيفاً في صحراء كانت ترفل قديماً بكل تاريخ الإبداع العربي، لقد مهدت فداحة “الانفتاح” الاقتصادي الاستهلاكي القادم من وفير النفط أيضاً، لدورها المتميز في تهديم الجسر- على الرغم مما تبقى منه – بين الماضي المبدع والحاضر المرعب في أغلب عواصم العرب، التي كانت تشكل شرفات ثقافية بامتياز، لاحتدام حركة ثقافية تدعمها جمهرة لا من المثقفين فحسب، لكن من جموع الناس التي كانت تقرأ فيما مضى، وتحاور، وتكترث بكل كتاب يصدر، باندفاع كانت تسعى لتتصدر المناشط الثقافية، هذا بالفعل، ما تم تدميره، وتجفيفه من حول ندرة من المبدعين، التي لم تزل وفية لذاكراتها وانشغالها بمنجز جمراتها وتاريخها، رفقة يتوزعون على يباس ما ينهزم من هذا الوطن العربي الممتد من الهجس إلى اليأس.

(3)

ضمن معطيات كالتي ذهبت إليها، تنتوي هذه الكتابة أن تترصد شأن عائد النفط بمردوده الاستهلاكي وكيف أعمل حفاراته الألف، لزحزحة كل برعم أراد أن يتشبث بخصب الأرض ليفضح ما يراه، ليسأل: كيف انهدرت سيول الاستهلاك لغمر حرية الهواء، حدودنا الأبدية؟، كيف طغى حمى الاستنزاف ليشمل كل شيء؟، كيف انهمرت علينا صحافة نسائية أعادت المرأة لمستقبل البيت،و لطنجرة لا ترى فيها غير طهي مالذ وطاب؟، كيف تم تحضيرها وطمسها بالمستحضرات على أبهي زينة لإلغاء عقلها وتاريخها؟، كيف ابتلينا باستهلاك مخيف، استهلاك يعمل علي تشويه المشاعر الإنسانية، تدمير كل ما يتصل بالعائلة والطفولة والقيم والعواطف وكرامة القلب؟

سوف نتقصى كل هذه التحولات لنصل لردم الثقافة، وهنا يتجلى الخطر الشامل، عندما يتم تدمير ذاكرة الشعوب، ليتعرض أتون روحها للزوال ولا يتبق منه إلا رماد يبتر.

للبدء باشتغال يحاور كل هذه التحولات، نتعرف على منشأ أول الشرور: وأد الحرية.

لقد تحققت الحرية من حصيلة دفوعات حضارية تصدت لها شعوب الأرض، احتراب طويل مجلل بكل منشأ معرفي، حضارة الآخر- سمه الغرب أو ما شئت- المتعرش على جلالة الفعل الحضاري المبدع، أستطاع أن ينتزع حرية جسده وحصن روحه، انتزاعا لا يختلف عليه أحد، ليؤسس لحضور قانوني للمواطنية وقداسة الانتماء، حرص واحترام تصاعد مسئولا عما يحدث لهم، كل هذه الحرية جاءت لتتوج قهراً دام قروناً من العمر، تصدت له الشعوب في دفاع أصطرع بدم تعرش على أشلاء أسلافهم، وهم يحتدمون في ساحات تدفع صرخة الجموع وقبضاتهم عاليا، غير عابئة بمقاصل كانت تشيد على الساحات وتشتد على صلافة رقابهم، يشكل غياب الحرية معادل موضوعي لانتهاب الشرور والجرائم والملمات كلها، كونها المحامي الأول عن براءة البشر، يكفينا أنها لغة الأصل، ثغاء الطفل وقد ولدته أمه حراً.

(4)

لتحيا في عالم استهلاكي، لابد أن تكون فيه مذبوح الحنجرة؟، صامت على الدوام، تخاف خارج البيت، تلتاذ بالحلم والحرف: حريتك الوحيدة، علك تنسى أنك كنت هناك، تجهل كوابيس الليل وتهاب نهب النهار، الحبر نارك الوحيدة ضد كل هذا الظلام، تراك كائناً مكبوت العضل، مهصور القلب، لا تعرف إلى أين أو متى وكيف؟!

إنسان مؤجل الأحلام، مقصي عن فعلك الحضاري، لغرض تعمير هذا الكوكب بمكتشفاتك لابد أن تكون كائنا حراً.. لذا لنا أن نرى ماذا فعلت بنا هجمة الاستهلاك مع غياب ذلك؟!

 

في هوى التدمير

في عنف الاستهلاك

(4)

كلما أنثنى غصن

عرفت أن جيشاً من الرصاص

قد أضاء الحقل.

(5)

ليستبد الاستهلاك ويطوح بسلعه ومنتوجاته الرغيدة أمام أعيننا، لا بد له أن يكتسح عقولنا قبل ذلك، يمسح معارفها ويخل بموازينها الفكرية ويشوه ما تخلق من وعي فطري ومكتسب في آن. ليس لهذا الإخطبوط الناهب حاضرنا أن يتعرش ويستفحل دون أن يبعث مجساته الألف، لتتغلغل وتنخر في كل معطيات وقتنا الراهن، لنشهد على ما نراه:

1- إعلام متواطئ ومبتغى الاستهلاك، يغمرنا وأطفالنا ونحن في بيوتنا بما يبثه من وهم، لغو ينفذ من شاشة العرض التي لا تؤخر كل إسفاف فني وتوليفات منوعة لتلهية الوقت بما تصطخب به، من هواتف لا تتوقف عن الرنين، لتبلغ عن مدى إعجابها بمقدمة البرنامج، كذلك كل ما تصدع به الغرب من مسلسلات مدبلجه وأفلام عنف وكوارث تعمل على تصعيد عدوانية بالغة في طفولة صاعدة، طفولة تراها فجأة تتبنى غرائز وحشية، وهي تساند ذلك المصارع المزمجر الحامل كرسيه الحديدي ضد الآخر المتسلح بمنشار كهربائي.

لقد تحول التلفزيون إلى شاشة لترويج الجهل وبث الرعب، بالذات عندما هلت الفضائيات التي أضحت تروج لأشرطة دموية، كل هذا في غياب كلي محتوم، لأي عرض يحترم أو بالأحرى. لا يدمر روح المشاهد، إعلام فضائي لايعمل على عرض الفعاليات الحضارية التي تحتضنها البلاد، أمسية موسيقية، شعرية، مسرحية قديرة بهذا الفن لا ملهى يقام على المنصة، لقاء فكري أو حتى ترفيهي لائق، عروض المهرجانات السينمائية والمسرحية التي يتم متابعة أحداثها دون أن نتمكن من مشاهدة إبداعاتها، أسطع دليل على التغييب الذي ينتهجه هذا الجهاز، ابتعاده في الآونة الأخيرة عن نقل كل الندوات، المحاورات التي ادلهمت في الأندية وهي تطارح قضايا الشأن العام، في حين تتابع البيوت ما يطلبه المستهلكون.

2- لقد أصطدم الجيل الجديد وهو يواجه الحياة العربية، تحديداً، بقوى اقتصادية تسعى لتهميش الجانب الفكري الجاد وهي تدعوه للاستغراق في المتع الهزلية بكافة تلاوينها، لست ضد تداول هذه الألعاب، لكني ضد سطوتها على العقول بشكل مطلق، الألعاب الإلكترونية تشحذ طاقة العنف في صالات مغلقة ومهيأة للضجيج كله، تحفز الصبي ليغدق النقود وهو يستخدم كل قواه العضلية والذهنية لغاية القتل، القتل ولا شيء سواه، يمضي الساعات وهو يقتل بمكر الكتروني كل ما يظهر أمامه، هكذا يقف-جيل المستقبل- مستنفر الحواس، ينمي مهارات التدمير لديه، ليخرج من الصالة منشيا بعدد قتلاه.

هذا الجيل اليانع أندك أمام قوى لا يشغلها غير مؤشر الربحية، بمهارة اشتغلت على انعدام حصانته الثقافية والفكرية، وهي ترعاه منذ الطفولة على العنف وتنحرف به بعيدا عن أي كتاب أو معرفة، عدا الواهي من التلقين المدرسي المهلك والمكرس لكراهية الكتاب والتعلم، تلقين يعيد إحياء البائد من العلم والمكرس المقيت من الشعر.. مع تهميش بقية الفنون التي تخضع لفتاوى منوعة، أقلها من تحرم الموسيقى والرياضة، الجرم المعاصر تحقق في إغراق هذا الجيل ببدائل عنيفة لتفريغ الطاقة، بدلا من تنميتها بهدف الاستفادة منها لتنوير طاقة العقول، ما يحدث هو خلق تفريغ حقيقي لطاقة فكرية كان لنا أن نتوسم فيها حضوراً إنسانيا على الأقل.

3-أسوأ البدائل الإعلامية الإعلانية المسماة ثقافية بمنظور الحاضر الأصم، هي المجلات التي ازدهرت بتقسيم جنساني، حيث يصدر منها للشباب مجلات رياضية وشبابية وفنية، وللنساء مجلات نسائية مكتنزة بإعلانات لا تخجل.

