دون أن تتحرك من حديقتها

(1)

“يقيدونني في النثر

كما كانوا يقيدونني، وأنا بعد صغيرة،

في الخزانة، رغبة في هدوئي.

“هادئة “آه لو تمكنوا أن يروا

كيف تتفاعل الأفكار في دماغي،

لكانوا يسجنون الطير لخيانته

وهم عندها يكونون حكماء

يكفيه أن يريد ذلك

ليحتقرهم على سجنه، وهو في دعة كالنجم

وليضحك منهم

وهذا شأني! “

اميلي ديكنسون

(2)

“لقد نوديت”

تلك كانت آخر كلمات كتبتها الشاعرة الأمريكية “اميلي ديكنسون” يوم موتها بالذات، في الخامس عشر من مايو 1886، لتدفن في حفل كبير، وقد حمل نعشها طلاب كلية “أمهر ست” مدينتها التي رأت النور فيها، بعد سقطتها من ظلام الرحم في عام 1830، حتى مرورها بعزلة فريدة، لا مثيل لها، أمضتها تصغي لروحها الوفية للشعر وحده حتى الموت، تحلق، وكلماتها تحفر طريقا قصيا لرؤاها، لتصل أول الحياة بآخرها، ولم تصل خطاها دربا أبعد من سور حديقتها.

“من لم يجد السماء

وهو على الأرض

لن يجدها في العلياء.”

عنها كتب “توماس هه. جونسون” عام 1955:” ارتفع لمائة عام مضت صوت قد يكون أجمل وأوضح صوت في تاريخ العبقرية الأمريكية: هو صوت شاعرة كانت تعيش في وادي “أمهر ست”، نذرت حياتها للدين والأسرة والحب، وكان لها من شعرها وصداقتها وحبها ووحدتها ما يؤكد لنا إنها لم تكن بحاجة إلى المجد: إنها اميلي ديكنسون.”

المجد

“المجد هو ذلك الشيء البراق الأسى

الذي يعني السيطرة لحظة ما

فيدفئ أسما مغموراً

لم يعرف حرارة الشمس،

لينقله بعد ذلك

برفق

نحو العدم! “

كانت كالحديقة التي تحتمي بها من شرود الوقت وشر الآخرين، كلاهما يكتشفان قدرتهما على الحياة بحب، ويترجمان ما يحتدم في متاهة الذات من شفافية قادرة على درس فنون الشقاء الذي يتعرضان له معا، هي تكتب جواها على الورق، والحديقة تبدع براعمها على الأرض، بلا اكتراث لأدنى اهتمام من أحد، لذا كانت “أميلي “ضد نشر قصائدها:

“إن نشر الأفكار يعني طرحها بالمزاد العلني “وقد طلبت من أختها، أن تتلف جميع مراسلاتها، لكنها لم تشر إلى تلف قصائدها التي لم تنشر إلا بعد موتها.

“تزاحمت الغيوم كتفا على كتف

وهبت رياح الشمال متدافعة

واهتزت الأشجار وسقطت

وانصبت الصاعقة، وقصف الرعد،

وانحدر كالأنقاض أشبه باليرابيع الهاربة

كم يكون المرء مطمئنا في حفرة القبر

حيث لا تقدر عليه غضبة الطبيعة

ولا يبلغ الثأر منه مراده.”

ببلاغة عبر “هرمان ملفيل “عن عظمة إبداع ظل حبيس البيت حتى حان موت جسده وبدء روحه في آن:

“وهكذا رأينا في الولايات المتحدة، منذ أن أصبح لديها أدب مستقل عن الأدب الإنجليزي، قد أنتجت ثلاثة من كبار الشعراء وهم: ادغار ألن بو، ويتمان، وأميلي ديكنسون التي نظرت في أعماق النفس، فكانت نتاجا للحضارة الاميركية وأتت قصائدها حاوية عصارة ما في الإنسان من معان وهي في مجموعها رسالة اعتصرتها من ذات الإنسان.”

رسالة إلى الملأ

“هذه رسالتي إلى الملأ الذي لم يكتب إلي:

أخباري هي أخبار الطبيعة، قالتها لنا بجلال وحنان

هما يدان تحتفظان بهذه الرسالة

ليس في وسعي رؤيتهما

أيها اللطفاء من الخلان

احكموا علي بحنان

رفقاً بهما.”

النقاد وحدهم، لم يتعاملوا برفق يكفي، لتلمس تجربة شعرية فريدة، لا تبتعد عن سائد الشعر الأمريكي، بل تتحداه وهي تعتمد على استقصاء الوعي، وتصعيد ذروة الحساسية الإبداعية، لكشف رهان الذات، وحدهم النقاد، لانحيازهم لدورهم الرادع ضد أي تفلت فني لا يخضع لشروطهم النقدية، لذا لم يهتموا نقديا بكتابة نشرت في نوفمبر 1890حتى عام 1924، حيث كتبوا فيما بعد بخجل لا يقل عن سماحة روحها العصية:

“الأصالة في شعرها انه بدأ حديثاً “.

كتبت “اميلي ديكنسون “عام 1862إلى الناقد “توماس ونتورث هيغنسون” تسأله عما “إذا كان في شعري روح، فلقد تجسمت فيه أفكاري، بحيث لم أعد أميز بينها وليس ثمة من يقول لي “الحقيقة “فهل تقولها لي؟”

فكتب “الحقيقة” كما يراها:

“إن أشعارها واقعية أصيلة لكنها لا تنطبق على قواعد النظم، وهي قد أرادت ذلك كي يكون في نظمها روح.”

قدرة “أميلي ديكنسون” تتبدي في طبيعة انطلاقة طاقة الروح التعبيرية، جرأة الكتابة، تحديها لقانون للنظم مقدس لا يمس يدعي حماية الشعر، كانت تزدريه، وتثق فقط بكتابة حالات الجسد، بما يتلوه عليها من غرائز للتعبير، هذه الفرادة كانت لها قبل ظهور مدرسة التصويريين بثلاثين عاما، حيث لا يكاد الآخرون يتألقون، كانت هي لاهبة وعزلة بدأت منذ عام 1862 هي وبيتها وحديقتها، مرتدية الرداء الأبيض دوما، لا تغادر الشعر إلا للعناية بأمها المريضة وبالزهور ندامى عزلتها.

“لماذا أحبك يا سيدي؟

لأن النسيم لا يسأل العشبة أن تجيبه

لماذا.. عندما يمر

لا تستطيع أن تبقى واقفة في مكانها

فالبرق لم يسأل يوما

العين ابداً

لماذا تنطبق عندما يحصل

لان البرق يعلم

إن العين لا تستطيع أن تتكلم

ولأن هناك أسبابا لا يملكها الكلام

يفضلها أناس عِذابٌ رقاق! “

بيت لوركا

(1)

“عرفت أنني قتيل:

فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن،

سرقوا ثلاثة هياكل عظمية لينتزعوا أسنانها الذهبية،

ولم يعثروا علي!

ألم يعثروا علي؟

نعم.. لم يعثروا علي!”

فيديريكو غارثيا لوركا

 

(2)

هكذا، تنبأ “لوركا” بمقتله الغامض، ليموت دون أن يعثروا عليه، وحده في عراء يجلله غدر الرصاص، قتل “لوركا” عام 1936، ولم يبلغ من العمر سوى تسعة وثلاثين عاماً، قتل ذات ليلة ماطرة، أمطرت حرية جسده ببالغ الرصاص الذي انهمر من بنادق الشرطة السرية التابعة لتعاليم الفاشية، تلك التي أسس لطغيانها الغادر، الديكتاتور “فرانكو”، خلال الأيام الأولى للحرب الأهلية الإسبانية، حيث اقتيد عنوة، على غفلة منه، مع رفقة من شعبه نحو مكان مظلم مجهول، تم دفعه، بقميصه الأبيض الذي يضاهي ورق كتابته، ليقف شامخاً مع كتيبة من الأجساد، قتيلاً يقف أمام رصاص يتساقط، لتسمو روحه على روابي”فيثنار”، تلك التلال القريبة من “غرناطة”، ما أن انطلق الرصاص عتياً نحو صدورهم الراعشة حتى تهاوت كل الجثث، محتضنة بظلالها جسد شاعر، أدمانا بنبض حبره، بكلمات توصينا بنهل الأمل من مدى يأسه.

