الشاعرة ظبية خميس
فوزية السندي شاعرة بحرينية حديثة. وهي من مواليد 1957 في البحرين، وقد درست في القاهرة ويذكر د. علوي الهاشمي في كشافه التحليلي المصور عن شعراء البحرين المعاصرين، أنها بدأت كتابة الشعر عام 1975، ثم أخذت تنشره بين عامي 1979- 1980 في الصحف الخليجية والعربية، وقد أصدرت الشاعرة مجموعتها الشعرية الأولى “استفاقات” عام 1984، ثم أعقبتها عام 1986 بمجموعتها الثانية “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث”. ويرى د. علوي الهاشمي أن فوزية السندي تعتبر الآن أبرز شعراء قصيدة النثر في البحرين بعد قاسم حداد الذي شق هذا الطريق فنيا.
ورغم قلة أعمال الشاعرة المنشورة غير أنها قطعت رحلة كبيرة بين عمليها المنشورين. بدأت فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” متأثرة بمناخات قصيدة النثر التي طرحت هيمنتها على الأجواء الشعرية الخليجية منذ نهاية السبعينات، كما تأثرت بالأحداث السياسية العربية الدرامية الكبرى فخرج عملها “استفاقات ” مرتبكا في شكله الفني ولفته الشعرية ضمن لغة تحاول أن تجسد أسلوبيتها بين قصيدتي النثر والتفعيلة، وأخذت الشاعرة تكتب بصدى القصيدة العربية الحديثة التي تنقل السياسة إلى الشعر ضمن أجواء العنف، والدم، والمأساوية.
إن قصيدة فوزية السندي في عملها الأول “استفاقات ” هي قصيدة الفزع، والرعب التي تحاول أن توصف العنف والدموية المحيطين بعالمها. وهي في تلعثمها ذلك تلجأ إلى الجسد وتوظفه في القصيدة بصورة عفوية تشارك فيها عددا من الكاتبات في ظاهرة توظيف الجسد، شعريا. فالجسد عند فوزية السندي هو حالة التشظي، والجرح، والعنف. وهو أيضا، حالة الحب والحلم وملجؤها فيما تحاوله من رحلات روحية تفر إليها.
ويحتوي العمل على ست عشرة قصيدة معنية بتوصيف العنف السياسي ضمن لغة شعرية تبدأ في التشكل، وهي:
احتفالات الجسد، حصار تسمى واسميك الوطن، النورس، الحوار الأخير للبحر، نذور، الجمرة، وطن يزهو في القلب، استفاقات، مكاشفة، للبدء سلام، عندما يورق ريف القلب، أنصار، شهوة الوصايا، ذاكرة، الدم، رايات القلب، ووقت للقصيدة.
يكتب الباحث د. علوي الهاشمي عن تجربة فوزية السندي في عملها الشعري الأول “استفاقات”: “يلاحظ في البنية الإيقاعية في مجموعة “استفاقات ” ترددها بين قصيدة النثر وبنية التفعيلة ضمن القصيدة الواحدة. وهو تردد لم يسلم منه أي نص في المجموعة المذكورة، مما كان يعكس قلق تجربة الشاعرة، إجمالا، وتأرجحها بين بنية ثابتة تحرص على تجاوزها وبنية وليدة تهفو الى بلوغها أو الهجس بها. وقد تجسد هذا القلق على مستوى المضمون الفني في إطار ما دعوناه في بحوثنا بظاهرة “الهم الإبداعي”، بحيث شكلت عناصر مثل (القافية والوزن والبلاغة والخيال والكتابة واللغة والمجاز والحرف والكلمات والصورة والإيقاع والقصيدة والنحو والصرف وغيرها من عناصر الإبداع). مفردات ذات أهمية خاصة في مجموعة “استفاقات ” الى الحد الذي استغرق الشاعرة في كثير من الحالات مما جعل من هذا الهم الإبداعي نفسه موضوعا لعدد من القصائد كما يبدو من عناوينها مثل “وقت للقصيدة “.