فتيان في ورد العمر ينهضون لخلق جيل آت، صبية وصبايا يؤسسون جمرات المستقبل، نخش عليهم من مهب تجاري لا يرحم ولا يرأف بضفائر تمنح الأمل، نخاف عليهم ونحن نراهم يتعرضون لكل “مجلة تصدر قريبا” لتتاجر بحرية العقول الطرية وهي تدعي صيانة تراث حواء وإرث آدم، فتية يتصفحون ما يخرب ويضلل الوعي من هيجان استهلاكي لترويج حمى إعلانية لاستضافة بشرة في نقاء العذوبة لطمسها بالمستحضرات وتحويل نضارة في مقتبل العمر لأقنعة مصبوغة بالسموم.

ما تحدثه هذه المجلات بعمومها الغالب هو تشويه للعقل وإلغاء للإرادة، عبر نصائح لا تر في الشباب غير مناخ مهيأ للإثارة عبر ترويج سذاجة وسطحية الأفكار، لتخدير العقل، لا تر في المرأة العربية غير طنجرة لتجهيز الطعام، غير جسد منزوع الروح مكرس لجلوة السرير وكرنفال العطور.

كل نهار تصدر مجلة نسائية أو شبابية لجني المال ولتسويق المنتجات دون الاكتراث بما يتحقق من عنف يخدش ملائكة ترفل بأجنحة الوطن، وليتم ترويجها لا تنس أن تعري الغلاف بفتاة الغلاف، الهدف الوحيد لترويج المجلة عبر تحويل النساء إلى واجهات تثير الجيوب لتغدق على ما تثيره الشهوات.

في الستينات وما تلاها – قبل هجمة الاستهلاك وتفشي الجهل- كانت الأجيال العربية تتعاطى الثقافة من أصولها الحريصة على تأسيس ذاكرة ثقافية وإنسانية طموحة بما يكفي لرصد الواقع وتجديد مآلات الوعي وأيضاً النهوض بعبء الحياة. كانت تستمد من تلك التجارب الفكرية جدلها النقدي والفلسفي، تأملها الإبداعي المحتكم لاجتهادات مفكرين وأدباء لم يكفوا يوماً عن إرسال رؤاهم المحتدمة لنهم المطابع، لذا أكتسب من عاصر تلك النهضة الثقافية المندفعة بما يمور به الواقع السياسي والفكري آنذاك، اكتسبوا حصانة معرفية غير قابلة لغزو ثقافة الاستهلاك بمجلاته الإعلانية المتهافتة.

ولكن هذا الجيل المعروض لسيادة التجهيل وقبضة الاستهلاك.. كيف له أن ينجو؟!

كيف له أن يحترس من طغيان السوق، عسل السلع، وكل هذ الحصار الإعلامي الإعلاني الساعي لإفراغ الصبية من شهامة الذات وتحويلهم للإلتهاء بلهو قبضات تؤصل العنف، تحويل النساء إلى دمى لا تقل بهاء عن “باربي” نموذج المرأة العربية المعاصرة.

يغتالني الأسى وأنا أرى أحفاد رجال استنهضوا الماضي ينحرفون نحو غياب مؤجل، حفيدات نسوة أشعلن التاريخ يترنحن بخواء بالغ هنا وهناك، نسل فاطمة بنت مر، الخنساء، ليلى الأخيلية. خالدة بنت هاشم، زينب بنت الحسين، فدوى طوقان، وأخريات لا يقلن فصاحة وبلاغة وشعرا وكفاحية حياتية، نسوة أرخن لتراثنا والعربي ما أضاء الوقت كله، يستبد بي الأسى وأنا أرى ما أراه الآن.

أطلت في هذا المنحى لكونه يؤسس لتاريخ الخراب، لما سوف يتعاقب من نخر فعلي، عندما يشب هذا الجيل ليرعى مستقبل الأحفاد، لأسأل:

لماذا الآن نكسو صغارنا بزيف وعي يتصدع؟، لماذا نلهيهم بقوارير العطور ومستحضرات لتحضير العقل لحالة محو تام؟ لماذا كل الهم والهجس يتحول لزي هنا وقلادة هناك، ألا يخجلون وهم يسهمون في تخريب جيل بأكمله من الرجال والنساء: معا وبقلب واحد يخلقون حياة المستقبل!

قليلا من الحب لهذه الحياة..

قليلا من الرفق بأفق يؤرخ لتاريخنا.. يا ليتنا نراه!

في هوى التدمير

(6)

فلا تعجبوا فالحّر يشجيه أن يرى

مكانته-من غلظة الدهر- للعبد

ترفعت إلا عن فعال زكية

تبرهن عن فضلي وتنطق عن مجدي

وأوقفت أشعاري على نصح أمتي

ولم أتبذل في مقال ولا قصد

فكان جزائي أن أكون كما أرى

أحاول غرس الزهر في الصخر الصلد

“عبد الرحمن بن قاسم المعاودة”

(7)

تخريب الحصن الأخير: الثقافة هي طريق السؤال، الوعي مرآته الصقيلة والحرف رايته. ليعم رخاء الاستهلاك ولتتعاظم شرور النهب لابد من تعميم العماء، إخراس الصوت، تهديم ذاكرة الإبداع، أهم الحصون الحضارية لهذه الشعوب.

إن ما نشهده من انحسار لفعل الثقافة وتكريس لغايات التجهيل هو نتاج حتمي، لبنية اقتصادية استهلاكية، تفرز مقوماتها الاجتماعية والفكرية على الدوام، لتتوازى ومآلاتها الاستهلاكية، التي لم تكتف بما أحدثته وتحدثه من تشويه، بل صارت تتقصد كل ما يقاوم نهجها الخطير أي تستهدف حرية الإبداع: ذاكرة الوطن.

إن نظرة بانورامية لكل إحداثيات الثقافة وأوجه نهوضها، تحيلنا بالضرورة، لنصطدم بهذا المصير المؤسف الذي آلت إليه حركة الثقافة، بعد كل ذلك التاريخ الزاخر بالعطاء والحفر المعرفي لتأسيس فتوحات فكرية وإبداعية جلية بحداثة الراهن.

عندما تمادت سياسة التجهيل بإلهاء الناس بكل ما هو خارج عن تهجي الحروف، انحسرت بالتالي عادة القراءة والتلقي المعرفي، المصيبة تجلت عندما طالت هذه اللعنة الكتاب والفنانين الذين أصبحوا يتباهون بعدم القراءة لضيق الوقت، بل تمادت لتحول معارض الكتاب الى واجهات لترويج الكتب الاستهلاكية التي تصدرت قائمة المبيعات في أبلغ تعبير عن مدى تدهور الاحتياجات الثقافية والفكرية للناس التي لا تلام، هكذا تنافست كتب الطبخ، الجنس، السير الفضائحية، الأشرطة الغنائية وأشرطة فيديو العنف والكوارث، ليبتعد الكتاب ويلتحف ما تبقى له من غبار.

(8)

عندما يتم تغييب القراءة كفعل حضاري لا تنهض الأمم إلا به، لابد لبواقي الأطر المعرفية أن تتهاوى وتلوذ بصمت الجهل الشامل، هذا ما يحدث بالفعل.

إذ تداولنا هذا الشأن على صعيد الصحافة الثقافية، ذلك الورق اليومي الذي يصل القارئ، ليستمد منه ما تبقى من ثقافته المغدورة، قبل أن يصل لصفحة الرياضة أو الإعلانات أو الوفيات مبتغاه من الصحيفة، فماذا يرى؟!

لقد تم تجنيد وتحريض الحبر كله، طيلة أعوام طويلة منذ “نازك الملائكة” خطيئة الخروج عن الوزنية التقليدية، حتى اليوم، للتهجم على الشعر العربي، مرورا بكبائر “مجلة شعر” التي لا تغتفر. لا تخلو صحيفة أو مجلة أو دورية من مداولة جريرة “قصيدة النثر”، كيل التهم للشعراء وأبراجهم وغموضهم وانعزالهم عن رصاص المعركة ودوي الشارع والجماهير والى آخر ذلك السيل من التهم الذي لا يفرق بين التجارب الشعرية والنصوص الإبداعية، بل يضعها معا على منصة الحكم للطعن في موهبتها ومن ثم تهميشها، واستبدال حضورها بكتابات لا علاقة لها بالكتابة أساساً، مجرد تهريف مطبوع يوهم ويضلل القراء، بحضور الشعر الواضح المفهوم الذي في متناول اليد والعقل.

هذه الظاهرة عمت أغلب المنافذ الصحافية العربية التي تعنى بشأن الثقافة، عدا ندرة منها لم تستهين بدورها الجاد لتأصيل الثقافة وتوصيل الإبداع، هذه الجناية على الأدب العربي أسهمت في تكريس ثقافة استهلاكية عابرة، لا تمت بصلة للإبداع، وفي التغافل عن متابعة كل ما يتعلق بالمبدعين العرب أو أبناء الوطن من إصدارات أو فعاليات والاكتفاء بالترويج لكل ما يصل عبر البريد من مساهمات تصلح للنشر!!