(3)

لقد قتلوا شاعر اسبانيا، الذي أمضى سنواته الأولى، وهو يعاني من مرض خطير أصاب قدميه عقب الولادة، حتى فقد الطفل”لوركا”القدرة على المشي لسنوات أربع، بعدها تجاوز معضلته، ليمشي بعرج أثر في طفولته التي تركته وحيداً لا يلعب مع الأصدقاء، بل وحيداً يلتاذ بعزلة مبكرة عليه، فيها يتأمل طفولته وهو يعمل على تنمية مخياله ومشاعره البدئية، يصنع له عرائس تنتمي للمسرح، يقيم الاستعراضات للدمى التي يصنعها بنفسه، هكذا أمضى “لوركا” طفولة تتعثر نحوه، بين عشق المسرح الذي كان يكتشفه، وبين اللغة التي تعلمها من أمه، وكتب حروفها بسر غريب. كل ليلة دامت له، حتى توسد ظلام قبر مجهول.

(4)

عندما ذهبت إلى “غرناطة” لأشارك في مهرجان “الشعر العربي الاسباني”، أكثر ما كنت أخافه، ذهابي لبيت “لوركا”، لا أعرف لماذا؟ غير دوامي على قراءة هذا الشاعر الذي استهواه قلبي تماماً، بل استرعى انتباهي البكر، لأعشق شعره، وجرأته التي أدت لمقتله، بعد الانتهاء من تلك الأمسية التي استحضرت فيها ذاكرتي، لأقرأ قصيدة مهداة لروحه المدماة، فيها استدعيت حواسي، لأتلو نصاً فيه عذب العذاب، الذي قارب قتله.

صرت أنتظر زيارة بيته، بل أرتبك كلما تذكرت انه هناك ينتظر، مجللاً بدمه، يترقب كل محبيه.

حين آن الأوان، توجهت لبيته، برفقة صديقتي الشاعرة الاسبانية”بيلين جيزار” كانت طوال الطريق الصعب، تحدثني عنه، بتفاصيل لم أكن أجهل أغلبها، بل كنت خلال حديثها، أحاورها، لأستهيم بشغف اطلاعها المحموم عنه، في البدء تعرفت على مسار حديقة شاسعة، ارتأت عائلة “لوركا “بعد مقتله، أن تحولها لمزار مذهل، حديقة مترفة بالورد كله، مزدهاه بنوافير تعزف موسيقى الماء كل الوقت، كأنها تبكي موته، ماء عليم ببكاء “لوركا” آخر الليل، ماء يسرد لنا كل شيء.

بيت “لوركا “كما غادره، كل شيء في مكانه، حتى أصيص الزرع الذي يكمن في زاوية الشرفة، نراه في التصوير السينمائي بالأبيض والأسود في مكانه تماماً، و”لوركا”يقف بقربه، بعد ذلك نراه ملوناً – كأنه الآن- لكن دون لوركا.

في بيته ثمة مكتبة تعرض كل تذكاراته، كتبه المترجمة لكل اللغات، صوره المنسوخة في كل أنحاء بيته، لوحاته، خطاباته وصور أصدقائه “بيكاسو”،”سلفادور دالي” وآخرين، كتاباته المصورة بخط يده، كل ما تم الاحتفاظ به، ليتذكره الأصدقاء قبل الرصاص الذي انتاب قلبه.

(5)

تدخل غرفة الضيافة، فترى أصابعه المنسية على خشب البيانو، المؤلم في الأمر، كونك تراه في تصوير فوتوغرافي يعزف على البيانو، ثم ترى ذات البيانو يمضي العمر وحيداً دونه، كذلك تراه محتضناً أمه في صورة فوتوغرافية، ثم ترى المقاعد ذاتها خالية منه، ثمة تداخل غريب بين الصور المعلقة التي تحتفظ بذكرياته وبين المكان، تداخل مؤثر يدعوك لتهمس وحدك: لم لهذا البيت كل هذا الألم؟!

عندما ترتقي بقدميك السلالم، تصل لغرفته، تتعرف على سرير مغطى بلحاف قديم، نافذة تحتضن حديقة بهية، طبيعة عذراء تماماً، يراها “لوركا” كلما فتح زجاج شرفته، هناك لك أن تتعرض لصمت طاولته، طاولة أليمة لأبلغ حد، خشب مثقل بمخطوطات شعرية، كتابات معلقة على الجدران بخط يده، مقعد فارغ منه، جوارير فارغة من أوراقه، طاولة باردة كجثته، تراها وتسترق الدمع نحو عينيك، لتكون لائقاً ببيت “لوركا”، وروحه الهائمة هناك. حتماً.. كان هناك.

(6)

بعد أن تذهب بك قدميك للخارج البارد، تصل لرواق قديم، فيه تستميت لتدعو خطاك أن ترحم ذاكرتك، لما تعرضت له من ذاكرة شديدة البأس عليك.

قبل أن تغادر البيت.. لك أن ترنو من بعيد. لك أن ترفع عينيك.. لترى “لوركا” وحيداً، متشبثاً بحرية شرفته، يحدق في عينيك من هناك:

“أغلقت شرفتي

لأني لا أود أن أسمع البكاء

لكن خلف الجدران الرمادية

لا شيء يسمع غير البكاء

ألف كمان يهتز

غير أن البكاء ملك كبير

البكاء كمان كبير

الدموع تبرقع الريح ولا شيء يسمع غير البكاء”.

حتما وأنت تغادر بيت “لوركا” لا تسمع غير أصداء هذا البكاء، غير صوت الحب الموصول بالدمع لشاعر لا مثيل، بكته اسبانيا كلها ولم تزل تبكيه:

“وداعا يا صبيتي الحلوة،

يا وردتي النائمة، أنت إلى الحب ترحلين وأنا إلى الموت.”

 

الفضاء الأزرق

(1)

أيها الجسد.. أيتها الروح

يا حارس اليقظة

يا حامية الأنقاض

آن لكما حرية البوح

يا لكما..

(2)

أليس غريباً أن تكون السماء أكثر رأفة من قسوة اليابسة؟

أليس غريباً أن يتحول هذا الفضاء الأزرق لحضن حنون أكثر من حدود اليابسة المدشنة بالموانع بين كل وطن عربي وآخر عربي أيضا؟

هذا السؤال هو ما يذهل كل مواطن عربي يتعرف على معنى الحرية من خلال والمستعد إنسانيته المؤجلة منذ قرون، ليحلق بحريته الرازحة تحت مثاقيل القيود، عندما كان يمضي حياته كلها وهو يتسول المعارف، يكتب خلسة ما يشعر به، كل ورقة يهبها للهباء، بسرية خانقة يطلع على ممنوعات الكتب تحت ضوء قنديل يرتجف وهو يصغي لخبط القلب المذعور من وجودها معه.. هكذا كان حال المثقف العربي ولم يزل في كثير من العواصم، طريداً ومع ذلك يطارد المعرفة، يعيد تفسير أكاذيب الصحف وزيف الخطب وثرثرة المزايدات وتجميل القبح وترويج العار وتحويل الهزائم لانتصارات وتسويق الكثير من الوهم الطاغي..

على اليابسة أقيمت ضده متاريس الحدود والجمارك والتأشيرات والقوانين، دشنت عوازل المعابر لصد كل تواصل معرفي قد يخرب مشاريع الفشل الذريعة والمصاغة لإلهاء الناس، ضده تم مصادرة الكتب والصحف وإلغاء كل وسيلة تبقت لديه للتعبير عن ذاته نحو الآخر، تعددت السدود أمامه لذا راح يتحايل على الحياة ليحيا موته.

معاناة الكاتب العربي لا توصف، لكونهم يهدمون العتبات أمام خطوه، كتابته لا تطبع إلا بمشقة عليه أن يحتملها، لا توزع إلا صدفة عليه أن ينتظرها، لا يتواصل مع الآخر، العربي وليس الآخر في جهات الأرض، فالحدود مغلقة أمام الحروف ومشروخة أمام كل ما عداها من بضائع لترويج حمى الاستهلاك البشع، عليه أن يتهدم ويئن تحت عبء منجزه الإبداعي، السدود تتعالى والزيف الاستهلاكي كطوفان يتحدر نحوه ويغمر أقل الهواء.. ما تبقى له.. كل شيء ينتحر من حوله منذ سنوات بل قرون مضت، هذا الحال تمادى بتشويه بل تكسير إبداعات عربية تنامت كالبراعم، لكن للأسف.. ما أن تتعالى بجذوعها الخضراء الطرية نحو السماء حتى تتقصف وتغدو مهدورة للغبار.