وفوزية السندي تنشغل بعدد من المحاور في قصائد “استفاقات ” أبرزها محور الرعب والكابوسية المسيطرة على أجواء القصائد، ثم هاجس الأنثى الجسد والمفنى، وأخيرا محاولة ترسيخ لمفهوم ودور القصيدة عبر الشعر نفسه. تقول في قصيدتها “احتفالات الجسد”:
– “لا تشهق في حضور الجناز المهيأ للعرس هذه نار تفضح العائلة في احتفالات الرماد فهرولت المداخل ربما لهو راجع من جحيم المأتم ربما قتل تسربل في شقوق الخوف واختار المدينة ربما رنين يصعد قبل أن يحرثها المد أو تجثو لجسارة الطوفان “.
ثمة مزاوجة واضحة ومفزعة لعرس الرعب والجنازة في مفرداتها هنا جنبا إلى جنب ودموية تدلف الى روح الشعر لتعبر عن ذلك القلق المفزع في قصائد فوزية السندي مشيرة إلى الأجواء النفسية المهيمنة على معظم قصائد هذه المجموعة.
وهي توظف الجسد بضراوة في القصيدة، وفي احتفالات الرعب الشعري الذي تصنعه. وهذه نماذج لذلك التوظيف
في القصيدة نفسها إذ تقول الشاعرة:
موغلا في تماس الشظايا”.
– “لكأن هذه الروح شلال من الفرح الغريق
جسدان امتطيا حلمة الزلزلة
وتناهبا في غيوب الطريق
في احتفالات الجسد
كم كنت قريباً”.
– “في مساء كالذي حدقت فيه
اتصل الجسد بسطوة الكتابة “.
الكابوس، والحلم، والكتابة يداً بيد عبر وسيلة الجسد الذي تعبث به الحروف وتنشب فيه مخالبها في لعبة متصلة تعكس شكل الأظافر التي تحفر اللحم، بهذه الطريقة تكتب الشاعرة عملها الأول معتمدة على مخزون مرعب له دلالاته النفسية -الأدبية المختلفة.
وفي قصيدتها “حصاراً تسمى وأسميك الوطن ” تزدحم هواجس الموت، والقتل والرعب عبر مفردات الفزع في هذه القصيدة مثل: (طوفان الرعب، الهالك، الجنون، الضال، المحارب، الحذر القاتل، سدة القهر، اغتيال اللحظات، انفجار اللغة البكر، عقم الوقت، الطفل المحاذر، احتدام المجازر، الموت الجميل، لدغات خطاك، الحصار، الموت المتداول بين الأرصفة، أتأبط فزعي حد الإغماء، أحاور هلعي حد الإصغاء، المحرقة اتسعت).
وكنموذج للكابوسية والرعب في قصيدتها هذا المقطع من القصيدة نفسها:
– “هيأت الشمس لتشرق
فأغرقها البحر
حدقت في البحر ليغضب
فاستل الموج
وهددني بالطوفان
فأغرقني الضحك
وحدقت “.
وتستيقظ ذاكرة الذات الأنثوية في قصيدة الشاعرة “النورس ” وباستخدام درامي وعنيف، أيضا إذ تقول:
– “انهال كالرمح
غطى المناديل في الليل بالدم
وعرى شتاء البلاد الحزين من الصمت “.
– “طفل، وردة
والسجن ساحة الوقت
نهد، نهر
والرعب ساعة البيت “.
إن هذا الدمج الذي يتكرر بين الذكورة والعنف يجعل الرعب معشعشا في البيت والجسد والبلاد، والشاعرة لا تنسى ذلك أبدا طوال رحلتها الشعرية في العملين المنشورين. بل إن هذا الرعب ينتقل الى مفهومها للشعر، والقصيدة، أيضا فهي بالنسبة إليها وجه آخر من وجوه العنف في الحياة والمخيلة، اذ تقول في قصيدتها “النورس “:
– “هكذا تأتي القصيدة
تأتي القذيفة
هكذا
تحتل البياض الحالم نار
والرمز نصل يحتال كالعرش.
وقواف تعدو
تنهال شظايا تأخذ شكل الكلمات فأعرف،
أستشرف لون الأفق كنجمة برد”.
إذن الشعر وعاء حربي لكل ذلك العنف المرعب الذي يسكن رأس الشاعرة وكأنها خرجت للتو من مجزرة لانهاية لها حيث القصيدة قذيفة، والقوافي شظايا. سيظل سؤال الشعر مؤرقا للشاعرة حتى نهاية الديوان وسيأخذ شكلا آخر من الأشكال الاعتراضية في مجموعتها الشعرية الثانية.
