الشاعر/ قاسم حداد
جريدة الوطن الكويتية
عندما نقول قراءة. فإن هذا يجعل عملنا محدداً بشروط تفرضها طبيعة الأشياء. فالقراءة شيء يختلف عن العمل النقدي. وتأكيدي على القراءة هنا أنه ينبغي أن يشير إلى أمرين:
الأول: أنني لست معنياً بممارسة النظر النقدي. فحين يتناول أحدنا تجربة لزميل له. فهذا يعني بالضبط قراءة لها. محاورتها وتلمس عناصرها الفنية والرؤيوية، دون أن تكون هذه القراءة مرشحة دوماً لمقاربات النقد العلمي. أو الصوابية المطلقة. إنه ضرب من الحوار الباحث. وفي مثل هذه الممارسة: أن تبحث أكثر أهمية من أن تجد.
ثانياً: إنني ألقي في شكل هذه القراءة / الحوار فسحة من الحرية في البحث، بحيث يتيح لي أفق البحث اكتشافات قد لا توفرها لي الأعمال النقدية الأخرى. وربما استثارت هذه القراءة مزيداً من الحوار الإبداعي على أصعدة مختلفة. تتجاوز أطراف الحوار. ولصاحب النص، والقارئ بعد ذلك، حرية كشف انحيازات هذه الكتابة نحو النقد بين حين وآخر.
من هنا أتمنى أن تسهم هذه القراءة في توسيع دائرة البحث. حتى يمكن للقارئ الآخر أن يتدخل في سياق الحوار، وأن يبحث هو الآخر.
إذن، فإن كل ما يرد هنا ليس سوى اقتراح قراءة. وإضاءات صادرة عن تجربة ما، لا تدعي حصانة المعطيات أو نهائية المعنى.
وإذا ما وقع جانب من هذه القراءة في التفسير، فإنما هذا يحدث لضرورات لا يمكن تجنبها داخل السياق. فأنا لا أهدف إلى التفسير، لأن الشعر الآن لا يقبل ذلك ولا يتطلبه، إنه فعل عاطفة مشحونة بالتجربة، ولا أزعم أني قادر على تفسير المشاعر، إنني فقط أحاول معايشتها، فأنت لا تستطيع مثلاً، أن تفسر الحب، لكنك تقدر أن تعيشه، وتحسه، وتفقده أيضاً.
هل أرى ما حولي
هل أصف ما حدث
الشاعر قاسم حداد
عنوان الكتاب يبدو لي، للوهلة الأولى، مضللاً، وإذا لم أكن حذراً فسوف يغرر بي المعنى المباشر، إن فوزية السندي تسأل: (هل أرى، هل أصف). ولصيغة هذا السؤال احتمالات كثيرة، يمكنها أن تسعف تعدد القراءات وتنوعها. فيمكنني هنا أن أكشف عن الطابع الاستنكاري لصيغة السؤال. فربما لا تنوي الشاعرة وصف شيء لأنها في نفس العنوان تشي بشك في أنها ترى.. ترى ما حدث، لكي تحسن وصفه، وحتى عندما تقول لنا في القصيدة ذاتها: (هذا ما رأيت)، نكاد نرتاب في أن كراسها المختوم بالأخبار، جدير بتحقيق المشهد عن طريق الوصف.
من هنا نريد أن نؤكد منذ البداية أن الكتاب بمجمله محاولة لنقض الوصف، بمفهومه البلاغي المعروف، في التجربة عموماً مناخ يحاول وصف مالا يوصف. فعندما يحاول المرء أن يصف أحلامه وكوابيسه ورؤاه فإنه سيفشل، لأنها ستظل أجمل وأقوى من محاولة وصفها ففي نفس القصيدة تنقض الشاعرة مشروعها، أو تمعن في تضليل المعنى، فتقول: (لا أرى ما حولي لا أصف ما حدث).
وهذا ما يجعل عنوان الكتاب كفيلاً – في أغلب الأحيان – بأن يغوينا، إذا ما نحن توقعنا من النص وصفاً بالمعنى المتعارف عليه. وصفا يقوم على المنطق والموضوعية.
