الشاعرة فضيلة الموسوي
الرائعة فوزية السندي في ديوانها الثامن، “تلك التي أحبها” تقول: “في التأمل أراني أضيء مغاوير ذاتي”.. أعتقد بعد تجربة التأمل الطويلة التي انغمست فيها السندي حتى رتبة الماستر في الريكي جِنكيدو وكمؤسسة ومديرة لمركز البحرين للطاقة الإيجابية، أتى ديوانها في موعد يبدو متأخرا عن الإصدار السابق، لكنني أرى أنه جاء في موعد حددته لياقة جديدة في العطاء الإبداعي، بمزاج رائق، وسلام داخلي، ورضا عارم، وامتنان كبير، لذا انفرد الديوان بكشف جديد حين نفضت ذكرياتها الحميمة، بدءً من البيت، فأفردت للأم والأب والإخوة جزيل الكرم القلبي. رفرفت بعاطفتها على البيت كله، فقدمت الأسرة كوثيقة عائلية مسنودة بزوادتي الأمل والإيثار، ومكلّلة بجميل الصبر، وفرح النجاح. كما عرّجت على أسرتها الصغيرة بأقمارها الثلاثة “لصدى ضحكات صبية ثلاثة يرتبون قلبي”.
سيرة قلب مكنوزة بولاء، ووفاء، وحنين منقطع النظير لكل ما مرّت به في الحياة، قالته بحنوها، وحنانها، وجوارحها، وفاضت بحواسٍ جاوزت الخمس. أخذتني في رحلة ممتعة لا تخلو من الوجع، والوجع حلو في تصالحها معه، ومع الذات. كان هطول البوح بصحبة حروف ثرية، وغنية حد الشبع. صداقة عريقة بالحروف، منذ المريول الابتدائي والشرائط الصفراء. تستهل بوحها بـنص “فوزية” وكأنها أمام مرآة تحاور نفسها، وتربت على قلبها :
“رفيقة روحي
بك أمتحن الحياة ولا أكاد أعرفك
بك اجتزت العمر وأهرقت الوقت
ونحتُّ ما كتبت ونحرت ما كبت
أيا فوز هل نلت منك أم نلت مني؟”
مرورا بمشوار الحياة الطويل، بكل تفصيلة، وكل طقس، وكل وقت، في كل شارع وزقاق، عابرة كل حب وألم، وجرح صادفته منذ عتبات البيت التي تتعثر بها دائما:
“تخفي وقع خطانا في قلبها الرخام
وتعيننا على الرواح والمجيء العجول
أحبها رغم عثراتي”
وللمدرسة نصيب من الحنين الذي يضيء شاشة القلب بكل التفاصيل، بالتاريخ المدلل في الذاكرة، فلا يذوب ولا يذبل. في الطريق إلى المدرسة، تلتقط عيون فوزية كل شيء، وكأنها مسئولة عمّا تصادفه، وعليها أن تسبغه حقه من حرير الشعر كلما ناداها، سيدة التفاصيل الحسية، تطوي في كراساتها حتى الغرام الذي يشعُّ على الجدران، تمسحه مسحا حين تمشي بمحاذاتها؛
“كل صباح أحاذيه وأتهجى أسماء المحبين
بقلوبهم الجريحة”
وحين يصطدم بصرها بسور المقبرة تنتفض .. الموت مهيب وعاصف حين يغزو مبكرا جدا قلب الصبية، الفارهة الحس. كثير عليها الفقد الغامض، وهي كثيرة عليه في حروفها المكتنزة بفوران الأسئلة العصية؛
” هبات الموت وتميمة الدمع ونرد الفقد
ارتاعني قرار الرؤية فأجلت مفاجآت الغياب”
لكنها تجد في الشعر ملاذا وطاقة تهب لها الشفاء الروحي:
“حرف حالم ينحت خبايا عمري
كلما حذفت الآه انبرى ململما شتات روحي”
طفلة لا تغفو حواسها لحظة عن التقاط كل التفاصيل التي تعصف بإحساسها، وتوثيقها على جدار القلب. والقلب الطري حين نبض بالحب الأول لم يجد سبيلا إلا العندليب:
“هكذا انشغلت قليلا عن مهوى القلب، حتى طلّ علي
عبد الحليم لم يكن يغني إلا لي
تيقنت حين أسرني : أسير الحبايب
فقد كنت الحبايب سرا لا يعرفه إلاه
…
“ها أنذا أراه محتلا شاشة قلبي
متمايلا هاتفا للحب: دقوا الشماسي”
لفوزية لغة رشيقة، قاموسها حديقة حواس بكل الألوان فهي؛ الجريحة، المكلومة، الصاخبة، الثائرة، المكسورة، ثم الحنونة، الدافئة، الرهيفة، والعبقة بمشاعر الحب، واللطف والرحمة، والألفة، والامتنان، وكل ما يخطر على القلب، لغة ذات نبرة عالية الرجفة كعادتها وإن زادت عليها حنينا يشف الروح.