والبحر مستيقظ جدا في مفردات الشاعرة الشعرية فهو المدى الممكن والوحيد لكل تلك الحرائق التي تشتعل في خطوات مفرداتها في القصائد. ويأخذ البحر تجليات عديدة في قصيدتها “الحوار الأخير للبحر” إذ تقول الشاعرة:
– “أفقت
غريقاً أبحر من النزف ”
– “لازمت البحر…
شعر أم شرك يشعل وقت الماء
عويل أم عصف هذا النزف المحرك والكامن
في لدغات تشعل هلعي”.
بحر يمتشق الزفرات ويلهث في الأفق الغائم”
إن مفردات البحر، النزيف، الماء تمثل حالة سيولة متشكلة في القصيدة عبر حالات مختلفة ولننظر إلى هذه الصورة الشعرية “غريقا أبحر من النزف ” إنها لا تشكل حالة موت بل حالة استفاقة ويقظة لدى الشاعرة يجتمع فيهما فعل الإبحار وحالة النزف ووضعية الغرق في وقت واحد حيث البحر محير للشاعرة ودنيا كاملة لكوابيسها وصاحب لا يتركها. البحر شعر وشرك، عويل، وعصف وحرائق تشعل وقت الماء والهلع في ذلك النزف المتحرك الكامن – نزفها الباطني الذي يلتقي بحدة شاسعة مع محيط البحر فلا تفرق آنذاك بين الماء ونزيف الدم. والبحر لا يطلق سراح الشاعرة، فهي أسيرة لديه يسيطر عليها ويمتشق زفراتها ويلهث وكأنه فارسها الذي يمارس ساديته عليها دونما تمييز وهي واقعة تماما كفريسة تنظر إلى مخالبه وتغرق فيها.
لا يترك البحر صور القصائد الشعرية فها هو في قصيدتها “نذور” يرتبط بصورة الوطن المهزوم، إذ تقول الشاعرة:
– “للوطن المحتل
وللقلب المعتل
بهدير الأقدام المغلولة حتى الأعناق “.
وتوظف البحر مرة ثانية في قصيدتها “استفاقات ” مخاطبة الذات الأنثوية بقولها:
– “كالبحر أفيقي
موجاً أو امرأة
في صوتي يحتدم الآن مسار جراحك
في أحداقي المجبولة بالرعش
سيكبر وجدك
فأفيقي”.
إن اليقظة غرق وبحر وموج وهدير. هذا التوحد المطلق بالبحر بين الرعب واليقظة بين الجرح
والشفاء. وتكمل الشاعرة مخاطبة تلك الذات قائلة:
– “يا غصون الشبق اللاهث في كفي استفيقي
أفقاً أو وطناً
أهز عيوني في وله
أهز غصون الرعب والحب
أفيقي”.
إن الحركة مستمرة ما بين تلاطم الموج وهز غصون الأنوثة والرعب والحب يورقان معا في نفس الشجرة والبحر.
وتحدد الشاعرة خطابها للأنوثة في قصيدتها “للبدء سلام ” إذ تقول:
– “لشوق امرأة تنسج في الليل رداء الدفء
وتبحث عن نقطة ضوء في العتمة
أقول سلاما”
“بدءاً
أحمل لغة النار وعفن الرجعة
أطفئ شهوات الليل المنبثة
من هذا الجيف الماثل فوق الهامات المتكئة “.
إن هذا الإعلان الواضح للنوايا الشعرية يبوح بوضوح بصوت عميق يأتي غير هادىء من الداخل ويعلن مداه في الأشياء. من ذاكرة العنف والظلام ينطلق البحث عن الضوء والسلام وبلغة محذرة تدرك جحيمها والدنيا التي تود أن تقوضها خارجة من مقابر الجيف باحثة عن خطوها في نارها الخاصة.
