قسوةُ السواهي


وقفنا قليلاً
أدرنا الهواءَ فيما بيننا
ثم ابتعدنا
لنداري ما استحل وأردانا
كنعشين يعتصمان ببردِ الوحشة
ضد بدء خنق استوى لهذا التراب:
مشيئةُ الدربِ الأعزل، جريرةُ الأزلِ الأعمى،
غاوٍ تفانينَ العذاب
لماذا كلما رآنا نستهل لروع ٍ يجابهُ أرواحَنا
راح يسترد هلعةَ الشغاف

ذهبنا لمفترقٍ صعب
كلُّ خطوٍ أنحى له ممرًّا غريباً
لندرك فيما بعدنا، آن تشظت خطانا:
كم أراق ذاك اللقاءُ القليلُ قسوةَ سواهي النظر
كم مسّدَ كلَّ جفنٍ برجفةِ رمشٍ أسير سهو ما انتحب
كم سوّرتنا المساءاتُ بخدوشٍ حَزَّتْ سرايا الذاكرة
كم تناهبتنا أضرحةُ الليالي مأسورين بأنقاض تتألم
كم كنا نلهثُ في غصةِ قبرين مُلامَيْنِ على قبلة الموت
كم كنا معاً
كم وحدنا كنا علينا
لا لنا

مذ
في هديرِ ذاك المكانِ الصغير المنحورِ برعبِ الأضداد
مذ مددتُ يدي اليمنى المجللةَ برعشةِ الفقدِ المضني نحوك
لألتمسَ مدى عبءِ روحك
لأكتم دهشةَ أصابعي التي تفازعت وجلاً
غصباً عن توقِ القلب الذائب،
مذ آنذاك حتى
أراني مسدلةً.. كجدارٍ كسيرٍ يتذكر في مدى الحجرة
جدار مهزوم مثلي
يتكسر كلُّ حجر لا يرى غيرَ غبارِ الخسارات

مذ آنك
آن أرديت خطوَكَ لِغُلُوِّ طريقٍ يتحدرُ لبأسِ المصاب
مصاب لا يشفى منه أحد
مُذْهُ
لم أختنق إلا بصمت عارم فزز خفوتَ حنجرتي
صمت رامني لهاوية تراني
أهمس برتمٍ رنيح ٍ يجمح كالصهوة عالياً: آه
هل أدرك كم هو غاف هذيانُ هذا الحب
كم هو قتلٌ لذيذ
متاحٌ لخنجرٍ جديرٍ برنيمِ خفقٍ لا يخفيه
قد لا أعرف،
ولينهرني ما تبقى من خبط القلب
فما عدت أستهدي إلا:
بنفذةِ عينين كمخلبين يقتنصان رجةَ القلب
جمرتين تقدان أهوالَ الحميم من صهيرٍ يتدافع نحوي
جناحين يؤرجحان ريشَ عصفور استحلَّ رعشةَ روحي

يا عاهلَ القلب، يا والي مسراتِ الألم
أمام ضوءٍ شريدٍ يتغادى بك
أتسامى
سافحةً جسدي، ليتردمَ من رنيحٍ لآخر
حتى يسندني مديد ظل كفحم الحبر لا يسهو عني

لأهواه:
قاربٌ يتمادى بطيشِ أشرعةٍ تراوغُ غدرَ العصف
طائرٌ يرتكبُ جنوحَ عظمٍ يبالغ في قدرةِ الريش
لئلا أنساه:
صار يتهاطلُ بهجمةِ نبضٍ تخلعُ آخرَ الأنفاس
يتباهى بحضنٍ يعتصرُ طراوةَ الأضلاع
ليراني أتعرضُ لردمٍ شقي
لم يدع حجرا واحدا ليتلو جسدي
بل راح ينز فتوى الوريد تلو الوريد
لأحتضر وحدي بآهٍ مديدة
لم تؤخر خلعةَ عظم
لم تبق جنازأ لي

تلك الليلةُ القليلة
ما أن مددتُ يدي نحو أصابعَ تحيا ملغومةً بتوقك
حتى أشهرت عروقي فضح الوجيف
لأحتمي بعنف صمتٍ داهى متاهَ الوله
ربما
لأمحو ما ألمحُ من ذعرٍ ران يستخف بأقاصي الزفير
ذعر غالى بمهبِّ الكبد
فأهال الصهيرَ كله على غفلةِ جسدي
لأسلو بغفيرٍ خجلٍ كوهيدِ الشمعة لم يشفع لي

أدرك أنه الحب
سلاحُ القتيلِ الواجفِ من مسيلِ الجرم
لا غير هذا الشنق
لا غير نحرٍ رحيمٍ يرتوي من خفقة الحبل
لا غير صبوِ عناقٍ قديرٍ بقذفِ القلب
ما لا براءَ من لياليه ولا من سخطٍ يدميه
ولا من شهقٍ خانقٍ يرميه
هل نارٌ تدكُّ جفلةَ الجمر
فزعةٌ تديمُ ارتباكَ الروح
بكاءٌ يذيبُ آخرَ الحواس
على مهل.. هكذا

يا للخفيِّ الجَسُوْرِ، يا لسطوِك
يا عنفوانَ الذنبِ اللائذِ بضحاياه
يا ملذةَ البرقِ الشارخِ حريرَ البحر
يا لغرابةِ وهدِك الخجول
ما أن تغافل محرابَ الذات
حتى تغل وقيدَ الحراب
تباعاً
هكذا

هل بدأ جورُ المنتهى
هل آخرُ حرفٍ يشاغلُ حبرَ الغياب
هل عذبٌ ينيبُ لحنينِ الرغبة المواري مذاق الشفاه
إذ يعتمر الأعضاءَ بشفافة حضن حوانا برحيق الجمرات
خطف بريق داوى وميضَ أرواحنا
رمانا لغامرِ رغبةٍ استبدت وأشهرت
ما استنزف من شهوةٍ أدمت يأسَنا
ليرسو كلُّ رأسٍ مثقلٍ بجاهِ الردم
على جلالةِ كتفٍ يتهدم

لم نعرف كم الجنةُ بيتٌ رحيمٌ لأجنةٍ تحبو
إلا آن داخت خطانا
راوغتنا الأرصفةُ وخَادَعَتْنا الطرق
رمتنا السماءُ وهي تداوي غيماً يتقصف
بقطرة تلو قطرة
تغاوت بنا نحوَ شغافٍ لا تهدأ
طعنةً، طعنةً
أغرقتنا الأرضُ بنصالٍ لا تهجع
لنسلو بهدير عذب لا ينسانا
لنرانا
نرمم شهقةَ الآه
نحو مساءٍ شفيعٍ بمطرٍ أخرس
نحو ملاذٍ صعبٍ يحنّنُ المسافةَ نحونا
نحو حريرِ حب
يرتل آخرَ الهدوء الذي تماهى
بجسدين يمتحنان هواءَ كلِّ هذا العذاب