(3)

تقنيات الفضاء بشبكاتها المترامية الجهات، لا تدعنا أبداً نشفع لكبت أنظمة العرب لحريات شعوبها، ولا أن نبرئها من جرائمها المعلنة وتسويفها المرير بحقوقهم الإنسانية، هذه المنافذ التقنية ترأف بنا وتأخذنا نحو بيت أكثر حنواً علينا، على الأقل تؤجل قتلنا قليلاً..

هي طريق كالبحر، رافل بزرقة حرية ترنو لأرواحنا تأخذنا نحو العالم، لنتعرف عليه، نختبره، نتعامل معه دون قيد، حيث الحرية هناك لا تطال، هناك لا يحق لأحد، لا حاكم ولا رقيب ولا سجان أن يحتل مكاناً للعقل أو يرتب طريقا للقدم، لا يحق لأحد سواك أن يختار كيف يحيا وماذا يرى ومتى وكيف يقول ما يراه، حرية لا تقل عن شسع الفضاء، حيث لا أحد.

(4)

عند زيارتك لأي محترف إبداعي، عليك أن ترى دفتر الزوار، لتشهد على مدى الحبور الذي تدونه كلمات الأصدقاء والغرباء، مدى حفاوتهم بهذا البيت الجديد الذي سيضاف لمكنوز مكتبتهم ، كل كاتب يؤثث بيته بسماته، سيرته، كتبه، مقالاته، مختارات من المعارف كلها تدعك تضم العديد من الأصدقاء لذاكرتك، عتبات إبداعية تلغي الهويات والمذاهب والطوائف والحدود، تردم كل الحجارة التي رتبتها سطوة المستبد طيلة حياة البشر وهي تفرق بين أشكالهم ولون بشرتهم وعقائدهم، مكان لا رعب فيه ولا رقيب، تعتاد الكتابة فيه دون خوف، تكاتب الآخرين عبر بريد كالبرق يصل ولا يخطئ القلب، تهاتف الذات بحرية لا تدعك حتى تشعر بهذا الهواء الأزرق الحالم الذي يهيم بك.

(5)

الاستبداد يتصف بالذعر دوما، ليكرس امتداده ودوامه ورخاء هجمته، لذا يسعى دوما لمصادرة حريتك الوحيدة، دوما بمصادرتك والآن بالترويج لخطورة هذا “الغزو الحضاري ”القادم عبر فضاء ”الإنترنت”، الدعوة لتقنين حضوره، لتحصين الذات ضد شروره اللامتناهية التي تنهال علينا ثقافيا واجتماعيا فقط-لا اقتصاديا لئلا نجف-، هستيريا دعوات تنبئ عن تفشي عقلية استبدادية دفاعية وسلبية تثير الغبار حولنا كل صهيل تشنه بدفوعاتها العنيفة، نجابه دعوتها بشك بالغ، بل نصغي بحذر لاجتياح هذا الرفض الموسوم بذعر من تقنيات المعرفة الفضائية هذه بالذات، لكن أمام ترف البضائع وجنون الأجهزة الاستهلاكية يتم الرضوخ لها طوعاً .. وبفتنة لا تلتفت لمدى تدميرها الاقتصادي بتحويلنا لمستهلكين ولا تهتم أيضا بعقول مبدعيها المنتجين لنا على الدوام.

يعمل الاستبداد ضمن مفاهيم تعتمد بكل تلاوينها السياسية والفكرية على الترويج لحقبة تاريخية راهنة تستند على سطوة المصادرات، تحديدا، لكل منتج عقلي أو إبداعي أو فكري لا يرتهن لغلوائهم في مصادرة الحريات، سطوة تعتبر أن كل مرسل ثقافي-حضاري من الآخر مدمر، عدواني، بل سوف يعمل على تقويض جذورنا وتشويه تراثنا، للسيطرة على حضارتنا، ويا لحضارتنا الملهية بحنينها لمجد الحروب ودوام الهزائم، لذا كل ما يصلنا من فكر الآخر، هو بالنتيجة ذو نوايا يجب الاحتراس منها صوناً لعروبتنا، هكذا يسعى أصحاب الوصاية على عقولنا لجعلنا نحيا دفاعاً عنا، دام الآخر يسعى للنيل منا.

هل عرينا بالغ إلى هذا الحد؟

هل انكسرنا وضاعت شظايانا إلى الأبد؟

هل أدركتنا مهاو ألغت حضارة تاريخنا إلى هذا الخلل؟

تتقاسم هذا الكوكب شعوب تتدافع لتؤرخ لحضاراتها، منها من يحسن صياغة مستقبل لأحفاده، ومنها من يكتفي بالعماء الراهن، في كل دورة يبدأها الكوكب.. ثمة شعوب تنشغل بتدوين معارفها وتعمل على ما يستعصي منها، وشعوب مصابة بدعاة يتشنجون ذعرا عندما تصلهم أصداء حضارات ترسي سواعدها كتروس وتدافع عن حريات شعوبها -ما لا ينضب- لتضيء تاريخها وهي تكتشف ما حدث وما سوف يحدث لهذا الكوكب اليتيم.

يكترثون وينشغلون باتقاد العقل لنيل جدارة استحقاق المستقبل، يشيدون سلطة الإنسان وحريته في آن، لأنه وريث التراب الوحيد.. بينما هناك من يضع العصي كل دورة للأرض، يهيل السياط ويعمر التراب بفسيح الجثث، لتنقرض الأعضاء التي عليها أن ترى وتكتشف.. لنراها تتلاشى ببطء كمن يموت ليحيا.

يصلنا ما يصنعون بأيديهم لندمر ما يحلو لنا وبأيدينا أيضاً.

نقرأ ما تزفه مخيلة تترع حرياتها في كتاب كموج يضاهي بحر الجسد، فنقرأ منكسرين بخلجة ترافق زفير الحسرة، كل آلة، كل كتابة، كل حياة.. تأسرنا شعوبا بإرادتها تشعل بالأمل، فيما نختار الصمت كل صوت.

كوكب واحد.. ما لنا سواه..

ما أقسى أن تتقاسمه كائنات بعضها يتقدم والآخر يرتد.. ليلهو بهزائمه وبانفجارات جثث شعوبه وتضاريسه كل حرب.

ماذا نفعل وهم يتقدمون نحونا بكلمات ومعارف تشعل شغافنا، نحن المشدودين نحو قبر كدنا نوصيه ألا يتأخر..

نحن المنشغلين بخلايا تتذمر من بطء الدم ويأس النبض.. كل قلب يخفق بخجل كلما تذكر أنا عربا أبحنا عروبتنا لخيانات هنا وقذيفة هناك.. منذ أن أهدرنا دم “طرفة بن العبد” حتى قتلنا “المتنبي” وتنادمنا بدمه الحي..

كيف لهم أن يلغوا بوهم” الغزو” حداثة حاضر أكثر يقظة من ماض قيد البعث ومستقبل قد يبدو..

ولأنا اعتدنا أغلالنا، طاب لنا كل دفاع يتناهض من تفشي الذل أن نبعث الحذر ونتوهم حلول الغزاة حول قلاع أدمنت-طيلة تاريخنا الراهن- فداحة الانهيار..

كما يذكرنا” أبو الطيب” صاحب النبوءة التي رافقتنا قرونا ولم تزل:

خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا

إن الكلام لهم حلال مطلق

فالموت آت والنفوس نفائس

والمستعز بما لديه الأحمق.