هكذا يسعى الشاعر “سليم بركات” لتوصيف الحال الثقافي الذي أستتب:” حين أجتهد الخيال الشعري في خمسينيات هذا القرن، وستيناته للخروج من نمطية الإنشاء المتشابه للقصيدة العربية، اتخذ سندا لدعواه أنه سيرفد الشعر بعلوم أكثر جسامة من أن تقدر النواظم الرتيبة على اكتناهها، على القصيدة أن تكون ثقافة الجهات، وعيها، انعتاقا من ثورية الخصائص المستنسخة. عاش هذا الخيال الشعري، الحسن النية عقدا ونصف عقد من الستينات إلى أوائل السبعينات، ثم انحدرت القصيدة “الغضة الإهاب” إلى فوضى ثم صارت الفوضى ذاتها نمطاً لها خصائصها التي يمكن ترتيبها تبويبها كما كانت تبوب ”أغراض” الشعر المنظوم: الركاكة، البناء على فراغ، الجهل باللغة كليا، استحسان القطيعة مع قواعد التدوين،الترفع العميم للجهالة عن تراث الماضي من غير تحصيل لتراث الحاضر، التجرؤ على الخفة، و لهذه السخرية من جلال الشعر أسباب في أساسها “موت النقد الأدبي”، بعد موجة هبوب أموال النفط العربي قبل أواسط السبعينات بقليل، فتكاثرت الصحف والمجلات الدعائية للأنظمة. وهذه الكثرة من الأوراق المطبوعة بحبر مدفوع الثمن بسخاء، بات تقليد وجود صفحات ثقافية أمراً على صخب شيوعه. وجرى توظيف عاملين بلا اختصاص، بل من باب إسناد الوظيفة إلى” نشيط” في جمع ما يقدر على ملء صفحاته المتسعة طولاً وعرضاً. قلّ التقويم، قتل الانتخاب المصاحب بوعي نقدي. قتل الاختيار بالتفضيل. أميون في القراءة تداعوا إلى تزوير الذائقة بانطباعات تصلح في لغة التعميم الكسولة على كل نص.

كان ثمة مجلات قليلة جداً، قبل هذا الوباء، تقوم بمهمة “ترشيد” الذائقة بقدر معقول من الصرامة في اختيار النصوص. وكان يقوم على الصحف القليلة أدباء مختصون في مذاهبهم، ما كان يجرؤ المبتدؤون في علوم النصوص أن يحملوها إليهم بالثقة التي يفعلونها الآن، تبعثر النقاد العارفون بآلات لغتهم، انحسروا وذابوا في الحشد المتقدم إلى الحلبة، ساذجين ينقدون الشعر بلا معرفة في العروض ينقدون اللغة بلا فهم وأما الفقه فهو لفظ من علم مقفل.

كيف، إذاً سيميز الخبراء الجدد في الركاكة هؤلاء أن شخصاً ما ينحو إلى ابتكار في علامات اللغة وعلاقاتها؟ كيف سيعرفون أن هذا يخطيء في العروض، وذاك يخضع المجزوءات لفتوح في الأوزان؟ كيف سيعرفون اختلافات البناء اللغوي بين واحد وآخر؟ ومع ذلك هم “نقاد” الذائقة الشعرية و“مسوقو” الجهالات.

في كل عصر، قطعا يتكرر المشهد ذاته، بصورة أو بأخرى، فيكون الجيد الحقيقي نادراً، والنمطي المتوارث سائداً. غير أن الجهل في تصنيف النصوص، راهناً، فاق كل جهالة، إذ بات النشر في المنابر متاحاً بتساهل القائمين عليها في إفراط ما بعده إفراط، وباتت علاقات الشاعر الركيك الشخصية على سعة تؤهل لكتابة المهلهل من مقالات لا تحصى في إفراط عافية نصه. فوضى يصححها، من وقت إلى آخر، قارئ حقيقي، مجهول، لا يشتغل في تدوين مدائح معلنة في الصحائف، يبارك روحه بعناء قراءته الخالقة لنصك المتعطش إليه.”

(9)

لقد تميز واقع الثقافة في الخليج بترسيخ محموم لثقافة الاستهلاك، بقسوة تبدت في تسويق التجهيل، محو اللغة العربية وإبدالها باللهجة العامية، عندما تعالت الأصوات بحتم العودة للتراث العامي تحديداً، ليتم إعادة استنساخ مشوه لهذا التراث دون تطويره، بل إفساح فضاء الصحف والمجلات والإذاعات والفضائيات، لانهيال كل ما يكتب أو يقال بالعامية والنبطية دون تمييز نقدي بين المبدع فيها والمحاكي المقلد المستورد بشكل فج لأدواتها التعبيرية، لذا سادت كتابات تسيء لتراث الشعر العامي والنبطي الذي كانت تفتخر فيه مواضي الخليج فيما مضى، عندما كان يعبر بالفعل عن أصالة تاريخها، لنصطدم الآن بكتابات تعنى بالمديح والنفاق الذي لا آخر لها.

رافق ذلك كله، تغريب حقيقي للشعر العربي القديم والمعاصر عن ميادين الفعل الثقافي الذي يتواصل والناس كالإعلام بتنويعاته والتعليم بمستوياته، لينعكس هذا المنحى بالضرورة على تغييب كل أشكال التعبير الإنساني الأخرى، من قصة ورواية ومسرح وتشكيل وموسيقى، إقصاء حقيقي للفعل الحضاري الإبداعي الذي يصوغ ذاكرة الشعوب، هذا لتعتاد الناس على ذائقية تلقى ومتابعة أمسيات أمراء الشعر الجدد وهم يتحفون الحضور الرسمي والشعبي الذي تغص قاعات الفنادق بالعتاب والغزل وموهبة المديح.

بعد هذا الاستشراف لمحنة الراهن الثقافي، نتيقن من أن رصد كل هذا التداعي في حاضرنا، يطال كل رافد من روافد ثقافتنا العربية، ولنا أن نتأمل في كل شأن على حده، لنشهد على مدى التخريب الذي ينحدر نحونا.

للشمعة: لك يا فاتكة الظلام

(1)

للشمعة حضور مخيف، يدعك تغرق في صمت عميق، كلما أزداد الليل عليك وراحت تحدق بك، كأنها وحدها تراك بوميض مهلك، يتمايل بهدوء يشاغل الهواء، سكون هائل، رائحة طفيفة لفتيل يرتعش، ظلام يحتل المكان ويحتضن عبء روحك كعباءة من حرير الغموض، تحدق بك بضراوة عاشقة تستنزف الصبر.. وحدها تترامى كمليكة تذرف هواها على مهل نحوك، وأنت كعاشق فريد تنصت لصمتك.

(2)

عشق الشمعة صاهر ذهل الطفولة، أول مساء تعرفت عليها، كانت منغرسة في قالب حلوى لعيد ميلاد بعيد، كانت تتراقص حول الهواء، فرحة ومنذهلة من قليل ضوئها الذي ألغى صخب الحضور وبما يحتمون به من ضجيج، كانت بيضاء، نحيلة، تهتز بعنف كلما راوغتها هجمة الأنفاس، تبدو وحيدة ومرعوشة دوما، بشفقة كنت أدفع فضول الأجساد بعيدا عنها…لكنهم. لم يتركوها بل هبوا معا بزفير واحد كالعصف ورمدوها كلها، لترسل خيطاً راعفاً من دخان يحتضر.

منذها لم يفارقني الولع بالشموع، فتنة لا يضاهيها غير هوى الكتابة، لتبدو كتوأم للقلم، لا أقرأ دون شمعة تشتعل، لا أكتب دون أن تترامى بظلالها على الورق، لا أعرف الليل دون غروره المتشفف بها، حتى النهار تضارعه بضوئها الأعذب من انهمار لسع أشعته الحادة، هكذا يمضي الوقت بي لتزداد رواجا وفتنة.. كونها مليكة هذا الهواء.

(3)

الشمع صنيع أرق الكائنات: نحلة ترتشف رحيق الورد، تختار منه الأبهى، تمضي النهاركله لتعرف ما تبدعه الأرض من روعة الخلق، سخاء الغيم كلما رذرذ المطر وبلور لؤلؤ الندى على حواف بتلات الزهر الساهية، حدائق في نضارة اللون والضوء، تتوازع الحقول والروابي، لينداح النحل في أغوارها، يتسامى بكل عطر يتفشى هناك..

