رهينة الألم


يا لكِ يا أمي
حتى تحت التراب
تحترفين عنف الحب كأنكِ قلب الجنة

مَنْ غيرها
امرأة وهبت جنون الحياة ملاذاً رحيماً
أباح لخلوة الرحم دفئاً يستنهض طفولة عمياء
لتتقد ببراعم تتعالى كسنابل تلهج بحرية الريح

كالوردة أنهت عمراً قليلاً وقتيلاً
لم تأسف لرواحه ولا لغلبة الشوك فيه
لكنها راحت كل غصن تتورد بحمرة الشفق
لتغدق نهر الحنان كقلب وفيّ وعتيّ في آن
شمعة لم تأبه لظلام يطغى ولا لعنف يحتد
بل تتأهب لمعترك يقدح جمر الأضلاع
كل حضن يشعل بئر الحب
ولا يرى غيرَ ماء التراب
هكذا كانت موزةُ تداري هجمةَ الألم
بعتيد بكاء يسحل منحدر الوجنات
يبلل هيبة المهد
كل طفل يحبو، كل يانع يغترف شهقة الهواء

كثمرة تتدله بعطف الشجرة ولا ترى سقطة المستقبل
امرأة كالياسمين تنهل من جنة الرحم رفيف الأمل
لا تنسى حيرة الماضي لا تراهن على عطب اليأس
كغيمة تتأهل لقصف الرعد
لتغدق بعطايا العذوبة حاضراً يجف على مهل

وحدها من سواها:
حديقة تتسع لتلغي يباس السور
لهب لا يتأخر عن رعب الرماد
ملاك خفيف يحتمل بسالة السماء
بجناحي عصفور تلملم زغبَ الروح لتغمر ذعر الأجنة

وموزة تضم في رهاوة الدم طفولة تتخلق
لم تتعب من ليال تهلُّ مثقلةً بأنين الدمع
من وقت يمضي مشحوناً برماح لا تتأخر
منذ أول العمر
ومساءً يراها مدلاة للشنق

لم تيأس من قسوة أضاءت تاريخها،
أبداً، بل تداعت حتى آخر القبر:
يانعة كصبية ذات دلال لا ينتهي
مزدهاة بعينين في سعة الأفق
محفوفة بشعر للفحم غزيراً كفيلاً بكسر الكتف
لها بسمةٌ لا تضاهى أقلها ضحكة البحر
بياض يلغي غرور الثلج
جبهة تتعالى كقمة لا تدرك كيف يراها السفح
امرأة للورد لا بفداحة العطر
بل بنداوة تلهب الأرض بصراحة المطر

من غير المطر رفيق نهارها الأخير
ذاك العارف حال الذبيحة كل غيم للغدر
منه استل جنون الرعد خنجر البرق
لتنهال السماء
قطرة.. قطرة حتى آخر الماء
لتدرك – وحدها – أول الموت

كانت ولم تزل
ترتمي لبيت مأهول
بغرف تتعدد وأسقف تتصاعد
جدران تتعالى وباب واحد موصد على الدوام
محاطة بتسعة أجنة ترتعش حال الريش
أطفال يتدافعون لغمر الحضن
لامرأة مزدهاة بقلب لا يندم
برحم واحد يستبسل
وسيد واحد يستبد

هكذا، كالحياة
مترعة بالخلق تنهض كل نهار
سيدة الحكمة، راعية العصافير
رهينة الألم، كسيرة الكوابيس
واهية القلب، واهبة المسرات
مليكة العطايا، ملاك اليد
ملهاة تستدير لترى الجحيم خلف مرآتها
يسأل جسدها الصريع: من غيركِ

قبل الموت بقليل
كانت توصي رحى المستقبل
لئلا تعتذر مبكراً من هلكة الألم
كشجرة تحاول الحياة لتحتمل غدر الأرض
بجذور صعبة وأوراق تتساقط كل خريف ينقضُّ
كانت توصي الدم النازف من جناز القلب
المكتظ بذات الحسرة وجموح الرئة الخجلى منها
هواء قليل لم يشفق على شهقة أصعب من رعدة الموت
شهقة دامية بها أردت شفقة الحياة

قتيلة توصي الهواء ليرأف بصغارها الراكعين
حول سريرها المصاب بانهدار الرئة وتشظّي الدماء
داء صعب لم يبصر حال جسد سواها
مناب شقي داهم بخلعة الروح حريرَ جسدها
مثقلة ترتجي ضراوة الأمل
لرعاية غصون تبتهل لمرأى الهواء
وتستجدي القدر لئلا يسقط غصن واحد
لتموت على مهل.. ببطء هكذا
بهمسة أخيرة، اعترت بصداها زفيرها الأخير
لأتذكرها، أموتُ مراراً وهي تبوح لفتوى الوجع
كلما استحل صخرة الرئة بجفوة الروح
: آهٍ، عليكم
لا.. لم تقل: آهٍ عليها

قبل القبر بقليل
كانت، كعصفور بليغ، تحتضر برعدة الريش
تحتمل سريراً أهلك المشافي كلها
عارفة بما يتقدم نحوها من عتمةِ قبرٍ قد يسأل
غير عابئة بغموض محنته
كانت تصلي له وتتمجد به

