حاورها: محمد الحلواجي
6-2-1994
جريدة الأيام- الملحق الثقافي رؤى
يحدث أن يكون الحديث العابر نصاً.. ويحدث أن يكون نص ما.. كلاماً خاوياً.
هذا ما سيكتشفه القارئ في حوار رؤى مع فوزية السندي الشاعرة البحرينية المائزة.
اكتب في زمن كهذا لأحيا
الكتابة ملاذ رحيم يشعل فيه الجسد تاريخه المندغم وتاريخ الأرض.. يحاور ذاته.. يعرى مكبوتاته.. لدفع انتقاماته عبر الكتابة من كل الأوصياء والسادة.. يكتب ليتعرف على هاوية الألم الكامن في ذاكرته.. يكتب لا ليكف الألم.. ولكن ليكتشف مداه.
ان اكتب في ((زمن كهذا)) كأني اكتب في أي وقت مضى أو وقت سيقبل. لاصطدم فعل الكتابة وطبيعة الوقت الذي يصد توقها للانعتاق من اسره، آن تقف وتعلن حريتها.
الكتابة (الفن).. سلاح دائم لمجابهة اشتراطات يصوغها العالم لتعمل على إخضاع الذات الإنسانية المشرقة على فضاء يتسع أكثر.. كلما توغلت التجربة الفنية في رحابة هوائه.
اكتب.. لأحيا.. حياة تحنو فيها الحروف وترأف الكلمات.. تحقق الحلم، آن نفي الآخر، سرد الكبت، الكبح المتشبث في غضاريف الحنجرة. في حياة الكتابة متسع لمثل هذا التخلق/التألق.. كل التحام يحدثه الجسد/الشمعدان الذي يصغي لبوح الروح/الشمعة.. ويتقد في نقاوة البياض.
أمومة اللغة والورقة لا تضاهى أمام بطش الآخر/ الحياة حامية الكوارث.. لذا اكتب/لئلا أمو.
تعبير ((العالم)) لا يحتمل، أشعر بحساسية ضارة تجاهه وتجاه فاشية قادته.. لما أراق من دمار نحونا.. وهشم احلاماً كانت لنا.
العالم مرادف دموي للدول/الحضارة الصاعدة على أنين الجماجم.. شراهة الفتوحات/الأمم/الحمم.
غدر لا انساني متفق عليه ومقنن ايضاً. العالم ليس لنا.. ولكن الحياة لنا.. لنا أن نحتال عليها بسلاح الكتابة.. لنطغي في أرض اقل يباساً وبأساً.. نسرد انتقاماتنا.. كل نص.
لن أتخلى عن رهان الكتابة كما اراه، للتعبير عن اقصى حالات تعرية الذات امام هجمة الواقع/ الآخر. فعل الاقتصاص لا يتحقق الا بفدر الالتحام بخفايا الذات واستدراجها نحو منصة البوح.. لتعلن كذبيحة لم تمت بعد.. ما حدث.. لتصف ما سيحدث.
اليأس شقيق الأمل.. الأقل سطوعاً والأجمل املاً.
فاليأس لا يعني السودانية المغلقة الآفاق ولكن يوحى باليأس المفعم املا، المغوي نحو الفضح، التعري.. لكونه املا آخر أشد شراسة.
اليأس كما القتيل.. ((في ذبح.. كهذا)) هو الوحيد القادر على مزاولة فعل الانتقام/الابداع لكونه لم ينخدع كما القاتل بشعارات قائد القطيع نحو مستقبل المراعي.
ولكونه في عزلة الفحم/القلم، ما يتجمّر ليرى.. في ((موت كهذا)). كيف ترى الكتابة…؟ اليست سلاح القتيل.
السقوط في منحدر الذاكرة
لذا لابد من تجاوز مثل هذه التعابير والنظر الى النص كتجسيد لطبيعة طاقة التوتر التي تحتل الكاتب لحظة الكتابة، لكونها تلعب دوراً تقنياً حاسماً في تشكيل النص.. وتحديد مدى تعقيد الصورة الشعرية وبالتالي اشعال درامية البنية النصية.
عندما اكتب اتوق للاقتراب من القدرة على تخليق الحالة النفسية التي تحتلني لتحويلها الى كتابة تنهض بعبء لم أعد احتمله.
هذا.. دون أن أنشغل بمدى تعقد الصورة الشعرية أو بساطتها.. او أي اشتراط آخر غير تجسيد الفعل.. التواتر الذي ينتاب الخلايا.
حتى في ((حنجرة الغائب)) جاءت ((الصرخة)) التي كنت من خلالها أحاول ترجمة ((الغصّة)) التي تهرأت بحضورها المديد في ذاكرة استعصت على نوم رافق هدير طائرات ((التورنيدو)) المحملة بأطنان القذائف….
تجسيد غصّة لا يمكن ان تتحول لشيء أخر غير ((الصرخة)) المتخلقة نصياً من تشظي الصورة الشعرية واحتدام الإيقاع وقسوة اللغة.
وهذا ما حدث في نصوص أخرى.. تلت مجموعات الشعرية للكتابة جسد كالبحر حافل بالتناقضات، من الصعب اخضاعه لنسق ما.. شكل فني تؤسس له الحداثة أو ما لم بعدها.. فهذا هو السقوط في منحدر الكتابة الذهنية المستندة على إرث الذاكرة الثقافية.. ليس شعراً بل تدويناً.