بعد أن ينتهي النحل من جني كنوزه، ينهمر نحو خلية صاغها بمهارة بالغة، هندسة كونية، تليق ببدعة العسل، يغمر بيوتاًًً تتراص كخزائن فضية، لتصير ملاذا للذهب، موج لوني يتدرج من الأصفر حتى الغامق منه، مملكة صقيلة بتعب العمر، تتدلى بثقة الجواهر، يخفيها بين الغصون، تحت أوراق الشجر، يظل يحميها بسلاحه الوحيد، طيلة عمره يتناوب على حراسة مشددة لئلا ينتهك الناس بئر الروح.. وحدها يد الإنسان تقتحم بيت النحل، رغما عن شدة لسعته وطنينه وصرخاته الخفية، تنتهك العسل، ذخيرة قلبه، لتدخره في قناني زجاجية، وتذيب هندسة النحل، تجمد الشمع في قوالب مخترقة بفتيل مرير، وترسله للسوق لتجتبي ورق النقد. ماذا تفعل الشمعة؟!

(4)

ماذا على الشمعة أن تفعل؟!

أقل ما تفعله: ما أن تشتعل حتى تذيب حواسك كلها وتأخذك بعيداً لذاكرة البيت الأول، كأنها تنتقم منك أو ترأف بعزلتك، لا أعرف.. أيهما؟!، لكنها لا تغفل عن كل ذلك.

ما أن تشتعل، حتى يتماهى وميضها بنبض قلبك، دون تعب، تستميل الليل نحوك. بغربة شعلة صغيرة تتمايل وتحدق بك.. حتى تأسرك، تستحوذ على النظر، فتظل تراقب قطرات روحها، وهي تتهاطل ببطء الألم، بغتة دون أن تعي ما يحدث لك، تراك غيمة تعلو، تحلق في غياهب ذاتك، منسرحاً عن العالم، لا تصغ لأحد، مبهوتاً وهفتاناً، مرتخياً وغارقاً في خفايا التأمل المديد، تنحدر بهدوء شديد، هكذا… كأنك وحدك تهبط سلالم الذات، عتبة تلو الأخرى، بحدقتين منشدتين لغواية الألق، لا ترى أحدا، كأنك وحدك، تراها تراك، هي تنزف الدمع الذي يتحدر وأنت تستنزف ذاكرتك التي تنهمر أيضا، تتقصى خفاياك، تصغي لهمس ذاتك القصية، تبدآن معا، الشمعة تسرد صعب مواضيها قطرة قطرة وأنت تسترسل نحو عذاباً تختنق به…دمعة دمعة في غياهب ما مضى منك، ينتابك خدراً عتياً، يستبد بحواسك ويبترد في نهايات أطرافك، شبه غياب يرعى أنفاسك، ثمة غبطة بهدوء تتشجر على ملامح صمتك، لا ترى سواك، ثمة بهجة شبه نيرفانا بدت تحتل الأعماق وتزهر في رماد الروح، تنداح وتنداح وتنداح…لتفيق.. ابتعد عنها، حدق في هواء الليل.. حتى تسترد حلولك في عالم لم تنس ما فعل بك، طيلة نهار لم يشفع لك ومساء أنتابك بحزن لم تعرف كيف تسأله لماذا أنا؟!، ها أنت بنقاوة، تستعيد تماسك مع الحياة بشكل آخر، أقل قسوة عليك، لم تعد مثقلاً بعبء الحياة.. بل بحب مثقل بالحياة..

الشمعة من فعل بك كل هذا، لتتذكر.

(5)

اعتكف علماء النفس -الباراسيكولوجي بالذات- على محاولة تعريف ظاهرة الغواية هذه والحميمية التي تخلقها الشموع، كيف لها كل هذه القدرة الكامنة على غسل الروح، تحويل الذات ونبش الأعماق، لذا غزت والمرايا، أغلب الدراسات المعنية بحضور الشعرية وسهولة تغلغل مؤثرات محددة من مفردات الكون في سجلات الخافية أو ما يسمى باللاوعي.

للشمعة حضور قوي، لها من الحميمية، ما يسيطر عليك في أي مقهى ترتاده، ما أن ترى شمعة هناك حتى تتيقن من قدرتها على الاستيلاء على أحد من الحضور، فتراه بغتة يغيب عن الحديث وينسرح لهاوية التأمل الشاعري الخفي الذي لا ينتهي، إلا بحركة مفاجئة من أحد، أيضاً افتتان الأطفال الصاخب بالشموع والدهشة التي تتسع لها أحداقهم بشراسة وهم يبتسمون لمرأى الشمعة، حتى لو كانت بعيدة عن عيد الميلاد.

(6)

شاعرية الشمعة تستعصي على الوصف، فطاقتها التعبيرية غير مستمدة من شكلها أو حجمها أو لونها أو غلاء ثمنها، بل من عزلتها والليل، كالجسد عندما يصوغ الشعر من أعماق ذاته، الذات الشاعرة كالشمعة تماماً، ما تنوء به تحيله إلى وميض قد يصل للآخر، الآخر المتحصل على صفات حسية أكثر شفافية، ليسترعي انتباهه مثل هذا التماس، الآخر الذي يقدر أن يحدق بقدرة الوميض، لا الآخر الجحيم، الخالي من مرايا الذات، من لا يحتمل أن يستضيف رؤى الآخرين، الذات الشاعرة- لا أعني بهذا التوصيف من تكتب الشعر فقط، بل من تتحلى بشاعرية ما، قد لا تدونها الأصابع على الورق، لكن حتى على الهواء- تلك الذات والشمعة تكتشفان معاً شرفة صغيرة في هذا الظلام، معا يشعلان متعة للنظر ويكتبان بخفق القلب، ينتحبان على مهل، حيث لا فرق بين بكاء الشمع وبكاء الحبر، كل قطرة كلمة تفصح للآخر ما حدث لهذا الجسد، كيف يذوب فيما يكتب أو يرى، تحديق وميض الشمعة في عينيك لا يختلف عن تحديق الكلمات عبر النظر في ذاكرتك، تستمد الشمعة طاقتها من إبداع أعتزله النحل، والروح تجتث قواها من وحشة رانت للجسد، كلاهما يبدعان وهما يستبسلان دفاعاً عن بهاء الكون الذي تخدشه كل يد تطاولت ولم تزل على حرية الآخرين لتستبد بهواء الأرض.

قليل من الضوء قد يكفي ليخجل كل هذا الظلام.

الأوركيديا

(1)

هي زهرة للخجل، لا تعرف منشأ لها، لا تشبه ذاتاً سواها، ليست كالورد، ما نعرف، لكنها ينبوع من البتلات الشفيفة كالغرق، زهرة تعلوها حمرة تستنير بها ويسفحها بياض لا يستقر، ثلج رحيم يضلل عروشها. يعلو ويهبط كموج سخي على القلب.

عاشقة ممشوقة الغصن.. ذاك الفريد بأخضر يرتاب من خفق يدلهم بما يعلوه، كأنه يجهز التاج لأميرة تروجها الأساطير، عندما تنبأت لها النيران في حضارة تهالكت، ببزوغ وريثة للورد سوف تنهل اللون كله وتتعرش في فضاء البلاط، مليكة وعاشقة نادرة، ضعيفة تجاه خبط القلب، ينهكها همس الندى وهو يتبلر في أحضانها الغضة، كل ضباب يهذي في حديقة تسع العمر وتنهز بوردة الشغف:

“أوركيديا” “الفتنة، حارسة الحياة بسرها الأليم أيضاً.

هي وردة ترتقب يد العاشق، تسأل عنه: هل سوف يصل حنوناً ليشهد ثراء التغضن الطري ويلملم بساعديه رهو العطر كل حضن لشهوة الذبح، أم سفيهاً ليشن قنص الأصابع لعود النبات، يقصف زهو الأمل.. لتعرف مبتلاها القادم، بل لتستثير حدوسها كلها، تنتظر.. كل ليلة مغمي عليها، بثقل غصون تتعطر بنداوتها، وهي ترى الهواء يتثاءب، دون سهد عينيها.

وحدها تشرف على ترف مأواها.. من غير الحب، ذاك الرحيم بغفلة خفاياها، كلها له، تبتغيه، إذ تشرئب نحو وميض مساء يدير رحب التجلي، مساء يعرف حال الفقيدة أوان العشق، صابرة ترتجي خسارات الوقت…حتى تراه كطير مترف الأجنحة، يديم رعدة الريش نحو هواء قليل يدنيه منها، لتغدو كفراشة ترتجف، كل خفق، تعلو والهواء يصطخب بها، ترتجف، لتكتشف خفايا ضوءه وترتشف حناياه، ياله.. ويالجموح خفقه.

(2)

اعتادت التربة أن تحث بذورها لتنهض بأنواع لا تعد من رهاوة الورد، كلها اختالت بغزو هيج الفراشات وأزيز النحل، بل تماهت بغلو العطر، لكن “الأوركيديا” امتازت عن سواها بفرادة الخجل رغم بدعة تكوينها الصعب، الذي كلما استبد بها تهالكت نحو خفر يستفرد بجوى الأعماق.. بل صارت لإغفاءة جفن لم تعتد عسلاً سواه.

“الأوركيديا”.. نبع محكم على الهباء كله، وردة غضة تبذر روحها للسديم وتوازي الأفق بعطرها الذائب في هوى النسيم.

نبوءة حب تولت تعاليم النبات بما لها من جنون لا يخفى على أحد.