البقاْء على قيد الحياة

(1)
“نعلمُ أنّ الرجل الأبيضَ لا يفهم طريقتنا في العيش، وايُّ جزءٍ من هذه الأرض هو بالنسبةِ له كأيِ جزءٍ آخر، لأنهُ أجنبيُّ، يجيءُ في الليل ويأخذُ من الأرضِ كلّ ما يحتاجُهُ. الأرضُ ليستْ أختهُ انما عدوه بعد أنْ يفتتحها فإنّهُ يُتابعُ طريقهُ. يتركُ قبورَ أجداده خلْفهُ، وهي لا تعني لهُ شيئاً. يسرقُ الأرضَ من أولادِهِ ولا يهتمُّ بذلك. قبرُ والده وحقوقُ أولاده منسيّةُ. يُعاملُ أُمّهُ الأرضَ وأخاهُ السماء كأشياء يستطيعُ الإنسانُ أنْ يشتريَها، يسلبها، يبيعها كغنمٍ أو كلآلئ لامعةٍ.
جوعُهُ سوف يلتهمُ الأرضَ ويتركُ وراءهُ صحراءً. لا أدري، طبيعتنُا هي غير طبيعتكم.”
الزعيم الهندي الأحمر “سياتل”
(2)
في عام 1854 عرض قائد “البيض الكبير”، في واشنطن صفقة مدمرة، مهينة لشراء أراضي الهنود الحمر، بعد أن وعدهم بأرض بديلة عن أراضيهم، كان رد الزعيم “سياتل” بالغاً، ومعبراً عن سيرة شعب ارتوى الحكمة من هذه الأرض، اكتشف معنى القداسة من حرية السماء، لم يكن رداً، بل سرداً فلسفياً عميقاً لمعنى الأرض، والنهر، والحيوان، والزرع، احتفر “سياتل” دفاعاً عن كل شيء له أن يحيا، كما يراه، ولا يستحق الحياة كما يراه القائد الأمريكي.
و انا أقرا نص الرسالة الحكيمة، المشمولة بمنظور رؤيوي رصين، يكسو الزمان والمكان، بل كل الوقت، ليأتينا محملاً بنهب مصائرنا كلها، كنت أحدق في كل حرف، لأرى مدى نزوعها الحدسي نحو ما نحياه الآن، لأتعرف على طبيعة المحتوى الرسالي بقيمته التحذيرية لنا، أولاً، قبل أن تكون للمحتل الأمريكي، لا خلاف على تاريخ الجرائم اللاإنسانية الزاخرة بها سيرة العنف الأمريكي، من تدمير فعلي للأرض والسماء والإنسان، لكن الخطاب الحكيم يجتاز مسافات فلسفية وفكرية، تشي بطبقات معرفية لا تتأسس على تحليل العدوان البشع وحده، بل تتجاوز ذلك، لتسبر أغوارها في طبيعة البشر، في سعيهم الدائب نحو الهلاك بأيديهم، هلاك الذات الذي يتعالى بنهج الطغيان المدمر.
الإدانة تتعدى قادة العنف، لتتصل بأصغر شأن تدميري، يحتمل بذرة العنف، الكل مدان بتيسير هذا النهج المخرب للحياة.
كان الهنود الحمر، وهم يؤسسون لحضارة تحترم معنى الحياة، يدركون حجم الأذى الذي يتضاعف عند اهمال تلك البذرة، كانوا يحرمون العبث بأصغر تكوين يحيا، من كسر الغصن حتى ايذاء التراب: “كل إبرة صنوبر لامعة، كل شاطئ رملي، كل ضبابة في الغابات المظلمة، كل حشرة تطفر أو تطن، مقدسة في ذاكرة شعبي وخبرته. النسغ الجاري في الأشجار يحمل ذاكرة الإنسان الأحمر… نحن جزء من الأرض وهي جزء منا. الزهرات العطرات شقيقاتنا؛ الأيِّل، الحصان، العقاب الكبير، كلُّهم أشقاؤنا. الذرى الصخرية، دَرُّ المروج، حرارة جسم المُهْر، والإنسان – كلهم ينتمون إلى الأسرة عينها.”
(3)
هذا ما حدث، منذ بدء الخليقة حتى الآن، مذ أن بدأ البشر شراكة الشر عهد القتل الطاغي على كل شيء، كل حجر يئن، كل وريد يشظى، كان بفعل تأسيس نهج التدمير، طغيان قسوة الذات تجاه ما عداها، محق الحياة على أقل تقدير.
ليست العراق وأرضها الذبيحة التي تباع وهي تذرف الدم، ولا ما تبقى من أرض العرب، ألا مشهداً صغيرا مما يحدث على هذا الكوكب المبتلى بدمار لا يتأخر، لكن السؤال: من أين لنا بصوت حكيم جارح، كصوت الزعيم “سياتل”، ليلقن “المحتل” الدرس الذي لا تغيب عنه شمس الحقيقة أبداً:
“إنني إنسانُ بريُّ ولا أفهمُ كيف يكونُ الحصانُ الحديديُّ النافثُ للدخانِ أهمَّ من الثور الذي نقتلُهُ لنستطيعَ أن نظلَّ أحياءَ. لأنَّ ما يجري للحيوانات، يجري للبشر بعد وقتٍ قصيرٍ. كلُّ الأشياء مترابطةُ ببعضها. يجبُ أن تعلموا أولادكم أن سطح الأرض تحت أقدامهم هو رمادُ أجدادنا، كي يحترموا هذه الأرض، احكوا لأولادكم أن الأرضَ ممتلئةُ بحياة أسلافنا. علموا أولادكم ما علّمناهُ أولادنا، أنَّ الأرضَ هي أمُّنا. كلُّ ما يحدثُ للأرضِ يحدثُ للذين سيأتون الى الأرضِ.”
(4)
هكذا تشكلت لديهم منظومة قيمية، ومفاهيمية، سرت في دماء أحفادهم حتى الآن، ففى “أوكلاهوما” و”أريزونا” و”نيوماكسيكو” وغيرها من الولايات، يسعى أحفادهم لإنارة الفهم البشري بتعاليم أسلافهم التي تحلق في رؤاهم دوماً.
بعد أكثر من أربعة قرون، أيلول 2003 في مدينة “سانتا فيه”، عاصمة ولاية “نيومكسيكو”، بدأ المعرض الفني” غاليري ميدسين مان” المتحف المعبر عن ابداع الهنود الحمر، حيث تحدث الفنان “مارك سابليت” صاحب الغاليري:
“بدأ الفن المعاصر يأخذ ملامح الجدية والمنافسة في أعمال الفنان “توني آبيتا”، وفي
فخاريات “راسيل سانشيز” أيضا. لقد استشرف الفنانون الشباب رموز القبيلة، الدينية منها والعقائدية والثقافية، في رؤيا فنية وإسقاط مستحدث”. “وفي حقيقة الأمر يعتبر إشراك عناصر التاريخ والطبيعة، وشخصيات الميثولوجيا من الموروث الثقافي، أهم ما يميز فن الأميركيين الأصليين الحداثي عن الفن الأميركي بعامة في القرن العشرين.”
(5)
“نعرفُ ما الذي سوف يقوله الرجلُ الأبيض ذات يوم: ربّنا هو نفس الربٍّ، والآن تعتقدون أنكم تستطيعون أن تمتلكوه تماماً كما أردتم امتلاكَ أرضنا. لكن لا تستطيعون ذلك. انهُ ربُّ البشر وشفقتُهُ هي نفسها للرجل الأحمر كما للأبيض.
إنّ هذه الأرض ثمينةُ لديه والإساءةُ لها تعني تقدير خالقها تقديراً قليلاً. البيضُ أيضاً لسوف ينتهون، لربّما أسرعَ من كلٍّ الأعراقِ الأُخرى. فلتتابعوا تلويثَ سريركم، وذاتَ ليلةٍ لسوف تختنقون في وسخكم نفسه.
وحين هلاككم لسوفً تبرقون محترقين بقوّة الربّ الذي جاءَ بكم الى هذه الأرضِ لغايةٍ مقررة وأعطاكم السيادةَ عليها وعلى الرجل الأحمر. إنّ هذا المصير لغزُ لنا، فنحنُ لا نفهمُ:
الثيرانُ ذُبحتْ كلُّها، الأحصنةُ البريّةُ مدجّنةُ، الحياةُ الغابيّةُ هامدةُ، مضغوطة بروائح البشر الكثيرين ومنظرُ التلِّ الرائع مخرّبُ بالأسلاكِ والكوابل أين هي الأجمةُ؟؟
اختفتْ. أين هو النسرُ؟؟ اختفى.
هذه هي نهايةُ الحياة وبدايةُ – البقاء على قيدِ الحياة.”