تختم فوزية السندي ديوانها “استفاقات ” بقصيدتها الأخيرة “وقت للقصيدة ” ولعلها أقوى القصائد المكتوبة، عربيا، والتي تعبر عن رحلة تلك الذات -الأنثى بحثا عن صوتها وقدرة البوح، وهي تختصر في قولها ذلك عالما مطويا، ومنبوشا في الوقت نفسه تدركه الشاعرة بوعيها الفني والحضاري. وأدرج القصيدة هنا بكاملها لمالها من أهمية دلالية كبيرة لموضوع هذا البحث، ولتميزها الخاص الذي قلما حاولت الكثيرات أن يقلنه عبر أزمنة طويلة:
“أسرجتك ليلا مطهمة بالخبايا وجذوة الخطيئة
لأرى حوافر الريح برقا، أراها
تشطر في دماء الخلق
اقتراب وغربة منذ البدء
غزالة تفر نحوي
حافلة بأحجية تتهيأ
فاحتملت
كان فضاء القصيدة جباً
مقروءاً بأصداء المذهل
والليل يفضح أسرار الحبر
ويستدير
ما من وحشة وتشد الصوت سجادة
أمعنتك في بياض الشقوق عشباً
وانحداراً يفضي الى خندق الكلمات.
صوت في البرد
وأحدس كالطيف بألوان القوس
في نشوة التخيل أطرق حذر الفعل
كما للوقت ظلال السنديان
للهذيان رجرجة الأفق
في ظلي
فأرى بياض السماء قوافي تسرجني
في ملهاة النعش
استفرد بهزيع الحقول – بالمفردة
ألازم أزميل الروح
لست ساهياً
أهدهد المناجل، تجري مثل دمي
تيممت بهدير اللغات
أرى الكلمات وأرقب الحدائق
اتموسق في أوزان رهيفة تلد الأوزان
والجمرة ملهاة العاشق
فمن يقرأ!،
حرف يوازي وجع القصيدة
ليس سراً
كان قبراً بهول السؤال والبحث
يتحول،
ينثر فينا صباحاً حزيناً ثقيل الخطو
في نشرة الموت يشرع أعضاؤنا قلاعاً
ويقلم الطفولة
ليست…
هذه المشانق للشاهق
من شعر القلب ووطن الغفلة
هذي الجمرات لغرف الرأس المكتظة بالسيقان
كان صباحاً جميلاً وشهياً
فليس غريب
أن أحلم القهوة ذات بكاء
أن أخيط اللهب من وحشة الطرقات
وأناهض
سرت وقرأتك وحدك في الصحوة
كنت كالوقت “.
إن فوزية السندي وبصورة شعرية عميقة ومكثفة تطرح علاقتها بالقصيدة كأنثى، طارحة ظلال هذه العلاقة عبر تاريخ الثقافة العربية. فالقصيدة فرس مسرجة بالأسرار والخبايا الغوامض، هي وسيلة الفروسية القديمة بإشارة ما تبدو غامضة الى الفحولة والفروسية القديمة للشعر. والقصيدة هي جذوة الخطيئة ولكن لمن ؟ أيكون لها هي الأنثى العربية التي تحاورها وتحاول ان تروضها مرتكبة بذلك (جذوة الخطيئة). إن القصيدة أحجية تتحداها، وجب عليها أن تغوص فيه وللحبر أسرار معرضة للفضيحة. إذن القصيدة للشاعرة هي: فضاء الجب، وفضيحة أسرار الحبر، وعشب بياض الشقوق، وخندق للكلمات. والشاعرة تجمع هنا ما بين ذاكرة الفروسية الشعرية وما بين فعل الاقتحام الذي تمارسه عليها كأنثى مبدعة تسعي نحو العشب الذي ينبت من تلك الشقوق التاريخية. خروجاً من برد ما ولربما برد الصمت ووحشته صارت القصيدة هي الحدس، ونشوة التخيل وهي “كالطيف بألوان القوس ” ان فعل الكتابة هو طرق على خدر الفعل، على غيبوبة النسيان الطويل لذلك الصوت الذي يحاول أن يرج الأفق بهذيانه.