(3)

التربة معلم الحياة، لا تنتظر أن يفرغ البشر من منازعاتهم على حدودها، ولا تلتفت لسيل الكوارث، وما يحدثوه من مجانية الألم والدم الذي يرشقون به الكون كل حرب، تربة للخلق، لا تصغ لصمم القطيع الذي ينحدر كل سهل، مأسوراً بنباح الكلاب وممهوراً بعصا الرعاة، لكنها، تربة تمضي وحدها، لتتقن بدعتها بحرية الخلق: نحت هواء العالم بفتنة الطبيعة، إذ تزدهي بلفيف غصون مثقلة بهدايا الورد، اشتباك الغاب الناهض بعناق النبات نحو النبات، انحدار الوديان المغزولة بحرير العشب المبتل برائحة المطر، فيض من ألق الورق المتأرجح بفعل جنون الريح، ثمر يتثاقل نحو الأرض.. أقله جنون الليمون وآخره خدر العنب، شموخ شجيرات تعانق الغيم.. كل هذا بأيسر مما يتسنى لها: تراب ثقيل وعطوف، ماء عذب ودافق.. هواء آخر حر بما لا يستهان به، حب أخير لا يُحتمل، نحو عناصرها الطرية الملتفة حول براءتها.. دفاعاً عنها. كما العاشق ملتحماً بذريعة دفء القلب.

درس الطبيعة لا يؤجل تدوين حكمته ودهاء بلاغته، من أبهى قطرة رمل حتى سفح أقصى غيم، جموح للبداعة يستبد بمخلوقات – نستثنى منها قسوة الإنسان – ترسم نبض الحياة بمتعة ريشة تهفهف بحرية بالغة لتحيا موتها.

للطبيعة قدرة لا تحد، نغترف منها أقل الصفات بما تيسر للبصر:

الصحراء تهب وعر فنونها ولا تدين الجفاف، منه من يحتمي كنبت الصبار بأذرعه المهيبة وشوكه النافذ بصلادة صبره على قليل المطر، له ترتمي الرمال كحقول من الفضة على مدى النظر صانعة سرابها الرحيم، له تكتسح الصحراء هيبتها من صمتها المباح لكل ساكنيها وصبرها الواجم على وعر تشتهيه كآئناتها العزل، صقور تكسر أقاصي المدى، جمال ضالة ترتوي أمل السراب.

هنا الصمت هو سيد عزلة الخلق.

في الحديقة وكل ماعدا المدن لا ضجيج له. ثمة غناء شفيف ترفل به العصافير في غيبوبة العناق، ذاك الشهي الذي يعتصر الأضلاع نحوها، أيضاً عويل من الأصداء يبذلها سادة الغابات آن الخطر، وما عدا ذلك.. سكينة تصوغها أقدار الزرع يبللها انهيار الغيم برذاذ المطر ويرنمها الشلال بانحدار عذاب الماء نحو بسالة صعب أن يحتويها الكلام.

نتأمل مفردات الطبيعة وهي تعزف رتم تحولها ببطء رهيف، كمن يرقب حوضاً تلهو فيه أسماك صغيرة ملونة تتقاطع ومرونة الماء بزعانفها بين الأعشاب البحرية وخبايا المرجان، كمن يتعرف على اوركسترا مزودة بقساة الوتر، تنفرد بتصاعد هارمونيا لحنية تبالغ في حيائها.

عندما تتعثر في الطريق بحجر، ما عليك إلا أن ترفعه وتراه، لتتعلم من انحناءاته ونتؤآته الصلدة وترف الرمل المتحدر منه، تتعلم ما يجمع كل هذه التضادات في حجر مهمل، استطاع أن يضلل خطوك لتتعثر به وتسأله.

بقدر ما تأسر الطبيعة الناس، بقدر ما يتغافلون عن تعاليمها، ثقة منهم بمدى جهلهم، غرور يستحوذ على مدى يقينهم، كلما ترهلوا بمكتشفات معدنية تسخر لهم الصعب، بيوت تحوطهم بقسوة الإسمنت، يستقوا منها القيم التي نراها تتناسل وتعصر جموح أحفادهم، حديد يتصاعد حولهم بمعزل عن حضور الأخضر الطاغي ورواج البحر وسحر جنيات الورد.. بعيداً عن حنان الحب وعطف اليد.

بعيداً تماماً، لأنهم لا يعرفوا كم هو الحب.

الأوركيديا كالياسمين.. شاعرة تنتضي منصة الحقل وتقرأ شهوة الأخضر كله، لندرك كم هي من الزهور النبيلة التي ما أن تنشق عن جسدها بفعل تألق الرغبة حتى تسمو. لتسهو عنا..

رفقاً بها على الأقل تتألق بعطر فريد ربما يحرضنا ذات مساء نكون فيه مرتميين على سهاوة العشب، قرب بحيرة طاغية بأزرق الدفق، ملتفين بهواء بارد، وحدنا معاً، نرسو على همس يرتشف الأفق العليم بحال أجسادنا، نلملم أصابعنا الشقية معاً لنشهد على علو أرواحنا الفتية نحو بلاغة غيم لا ينسانا، ربما التفتنا بغتة.. لنراها هناك.. أوركيديا بخجل تزف أتراحنا.. بخفة تنال منا..

من هناك ترنو لعينين في الهلاك.

فرانز كافكا

(1)

قال قبل الموت:

“أرقد على الشرفة وكأنني أرقد على طبل يقرع المرء عليه من الأعلى والأسفل بل من كل الجهات. وأفقد الإيمان بأنه ما زال يوجد هدوء في أي مكان على سطح الأرض.

لا أقدر أن أسهد، ولا أقدر أن أنام، وحتى لو ساد مرة هدوء بشكل استثنائي، لا أقدر أن أنام بعد الآن، لأنني محطم للغاية. كما أنني لا أقدر أن أكتب ولا أن أشرب، ولا أقدر أن أتحدث مع أحد..”

(2)

-عندما دفن جثمان “فرانز كافكا” في “براغ” عام 1924 لم يكن قد سمع بهذا الأسم سوى أفراد قلائل، وبعد وفاته بعشر سنوات بحثت عنه الدائرة الحكومية كي تسلمه وثيقة تثبت إنهاء وضعه بالنسبة للخدمة العسكرية.

-لقد أبدع ادبه الذي جعله:” الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن لا نستطيع فهمه بدون كافكا.” وأهم روائي في القرن العشرين خلال أحد عشر عاما فقط ونصف العام.

-في عام 1988 بيعت مخطوطة “المحاكمة” بالمزاد العلني في لندن بمبلغ 1، 1مليون جنيه وقد ابتاعتها حكومة المانيا الإتحادية بعد ان كانت قد رصدت مبلغ 2،3 مليون جنيه من أجل شرائها وكان الالمان يعتبرون الحصول على هذه المخطوطة مسالة كرامة وطنية.

(3)

“ذات مرة أيقظت “دورا” في المصحة “كافكا” الذي كان ينتحب وهو نائم، فهمس إليها قائلاً: من الحياة يمكن للمرء بسهولة نسبية أن يخرج كتبا كثيرة، لكن من الكتب لا يمكن للمرء أن يخرج سوى قليل من الحياة، قليل جدا.”

عندما استلمت ترجمة” الآثار الكاملة” التي أنجزها عن الألمانية الكاتب والمترجم السوري “إبراهيم وطفي”، خفت من قراءة الكتاب الذي -وهو الجزء الأول- يناهز الثمانمائة وخمسين ورقة تعتني بإيراد كل ما وجد وحقق لغاية النشر من كتابة حول إبداع “كافكا”، قصصه ورواياته منها” الحكم، الوقاد، الإنساخ، رسالة الى الوالد”، تفسيرات وتحليلات نقدية، إيضاحات ووثائق، حياته، يومياته، رسائله، شهادات الأهل والأصدقاء، شهادة كافكا الذاتية، أخبار كافكا الأخيرة، موته، صور من حياته.

عادة يحدث أن تقرأ رواية ما وتتأثر بها، وتظل تثير دواخلك بعض الوقت، حتى تنتقل لتفاصيل الحياة التي سوف تلهيك عنها بتراكم الأعباء، هذا عادة ما يحدث، لكن عندما تقرأ رواية واحدة لكافكا، عليك أن تودع ذاتك قبل الرواية لأنها لن تكون ذاتها بعد القراءة، لسبب خارق يكمن في عنف موهبته القادرة على تغييرك من الداخل، إعادة صياغة أفكارك، خلخلة رؤاك، شحذ حساسيك، تحريف الجهات، هز ميزان النظر، العديد من التبدلات تخضع لها، فما بالك إن كنت أمام تحد خارق يضعك في مواجهة كل شيء يتعلق بكافكا الذي يقول:

– “إن لم أنقذ نفسي في عمل، فأنني سأهلك.”