أكاذيب حافلة بالحياة

(1)
“.. وأقول لها إنني أحاول أن أسرد قصتي، ولكني لا أستطيع، ولا أملك الجرأة، لأنها تؤلمني، ولذلك أُجملُ كل شيء وأصف الأمور، لا كما جرت بالفعل، بل كما كنتُ أود أن تجري.

تقول: بلى، قد تكون حياة الواحد منا أشد كآبة من أشد الكتب كآبة.

أقول: بالضبط، إن الكتاب، مهما كان كئيباً، لا يمكن أن يكون بمثل كآبة حياة”.

(2)

ما فات جملة اعتراضية ضمن مقترحات لمشاغلة شأن الرواية في عمل ابداعي يقتفي بدقة ترتيل الحياة، عبر تجميع العديد من الأكاذيب لصياغة رواية غاية في الإدهاش، لا الذهل فحسب.

هكذا تجلس أمام الطاولة وبيدك كتاب معنون بذريعة الهجوم “الكذبة الثالثة”، تقرأ منزوياً على مقعد يتيم، وفجأة تفلت أحداقك نحو السقف، لتتهجى لغم الحدث وتحفل بحرية المعنى، تكاد تختنق كأنما الهواء يبتعد، لئلا تموت تعاود القراءة، فينزاح النبض لا النص وحده، وأنت ترثي لحال توأم الرواية “الشاعر كلاوس” والروائي لوكاس”، تستمر في متابعة السطور دون أن يسقط الكتاب، تلغي هجمة العالم من حولك.. الهاتف يرن.. الباب تدفعه الأيادي.. المساء ينحدر، وأنت منكب كميت يتلفع بحرير الكفن، تجاور الأحداث، غير عابئ بانهيار العالم من حولك.

ترتاد عيناك كلمات لاهبة، تندغم فيها الصورة والمشهد، وعذاب شخوص تراها تؤنب ذاكرتك، تحتمل، تستمر كمنتحر، تضل الطرق وتنتظر الرحيل… حتى تصل إلى نقطة تستوحش والفراغ منتهى السطر، حينها تعلم أن رواية الكاتبة المجرية “آغوتا كريستوف” قد انتهت.

عندها لك أن تندب وقتك.

(3)

آغوتا كريستوف، كاتبة مجرية، تعيش في سويسرا منذ الخمسينات وتكتب بالفرنسية، لها رائعتها التي تعرفت اليها منذ قليل “الكذبة الثالثة” الحائزة جائزة “ليفر أنتر” الفرنسية للرواية لعام ،1992 وهي روايتها الثالثة بعد “الدفتر الكبير” ،1986 والدليل” ،1988 وقد ترجمت جميعها إلى أكثر من عشرين لغة في كل أنحاء العالم.

هذه المرأة حققت حلماً ابداعياً فيه تتخلق الرواية كغصن طالع من نبض الدم، كأن تمسك بكتاب جاف وما أن تحفل عينيك بضوء السطور حتى يغدو نبضاً راعفاً يحتمي بك.

صعب أن أرسل لكم، ما اندلع نحوي وأنا شاهرة صمت القلب، رأيت هتفاً تقصى روحي، من سيرة توأمين، غاية في الدعة، يكفي أنهما آن المصاب كانا في الرابعة من العمر، يتعرضان لنزاع مرير ينتهي بمشهد دموي: يترنح فيه الأب والرصاص يخترق قلبه، والأم تقاد كقاتلة تنتظرها المصحات العقلية، لنتعرف فيما بعد الى ما حدث لطفولة شاء لها المستقبل أن تحتضر قبل آوان الموت، طفولة تتعرض لريادة اليتم ومراكز تأهيل المعوقين، فيها تنمو موهبة ضارية لدى “لوكاس” الذي يتسلح بالشعر وكلاوس” الذي يقارب الرواية، موهبتان تتقدان، كل على حدة، يتخلق بينهما تماس خطير مع الحياة، حتى يتحقق اللقاء المؤجل بينهما لخمسة وأربعين عاماً، فيها نال الدهر ما أراد من طفولة ولدت كالموت مقصاه عن الحياة، المفجع في هذا اللقاء مدى الرفض الذي يتناهض بينهما، مدى الصمت، ليثقا معاً بصعوبة ما حدث.

(4)

“آغوتا كريستوف”، ليست كاتبة مجرية عانت من طوفان الشمولية العقائدية فحسب، ولكنها امرأة تصدت لجحيم الحياة البائسة لكل سرد عملاق، تتسع فيه الذات بوجدان أزلي لمساءلة الوعود والأوهام التي رفرفت على الرايات، لنقد منظومة روجت للهباء، لإنجاز ابداع يصف رعونة الطرق، صرير الجوع، عزلة الغرف، طوابير الشعب الباحثة عن رغيف، ضد برد زنازين يتعب فيها القيد.

امرأة تصف بمخيلة تستدعي أكاذيب الموهبة، ما نعجز عن متابعته، آن نرفع الأحداق لنحدق في الهواء، لكونها تستدرج القارئ ببراعة ليمضي، ويحيا حياة كل طفل منهما على حدة، من دون أن يعرف ماذا حدث لهما، وحتى تتكشف الأحداث، يصيب الذهول كلا من القارئ والطفل معاً، حتى بقية الشخوص في الرواية نرافق تحولاتها كأننا معها في مكيدة المحنة، نشفق على القاتل والقتيل معاً، ننتحر والشاعر، ننحاز للحب، ننتظر كالغرباء على الأرصفة.

كل هذه المناوبة لتفاصيل الرواية، تدفعنا بحرص نحو تشابك المصائر، لقدرة الكاتبة على نسج دراما تصاعدية لا تترك للقارئ قدرة لفعل الحياد، فينساق بلا إرادة نحو حياة أخرى تتشفى بغفلته.

لغة الرواية غاية البساطة، تنحدر المشاهد متتالية، وتسوقك بعناية للتعرف الى ما تجهل من عنف يلعب بعائلة تلاطمت بين الحرب والانتظار.

رواية “الكذبة الثالثة” جاءت منسابة كأنها بلغة الأصل، ثمة تواصل وحال شخوص الحدث، مرونة وتداخل الأحداث بين الحلم واليقظة.

هذا العمل الفني يقترح بأنه: ليس جديراً بالرواية المعاصرة أن تنزع نحو التفخيم اللفظي، والمبالغة لوصف ملامح العناصر الفنية أو حلول الطبيعة، كالبدء كل فصل بتفاصيل كثيرة عما سوف نراه، مما يصيب القارئ بدوار لا تستدعيه رغبة الاستحواذ على مخيلته، لذا على القص أن يغويه بلا تعب الديباجة والمستهل الذي لا نائل من ورائه.

أيضا، ونحن نحيا في واقع صعب بالغ التعقيد، على الابداع أن يوازي حاله، ويكف عن بعث قديم التعبير، ذي الحبكة وثلج السرد الممل، له أن يلهم النفس بوميض لا يكاد يسطع حتى يختفي، لنحيا بذكراه.

لذا عبرت “أغوتا كريستوف” في أكاذيبها عن حياة لاهثة، تصحبنا لمسراتها وأتونها كالعميان، كالعشاق لا نكاد نقرأ الدرب من دهاء انحداره.

التأمل والوعي النبيل

1-

أن أجمل تجربة يمكن أن نملكها هي كشف جوهر الأشياء الغامضة، انه الانفعال الأساسي الذي يقف عند مهد الفن والعلم الحقيقيين. ان من لم يدركه قط ولم يعد قادرا على الاندهاش، كأنه قد مات وعتمت عيناه.