إن كتابة القصيدة هي تماه مع الفارس القديم بالنسبة للشاعرة حيث تزين ذلك الجحيم الحي بانطلاقها، تتحول إلى فرس تسرجها القوافي وتناور هزيع الحقول في مبارزة بسيف المفردة، وتلازم أزميل الروح لتنحت تكويناتها.إنها تهدهد المناجل كأطفال تجري مثل دمها وتتيمم لتلك الصلاة بهدير اللغات – البخور. ترى الكلمات كائنات وتراقب حدائقها. وهي تعلن تموسقها في أوزان رهيفة تلد الأوزان، أي إنها قررت ذلك الانتماء إلى أنوثة ولادة تقلب ميزان الذاكرة القديمة وهي تدرك أن الجمرة، وحدها، ملهاة العاشق. وفي تحد تتساءل عن “من يقرأ” فهي ترغب في قراءة مختلفة تستطيع أن ترى من خلال الحرف ما يوازي وجع القصيدة.
إنه خروج الموءودة من القبر “بهول السؤال والبحث ” وهي ترى المشانق أمامها لذلك الشاهق من شعر القلب ووطن الغفلة ترى الجمرات لغرف الرأس.
إن الشاعرة تقود القارئ إلى رحلتها مع الشعر كفكرة وتحد وخروج من الخدر إلى الفعل الفروسي حيث هي الفرس والفارسة في تحديها الوجداني الكبير.
يكتب الباحث أحمد عطية عن فوزية السندي فيقول:
” فوزية السندي، صوت نسائي متفرد في الشعر البحريني الحديث، يتميز بقصيدة النثر، وبكثافة المفردات اللغوية وجدتها، وبقوة التراكيب الشعرية النفس والسابرة لأغرار الروح، وبجمال الصور المستمدة من معالم الطبيعة البحرينية البحرية، والمعبرة بجرأة وشجاعة ووعي وصدق عن الوضع المأساوي للمرأة العربية وعن احتجاجها ورؤاها ومشاعرها… ويتبدى هذا كله في ديوانها الثاني “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث “، الذي يمثل طفرة في الشعر البحريني النسائي وفي الشعر الحديث بالبحرين على السواء، بجمعه بين همس المرأة وبنيته الحديثة، وبين التعبير عن حب الأنثى وعمق الاحتجاج على عذاب المرأة العربية ورؤاها في مجلسها خلف الجدران والنوافذ والمزاليج..”.
لقد جاءت المجموعة الشعرية الثانية لفوزية السندي “هل أرى ما حولي، هل أصف ما حدث ” عام 1986 مكملة لما بدأته في عملها الأول “استفاقات ” ورغم قصر المدة الزمنية بين العملين إلا أن الشاعرة استطاعت أن تطور تجربتها بشكل ناضج فنيا ومضمونيا.
لقد قررت الشاعرة انتماءها لقصيدة النثر وحسمت بذلك ارتباكاتها الفنية فيما يتعلق بالشكل، بل أنها وعبر إحدى قصائد الديوان حسمت علاقتها بالموروث الشعري ككل وسيكون لنا عودة لتلك القصيدة.
يضم الديوان أربعين قصيدة بعناوين جديدة تنبىء بروح شعرية مختلفة لعمل الشاعرة الثاني. ويختلف نسيج النصوص في هذا العمل عن ما سبقه عبر الشكل المفتوح للنص الشعري، وتلك اللغة السرية الشعرية والمعنية بالإيحاء والرمز ونقل جماليات المخيلة عبر لغة رومانسية منثورة إلى القارئ. ويتزاوج كل ذلك مع استمرار خفي وواهن لحالة الرعب التي حضرت بكثافة في عملها الشعري الأول.
تلجأ فوزية السندي إلى لغة شعرية متداعية وممتلئة بالصور التي تمزج الباطني بالمادي المعتمد على عناصر الطبيعة مثل الفضة /النار/البحر/القمر وغيرها. وكذلك فإن الشاعرة تمنح أبعادا خاصة للماديات، مثل النافذة وغيرها لتحولها إلى رموز مكثفة لحالات إنسانية متنوعة، بعضها شعري باطني وجمالي وأحوال تراوح ما بين حدة المأساة وطقوس الجنة حيث الروح ترحل وتنتقل ما بين عوالم القهر والبحث عن السعادة وما بين الحب الجواني المعتمد على صوت الأنا المراوحة ما بين الذكورة والأنوثة.