-” الكتابة تأبى علي، لذا وضعت مشروع أبحاث السيرة الذاتية، ليس سيرة ذاتية، وإنما البحث عن أجزاء صغيرة ما أمكن والعثور عليها، ومن هذه الأجزاء أريد أن أبني نفسي، مثل أحدهم بيته غير ثابت، يريد أن يبني إلى جانبه بيتا ثابتاً، وربما من مواد البيت القديم.”

-” بعض الماء، هذه القطرات تدخل الى الحلق مثل شظايا”.

المخيف في هذا الكتاب، هو اشتماله على بلورات معرفية لا متناهية في الصغر، تلتئم شيئا فشيئا بفعل القراءة والتفحص لدلالات الحالات التي نشهدها ويشير لها كافكا ورفقته، وكلما حصلنا على بلورة كبيرة الحجم تكفي لتحضنها الأصابع ويتحصن بها الوعي، شاهدناها تتهشم ثانية، أمام معلومة أخرى تتضاد وحصيلة المعنى الذي كدنا أن ننجزه.

ذلك لقدرة كافكا المذهلة على إثارة الشك وتقليب اليقين، إدراكه ومحاورته لعوالمه الحياتية والكتابية التي تحدث شروخاً عديدة في ثوابت المعارف، إن فعل تحدياته الإبداعية لا تكمن في مجابهته للإبداع أو الحياة بل بينهما كضدين متحدين وبينه كجسد وحيد.

(4)

في يومياته كان حريصا على تدوين مراحل كتابته الإبداعية، كل ليلة يشافه فيها حبيبته:

“قصتي لا تتركني أنام، وأنت تجلبين لي النوم بالأحلام”.

أو صديقه عما حدث له هذه الليلة، يحدثهم عن شخوص الرواية الذين تركهم يبكون الآن، مشاغل العمل، العزلة:

“لا يزال الليل ليلا أقل من الازم، من أجل الكتابة أحتاج إلى عزلة، ليس مثل زاهد، هذا لا يكفي، وإنما مثل ميت”.

العائلة:” هي الصلة القسرية الوحيدة التي لا يمكن فسخها.” البيت:” سجن أقيم لي خصيصا، وهو أكثر قساوة لأنه يماثل بيتا عاديا لا يرى فيه أحد- غيري- سجنا”.

قلقه الابداعي وندرة النوم:” صحيح أني أنام، لكن أحلاما قوية تدعني مستيقظا في الوقت نفسه، إلى جانب نفسي أنام، بكل معنى الكلمة، في حين أروح أنا نفسي أتصارع مع الأحلام، لا أفعل شيئا غير مشاهدة الأحلام، وهذا أمر متعب أكثر من اليقظة. عند الفجر أطلق تنهيدة في الوسادة لأن كل أمل قد ضاع بالنسبة لهذه الليلة.”

محاولاته للانتحار:” وقفت طويلا الى النافذة، وكان يطيب لي مرارا أن أفزع الجابي على الجسر بسقوطي”.

 

حين يحيا كافكا، يكاد أن يتحول لفعل الكتابة ذاتها، بمعنى قدرته على التشيؤ والتحول الذي يزيح خصائص الكائن عنه، ويهبه لطقس إبداعي سحري وسري في آن، من الصعب تفسيره أو الإندغام الكلي به، هذا ما يتكشف لك عندما تتابع سيرته ويومياته بالذات، تتيقن من كونه لا يعرف معنى له دون الكتابة، ولا يتعلق أو يكترث بحقيقة أخرى غيرها، ثمة تجاسد كلي بينهما، هذا الاشتراط والاحتراس الإبداعي بلور موهبته لتنجز التحول العميق في وقت قصير جدا لا يتجاوز أحد عشر عاماً:

كتب صديقه روبرت:” يمثل هذا العمل جهدا هائلا، ليس روحياً فحسب، وإنما نوعا من معاودة لقاء ذهني يؤثر فيه ويهزه، بحيث تسيل دموعه طويلاً على وجنتيه، ورغم حالته الرهيبة، فإنه يرغب في مواصلة تصحيح” فنان الجوع” إن كان مقتنعا بأن هذا العمل سوف يثير الاضطراب في نفسه. لقد قال لي: ينبغي على أن أعيش الحالة من جديد، إن حالته الجسدية، التي يموت فيها جوعا مثل بطل قصته البائس، هي فعلا حالة أشباح.”

كما قال لصديقه ذات مرة:” أرجو أن تعتبرني حلماً.”

هو البحر

لأستهل الحديث عن البحر، أسألني لماذا البحر؟

هل لعذر بريء يتمثل في حبي له، بالذات آن الرحيل بعيداً عنه، لأراه من خلف زجاج يطير، نافذة لا تكاد تسع الحنين له، محلقة وهو يتناهى بعيداً، ليكاد – رأفة بي- يتماهى بأزرق السماء.

ابتعد وغيم يلتف حولي، يواسيني على قسوة فقده، ولأنه البحر لا يفارق حنين روحي عليه.

بحرنا فريد بزرقته، لا يتوخى السائح الغريب عن الاعتراف بغرابة هدوءه، همس موجاته، مقارنة غير عادلة منهم وهياج شطآنهم، هكذا يتندرون: “هل بحر ما لديكم؟ لا نكاد نسمع صخبه، أو وعر صخوره والماء يصفع غرتها بالزبد، في بلادنا البحر يعلن حضوراً عتياً، محتداً، رائجاً بالملح والغدر، يؤرجح القوارب ويزف الغرقى كل رمل ساهم.”

أصغي لهم وأواسي بحرنا، لأنهم لا يعرفون عنه سوى أزرق الماء.

في هجرتنا عنه، نتعرف على مالح سواه، لا يبلغ شأنه، لأننا ببساطة، نرتمي كالرمل هناك أمام ماء لا يعرفنا ولا يدري كيف يترجم همسه، نسبح في رطب غريب لا يعنى لنا شيئاً غير بلل يسعف جفاف الجسد.

ولكن بحرنا حارس الأرخبيل، سخي على الأعضاء، هو العمر والغمر كله، ما أن نغطس في زرقته المعتادة على مخلوقات مكبوتة مثلنا، حتى يسرف في هيل السرد، يغمرنا بالأسرار، بحر ملهوف على مهاتفة الآخر، لا يكف عن الشكوى، والموج يداهم فصاحة المياه، تغرينا المراكب الخجولة لارتياد عزلتها، وهو يسترسل في الكلام، عن كل شيء، من جور ظلمة القاع وغدر الفواتك.. حتى غواية القواقع ودهاء المرجان.

بحر مفدوح بحرية أفق لا يكف عنه، يبوح وهو ينزف البكاء، مالح الأحداق من كبح يحاول أن يزدريه بهبوب أقاصي الريح ومرح الموج، لكنه ينتهز وقت انغمارنا في أعماق هاويته ليكسر الصمت كله.

من رأى جمح المحيطات، المخضبة بأعنة الزبد، الهادرة كشلال يعلن الدوي عالياً. يرأف بغبن بحر الخليج.

بحر فيروزي مائل للفضة، يتواصى بجزر لا عد لها، يحوطها برعايته، وينيب حنان المد والجزر لرعايتها، كأنه الوريث الوحيد لهذا الجفاف.

بحر عليه حديد الصمت ويومئ.. لا يكاد أن يومئ بمرارة الماء، حتى يتدافع موج رهيف، مزنر بأحلام الزبد، موج محب خجول، ما أن يمس الرمل حتى يعتذر سريعاً عن مباغتته لعذرية اليابسة وينسحب وئيداً، كأن شيئاً لم يكن، لينسى هناك، هبات الحب: من بريق الأصداف وخلوة القواقع، وأعشاب طرية لا تموت قبل أن تنسج على رهاوة الرمل لونها الأخضر الذي يحتضر.. كأنها تداوي ذاكرة تحتفي بطفولة القاع.

بحرنا: ماء مزدهر بضوء خبيء، يشبه الأزرق، لكنه يتضرج حتى آخرا لأفق بمهارة زيت المدى، لنراه ما بين ولع الأخضر وخجل الضوء وتهجد الزبرجد.

بحر حّر مغمور برهبة اللون، عليه وعد السماء، وله صبر الأرض، ماء مهموم بمحنة اليابسة.. لذا.. نادراً ما يعلن السر.

تغتال حناياه الأشرعة بجنون الريح، وتشج المراكب ماؤه الرحيم، ليبدو بحراً يداعب خشية القوارب، ليحرض على مغامرة يقودها بحارة مثقلين بصدأ السلاسل، وكل صعب يتحدى وعر السواعد.

هو البحر صديق اللؤلؤ، ذاك الصدفي الثمين الذي تشكل من عنف محارة كانت تداري حدود عزلتها، ضد كل رملة تداهم

مأواها الرحيم، لتنتهك عزلة الكمين، لتحيلها المحارة بإبداع مهيب إلى لؤلؤة نادرة تترجم حصانة المأوى، هذا ما أغرى جوى أسلافنا، ليهبطوا الظلام السخي بالجوارح، غاصة بواسل ارتدوا” خطاماً” يلغي الماء بعيداً عن خنقة الرئة، برفقة حبل يتدلى معهم ويزعم النجاة، غاصة ارتهنوا لتاريخ من القهر، لسطوة تنزع عنوة ثروة صيدهم من رخاء البحر، تغتصب منهم لئلئة الكنز الطافح في سلال تعانق بهجة الأعناق.