منذ تعرّفت إلى السيدة فوزية السندي في التسعينات، وأنا أتابع مقالاتها الأسبوعية تحت اسم: “صوت”، منذ بداياتها والحرف موّالها ومآلها، قادرة على دلق إحساسها بسهولة على الورق بنفسٍ طويل وعميق، مكوّنة نصوصا تتغنى بجلال شعري أصيل، بعاطفة تسبر أقاصي شغاف القلب والروح، كأنها تنحت اللوحة الشعرية بمبرد رشيق، تكشط الحروف الزائدة بعناية المهارة والخبرة، لكنها ليست كذلك، بل أجدها بارعة في سكب الحروف دفعة واحدة، بمهارة لا تفرط منها أبدا، كما اعترفت: “صارحني بحبره بلا خبرة ولا مشقة” لذا كان “هذا البياض الصعب لا يقبل أي حرف” إلا حروف فوزية الطيّعة لإحساس قلبها، تهب التفاصيل الحياتية الاعتيادية واليومية سحرا لذيذا. أمينة جدا في إخلاصها للنص والمعنى على حد سواء، مما يكرّس الصدق لأبعد الحدود، فتعيد البهاء لكل أمر يُعتقد أنه مهملا .. كنص: ورقة العلامات؛
” توجز مصيرنا الأبكم أمام الكبار
ليشهدوا قدرتنا على رد السؤال
تلخيص الفشل وأحيانا التفوق المؤقت.
شهادة مختومة بعلامات وأسماء وذكرى للشك”
يفصح الديوان في آخر صفحاته عن رؤية غير مسبوقة لعالمها الخاص من خلال تجربة التأمل. “في التأمل الكون بيتي” .. كونها الحميم الذي غطست فيه مليّا في سكينة التأمل، سبرت فيه عوالم جديدة وبعيدة، حتى أخذتها إلى رحم والدتها والجنين الذي كانته هناك. انفردت ببوح آسر، ومتدفق لمشاعر جنين يتخلّق لتوّه في غمر الماء وظلام الدم، سرد مستفيض متواصل في 38 صفحة، سرد يقطع الأنفاس .. في هذه الصفحات تفوّقت فوزية على الجراحين المختصين بتشريح اللحم والدم، كيف؟ تفوقت عليهم بمشرط آخر، مشرط الإحساس العميق، الرقيق، الفاتن، ومشرط الحرف الذي انتخبته فوزية كان رهيفا في نصله، ولا يتقن استخدامه أحد سواها.. فتقول:
” فرحت كثيرا بهطول حنو الماء، مجنون وسريح في آن، عنصر رخي اندفع غاسلا هذيان دمي، قبل أن ينالني الأسى مشمولا بطيش الدم، لمرأى بريق المشرط وهو يجتز بشحذه المرير آخر العناق بين طراوة التكوين وصارية الحب. أشرعة تشترع لمدى أمومة الرحم. شبه مرساة حان لها المهب”.
وللضوء لوم ساطع على عيني الوليدة، فزعت منه فنال من حنجرتها ما نال:
“متشحة أنا الأخرى بصرخة هدّت أواخر حنجرتي ببلاء صوت سوف يستديم لنهايات الورق، صرخة لم تنحت حواسي كلها، تصقل صوتي بترديد صداها العنيد، لأتذكر معها، بارتجاجها الجارف محنتي، كيف أهداني ظلام الرحم لحياة مضاءة دائما، لأتعرض لكل هذا الضياء الجريء، ولأرى ما سوف يفعل الضوء بي”.
ثم مشقة الكلام رغم فيض الشعر:
“ذلك العتم كان خفق الشفاه. أن أعني الكلام، لم استطع طيلة طفولة تهت بها أن أترجم وجع الحنجرة وهي تقوى على البوح وتعجز في آن. فيما بعد درس الشعر وكان يسمى نصوصا بدا مؤلما حتى الموت لحنجرة صبية لم تبلغ الصبا بعد”
وفي موضع آخر تدين للشعر خلاصا من محنة الحنجرة:
“عاهة أشفاني منها الشعر وحده كلما اتقدت والورق بلهفة روحي لعناق الحرف حينئذ أتقنت مهارة الكلام بلا مشقّة غير عشق الشعر، نبضي الحر”
وتؤكد أن للدرس نصيب في أزمة الكلمات المختنقة:
“لكنه الدرس، يا له، مفعما بالمحاذير وصنوف العذاب تجاه طفلة لم تتقن بعد مهارة انتزاع الحرف من بئر الحنجرة.” .. “وحدي كنت عاهة الكلمات”
وأخيرا تنتصر لنفسها:
“صبية ذات شكيمة، حادة الحواس، لا ترتضي الهزيمة أبدا، مثلما كتبتُ عندما كبرتُ قليلا:
هل أخسر والفوز اسمي
نرد تصدع من عبث التهاوي
فوز وتخسر بين الجوارح والجراح؟”