وتتجاور عوالم القسوة والقهر برموزها السياسية الإيمائية مع عالم الحب، والرؤية الباطنية – التأملية. كما يحضر العالم الوصفي الخارجي الذي يزاوج بين النص المفتوح وعالمه الخاص بقسوة الوصف والرومانسية المتمثلة في عناصر الطبيعة المختلفة.
يبدأ الديوان بـ “نصوص مصقولة ” وهو نص نثري مفتوح للحب، والمناجاة. تتعدد الأصوات فيه بشكل منداح لا يشبا القصيدة ببنيتها المعتادة. وهو نص رومانسي بروح موغلة في العشق ومدججة بالمشاعر الباطنية. تستخدم الشاعرة الزخرفة اللغوية والتشبيهات إذ تقول:
– “حين أحبك، أزهو كزغاريد مرصعة في جلبة الدار، بارقة كشمعدان مصقول. في فائرة الجوانح وباهرة كجوقة تحيك سلالم القلب”.
وتتلاحق التشبيهات في النص حيث تعتني الشاعرة ببلاغة الخطاب والمفردات رغم كثرة التداعيات الزخرفة في القول الشعري. ويستمر الوهن الذي تعبر عنا على مستوى المشاعر إذ تقول:
-“أوهاني حبك، لذا استحي من دوار يلف بي
أفئدة تدفأ بي وقلب يهفو لي… لما بي”.
ويتجلى تأثير الشاعر البحريني قاسم حداد على روح فوزية السندي الشعرية وخصوصاً بعد صدور مطولاته النثرية “القيامة ” و” يمشي مخفورا بالوعول ” حيث تتأثر المفردة والمخيلة الشعرية لفوزية السندي بتلك الروح التي أسست لعالمها الشعري عبر تجربة تبدو أكثر اكتمالاً. ومع ذلك فان بقايا قديم فوزية السندي يخرج من بين الكلمات في عملها هذا وخصوصا تلك الشكوى من الجور والقسوة إذ تقول:
– “كل هذا الجور لي
لي براثن الشكوك وانهمار – القسوة
ومرارة الإثم “.
واذا كانت في “نصوص مصقولة ” قد عبرت عن ذوبانها في الحبيب كما قالت:
– “أعلم لو حبك يلف جهاتي يغل ويفتل ولهي
الشاقي لارتضيت شقائي حفرة للقلب ترتج لفعل
النبض الهاتف باسمك
حبك
سطوري وسحقي الملازم لهفة الغبطة وشكة الألم
توهي ورخامة الكلام وبدء الغرق
حبك أنت
وأنت
احتمال الفصول
وشأن التناغم
وزعامة القلب
وفوز الدخول “.
فإن الشاعرة وفي قصيدتها “خفايا الكلام “، وكما يحللها الباحث أحمد محمد عطية “تحتج الشاعرة على جور الرجل الشرقي، وتعبر عن عذاب المرأة العربية وذلها في جحيم الكلام الآمر، الذي تصفه الشاعرة بسقوط الكلام وتقرنه بصور معبرة عن رفضها واستيائها واستخفافها بقبضته المقترنة بظلام الليل، مؤكدة ثورتها وعدم احتمالها للقهر، متمسكة بالأمل في نهضتها… نهضة الكلام، مرتفعة على آلامها وأوجاعها واثقة في انتهاء الليل لان لظلامه مداه.. وبعده تظهر النوارس البيضاء مع ضياء الفجر الذي يغمر الأفق والحقول والأودية، في صور بديعة جديدة تجمع بين الكثافة والشعرية وتمزج القضية الاجتماعية للمرأة العربية بعناصر الطبيعة البحرينية وتضمنها رؤية تقدمية جماعية دون مباشرة أو خطابية، بل بكلمات مكثفة هامسة مشحونة بالمعاني والدلالات والرموز البسيطة الشفافة المعبرة والكاشفة “.
في “خفايا الكلام ” تتضح رؤية الشاعرة للأنثى من خلال علاقتها بالرجل وتوصيف الذكورة في هذا النص. كما أن الشاعرة تعود لترنيمة القهر والعذاب السياسي من خلال علاقة السيد بالمسود غير أنها توظف تطور لغتها الشعرية الجديدة لتوصيف ما سبق أن وصفته في عملها الشعري الأول. تقول الشاعرة خاتمة قصيدتها:
– “لم الهدأة ؟
لم يكن بوسعي أن…
سقط الكلام
مرتخيا بكامن الرؤى
همت أيها العارف بأحوالي
حتى أغشاني التهيؤ
وهون التشظي
لم أعد احتمل…
سقط الكلام
تدق المطارق بهو الولع
أنزوي في راحتي
بعيدا، اقلب وجعي
أتساقط في نهضة الكلام “.