“النواخذة” تعبير لئيم صاغه تاريخنا، ليعرفنا بعتاة من البشر حصدوا حريات سواعد سمراء كانت تلهج بعطف البحر، هم قادة السفن، جباة الأرزاق، حاصدوا رفيف العضل، قراصنة يتقنون نهب الخرائط للاستحواذ على حرية الجسد، لكنه البحر لن ينسى ما حدث.

هكذا.. يترنح الماضي بنا، لنتذكر- كل درة تتسلق خاتماً أو عقداً ترفل به الأعناق- عناء الليل، زفير “غاصة” يرتمون على خشب السفن، ينهلون من جنة الحلم غصناً، ليتناسوا وعر القيد وقسوة النبذ.

لأنه البحر، بحر البحرين، جزيرتي الجميلة، يابسة صعبة بما يكفي، لتصير محاطة بمالح البحر، ومزدهاه حين الرمل بانغمار عيون عذبة، تتفجر لينوع النبت، هكذا تتصدع الآبار، لذا ليست بحراً واحداً، ولكنها بحرين، الأول مالح.. أحبه لأقاصي حرياته، والآخر عذب.. أعتب عليه، لقسوة ما يجف منه.

لأنه البحر، كليم اليابسة، لا نصغي لسواه، نحرضه ليلملم حسرة اليباس في أرواحنا، ويصغي لنا.. فما لنا إلاه.

بهاؤه يتجلى كل فجر…عندما تغطس الظلمة لمستقر العتمة، ليتبدى كعاشق في هيام ينزف حديث الليل، تتمرأى كلماته كل موج يهيم على تنهيدة الرمل، كلمات تطفو مثقلة برسيس الحب، والسراطين الفتية تتراكض لتبلغ شأن السر، عبث تثريه الطبيعة لكائنات تجف سريعاً.. من سوانا؟

هو البحر:

عاشق الأرض، لا يتعب من مكاتبة لا تنته، لا يثق بغير خفق موج لا يكف عن سريان الوله، كل عتاب وعشق ومتاه ينفض لهجة البوح.

مغرم بالنقيض، نبضه الآخر، من غيرا لأرض داهية اليباس، ذات جور الحصى واسمنت المدن وعزوف الناس اللاهون بغرور النقد، من غيرها، والهة البحر، واهبة الزرع، مليكة الكائنات، من يطير فزعاً منها ومن لا يملك جرأة الفرار عنها.

يهواها هذا المليء بغنج المياه، يتغنى بغرائب تستوطن أعماقه الغائرة، ولا يكف عن هداياه، نراها منثورة على رمل يخفق كل حب، كل شاطئ للرمل.. نمشي بوهم الغبطة، نمشي، لندرك فيما بعد، أن خطانا كانت تعبر القلب.

هو البحر.. حرية السماء، محرض الأرض لتقوى عليه

هو البحر.. كتابة الموج، كل زبد يتبدد كما الحلم

هو البحر.. العليم بحال الأعماق كل سر لا نراه

هو البحر.. الماء الوحيد المالح كالبكاء،

من يقوى على بلواه؟

عقوق المؤلف

(1)

أعرفُ

ما للهوى جوى إلاي

تميمة تؤله حبر الذات

ما يسردني أتقصاه

كورقة في مهب الحرف:

أكتب لأغار من فراشة تستظل بهوى المصابيح

لأحار من شأن سلاحف تتخندق بصلادة المأوى

لأراني، ساقية أراقتها الحياة

أقف، بمهابة ريشة عمياء

أمام عدالة القنص

أتباهى برحب الرصاص.

(2)

وحيدة إلا منها، هكذا ترعى عزلتها، تدون ما ينتابها من حريق النهار على حرير الليل، وحدها.. لا سلاح لديها، غير عنف كلمات يتقاطر منها الحبر..

تبدو حزينة.. وغريبة عن يباس هذا الكون.

كلما نحتت كتابة.. وضعتها في قنينة فارغة وزجتها بحب بالغ نحو جنون البحر.. من سواه؟! رفيق خطوها البهيج وهو يضلل قدميها على عبء رمله الوفير، هذا الأزرق العليم بحال كل نفضة ترتجيها هيجة الروح، هو الوحيد القدير على سرد نبض هذا القلب بما يهتويه من رعدة الحب، هو الحنون المالح الذي يحتضن كلماتها، ويرميها نحو موجة تتصاعد تلو موجة أخرى تتكسر.

هكذا، وحدها، تداهم ذخيرة الحياة.. تكتب ما تراه.. بحبر روح تشهق أمام ظلال جسد يتهدم، مذبوح بذاكرة دم لا تغفر.. امرأة تكتب وترمي ما احتل وحشة روحها.. لهاوية الماء الوحيدة التي ترأف دوما.. بها.

وحدها، في جزيرة تكاد ان تنتحل من ضيق حدودها وعنف مراسيها، لتكاد ضفافها تغيب من سفور الملح وهيمنة الموج، وهي منكبة على طاولة خرساء، تتسع لحروفها السخية، مرتخية على كرسي شرس، تدون على بياض الورق مبتغى هذا الألم، لا تكف عن انهمار الكتابة، تكتب وتثقل القناني الفارغات بعبء الورق، لترمي- كل ليلة- بعنف ساعديها ما أنجزت نحو غفلة الموج، حتى يزدهر البحر بقناني مرسلات هنا وهناك.

ليغدو البحر ماء مشتعلا بزرقة مريرة من زجاج الحبر.

امرأة تستبسل وهي تكتب نحو هتف الحب وتكره افتراس اليأس كلما لملم خطاه العنيدة نحو شرفة ترفل بليل وحيد.

(3)

وحده الكاتب العربي، يحيا بلا حقوق محفوظة له كل كتاب، وحده لا يقارن بأحد على صعيد الكبت الذي يستبد بحريته والكسر الذي يلغي حقوقه المعلنة والملغاة والمهدورة معاً التي يدعون حفظها له، كل كتاب.

وحده المبتلى في بلاد العرب باغتيال شرس لحقوق الطبع الذي لا يراعي أي حق له، أمام نحت الحرف، أو حرية الصوت، حتى القليل من الهواء على الأقل.

عاق ليس لأنه ولد كذلك، لكنه وجد نفسه في قبيلة منذ قرون مضت تعتقد بكونه كذلك، لذا اعتادت ان لا تثق به بل تخاف من قدرة الفضح لديه، أيضاً، فيما بعد وهو يكتب في وطن لم يختلف كثيرا عن طبيعة بطش العشيرة، كلهم، كانوا يظنون أنه كذلك، لذا راحوا يعتمدون القيد نحوه منذ الطفولة، بصرير السلاسل، لينمو في ضيق أخرس وليتعرف على حقيقة حرية الرسغ، على مهل صار يتيقن من حريته الملغاة حد الموت.

بل اعتاد أن يعترف وهو يكتب أن لا حرية له غير ضيق القبر، لا أمل أمامه غير هذا الموت المؤجل على الدوام، غير هذا المعصم الذي لا يعتصم بسواه، معصم منتهاه أصابع تشغف بحرية الكتابة، ذات مفاصل عنيدة، ترتد كلما دنا منها حديد القيد.

له رئة تهب الهواء حرية الزفير، كلما انحنى على حجر وتأمل وعر راحتيه بقلب مرتجف على الدوام، مذعور من فأس قد ينقض..

(4)

عاق منذ بدء التاريخ..

كان ينزوي في ظلمة الكهوف، يرفه عن وحشة قلبه بحفر طلاسم روحه علي صخر صلد، بدا له أكثر حنوا من معدن الناس، راح يرسم او يكاتب الجدار، لينال من عشيرة باطشة لم تحتمل فراشة قلبه، لم تحتمل طبيعة روح تهديه عذوبة المطر، بل راحت بنبال الفرسان وصخب الرماح تلتذ بنحز الجراح. لتدعه وحيدا يتردم بين عويل الليل وضراوة النهار..

عقوق لا يكف عنه.. يتمرد من خلاله علي رحمة اولي الامر، ولاة ليسوا له بل عليه. حين يتكالب النبذ نحوه، قسوته على الورق لا تطاق ولا تماثل قسوتهم عندما يشيدون منصة للشنق.

هل يكفي.. ما نفعل بهذا المهتال بجمرة الموهبة؟

كلما أعلنا على الملأ الأصم: ان هنالك قانونا يحمي حقوق المؤلف، صاغه النص، استوفاه المشرع الأعلى من كل شيء، دفعه صيت القانون نحوه، لحماية منجزه الابداعي وممتلكه الفكري والرؤيوي وحتماً…سوف تدافع عنه عدالة ما، عدالة تمتلك مطرقة القضاة.

نعرف كل هذا وهو لا يجهل كل ذلك.