هل لفقد أمي أسرف في حرقة الحبر
أم لعنف عبء غريب احتل عزلة عمياء تنوء بي
توق مهيب لحضن طري فيه أداوي كل خسارات العمر
رائحة حنونة ترسل الهمس ليغمر بالحب صدوغاً تتكسر
يد أخيرة معطرة بماء الطفولة تمتد نحوي كل مساء صعب
طريق لها لا يمضي الليل دون أن تضمد خطاي مدى وحشته
بسمة ملساء تكسر سأم الوقت وتندفع عميقاً في دمي

هل أراها الآن
ترنو بوجه مصحوب بمهاوي الوجع
جسد يواسي صمت السرير ويلتحف بهجمة الوجع
حنجرة تهاصر ضيق الهواء كلما تصاعد دوي الخفق
نبض يتهاوى من صدر يتسع ليحتضن بساعديه المدار
ذاكرة تتصاعد ضد غدر لا ينتهي إلا لينهال

امرأة – كل ليلة – لتنام
تتوارى بغيمة مثقلة بعطايا النهار
تحاول وهيجة الرعد أن تنام.

كل وقت عصي على القلب
كانت وحيدة تغالب حتم الموت
لتغدو وريثة الألم منهالةً بمجد البأس
كما المليكة، كحياتها المؤجلة كل قصر قاس
امرأة مرهونة لجسد لها وعليها في آن

هكذا:
كلما اعتصر القتل خلايا دمها بالغت في هدايا يديها
كلما انتهر الألم بنفوذ الحراب هيكل جسدها
غمرت رفقة العمر بهبات لا تتأخر
امرأة اشتغلت على بسالة موتها
ضد رئة تتكسر على مهل
وقلب يتلاشى – بطيئاً- بفقد النبض

وحيدة تهمس للظلام بآهٍ لا يصغي لها أحد
كتومة كفراشة تنهل بصمت لسعةَ الضوء
وتسأل الموت كحلم أخير:
هيه.. لا تتأخر
رفقاً بجسد كاد يذوب من شراسة تلتهم رهاوة الروح

هكذا أوانَ الفجر تستغيث بقداسة الإله
وترسل الصلاة تلو الصلاة
راكعة بعينين ساهمتين
نحو سجادة تستطيل لتستغفر عبء العذاب
وتذيب حنان المغفرة لحياة رغم حديدها لا تلام
ليبرأ هذا الجسد من أنين لا يقوى عليه الجحيم
من هول براكين تستعر، وحمم تتحدى
كل وريد، كل عضل يستجدي رأفة القلب

: أريد أن أنام
آخر بوح شارف تصدعَ روحي من رفيف صوتها
قبل أن أغادر سريراً يلهو بعصب لم يعد يحتمل
إذ سألتها، مصابة بذاكرة تغادر: ماذا تريدين غداً
فانداحت بهمس أتهدمُ به… شظية شظية
كلما تذكرت مدى فداحة الوهن الذي اهتواها
: أريد أن أنام

هكذا كطفلة نالت معترك المهد وغيلة الآخرة
لم تعد تأبه إلا بموت نديم لتغادر سريعاً
صارت تستنجد: أريد أن أنام

لذا اعتراها سخاء الإله
استهل لها ملائكة مأمورة بالنهب المبجل
راحت تنزع شوكة الروح من خلايا العظم
لترخي امرأة لم تعد تقوى إلا على موتها
فراشة أناخت جناحيها لأفق يستشري
ورامت لموت جليل

يا لسخاوة الذهاب العصي
ذات ليلة ادلهمت بهواطل المطر وعذب البروق
كثلجة جميلة وهبت موزةُ أعضاءَها لغمر الغياب
رانت كأميرة لا تأمل صحواً أخيراً
غير ذاكرة لا تنسى، صوت يدين ويبجل السؤال
غير حنان نسل يحتفي بجمرة الفقد
غير صهير بكاء يؤجج عطف الأحفاد
غير نفضة روح دامت لحياة قليلة على امرأة مثلها

ارتاحت أخيراً
ودّعت كما لم تفعل من قبل
حياة لم تكترث لغبن عدالة لا تراها

آن الغسل انهال جسدها لحسرة ماء ضمد الأعضاء
مشمولة بعطف كفن اهتال من وطأة ذاكرة لا تكف عنها
آخر الذهاب
وهي تمشي محفوفةً بالدمع لحضن القبر
محمولة على محفة تتنازعها أيادي الأهل
امرأة تنهل من نعيم النسيان ما لا ينساها
وردة عصية على الفقد تضمد راحة الغصون
مغمورة ببسمةِ غيابٍ يرث العمر
نحو سرير من تراب رحيم بما يكفي
ليضم جسداً بمنتهى الورد

حتى آخر الذهاب
والروح تستوصي قدراً مهيباً يتقدم:
أن يرأف بعمر تسعة بذور لم تزل ترث عنف الأرض

إن أغلقوا آخر الرمل، نثروا رطب الطين
أغمدوا شاهداً في غبطة الحجر
يشهد وشجيرة ورد صغيرة تحتل جبهة القبر
على ما يحتمل أسر هذا التراب
من غموض امرأة مختالة بنعيم الكفن

آن غابوا عنها
كانت
موزة
في رغد ملاك تسأل السماء:
أين الجنة