ألبرت أينشتاين

2-

لنيل تجربة تبعث هذا الاندهاش العميق الذي يتحدث عنه العالم “ألبرت أينشتاين “لابد ان يخضع المرء روحه لتأملات عديدة تؤدي الى الذهول أمام تداعيات الوعي، حيث يعتبر التأمل أحد أشكال هذا السبر والبحث عن الارتقاء الروحي، للتأمل طرق اختبرتها البشرية بأشكالها المتعددة عبر العديد من الرياضات التعبيرية والفنية والروحية التي تؤصل فكرة موحدة تعتد بطاقة الصمت، نهل التفكر الفلسفي، تعميم الهدوء والسلام الداخلي الذي يجلو شوائب القلب، كل هذا من أجل ترك الوعي يقودنا لسبر الحالة الراقية التي نصل اليها، يتضح الوعي ويتقد ليتبلر بنقاء الماس، الشفيف الخالي من شوائب الايجو وأنانية النفس وأحقادها وجشعها وضيق فردانيتها، هذا هو الوعي الحقيقي والعميق وليس التضليل القائم على تكرارات الذاكرة الثقافية، وتمثلاتها المضخمة لحضور الأنا.

امام اللوحة، الورقة، آلة العزف، حتى أمام الهواء نشعر بنشوة الصمت، سكون العقل، نور الرؤيا، ونحن نصغي لدقات القلب، ارتخاء عميق يعمل على تنشيط مكامن الابداع في خفايا الوعي، فنبدأ الرسم أو الكتابة أو العزف أو التأمل الروحي الذي ننشده لنصل الى شحذ طاقتنا الداخلية وتفجير كل تلك الطاقات المعطلة.

3-

يلازم التأمل حياتنا ونحن نبحث عن معناها، ونحاول تجريب مهارات تعاوننا على تقصي ما نراه من صعوبات وآمال تتضاد أمام أعيننا، من خلال علم الطاقة ” الريكي” تعلمت تأمل المحبة والتعاطف، التأمل الإدراكي، وتأملات شفائية أخرى، كان لها الدور الأعظم في إعادة صياغة حياتي نحو النور، كمعنى واحساس ورؤيا، كطريق نحو مصالحة الذات، تعلم المحبة وتقصي طرائق الحكمة، الغفران والتسامح، التعرف على نهج الصمت في خلوة لا تخلو من نعمة الرحمة،الصمت ” جوهر سر الواقف وقلمه الذي يدون به وقوفه” كما وصفه “النفري”: و قال لي من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل.”

كما حدثنا المعلم كريشنا مورتي: التأمل واحد من أعظم الفنون في الحياة – ولعله أعظمها طرا – وليس في إمكان أحدهم أن يتعلمه من أيِّ أحد – وذلك هو جماله. ليست له أية طريقة ولا أية مرجعية بالتالي. عندما تتعلم أمورًا عن نفسك، تراقب نفسك، تراقب كيف تمشي، كيف تأكل، ماذا تقول، الثرثرة، الكراهية، الغيرة – إذا وعيت ذلك كلَّه في نفسك، من دون أيِّ اختيار – فذلك جزء من التأمل. التأمل واحد من أكثر الأشياء خَرْقًا للعادة، وإذا لم تكن تعرف ما هو فأنت أشبه بالأعمى في عالم من الألوان الساطعة والظلال والضوء المتحرك. إنه ليس قضية فكرية، ولكنْ حين يلج القلبُ في الذهن، يتصف الذهنُ بخاصية مختلفة تمامًا؛ إنه يكون، حينئذٍ، غير محدود حقًّا، ليس في قدرته على التفكير وعلى العمل بفعالية وحسب، بل كذلك في شعوره بالحياة وسط فضاء شاسع تكون فيه جزءًا من كلِّ شيء.

السمندل رامي الجمرات

(1)

“واجبنا الصعب-السامي- تمكين البسطاء من وعي شقائهم، رمي الجمرات في باحة كل بيت مستكين، لماذا…؟

لكي لا يتعفن العالم في هدوء وركود، لكي لا تتآكل الروح بالصمت والرضي”.

هكذا تحدث الروائي المتصوف اليوناني “نيكوس كازنتزاكي” (1883-1957) الذي تكفيه “حجرة ضيقة على شاطئ البحر، أو قمة جبل.. وقلم وورق، وفواكه كثيرة وكائن بشري يحبه.. ليزرع في كل الرياح”.

بجدارة الشاعرة، الزوجة الوالهة لذكراه، دونت “ايليني كازنتزاكي” ما لا يدركه أحد، عن حياة مستها بشغف العاشقة قلباً لا يتعب، أدمت الحبر في كتاب”المنشق” الذي ناهز خمس مئة وأربعة وثلاثون من أرق الورق، للكشف عما أحتمله قلب صاحب”زوربا”، “الأخوة الأعداء”، “تقرير إلى الغريكو” ورائعته التي أمضى عشرين عاماً، وهو ينحت حروفها كالسمندل- كما يصف نفسه- “المسيح يصلب من جديد”.

عندما ابتعد عن الموت قليلاً، همس لها بخفوت النبض:

“سوف أموت وكتب كثيرة بداخلي”

هكذا اكتوى”نيكوس” بحرقة موهبة تدين حياة لم تعد تكفيه، ليدون على جراحها ما يمزق روحه، موحياً بكلمات ذات دلالة أليمة، عن مدى اصرار الحياة فيه على شهقة الكتابة، رغماً عما يلقاه الجسد من معول الألم.

“المنشق” سيرة تقترب إلى حد بالغ برؤى بليغة كالجراح، لكاتب لم ينس أن يحتز كل شيء، ادلهم بنوائب حياته، رسائل للأصدقاء، سرد يتعلق بكل عناصر الطبيعة، إفشاء تام لخوابي العقل والقلب معاً، كلمات مصابة بصبر اليأس واندفاع الأمل، توجها بسرد شعري لامرأة عانقت معه ما تبقى من قمة القلم.. حتى سقطت يده اليسرى من على جبينها، ليواجه هجمة الموت.. ولتجابه – وحدها- وعدا وتحدياً.. غاية الصعب:

“- عندما أموت، اكتبي عني كتاباً.

– لا، لا، لابد من كاتب موهوب.

– سوف تضعين كتاباً عني يا “لينوشكا”، عليك أن تفعلي ذلك، لأن الآخرين سوف يقولون عني أشياء غير دقيقة، أنت الوحيدة التي تعرفينني جيداً.”

لتهدر- نحونا- محنة الفقد:

” وها أنذا أخوض التجربة، أن أكتب رواية، هذا ممكن وبسهولة، أما أن أصفك، وأضمك، وأثبتك بإبرة ذهبية، كما لو كنت أثبت فراشة، فهذا ما يثور له قلبي، لأنني أحب الفراشات وأحب تخيلها وهي تتطاير فالتة فوق رأسينا”.

(2)

صاحبت “ايليني” ذاكرة الوجع، كتابة كل شيء.

لكنه أحبها حتى آخر العمر، كلما اكتشف في رأسها شعرة بيضاء هتف: ” يا للفرحة.. أنك بدأت تهرمين بين يدي!”

“إلى أين نحن ذاهبان، لقد وضعنا دفة المركب نحو الهاوية”، ” بما انه ليس هناك نقطة نهاية لشيءابتدي به، سأظل وفياً لك للأبد، رغماً عنك.”

خاض” نيكوس كازنتزاكي” كل معترك شديد الوعر، من خبط القلب حتى قيد الوطن وصخر الغربة، جاب تجربة الكتابة صاعداً نحو أمل صعب أشعل فن الحواس:

” كالسمندل أصيب السمع، ليس السمع فقط، أنصت بعمق إلى حد بعث الصوت القاصي، وكما يرتعش الجسد بكامله، لأنه لا يعرف أين سيقبله المحبوب، ترتعش روحي للقبلة اللامرئية.”

هكذا كان يحث دواهي الجسد للترقب والتشبث بمعجز المخيلة، حرص بالغ بات يسديه نحو شظية الذاكرة، هذا الملمح بالذات هو الأشد فزعاً لكل من يتعرض ” للمنشق”، سيرة تلقن درساً في القلق الإبداعي برجفة لا تحد، بعد إحدى وخمسين سنة من جمر الكتابة، يسأل ايليني:

” لينوشكا.. أقرئي أرجوك.. أخبريني إذا كانت لها قيمة.”

من خلال هبوب السرد، يتهاطل بعداً إنسانياً يرافق حضور هذا التوق الابداعي، عنايته بالأهل والأصدقاء، من يموت من أصدقاء دمه، يرثيه بأن يتخيل جثمانه ملقى على كتفه، يبكي ويكتب:

” إذا قلت إني أبكي خلال الكتابة وأتألم وأنهك جسدي.. هل تصدقي؟”

” الكلمة حجر صلب، تنبجس منه ألف شرارة.”