لكنه كالغريق يرى قسوة الوقت تخنق هواء حنجرته، يشهد على ما يحدث لكتبه كل الوقت من مهانة، وهي ترنو اليه من رف منهك، مترب، بعيد ولا أحد من ذوات المكتبات يكترث بحقوق تتسرب كالغبار ولا تلجا له، يرى دور النشر كيف تتكالب على طمس حق الحبر وهي ترفع سعر الحرف وطباعة الورق وتنحر سعر موهبة دمه التي لا تساوي في بورصة نقدها غير ارتعاش الرميم وهو يحلم بجذوة الرماد.

هكذا يبطش راهننا العربي عبر مؤسسات للتجارة والترويع يسمونها للنشر والتوزيع، هكذا تحز بوقيد لسعها على أصابع موهوبة لتشريف حضارتنا وطمس اليأس عن جبهة تاريخ تصدع من غلو الهزائم كل حرب.

(5)

.. لكنها امرأة.. لا تندم على وقت منحته لحرية البوح، على ليل أشعل مواضيها كلها، على متعة كالجنة كانت لها وحدها، لا تكترث ولا تحتمل غير بسمة تحتل ملامح ترتخي لأول مرة.

لا تفعل غير ان تنسي كل زجاجة القتها لفيض الماء، لا تتعب من نشر عذاباتها على الهواء، لا تيأس من علقم وقت مهدور ومنذور لليباس.

مذهولة بفداحتنا، تمور كنمرة في فصاحة الذبح العلني.

لا تري ولا تهتم إلا بهتف دمها الذي ينهمر ببطء يشبه صبر السيف.. نافضا عبء هذا الزمان.

امرأة في هواه تضمخ جسدها بعطر روحه، تنداح نحو المدى كله.. كأنها تنتحر كل بحر.

(6)

من يكتب لا يموت..

للحبر ذاكرة كالدم لا تجف،

فاحترسوا من زرقة كلمات كالبحر تهدر، تصونها مقابر الحاضر وتحتفي بها محابر الماضي..

فاحترسوا. لان ما حدث فيما مضى سوف يحدث الآن..

للكلمات ذاكرة تشتعل ولا تنسى أن ترسل عذاباتها كل ماء..

ها هي تتذكر وتراسل رعدة البحر..

من سواه..

ليرمونتوف

(1)

“لا أنتظر هبات القدر، غير نادم

على الماضي، الذي دفن عميقاً.

فآهٍ، لو نعثر على حرية حقيقية،

على نسيان حقيقي، في سكينة النوم الأبدي! “

(2)

“تهاوى “ليرمونتوف” على الأرض المبتلة. واستلقى هناك، في سفح الجبل، دون أن يفلت أنة أو آهة. كان وجهه شاحباً، لامعاً، مثل قناع، وجرح مفتوح تسيل منه الدماء إلى الأرض المبتلة بالمطر، وأقترب “مارتينوف” منه مذعوراً، خاوي النظرات، وهمس: “فلتصفح عني يا ميخائيل! ثم ولى الأدبار..” و. رفعا الجسد، وضعاه في العربة الضيقة، كان رأسه يتدلى خارج الصندوق، في الفراغ، أما ساقاه، فقد انثنتا تحت جسده المتجمد المبلول.”

(3)

لماذا أتناول سيرة شاعر أدمى تاريخ روسيا الأدبي، وتحول بجرأة صوته إلى نصل، أدان قتلة شاعرها العظيم “بوشكين”، ليلقى نفس المصير، على أيدي ذات القتلة…؟

هل لأجوب فداحة المحنة في راهننا العربي، الذي بات أشد وطأة من القتل، أم لأستدرج ذاكرة الشعر، العسيرة على الفقدان، المبتلاة بوقت يستعيد لها ما فات بقسوة لا تقل عما مضى من دم.

(4)

مسجي في ظلام النعش، بعيدا عن نقمة البلاط، وعنف الأوصياء على حرية الهواء، غريباً في أرض لم تعد تحتمل اندفاع ذاكرته، ولا نهضة روحه، ولا وميض كلمات تشعل الليل.” عندما تساقطت أولى قبضات التراب على خشب النعش، ابتدأ المشيعون في الرحيل إلى مشاغلهم العادية، لم يكن الشاعر قد أتم بعدـ عامه السابع والعشرين”.

“من أجل كل شيء، أشكرك من أجل كل شيء:

من أجل عذاب الحب السرّي، وسّم القبلات،

من أجل الحزن والألم، والدموع المرّة الحارقة،

من أجل الأصدقاء الحانقين، والأعداء الحاقدين،

من أجل كل ذلك، وأكثر بكثير:

من أجل كل العناء الفارغ للحياة.

من أجل الهوى الضائع، من أجل الكثير الذي راح هباء.

وأمنيتي الوحيدة، ذلك الأمل الواهي الذي يستيقظ فيّ،

هي ألا يكون على أن أشكرك طويلا… “

(5)

خلا ل سنوات قليلة، بدأت منذ ولادته في الثالث من أيلول” سبتمبر” 1812، دو ّن “ليرمونتوف”، تجربة شعرية، تقصت كل تفاصيل الحياة، وهي تدين غطرسة أسيادها. بالرغم من طبيعة الأحداث العارمة، التي طالت بحموتها وطن الشاعر، وهو يكتب تحت وطأة مفترق تاريخي، تحت نبال القمع القيصري بين زمن النبلاء الديسمبريين، وزمن الديمقراطيين الثوريين، رغم هذا، كان يكتب ذاته المطعونة بمرارة الواقع، المستبسلة حّد العصيان، دون السقوط في وهم الشعار، أو مداهنة الذات بوهم الكتابة عن سواه.

حتى عندما أخترق الرصاص صدر صديقه الشاعر” بوشكين”، لتستعيد روسيا إثر الفجيعة مشهد أسراب القوات القيصرية المشاركة في قمع الانتفاضة الديسمبرية، وقوافل المنفيين إلى “سيبيريا”، والمشنوقين في “قلعة بطرس وبولس” انزوى “ليرمونتوف” يحفر بعناد دمه كلمات قصيدته “موت الشاعر”، لتتناقلها الأيدي، تصونها الذاكرة، حتى تصل إلى قيد القيصر.. ويأمر بنفي الشاعر إلى “القوقاز”، بعد محاكمة مؤلمة، لم تستطع أن تمحو صداه:

“وبعد – فهل أنتم أبرياء،

يا من حاصرتم، في قسوة،

موهبته الحرة الشجاعة؟

يا من نفختم في اللهب الخامد

حتى فورة الغضب المفاجئ

فلتبتهجوا إذن-

فلقد كان صفاء الأمل فوق طاقة الاحتمال.”

(6)

كتب “بيلينسكي” عن رائعة ليرمونتوف “تأملات”: “لقد كتبت القصيدة بدم القلب، لقد انبثقت من عمق روح منتهكة. إنها صرخة، أنّة إنسان يمثل غياب الحياة الداخلية – بالنسبة له – شراً أكثر إفزاعاً لمئات المرات من الموت الجسدي. “

وهذا، ما حدث له..

بعد أن أحكمت أجهزة القمع حصارها حوله، أوعزت لأحد دعاتها من القتلة للنيل منه، عبر مبارزة حولها “ليرمونتوف” إلى قصاص أبدي يحاكم العرش ذاته ويدين حياة لم تعد تكفيه.

واقفاً على قمة المنحدر، يرى إلى السماء، وذراعه الأيمن على صدره، مصوباً مسدسه نحو الفضاء، وخصمه “مارتينوف” يتقدم نحوه، مصوباً المسدس نحو القلب بإمعان لا يخطيء.

هكذا تهاوى الشاعر. آن شرعت قطرات المطر في الهطول… كأنها تنهل من عذوبته:

“وداعاً، وداعاً يا روسياي القذرة،

يا وطن السادة والعبيد الكئيب! وداعاً

أنت المعاطف الزرقاء السماوية

وأنت، شعبي الذي يطيع أوامرها على خير ما تشتهي!

ربما يمكن للقمم القوقازية أن تحميني

من أمرائك ووزرائك،

من أعينهم الحادة، التي ترى كل شيء

ومن آذانهم المرهفة، التي تسمع كل شيء.”

لم ينس قبل الموت، أن يكتب ضد كل شيء تعرض لحرية جسده وحبره في آن، حتى المعاطف الزرقاء السماوية، زي البوليس القيصري، من أذاقه الويل كل منفى، واختناق كل قيد.

هكذا شاء أن يرحل من هذا الكوكب… واقفاً أعلى القمة، يحدق بأفق رحيم، وغيم يترقب انبجاس الدم، ليعصف بقسوة الأرض، قطرة.. قطرة، وهو يصغي لنبوءة قبره:

“ولعل صوت الحب ذاك، يغني لي،

مهدهداً سمعي، أغنيات عذبة ليل نهار،

ولعل سنديانة عجوزاً تتمايل،

إذ تحرس نومي، فوق رأسي إلى الأبد. “