ولكي يتسنى لنا الاقتراب أكثر من تجربة هذا الكتاب، يجب أن نتخلى عن شروطنا التي نتسلح بها عادة في مواجهة قراءة الكتب الأدبية الأخرى، أعني أن نتنازل عن طلب المعنى المنجز، ففي هذا الكتاب لن يتوفر المعنى ببعده الموضوعي، الذي تنتهي إليه النصوص عادة، مانحة فكرة أو حكمة أو موعظة.
فوزية هنا لا تعنى بالموضوعات ولا تقول لنا المعاني المكتملة، إنها تنطلق لتدفع بالقارئ إلى حالات، إلى مناخ شامل ينهض على الصورة، ويتسلح باللغة الشعرية المكتنزة، لذلك يتطلب الدخول في هذا المناخ انغماراً كلياً في المشهد الذي تجسده لنا النصوص، وإذا كان ثمة موضوعات ومعان فإنها حتماً لن تكون مكتملة في القصيدة، بل هي قابلة لأن تتخلق في ذهن القارئ أثناء وبعد فعل القراءة.
كانت فوزية السندي في كتابها الأول (استفاقات) تتقدم إلى الشعر وتواجه التجربة بتردد وارتباك في التعامل مع الأدوات، وكان ذلك متمثلاً في مظاهر عديدة يمكن ملاحظتها في التأرجح بين بدائية الرؤية الفنية والمراوحة عند الوزن باعتباره من شروط الشعر الموروثة، وبين ابتكار قوانين الكتابة الجديدة.
لكن في كتابها الثاني، نواجه منذ النص الأول اللغة الشعرية التي تحمل عبء مهمات لم تألفها. وعندما تعلن الشاعرة في البداية عن (نصوص مصقولة) فإننا نستطيع اكتشاف البعد الفني في هذا العنوان، الذي سيشمل نصوص الكتاب جميعها، والمصقولة بثلاثة عناصر حاضرة بشدة طوال التجربة، هذه العناصر هي:
(الحب، الحرف، والحرية).
“حين أحبك أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول، فائرة الجوائح، وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب”.
الحب عندها يبدأ في صيغة بوح (حر) لا كابح له، الحرية ليست في فعل الحب، لكن أيضاً في إعلان هذا الحب إلى درجة الزهو. هذا البعد الاجتماعي سنصادفه بأشكال عديدة في الكتاب، وفعل الحرية هنا سيتجلى في شكله البوحي والتعبيري في آن. وهذا ما يتصل بحرية اللغة الشعرية.
مثلما في “هذا أنت كيف لي ألا أحبك”.
ثم أنها تعلن عن حبها، وحريتها في آن واحد، و”تدخل المعاصي وحمى البروق “.
“أصول في براثن خفية منشدة بفاتن لي في سناه قناديل وستائر مسدولة”.
وفي مواقع كثيرة في الكتاب نقرأ هذا الاختراق الفاحش لمألوف البوح، وهو اختراق للخصوصية الاجتماعية السرية، حيث الحب الخاص يمتزج برغبة كامنة وصريحة لنقض تاريخ من العسف والمصادرة لفعل الحب، ولكنه اختراق مرصع – فنياً – بصور شعرية مباغتة وذات تألق تعبيري.
في قصيدة (خفايا الكلام) يمكن أن تتكشف لنا المجابهة الإجتماعية بشكل أكثر عنفاً وتغلغلاً في الأعماق.
تبدأ بـ (أيها السيد) ، ثم تأتي “هاتكة ورع الجسد وجرار النفس” الروح والجسد هما دائماً عرضة الكبح والقمع من قبل القوانين والمحظورات الهائلة : عندما يكون الجسد ورعاً يعني أنه محروم من هواء حرياته، وعندما تظل النفس في الجرار فإنها تتعرض لاحتمالين، أما للتآكل والموت، أو أنها تصير مثل نبيذ يتهيأ للحظة التدفق.
