محمد نور الحسيني
(1)
في “ملاذ الروح” جديد الشاعرة البحرينية “فوزية السندي”، سرعان ما تكتشف الانسجام اللافت بين التميز على صعيد لغة القصيدة و بين التطلعات المتوثبة على مستوى الرؤية و ذلك ضمن توليفة ماهرة قلما تقدر على تجزئتها، إذ تهيمن عليها جبلة شعرية متفردة، هي وحدها القادرة على التحرك خلال هذا التشظي الفريد، المتداخلة طبقاته على مستوى الصياغة و الفكر، بحيث تبلور هذه التطلعات الذات الشاعرة و هي تزج بنفسها في غمار الكون، بكل أشواقها و طموحاتها و لواعجها، و هي ما تنفك تعبر عما قمع و اقصي عبر التاريخ الجمعي و الفردي للكينونة الأنثوية تحديداً، انتهاء الى تأكيد أن ما تبتنيه “ فوزية السندي” بانسيابية و تدفق أخاذ، إنما يجسد في الحقيقة لظى الروح و الجسد و نزيفهما معا، في مواجهة صقيع التابوهات، في نوع من الأباء العارم و الرفض الرصين و الزهو بالشعر كونه الضمانة الراسخة لوقف الانهيار على مستوى الذات على الأقل و لوضع حد للخراب الزاحف على شغاف القلب، و سدى ذلك و لحمته، ما يختزنه هذا الشعر من جينات روحية تسند الجسد الموشك على الصلب و الكبت و الانزواء.
“من غيرك يثق بغدر الغيم، من غيرك ينحسر هكذا بلا مبرر، من غيرك يفقد نعليه خارج الباب، من غيرك يفسر برد الورق بأتونك، من غيرك يزج الكون نحوك، من غيرك ليس له، من مثلك ياجسد.”.
(2)
على غلاف الكتاب: عنوانه واسم الشاعرة، دون أن تسم الكتاب بنوعه أو جنسه الأدبي (شعر، نصوص مثلا..) وفي ذلك رد مبطن على من لا يزال يجادل في مسألة شاعرية قصيدة النثر وكأن الشاعرة تترك القارئ يحدد الانتماء الإبداعي لهذه الكتابة. على الغلاف الأخير ثمة عبارة تشتمل على برق قوي يعبئ بالضوء الفجوات وغياهب النصوص وكأنما العبارة مفتاح للولوج إلى خبايا الكتاب:
“امرأة تنام في الكون، وتفتش عنه.”
و بذلك لم تقسر الشاعرة القارئ على قبول وجهة نظرها فيما ابدعته، رغم أحقيتها بذلك، و ما دمنا قد ارتضينا هذا الاستدراج الحاذق لإستمراء هذا الجيشان، فأنك لتشعر أن العناوين ما بين الغلافين تضارع محطات ترويجية لإلتقاط الأنفاس، و انك مقبل على نص مفتوح لا تنتهي تعاريفه على حد قول الشاعرة في آخر الكتاب “حمى، إقتران الليل بهفة الحنين، معصوب بالفتنة، زرع يزعزع الجفن، هاوية الترنح، بلاغ غامض، جسر بين الكون و جسد الأخرس، كل شيء، معنى اللامعنى، فتوة اللغة، نمرة المخيلة، رقيق اليأس، حاشية الجرح،” و خلال هذا البيان، القصيدة: يطول تعريف” الشعر” و لا تمل الشاعرة و لا يضنى القارىء من هذا النبض المتوهج و كأنما هو الحياة، فيتواطأ القاريء و الشاعرة على عدم مفارقته و لا الانتهاء منه :”الغافل عن قيد النحو،قهر الورق، ناهب الصحاف، أزميل النبوءة، نجل النهايات العاق، هديل العمر، تورية الموت… لم انته بعد.”.
(3)
شعر “فوزية السندي” هو بحق نداء التاريخ المقصي والتجاور الحميم بين ما هو قدسي وما هو دنيوي، حيث تتجلى القضايا الكونية التي يتردد صداها في:
الموت والحياة، في الكبت والحرية، في الحوار أو الإقصاء، في الحب الفياض أو الكراهية المدمرة، في اعمار الحياة او بث الذعر في معانيها، إن الذات الشاعرة ستظل تنوء تحت هذه الذبذبات الباهظة للوجود، اذ تأبى عبورا من باب “لزوم ما لا يلزم” وتشاكس في بهاء العناد:
“كحجر ذاق نحت الرياح بأقصى القمم،
لا تقبل حدود السفح موطئاً لجثتك،
لا ترض القبر شريكاً لك، “
“كن عنيدا بك، وأصابعك تبارز راية البياض…”
(4)
“ملاذ الروح” سيرة “امرأة تنام في الكون وتفتش عنه”، دونها البوح الآسر، فهو نداء الذات وشعر الكينونة، النداء الساخر والجارف والعجائبي والخرافي، نداء التفاصيل اليومية في غرفة قصية وحنونة ودافئة، بمنأى عن فضول العالم وتلصصه، في نوع من المجاذبة غير المتكافئة بين الشاعر والعالم، إذ لا منطقة ظليلة، لا حلول وسط: أن يرنو الى الذراع أو يستغرق في الهاوية:
“صرت الحديقة والحريق، صرت الضد كله، لئلا يشكوني الماء”
“لا عليك، اندفعي لآخر دهليز هزه الشوق، وأشعلي بصعق الأصابع، ما تبقى من وتيرة هذا العالم العنيد”.