لكن الا ترين ان المباشرة هي المزلق الأشدّ انحداراً نحو ((هاوية الأيدلوجيا))؟
عندما تتحكم الكتابة لسلطة الأيدلوجيا وسيادة الخطاب السياسي.. ويتحول الشاعر لوظيفة البوق لا الناي. ولا اختلف معك حول طبيعة هذا المنحدر الذي لا يتعلق بالشعر. لكون الشعر هو الحضن الوحيد، الحضن الحنون بما يكفي لحماية الكاتب من ذاته ومما حوله.. للارتقاء به كلما اكتشفت عبر التجربة شفافية. الروح وعظمة الحواس في ندرة قدرتها على رصد مخالب الآخر/ العالم. وايضاً في مجايلة الذات لانتخاب ملذات اللغة ملاذ الضدّ.
لا ينبغي أن نلجأ للمعنى
-نحو تحديد القالب النصّي (شعر، نثر، الخ) كيف تعاينين الشعر والشعرية؟
-قارب ((جاستون باشلار)) – بعيداً عن البلاغة النقدية – كائن الشعر في قول بالغ النفاذ والدلالة عندما أوحى بأن: ((الشعر هو قوة تركيبية للوجود الإنساني)) وأيضاً ((ان الشاعر يتنصت ويردد.. ان صوت الشاعر، لهو صوت العالم)).
لا ينبغي ان تلجأ للمعنى والمعاينة.. كل شعر. فعندما يسند ((باشلار)) مهمة كتلك للشاعر، لابد ان يكف المعنى عن مناوشة فعل التحدي.
شاعرية النص تتقد بمدى التحامها باغوار الذات والكون معا.. وصعب.. كما قيل عن ((جوته)): ((انه يتنفس برئتين مليئتين، كما الأرض تتنفس بفضاء مليء، ان الانسان الذي يصل الى عظمة التنفس، يتنفس كونيا، وكما قال ((جوته)) كأنما أراد ان يدلل على قول الآخرين: ((تنفسي اوه.. ايتها القصيدة غير المرئية، تبادل صاف لا يتوقف بين كائن وأماكن العالم الأخرى، موجة وحيدة وأنا بحرها المتقدم، أنت الأكثر توفيرا من كل البحار الممكنة.. اكتساب مكان، وكم دخلت ذاتي من هذه الأمكنة، أكثر من هواء هو، كابني)).
لنا ان نتجلس بدلالة الإيحاء الذي يمعن ((جوته)) بسرده حول تغلغله وهواء العالم.. هكذا تأتلق الشاعرية الأكثر صفاء من الشعر، دون اعلان الصخب المتبدى بين (صراع المصطلح، نثراً ام شعرياً) ولكنه اعلان حضور الاحتدام بين اللغة ككائن والجسد كما يكون.
اقتراف النقد هو الاشكالية
-ما هو بعد القارئ في تجربتك؟
-من المفترض ان يشكل القارئ امام بحر الكتابة المرفأ الآخر للتواصل الإبداعي، ونبضاً تقترحه تجربة الكتابة.. قراءة تعيد صياغة النص ابداعياً وصيانته دلالياً، بما يتيح للتأويل من حريات أكثر رحابة. هذا ما يحدث أحياناً، ولكن ما يحدث غالباً، قراءة تستند على وصايا المأثور التراثي.. تتجلى بحضور القارئ كسلطة تشبه الرقيب/ العقاب، والتي منحها له تاريخنا النقدي لا الفني، الذي زاول فن عزف السياط، وإلغاء واقصاء محاولة إرضاء ذوق القارئ والتعبير عنه بشكل مباشر.. ورفع مستواه وتطويره ثقافياً.. الى آخر قائمة المسؤوليات التاريخية التي القتها حركة الأدب وذاكرة الثقافة على من يكتب. عندما اقترف النقد هذه الإشكالية.. اوهم القارئ بضرورة التصدي لمن لا يتحمل مسؤولية تلك الوصايا، ومجابهة النص عندما لا يفهم.. وايضاً اخترق الكاتب بإحساس بالذنب لا يفارقه.. كل كتابة.
كذلك أوهم النقاد بمسؤولياتهم أمام ما يحدث، لكونهم أداة الترجمة والتوصيل للقارئ – أي جسر – وتستعر هذه الإشكالية عندما نأتي لتحديد طبيعة القارئ، من القارئ؟ لنصادف شكلا هلاميا لا تحديد له، في مجتمع حافل بقراء يختلفون في طبيعة علاقاتهم بالنص. والثقافة هما معيار بائس، لكوننا نتحدث عن الإبداع.. لا القدرة على القراءة أو المتابعة الثقافية.
أمام هذا الارث، أشك بقدرة أحد على النفاذ. وهذا ما حدث، لقد خضعت في بداية اتصالي بالشعر لوهم سطوة الآخر التي لعبت دوراً في اختراق حميمية اتصالي بالنص، كان للسياط حضور لا بأس به.. حتى استطاع النص/التجربة الفنية، ان يحررني منها.. لما شكل من حضور نفسي جعلني انسى لحظة الكتابة ما يريده الآخرون لأتوغل بحرية دون ان أعبأ باجتياح الخارج.
الكتابة الآن تحاول اعادة صياغة العلاقة بينها والقارئ عبر تقديم النص المتخلق بحرية والذي بعبر عن التجربة الإنسانية للذات المبدعة، وتحريض القارئ ليحاذي النص بروح لا تقل ابداعا وهو يخلق رؤيته للعمل الفني.
–