وعندها سنفهم معنى أن تكون هناك (ناشز) تصرخ، وأخرى ترصد أضلاع المكان. فإذا تجاوزنا المستوى الأول لمعنى كلمة ناشز. وهي المرأة التي تثور على زوجها وتستعصي عليه وتبغضه أيضاً، فسوف نحصل على بعد جمالي في مستوى آخر، حيث الناشز من الخيول هي الفرس التي لا يكاد يستقر السرج أو الراكب على ظهرها، إنها الجامح التي لا تقبل الترويض.
و (السيد) الذي تخاطبه القصيدة هنا ليس هو الرجل، ولكنه السيد الأسطوري المهيمن، إنه التراث الذي لم يزل يحكم الأبناء، ويهيئ للأحفاد تاريخاً آخر من الذل والخضوع، والشاعرة هنا تتوجه إلى الأعماق بخطاب من السخرية المريرة عبر الصور التهكمية، التي تنكل بالسيد من جهة، وتستثير الأعماق، وتفجر المكبوت والمسكوت عليه طوال الوقت من جهة أخرى، ومن هنا جاء عنوان القصيدة (خفايا الكلام).. وعندما تخرج من القصيدة تترقب (نهضة الكلام) ، ذلك الكلام الذي سيكون بديلاً لكلام ظل يتساقط تحت وطأة هجومات حريات الحب والبوح واللغة.
في قصيدة (هجيج في حضرة الرماد) ستكسب النار حياة، وسطوة حضور، فهي المطلة في صهوة الأخيلة، وهي ماكنة الوهج والتبدل، وهي جذوة اللغز، والمتشابكة كسلال ريفية في تصدع الهوادج، وباسطة النصل في رئة المدائن. وهي المدللة بفلول اللهب.
أية نار هذه التي تخاطبها الشاعرة بنوع من التدله؟! كأنها تتمنى النار لهشيم يملأ الحياة، لكي تنطلق الشرارة من إسارها ويتحول المشهد إلى حريق خالق، وإذا كانت ثمة خطيئة في إطلاق صهوة النار في هذه المدائن، فإن الشاعرة مشغولة بنعمة الخطايا، ويطيب لها أن تمتحن (تخوم الرؤى بالصواعق). فلم يعد الواقع يحتمل صبراً (أعني عذاباً) أكثر، واللهب المستكين الذي تستثيره القصيدة، وتستدعي له (حبق الريح) ليس أمامه إلا أن يكون (شاهد الهتك) فهذا الليل (هذا الواقع) قد جن هاذياً على فراش من هواتك الشهب.
كأني بالمشهد يتوضح لنا حسب هذه القراءة، فالقصيدة تنطوي على تسعير لنيران مكبوتة أو كامنة.
فأصل كلمة هجيج التي ترد في العنوان، هو (هج) أي أوقد النار حتى سمع صوت استعارها. والهجيج في حضرة الرماد يشير إلى احتمالات غنية يدخرها الرماد، هذا الرماد الذي ينحني له المجد ( كما تقول القصيدة، فالشاعرة تتمجد الرماد المكتنز بالمستقبل، ولا ترى في هذا الهمود الذي يغمر المشهد سوى حالة انتقال من الرماد إلى الهجيج.
في قصيدة (معلقة) نصادف نموذجاً يشي بتعدد المستويات الدلالية، وهذا ما يستدعي من القارئ أن يتجاوز حدود الكلمات ومخزونها القاموسي، أو المنجز ويطلق لخياله حرية الرحيل مع دفقات الصور الشعرية، مستجيباً للأبعاد التي تغري بها الصور.
فالمعلقة عند فوزية تكف عن كونها شكلاً تعبيرياً، لتصير شكل حياة وتاريخ، لنرى فيها شعوباً، ” تتدلى بزخارفها وبديعها” معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير وعاج الفتنة.
إذن فهذه ليست سوى أمة كاملة تجرجر تراثها وجثثها عبر التاريخ، ملعونة بذهب زينة لها، لكنه لا يسعف الإنسان ويرشحه للمستقبل، فهاهي “تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة” و”القوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة” تساق في الأسواق كجارية محاطة بالخلافة، مغلولة ومعلقة لا تزال.
