يعطي الحياة لكل شيء


 

حينما تستيقظ صباحا.
اشكر، نور الصباح. لأجل حياتك وقوتك.
اشكر، طعامك، وبهجة أن تحيا.
إذا لم تجد سببا للشكر، فإن الخطأ يستوطنك.

من حكم الهنود الحمر

 

كلما فتشنا كتب التاريخ وأوراقه المصفرة بحثاً عن حكمة نتشبث بها في هذا العالم الاستهلاكي الأصم الذي لا يصغ لصوت القلب ولا يعرف معنى محبة الأرض، العالم الراكض نحو المال الزائف والجاه المندثر، نحو تغليب العنف من البيت والعائلة حتى ساحات الحرب، حيث يتعالى الدخان مفسراً حجم حقد الانسان على أخيه الأنسان، حيث الحضارة تتصدع على دوي الانفجارات وتلتحف السماء برماد الموت.

كلما فتشت عن حرف رحيم ألوذ به في ليلي الوحيد، لا أجد حرفاً بمثل عطف وحنو وحكمة الهنود الحمر، سكان الأرض السخيين بالمحبة على كل قطرة مطر تهبط من علياء الكون، حشرة صغيرة تحدق من على غصن يميل، غيمة عابرة، رملة وحيدة، خيمة ملونة، قلب ينبض بالحب آخر الليل.

حكمة الهنود الحمر تتجلى في قدرتهم على التسامح والعفو وتعلم الدرس ممن شنوا المذابح وأشعلوا حروباً شعواء لتشريدهم ومحوهم من تاريخ الأرض عبر القتل والإبادة حرفياً، مع كل ما تعرضوا له من قتل واغتصاب وطمس لتراثهم العظيم، الا انهم وهو يدافعون عن أنفسهم لم يتأثروا بصفات وسلوكيات المعتدين الغزاة، بل تعلموا منهم ثمن الحرية، وعلموهم كيف يحترمون كائنات ومخلوقات الله على الأرض والسماء وفي كل انحاء الكون.

هكذا كتبوا في ذاكرة احفادهم العصية على النسيان:

“الطبيعة الأم، لها القدرة الكلية، إنها الخلود. ما هي اختراعات البشر، المدن المتعالية التي تنمو على تخوم الصحراء؟
الأسلحة الفتاكة التي يستعملها، لكي يضمن ويدافع عن غزواته؟
لا شيء غير حفنة من الغبار المنظم، ستعيده القوي الطبيعية إلى شكله البدائي. أهجروا الحصن، لبعض السنوات. تخلوا لأشهر عن المدفع والرشاش، في المرعي. علي الفور، سيكتسح العشب والشوك، الحجر. ثم يأكل الصدأ الفولاذ الصلب.
لمرات كثيرة في سالف الزمان. تكاثرت مدن قوية فوق صحاري واسعة. لم تبق منها اليوم إلا الأطلال، تنتهي بدورها متوحدة بالأرض العذراء دائما.
مهما كان شأن الأفراد الذين يمرون؟ فقط ينفث فيهم الفكر ثم يندثرون إلى الأبد! إذن، أبناء الأرض يستعيدون الأرض ثانية. وتعود من جديد الأزمنة الأولي.”

ثمة رؤى فلسفية غير مسبوقة تجلل كلماتهم، وانت تقرأ تستعيد الدرس تلو الآخر، عمقه يكمن في طبيعته الكونية، كانوا مؤسسين فكرياً ليستلهموا التعاليم المقدسة من احترام كائنات الله في كل مكان، من كونهم يتقصون المعرفة عبر التجربة الحياتية لا من خلال الثرثرة والشعارات كما يحدث الآن، يمارسون قناعاتهم بصدق وحرص على ان يعم الخير في كل الانحاء، حبهم للحياة يعلمهم الاصغاء لها ولدروسها، وما كنا نراه من نقوش وألوان زاهية على خيامهم ووجوههم وملابسهم القليلة هو الدليل الساطع على اكتنازهم بروعة المخيلة والتباهي بحضور الجمال.

كانوا يجتمعون في العراء ويصغون لكلمات الحكيم المتدثر بردائه الملون، أمام النار المشتعلة يتحلقون ونسائهم واطفالهم وحيواناتهم وغيومهم من حولهم ويصغون له:

“أيها الفكر الكبير، صوتك الذي أسمعه في الرياح وهبوبها، يعطي الحياة لكل شيء، استمع إلي.
أنا قادم إليك، مثل واحد من أطفالك الكثيرين، أنا ضعيف … صغير…، أحتاج إلى حكمتك وقوتك.
أتركني، أسير بين الجمال. واجعل عيني تكتشفان دائما احمرارات وكذا أرجوانية كل غروب للشمس.
علم يديّ احترام الأشياء التي خلقت، وأذنيّ أن تكونا مرهفتين لسماع صوتك.
اجعلني حكيما، حتى أتمكن من فهم ما لقنته لشعبي، والدروس التي أخفيتها في كل ورقة وصخرة.
أطلب منك القوة والحكمة، ليس لأترفع على إخوتي، ولكن لأغدو قادرا على محاربة أكبر أعدائي، أي ذاتي.
اجعلني دائـما متأهبا لكي أتقدم أمامك بيدين نقيتين ورؤية مستقيمة.
هكذا، حينما تنطفئ حياتي مثلما تغرب الشمس، يمكن لفكري الحضور عندك دون خزي.”

الجمال أمامي، على أن أمشي.
الجمال ورائي، على أن أمشي.
الجمال فوقي، على أن أمشي.
الجمال من كل جهة، على أن أمشي.