في قصيدتها “لم يكن الأمس صعبا هكذا” تعود الشاعرة إلى الأجواء الكابوسية، والتوصيف لحالة شعرية بلا وحدة واضحة حيث تتضح القصيدة النفسية عبر انهياراتها ورعبها معتمدة على المفردات والصور النفسية التي تصور حالات الرعب.
وتعتبر قصيدة “نوافذ للفتح ” إحدى القصائد المميزة في ديوان الشاعرة. توظف الشاعرة رمز النافذة في العلاقة مع المرأة، الإنسان، الوطن والانفلات نحو الأشياء والحريات عبر تسعة مقاطع. وفي تحليل أحمد محمد عطية للقصيدة يرى أنها تعبر بالمفارقة عن رؤى المرأة العربية في مجلسها الضيق خلف النوافذ بمدى اتساعه لرؤاها وكلماتها حتى غدا سريرها معادلا ومعوضا للوطن والطبيعة والبحر، فأصبح هذا المكان المحدد الضيق “متسع، متسع “. وأن المرأة قد تلاءمت في ” نوافذ للفتح ” مع النوافذ الموصدة والمزاليج المحكمة، مكونة عالمها الخاص الرحب كالفضاء الفني بالألوان… كقوس قزح.
تصنع الشاعرة مفارقتها ما بين شساعة البحر ومخلوقاته في مقابل الضيق، وتستمر في ترديد مفردتها “متسع، متسع ” في محاولة للخروج من المحدود بشتى أشكاله. وتصنع من النافذة مداها نحو العالم، “تلهث من أجل أن تحيط الأفق بذراعيها”.
وفي مقابل ذلك الاتساع، تعج مقاطع أخرى للقصيدة بكابوسية معهودة في قصائد الشاعرة (الحرب، الدخان، الحراب، المرارة، الجرح، الحداد، الفارة، الجرحى، الضمادات، القصف، القذيفة، الأشلاء) وغيرها. ذلك التهديد الحاضر دائما والمحيط بكل هروب ممكن نحو عالم الروح ورحابتها، الفضاء المفتوح، والنوافذ المطلة على البحر وقوس قزح. تقول الشاعرة:
-“أجدني في تلاؤم دائم
بلا مبرر…
واثقة ومحلقة
عبر النوافذ ومزاليجها
لا يحدني احد
أصافح ضراوة الريح ودعة النسيم
هكذا دون تردد
أطلق رغوة الأفق
أمرغ قوس قزح بحرية ألواني
أعج بالفضاء
وكعادتي
أفيق “.
إن العودة للذات خارج نطاق المرعب، وترويض جمالياتها يمثل أقصى حدود للحريات الداخلية التي يمكن أن يمارسها الفنان. وهي تعوض صور الخراب بإعلان ينتمي بكامله إلى بياض الكتابة إذ تقول:
” انتظروا… لا حاجة لي بكل هذا الوطن
رقعة صغيرة بحجم الكف تكفي
لأحيا وكلماتي
أهرق في سرير الحلم
وتنهض قي مجد الحكم “.
ويستمر هذا الانفلات لصنع الحرية من الرموز المحيطة فإذا كانت النوافذ سيدة الأفق في القصيدة
السابقة فإن الشاعرة في قصيدتها “شؤون خاصة جداً” توظف الرخام بقولها:
– “أعمدة الرخام المشيدة
كفاصل قسري
ضد اغتراب الفعل
ومسمياته الجارحة
ومراياه المرتعشة “.
وهي تحتمي بكل ما يمكنها الاحتماء به مما يثير الألفة: المنضدة الواسعة، والغيمة البيضاء، والحروف الملونة. كل ذلك لتنفلت الشاعرة “كقارب صيد في ليلة مقمرة “.