(3)

لكنه الموت، غريم صعب، قبضة قبر لا تغفل عن أحد، لذا استرقاه ” بلوكيميا الدم”، لتغزو الكريات البيضاء ما عداها من لون، لنراه معرضاً لجسد يمحوه، تحتويه الحمى وضيق الأنفاس يحتل مجرى رئتاه، مسجياً بدم أبيض كالورق، تكسوه الضمادات، قالت له ايليني:

” أرادوا أن يبتروا ذراعك اليمنى. فقررت قتلك.”

فارتجف نيكوس: ” قتلي!”

“: نعم كاتب دون يده اليمنى ولا يجيد إملاء كتابته أيضاً.”

بعد دقائق صاح: “عزيزتي.. أرجوك هات لي ورقاً وقلماً. وشرع يكتب بيده اليسرى.”

” غير أن الإنسان يقاوم قوانين الطبيعة ويزدريها، يبدو له العالم أدنى مما يريد قلبه، فيرغب في بناء عالمه الأفضل، فيعترض العقلاء والأثرياء يصيحون: العالم جميل فلا تحطموه!”

سأله الصحافي “بيار ديكارغ” لماذا ألف كتاباً فظيعاً عن القديس “فرنسوا”، فأجابه نيكوس:

“أضع كتباً مقلقة على الأقل، وفظيعة إذا أمكن، لأنه يتوجب التأكيد للبشر بأنهم سائرون نحو الكارثة، وإن عالمنا على شفير السديم الذي سيلتهمه، قليلون هم الكتّاب الذين يهتمون بذلك، الكتاب يتلهون بملذات بالية، ينبغي إعلامهم بأننا نقترب من النهاية.”

صباح يوم السبت 26 أكتوبر، تلاشي بصره، عينيه لاحتا ذابلتان، لذا سألته واهية الفؤاد:

” – هل تشعر بألم ما؟

– لا.. لا.. إني أشعر بالعطش!”

مترنحاً من جفوة جفاف أنهى الدم:” عطشان.. عطشان.” فارق حبر الحياة، ولم تزل يده اليسرى على رأسها إلى أن وضعتها على غطاء السرير.

 

” أسلم روحه واقفاً تماماً كما عاش مثل الملك الذي أخذ نصيبه من الوليمة، ثم وقف وفتح الباب، ومن دون أن يلتفت اجتاز العتبة.”

الشعلة الزرقاء

(1)

” أنت تحيين فيّ وأنا أحيا فيك،

أنت تعلمين ذلك وأنا أعلم ذلك”

جبران.

 

“كثيراً وبحنو- كثيراً وبحنو”

مي.

(2)

الشعلة الزرقاء رسائل تضمنت كلمات الحب التي وحدت بين روحين في عذوبة “مي زيادة” ورقة “جبران خليل جبران”، كلمات تنضح بأحاسيس رهيفة، تعبر كل يوم، سبعة آلاف ميل، لتصل بين قلبين يرتعدان على الدوام، أحدهما يقيم مرتجفاً في مغارب الأرض، والآخر ملتاعاً في مشارقها.

منذ عام 1914 حتى عام1931، كانت ثمة شعلة زرقاء تومض في ليل عاشقين، لاذا معا بجفوة غربة سعرت أتون الحب، راهنا بقدرة الحرف على تحمل طاقة القلب.

“. إن تلك الشعلة الزرقاء تنير ولا تغير، تحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر.”

(3)

تتميز تجربة مي وجبران بتألق روعة القلب، إلى حد توهج العشق على الورق عبر كلمات مضاءة الى الأبد.. من الصعب أن تخبو مع جنائز الوقت، ذلك لتحول العلاقة ذاتها من جسدين إلى ورقتين، بمعنى أن جمرة الفقد، احتداد العاطفة التي طالت على ما يقرب من عشرين عاماً، دون أن يلتقيا إلا على جنة الورق، استطاعت أن تخلق البديل الحتمي، لينوع جسارة هذا الحب، الذي تجسد في تحوير ملامح الورقة، لتتماهى بروح وجسد الآخر، رسالة جبران هي كل ذاته، كتابة مي هي كلية ذاتها أيضاً، وعندما تحتضن “مي” ورقة “جبران” لا تحتضن سوى خفق قلبه، وعندما يقرأ كلماتها ،لا يرتشف بنظره سوى عطر روحها، هكذا تحقق التضام النصي بينهما، ليرفلا معا بتضام روحي، أذكى جمرات جسدين التحما معاً، في أغرب تجربة لأتون حب مضى عليها غبار الوقت، دون أن ينال حرفاً واحدا منهاً.

” نحن في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فإلى أي مكان تريدين أن نذهب في هذه الساعة المتأخرة؟ الأفضل أن نبقى معا في هذه السكينة المعذبة.. هنا نستطيع أن نتشوق حتى يدنينا الشوق من قلب الله.. لا تنكري أن النعاس قد قبل عينيك. لقد رأيته يقبلهما. هكذا كما يقبلون، فألقي رأسك هنا، إلى هذه الجهة ونامي، نامي يا صغيرتي، نامي فأنت في وطنك.”

(4)

مهما حاولت التدليل عبر إيراد تضمينات، تشي بخطورة هذا الحب الإبداعي، لن أتمكن من التأكيد على عمق هذا الولع التعبيري، المنتاب بمحاورات فكرية، فلسفية، نورانية، حياتية، مسجورة بتفاصيل لم تنس أن تسرد ما اعترى جسديهما معاً..

اكتنزت تجربة الرسائل، عندما اشتملت على مصائر يومية على كل منهما أن يحياها مع توأم القلب، تبدى ذلك في تعامل “جبران” وترامي “مي” لتأسيس اندفاع معذب ومبهج في آن، ترسيم صلة بالحبر، تحولت لدم يوحد رعشة قلبين في محنة الفقد، من المحبة استمدا معا، ذخيرة للتأمل ومناجاة الحواس:

“منذ كتبت إليك حتى الآن وأنت في خاطري. لقد صرفت الساعات الطوال مفكراً بك مخاطبا إياك مستجوبا خفاياك مستقصيا أسرارك، والعجيب إنني شعرت مرات عديدة بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في كلماتي وأعمالي.. فقد قلت لي مرة: ألا أن بين العقول مساجلة وبين الأفكار تبادلا قد لا يتناوله الإدراك الحسي ولكن من ذا الذي يستطيع نفيه بتاتاً من بين أبناء الوطن الواحد.”

(5)

للأسف، لم يشتغل النقد العربي، على مدونات الرسائل، ليفسر سر تعلق قلبيهما معاً عبر تحليل القيمة الابداعية في نصوصهما، بل التجئ لتبرير ذلك الحب بحاجة “جبران” لملهمة تعينه على إنجاز إبداعاته الشعرية، وسعى لتحويل “مي زيادة” إلى أنثى فقط، موهوبة ومغوية، أغرت العديد من الكتاب والشعراء في صالونها الأدبي، وشحذت أفكارهم للكتابة تدلها بعشقها، كما حدث للعديد من رواد الفكر والإبداع في مصر.

أن حركة التوثيق النقدي التاريخي العربي، لم تحلل ما تراه، إلا بسطحية لا تختلف في مرجعياتها، من مؤسسات القمع الفكري في رعايتها لسيادة ذكورية تستبد، ليس آنذاك في بدايات القرن الماضي، لكن حتى الآن..

لفرادة “مي زيادة” – كما سنتلمس في الجزء الثاني من صوت- ولفداحة “جبران” علينا ان نشهد بجرأة لما حدث، مي لم تكن دمية لإغواء أصحاب العقول، بل راعية قلم وعقل، ناهزتهم بحكمة كلماته، وفصاحة صوتها، امرأة دافعت عن حريتها طيلة عمرها، امرأة من الصعب أن توصف بلاغة جرأتها أمام عنف الخدور، وسجن المشربيات التي تحلى بها ذاك الزمان، “مي” امرأة مسكونة بشفافية فراشة، ماتت بقسوة لا تطاق، وهي تلهج بحرية الهواء لرفيف أجنحتها، لذا لنا أن نلغي غبن الرواة ونحتكم لوقيد كلماتها:

” أيها الرجل لقد أذللتني فكنت ذليلاً. حررني لتكن حراً.”