إن الشاعرة، في مواقع عديدة في نصوصها، تشير إلى انحراف تعبيري، ينقل المفردات من مستقرها الدلالي السابق، والشائع إلى اتجاهات مغايرة تماماً، هذا الانحراف هو ما يشير إليه بعض النقاد باعتباره الخروج غير المتوقع للكلمات من معانيها المستقرة إلى مستويات جديدة من المعنى. ولعل تجربة فوزية في هذا الكتاب تقوم على فعالية انحراف من هذا النوع، مما يدفع بالصورة الشعرية عندها إلى مهمات مركبة، وتكون اللغة في هذا السياق مطالبة بأن تقول ما لم تتعود على قوله.
ولاشك أن مثل هذا الانحراف اللغوي والتعبيري سينطوي على قدر كبير من التخريب القائم على بذر الفتنة داخل النص. ليست الفتنة على صعيد المعاني، حيث حريات الفعل والبوح والمجابهات، ولكن أيضاً الفتنة على صعيد اللغة، حيث حريات العلاقات اللغوية وهندسة الشكل وتدفق الحروف والكلمات بما يكفل توالد الصور الشعرية المباغتة وغير المتوقعة، وهيام الشاعرة بالشكل جعل للفتنة طابعاً من السحر، ولعل ما يثير الفتنة دوماً – حسب تعبير الناقدة كريستين غلو كسمان: “هو ما يحطم نظاماً ويدفع إلى اختراق الحدود”. لكننا ينبغي أن نتميز بالحذر تجاه هذا الإغواء، فليس كل اختراق للحدود، أو نقض لقاعدة هو بمثابة جدارة بإنجاز القصيدة الجديدة. لأن شرط الجمال الشعري هو الذي يعطينا فرصة اكتشاف نجاح هذا النص أو فشله.
وفي الشعر، الصورة ليست أداة فحسب، لكنها توق ومتعة ذاتية، إذا لم ينظر الشاعر إليها على هذا الأساس فإنه لن يقدر على توفيرها للنص، وبالتالي للقارئ. وفوزية كانت ذاهلة بفعل الحب للغة، كأنما هو عشق خاص:
“توليك الجنائن طبائع الفولاذ وفيض الجمرات
ضارباً إسفين لهوك في معترك اللذائذ”
والمفردات هنا تتبادل مواقفها ولا تستقيم مع منطق بلاغي مألوف. فالمألوف أن تتجاور كلمة (إسفين) مع كلمة (معترك) وكلمة (لهوك) مع كلمة (اللذائذ).
لكن النقض في شبكة العلاقات البلاغية سوف يجعل مثل هذه الصورة تنحرف عن مدلولاتها المتوقعة، وتخترق القانون مشحونة بطاقة إيحائية خصبة تستدعي مخيلة القارئ مرة تلو الأخرى.
“مائجاً في ترف الهندسة
وعصمة المجازفة”
الهندسة غالباً ما تشير إلى اقتصاد في المساحات، وهي علم ضد الترف والمجازفة ليست مرشحة للعصمة أبداً، كقانون يقوم على اقتحام الخطر، إلا إذا كانت الشاعرة تهتدي بكلمة النفري الذي قال: (في المغامرة جزء من النجاة).
في الشعر ليس للمنطق سلطة التفسير، وليس للصورة معنى منجز مسبقاً، إن النظام الذي تكتسبه علاقات الكلمات والصور في الجملة هو الذي يمنحنا الصورة الشعرية. فكلمة (النار) في الجملة التالية ستأخذ تاريخها الخاص:
“أيتها النار المطلة في صهوة الأخيلة”
سوف تكتسب مدلولها من سياق الجملة أولاً، ومن ثم شبكة العلاقات المنسوبة في عموم القصيدة.
فليست النار هي التي تنشأ من احتراق مادي، والتي يمكن استخدامها للطبخ والتدفئة، إنها هنا الجذور البعيدة للفعل، للعمل، فمادام الإنسان هو منبع الفعل، فربما جاءت النار من هناك من الفكرة.
هذا هو فعل تداعي المعاني الذي بدأ عند الشاعرة، ولن يتوقف عن القارئ، ولعل هذا الاحتمال لم يصدر عن برهانية عقلانية اعتمدها بناء الصورة، ولكن التجاور العفوي بين الكلمة والأخرى هو الذي ينشئ سيلاً من الصور المنطوية على احتمالات المعنى.