ولا يخلو ديوان “هل أرى ما حولي، هل اصف ما حدث ” من بعض هنات المحاولة الشعرية في نسيج قصيدة النثر فقصائد الشاعرة (لا أكثر، ولا أقل، وسروج للهو) نماذج للضعف الشعري حيث الصور واهية، والحالة مصطنعة ولا شيء غير التداعي شبه السوريالي لقصيدة غير سوريالية. وكذلك في قصيدة (أودية سحيقة) حيث تطرح الشاعرة حالة تتنافر فيها المفردات لمحاولة شبه شعرية لصناعة النص. غير أن ذلك التنافر يفتقد للانسجام وللحالة الشعرية، الحقة، ويبدو في الأخير كمجرد ارتطام بين مفردات شعرية، مصنوعة.
وفي قصيدتها “ماء مترع للمساء” لا شعر ولا شعور حيث تبتعد الشاعرة عن الأحاسيس وتولي اهتمامها بالصور المركبة من اجل صناعة الدهشة، غير ان الذوق التركيبي للمفردات لا يصنع ذلك. فالقصيدة تبدو كمحاولات نزقة، غير قادرة، على إتمام الصورة والحالة الشعرية، وأسوق الأمثلة على ذلك من القصيدة نفسها، تقول الشاعرة:
– “هيأت حشائش طرية تتهادى حولنا، قوارب
قصدير وأطياف تضبب هذه الطقوس لنا”.
“إني أحبك منساقة كجذور تندك، تقلد صدوعي
ماثلا في قراري
رائق هذا الدم إن لم ينحن
لك.. لا مفر..”
وهي نماذج للرداءة الشعرية رغم محاولات الشاعرة العديدة الناجحة والمتميزة في هذه المجموعة غير أن الارتباك والتذبذب في روح فوزية السندي الشعرية ما بين كابوسية السيريالية والواقعية ومحاولات الكشف الباطنية والصوفية، والرومانسية الفجة التي تفتقر الى الصورة الشعرية العميقة والجديدة من السمات التي تضعف العمل الشعري عموما لدي فوزية السندي. وكنموذج للسذاجة برومانسية مكررة ومعتادة في الصورة الشعرية أسوق هنا قولها من قصيدة “غناء واحد”:
– “نغني معا أغاني مختلفة
ولا نفترق
لي أغنية الحدائق الظليلة الخريفية
الساعة كنسيم، المرصعة بالأزهار المخملية…”،
الخ..
وتلخص الشاعرة موقفها من شكل القصيدة العربية القديم عبر قصيدتها “معلقة ” صانعة تشبيها للمعلقة بالإرث الأنثوي لفكرة (الجارية) عبر ذاكرة الأنثى التاريخية إذ تقول:
-“تتدلى أمامي بزخارفها وبديعها
معجونة بماء الذهب وحجر الجناس ووتائر الحرير
وعاج الفتنة
منسقة لا تقبل الظنون والتهتكات الشاكة
تسوق أبياتها بعناية مثل قافلة واقفة
والقوافي كبغال تدب دون التفات أو حركة
في شكوكها، للمراعي منبثة
مفصلة على نسق بديع كآنية
وفي عكاظ تؤرجح حرفها جارية
محظية ولها دلال
أراها تساق هنا وهناك في الخلافة
مغلولة
معلقة ولم تزل “.
إن تجربة فوزية السندي قادمة من سياق الرفض: للشكل الشعري القديم، لمأساوية الأحداث العربية، للدور التقليدي، للأنوثة والذكورة. وهي تحاول جادة إن تصنع تجربة شعرية جديدة تسوغ فيها مضامينها تلك بشجاعة، وحرية. وهي تنجح في صنع القصيدة المميزة، أحيانا، غير أن أخطاءها الشعرية هي نتيجة التجريب وهي أخطاء معتادة ضمن التجربة الشعرية الجديدة التي تحاول إن تخرج من أسرار ما سبقها. ولعل القلق الإبداعي يأخذ أقصى تجلياته في بحث الشاعرة عن الذات الأنثوية وبصيغة غير مزخرفة، ولا مسطحة، ولا خاضعة للقوالب الجاهزة، وفي هذا يكون التحقق الفعلي لما حاولته الشاعرة عبر العملين المطروحين.