كذلك كان جبران، بالرغم من انهيال التكريم والتقديس لسيرته ومنجزاته الأدبية، إلا أنه تعرض مثلها لمشاع التشكيك في مرام قلبه، من ماري هاسكل حتى أخريات، لا.. لم يلتفت النقد للشعر الذي انهال في هذه الرسائل، ولم يقترب النقد إطلاقا من شاعرية الحب.

“ألا فأخبريني كيف عرفت كل ما تعرفين وفي أي عالم جمعت خزائن نفسك وفي أي عصر عاشت روحك قبل مجيئها إلى لبنان؟ إن في النبوغ سراً أعمق من سر الحياة.

انظري يا محبوبتي العذبة كيف قادنا المزاح إلى قدس أقداس الحياة.. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة.”

شعلة استعرت بلهيبها وهي توقظ قلبين لهما كل هذا الليل

(6)

” ماذا تعني رنة التوجع في كلماتك الجميلة؟ ما معنى الجرح في جبهتك؟ سوف أصلي لأجلك في سكينة قلبي، والله يباركك يا مي ويحرسك”

جبران خليل جبران

” أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني.”

مي زيادة

(7)

اسماعيل صبري:” إن لم أمتع بمي ناظري غداً، أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء“

أسعد حسني:” كانت مي على رغم سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن “الاسترجال” وأشدهن تمسكاً بالخصائص النسوية بقامتها الربعة وشعرها الطويل يجلل صفحة جبينها.”

سلامة موسى:” لم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوه.”

فتحي رضوان:” أما مي نفسها فممتلئة غير مترهلة وأظنها أقرب الى القصر من الطول ان مي زيادة ظاهرة اجتماعية أكثر منها أدبية.”

هدى شعراوي: ” لم تكن مي على وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعنى الصحيح للجمال“

إيلين عبود: ” لو ان ادباءنا اعزهم الله تحولوا عن البحث فيما يتعلق بعشاق مي الى البحث في تراثها الأدبي على ضوء الحقبة التي عاشت فيها لأسدوا الى روحها جميلاً وأسدوا فضلها الى الناشئة من فتيات وفتيان جلهم يجهلها أديبة عربية لها مؤلفاتها القيمة وخواطرها الرائعة.”

مي زيادة: “هل من منفى أبعد وأكثر وحشة من الغربة في قلب الوطن بين الاهل والاصدقاء.”

(8)

بالرغم من الغبن الذي تعرضت له “مي زيادة” من قبل رواد الثقافة، الا أنها لم تتوهم التعويل على انصافهم لتجربتها الادبية، بل دعتنا لنستشرف مدى عمق كتابتها الممهورة بنقاء ملائكي في كتاب “الأعمال المجهولة” للكاتب” جوزيف زيدان” بعد عثوره عليها مغبرة ومهملة بين رفوف “دار الكتب” بالقاهرة، مئات المقالات والكتابات النثرية المنشورة في “المحروسة” والأهرام والمقتطف، حروف نورانية تدعك في خرس لا تقوى على الكلام، كلمات مصانة بحرية وجرأة امرأة حاورت الآخرين، وتصدت لمواطن الخلل في منظومة القيم والمفاهيم الذكورية المتسلطة، التي لم ترى فيها سوى امرأة جميلة ومغوية وملهمة لمواهبهم المتسيدة، هكذا كانت تتحداهم:

” الجوهرة ثمينة في ذاتها، فتقديرك لها شهادة لنفسك بالمعرفة والذكاء لا شهادة للجوهرة بنفاستها.”

” لو كنتم محقين لما احتجتم الى كل هذا الاسهاب.” “ينصحني بعضهم كأني استشرته وسلمته قيادي.” “المستنقعات تحكم على النهر بالهوس والهوج لأنها تتابع سيره على الدوام وهو لا يستريح.”

(9)

ان قراءة تجربة مي الأدبية وتعقب حياتها الصعبة لا تكتمل الا بفعل حرقة التوجع التي سوف يصاب بها من يقرأ كلماتها “المجهولة”، لكونها تستلهم قدرتها على التخلق بجرأة لا تعبأ بالصخب النقدي الذي لم يرى فيها سوى “حلية الزمان” وانثى تجرأت على مجالسة الرجال في صالونها الأدبي، منذ 1886 حتى 1941 واجهت “مي” حياة لا يستهان بمدى قدرتها على ترجمة مناب القسوة ضد الموهبة التي اينعت في روحها.

هل لنا أن نسأل: كيف نفسر ما حدث لها من غبن مؤسسة ذكورية مهيمنة على مقدرات الثقافة والابداع ولم تزل للأسف.؟

في العقد الثاني من القرن ما قبل الماضي، وفي عمق عهد الحريم ذوات الخدور الحجرية وأقفال الحديد، المسربلات بالأغطية والحجب، الصم والمبتورات الألسن، كيف استطاعت “مي زيادة” أن تكسر حديد هذا السور، وتتسلح بالثقافة العربية من اصولها العريقة على يد الشيخ الازهري “مصطفى عبدالرازق”، وتتحصن بلغات وثقافات اجنبية متعددة المصادر، ناهيك عن المعاهد والكليات التي حرصت على التزود بعلومها، ثم – وهنا التحدي الفريد- تأسيس صالونها الادبي منذ 1912، فيه حاورت اعلام النهضة من أحمد شوقي، عباس العقاد، سلامة موسى، شلبي شعيل وآخرين أولهم طه حسين.

كيف لها ان تنال طيلة سيرتها منذ المهد حتى الحجر عليها بحجة الجنون، حتى موتها، تلاويناً من النبذ والاهمال عبر تحويلها الى دمية مغوية لمواهبهم الذكورية، عبر توصيفات لا تليق بنقاد وكتاب اعتبروا رواداً للنهضة آنذاك، لنراهم رجالاً منشغلين بحكايا مأخوذة بسبر الاقاويل عن حقيقة قلبها، ذبول جمالها الجسدي، وتقصي أمورها الحميمية بطريقة مرعبة.

هكذا كانت تبوح لذاتها: ” رغم الانحطاط والانزواء، ظلت المرأة مسلحة بسلاح لا يفل، طلت مسلحة بالحب الذي هو حياة الأجيال ومغزى الحياة.”

” كم نزيل فيك مظلوم ايتها السجون، اذ قوبل بذوي الجرائم البكماء التي لم يذكرها القانون.”

لقد تحدتهم مي حتى آخر لحظات عمرها، كما تتذكر الروائية غادة السمان:” من اللقطات التي توجعني في حياة مي زيادة، مشهد تلك الأديبة في ندوتها الأخيرة في الجامعة الامريكية، وهي تخوض امتحان ما بعد الجنون، تغادر مستشفى المجانين الى المنبر بشعر كلله البياض والحزن، يومها لم تصبغ شعرها الذي زاده ثلج الوحشة بياضاً، ربما كفعل تحد، كإعلان عن حقيقتها الداخلية وعن حزن يفتك بقلبها ولا ترى مبرراً لأخفاه في مهرجانات الفضول والاقنعة.”

(10)

جبران: “قد ولدت وعشت وتألمت وأحببت لأقول كلمة واحدة حية مجنحة، لكني لم أصبر، لم أبق صامتاً حتى تلفظ الحياة تلك الكلمة بشفتي، لم أفعل ذلك بل كنت ثرثاراً فيا للأسف ويا للخجل! وعندما صرت قادراً على لفظ أول حرف من كلمتي وجدتني ملقى على ظهري وفي فمي حجر صلد.”

مي: “ننحني أمام القبر الذي ينام فيه رجل هو بروحه للإنسانية كلها ولكنه بجسده غريب بين الغرباء..

فهنيئاً لك برحيلك، لقد أعطيت كثيراً، وإن أغاظتك هذه الكلمة، لقد أعطيت كثيراً وقال فيك الشرق للغرب: ها أنذا

حسناً فعلت بأن رحلت..”

ترجمة

ترجمة للشعر من خلال انطولوجيا بلغات تكتشف لغتي

حوار

لقاءات وحوارات وجدت فيها مرايا ترى الشعر وتراني