وصدفة التجاور التي تحدث للمفردات ليست ناتجة عن منطق ذهني، ولكنه منطق اللاوعي الشعري، هذا المنطق الغامض، وفي الفن – حسب علم النفس – يشكل اللاوعي المصدر الأكثر صدقاً من العقل. فمن هناك تصدر الحقائق التي سيعمل العقل الواعي دوماً على طمسها وإنكارها، أو التغافل عنها، وسوف يشكل اللاوعي بذلك، مصدراً غنياً وزاخراً بالصورة الصادقة، والمذهلة، وهي تتحول بواسطة اللغة المتدفقة شعراً جميلاً، وعندما نتأمل معطيات هذه العملية الشعرية، ونتلمس الطاقة التعبيرية التي تمنحها لنا كل هذه العلاقات، سنفهم على شكل أفضل تعبير العالم النفسي (لاكان) حين قال : (إن المتكلم ليس الشخص، بل البنيات اللغوية، ونسق اللغة ذاته) وعندما يوضح (ميشيل فوكو) تحليل (لاكان) للاوعي، سيشير إلى (أن المعنى لم يكن على وجه الاحتمال سوى نتيجة سطحية أو لمعان، أو زبد، وأن ما يخترقنا في العمق هو النسق) لكن هذا الاجتهاد، إذا كان من شأنه أن يفسر لنا جانباً من حالات الكتابة، بل ربما حرصنا، بدرجة أكبر من الوعي، على تبادل العبء والمسئولية بين الشاعر والقارئ، لئلا نقف أمام المعنى الجاهز الذي ليس أكثر من لمعان أو يزيد وأن تعمقاً في شبكة العلاقات للصور والكلمات في النص، من شأنه أن يدفع بنا لجمالات الأفق الرحب للنص.
الصورة الشعرية، عند فوزية تنشأ عن التجاور بين المفردة والأخرى، وبين الصورة والأخرى، هذا التجاور القائم على المصادفة، وإذا استخدمنا اصطلاح السرياليين، فإنها (الصدفة الموضوعية). التي تتحقق في لحظة التداعي الشعري، دون الوقوع في آلية الاعتباط التي اعتقد بها أندريه بريتون في تأكيده على فعالية الصورة الشعرية، ولا ينبغي الخلط بين الذاتية وبين الاعتباطية التي يرهنها السورياليون بالكتابة الآلية. وفعالية الصدفة الموضوعية تعتمد على حقيقتين اقترحهما علينا فعل التجريب الحديث، الحقيقة الأولى علمية، والأخرى فنية :
* الحقيقة الأولى : تتصل بمصداقية التداعي الحر الذي يصدر عن تجربة ذاتية، يؤكد علم النفس التحليلي على انسجامها الداخلي مع مكبوتات الإنسان، فكل ما تطلقه الأعماق، بعفوية اللاوعي، هو تدمير لزيف التصنع والافتعال والهروب الذي يمارسه الذهن الواعي وكلما تيسرت للإنسان خبرة وذخيرة غزيرة من التجارب الحياتية والثقافية، كلما أقيمت لفعالية التداعي آفاق أكثر للعمل.
* الحقيقة الثانية، وهي فنية متصلة بطاقة اللغة اللامحدودة واستعدادها لمتطلبات الحالة الشعرية. فإنما هي تتبدى أمام التدفق كطاقة تعبير عذراء، مستعدة دوماً لاستيعاب الحالة الشعرية، والتمثل بصورها الفنية. وتتخذ هذه الكلمات الجديدة دائماً معانيها وإيحاءاتها ومدلولاتها المتعددة، من خلال العلاقات التي ينسجها هذا التداعي. ومن التجاور اللغوي الذي تصل إليه الجملة في النص.
وعندما نقول صدفة موضوعية فإننا نعني، فيما نعني، أن الصدفة اللاواعية التي تعمل على دفق سلسلة من الكلمات للتجاور، وتصوغ نسقاً معيناً، ليست سوى فعالية تستدعيها الضرورة الموضوعية، والموضوعية أخيراً تعود إلى طبيعة العمل الفني الصادر من تجربة إنسانية، تتجاوز ذات الشاعر دون أن تلقيها.