(5)
“تختارين كرسياً شرساً لتبلغيه ما يخطف صوتك،
وعندما تبلغك فراسة النوم تسترسلين لحكمة السرير
.. لمهب لا ينتهي
ريشه الوحيد بوح لا شريك له..”
أي افتراس ينتظر في الخارج؟! أما يزال الآخرون هم الجحيم؟ والا فما هذا الولع بأنسنة الأشياء في الغرفة وضخ الحياة فيها من قبيل: إضفاء الثراء على السجادة والفراسة على النوم، الشراسة على الكرسي والحكمة على السرير ليتطاول الأمر إلى كائنات الطبيعة: ففي انتظارنا دعوة حارة إلى الإلتفات نحو “الشجر الذي يحيا على مداخل العمر” و “الرعد الذي يزج الهواء” و “الورق الذي يطيل ارتعاد الموت”.. انها دعوة مشبوبة: أن تصغي الكلمات، لترى نهر الروح يتسع، كيف نفسر الأمر؟ انكفاء احتجاجيا أم جردة حساب سعيا لإمتزاج مهيب بالكون وانغماس أثير في الحياة؟!
“أقود غائر القلب، لهلاك دليل لا يراني..
هناك.. أهب خطاي لجياد تلجم المسافات بهياج غرتها.”
“مكاني الجريح جريرة الطاولة، غريمة لا تتعب مني،
لها طفل كعبء الورق يرضع مداد الوريد.”
إنه المصاب الوحيد” الحبر” الذي لا يمهل أحداً ولا يحتمل شريكاً في صبوته وشقائه واندحاره، وكل ذلك بحسب قول الشاعرة.
(6)
الليل ومفرداته، من اشد الكائنات استبدادا بأكثر من نص، فيخيل لك أن الصباح والفجر واليقظة، ضيوف فظة وناس جلاف وزوار غلاظ فلطالما كان الليل خدين الحبر،” فالصباح له عنوة وله طلقة تستبد بفيء الليل” انه طقس مقيت:” كأني لا أحيا لغير ضوء الرصاص”،” غامر الفجر كغيره من غزاة العزلة واستباح الغرف.” هل الليل أرحم؟” لما أتيت البيت واجهتني المصابيح كلها”،
“كيف لسور وحيد، و. ديك واحد، نفوذ كهذا يمزق سجدة الليل؟”.
وتظل الشاعرة ترسخ “ثيمة” الليل بأكثر من وسيلة ودونما وهن ولا كلل، مستمرئة صحبة هذا الفاتن ولائذة بعتمته المخملية ومحامية عنه كمن يحامي عن عزيز:” صاحبت العتمة، حتى جاء الفجر جهورا كعادة الوصايا، زاحمني ببلايا الضجيج وقرقعة الأواني، كنت أصيب لفجور المعدن ورأسي مكتظة بأحابيل المضجر، من صراخ وعته، طناجر تصطك.. جحيم يلغي حدودي.”
الخشية من الوقوع في براثن العادية والتأبي على المألوف والمهادن من أبرز حقوق المبدع، فهو ما انفك خدينا للتميز، طامحا في الألق، يقظا تجاه سيول التفاهة والتسطح، رافضا الانصياع لغريزة القطيع وان كان في ذلك استعادة لدور الشاعر وما يتضمنه من شحنة نبوئية متعالية أحياناً:
“لست لسفور مخلب صاغه التكوين، وروته فداحة البيوت، من خناجر تطرز صخب الطريق.”
“قل لي.. لم أتقصف هكذا بلا منازع؟
ولي يدان تهطلان كسيف الصواعق وذاكرة لا تهدأ.”.
(7)
كلما أمعنت في قراءة “ملاذ الروح” قصيدة بعد قصيدة، تتكشف حقيقة مفادها، ان الكلام ليس في وارد حسبانه ان ينتهي، ان الشاعرة ليست معنية أصلا بإنهاء الكتاب، رغم أنها تحاول الإيحاء بذلك، أن وراء هذا الفيضان الشفاف، رغبة جامحة في التحرر من أسر العادة و فجاجة الأيام، و الارتقاء بالذات إلى معارج الكشف و الإمعان في هوى التسامي، فتكاد تجزم مع “ فوزية السندي” بأن الشعر:”كالهواء حر لا مرد له، ناي ممزوج بعصيف الرئة، حفيف حنجرة الغائب، مدار السماحة و هو يواجه عنف النزيف، زعيم يقود كتائب الدم نحو حرب لا تهزم و لا تنتصر بل تتتالى هكذا، هديل العمر، تورية الموت..”
و “.. لم انته بعد..” أجل لم ينته النص، فثمة بين الشعر والحياة وشائج وأواصر وغصص ومكابدات وأشواق لا تحد، ثمة مواعيد خصوبة، ثمة قوة شعرية متفجرة ودافقة، ثمة الكثير الذي لم تقله الشاعرة “فوزية السندي” بعد….