إن آليات اللغة الشعرية سوف تقترح علينا نقضاً عميقاً للعلاقات بين الصورة وبين جذورها، وبينها وبين مدلولاتها ذات المستوى الواحد.
نشاط القارئ يبدأ منذ أن يكتشف هذه الآليات أو مبادئها الأولية، فليس الوصف وصفاً، ولا التشبيه امتثالاً لحدود مسبقة، ولا الاستعارة متصلة بقانونها المألوف.
قديماً قال ابن المبرد : (للتشبيه حدا) .
وقال الآمدي: (إن للاستعارة حدا).
لكن كل هذه الحدود وغيرها كانت هدفاً دائماً للخرق منذ أبي تمام حتى الآن. وأمام القارئ أن يتعرف هو الآخر على لغة شعرية تنطوي على الخبث والتخفي والعنف، في محاولة لمجابهة عنف الواقع، العنف الفني أيضاً هو تفكيك المنظومات الفكرية وقوانين التعبير الثابتة سيتصل أخيراً بمعوقات الواقع، فالبنية في نهاية التحليل متداخلة بصورة لا نقدر فيها أن نجد حدوداً مأمونة بين نظام اللغة، ونظام الحياة.
عند فوزية يتجلى نوع من التشظي في اللغة بصورة متكررة، وهو تشظ متصل بوقائع الحياة اليومية إلى أدق تفاصيل لحظات نشوء اللغة الشعرية في النص، وسوف يتمثل التشظي هذا في الاستعداد الدائم لاحتدام الجسد الإنساني، وتوزع أشلائه ببسالة حيناً، وعبثية حيناً، وبمجانية حيناً آخر، فيما هو يجابه الاستلابات المركبة التي تهيؤها أنظمة العسف، معبرة عن لغة عنف لا تقاس. مثلما في قصيدة : (لك أن تعتاد سريعاً) حيث (المنصرعين بحداثة الألوان) و(المواخير الفارهة..) (والشاطئ المقفول) و(الأحلام المحرقة) و(الأصفاد الناتئة).
إن الافتتان باللغة يقود الشاعرة من هذه التجربة، قد هيأ لها مناخاً غنياً بالابتكار، وزاخراً بحركة الصور الشعرية والعلاقات اللغوية. وسوف ترى أيضاً في الكلمات والحروف عنصراً حياً يغري بالكشف عن طاقته، لذلك فإنها ستحاول توظيف هذه الطاقة لتجسيد رؤيتها، فتدفع اللغة أكثر فأكثر لكي تحمل العبء، فالحرف مثلاً ليس إناء يحمل المعنى، أو ليس مجرد نتوء صغير في الكلمة، إنه هنا مرشح لأن يعيد معنى، أو طموح معنى، نكاد نلمسه كجسد يتدفق فيه الدم.
تمثل تجربة فوزية السندي اجتهاداً شعرياً مهماً، على صعيد حركتنا الشعرية، وسوف يمنح مناخنا تنويعاً غنياً، يشكل مع الاجتهادات الأخرى، حواراً نحو ممارسة حريات التعبير الفنية داخل النص الشعري، متميزاً بدرجة جادة من الوعي والقلق الإبداعي.
وبقدر ما يثير هذا الكتاب من ردود مختلفة ومتناقضة فإنه يظل يطرح أمام القارئ والشاعر تلك الأسئلة الجذرية حول مفهوم الشعر، دون أن يزعم انحيازه لإجابة نهائية تتناقض مع طبيعة الفن.
إن في كتاب (هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث) عناصر عديدة تغري بالمحاورة، وهو مثير حقاً وغريب وغرابته تصدر عن اختلافه وجدته في سياق تجربتنا الشعرية، فإذا بدا للبعض أنه كتاب صعب، فذلك لأنه مختلف في جوانب عديدة من آلياته الفنية، ولأنه أيضاً، كتاب يذهب إلى الفتنة من كل الطرق.