الكاتبة: أنيسة فخرو
كتاب صدر في عام 1993
تضمن حوارات مع كل من: الشاعر قاسم حداد، الشاعر علي الشرقاوي، الكاتب محمد عبد الملك، الكاتب عبد القادر عقيل، الشاعرة فوزية السندي، الكاتب أمين صالح، الشاعر علي عبد الله خليفة.
1- ما هو العمل الذي يمكن أن نعتبره أفضل ما كتبت وأنتجت حتى الآن؟
– لا أميل لطبيعة المفاضلة بين تجاربي المنجزة، هنالك تجارب تحاول أن تكتمل وتتقدم لتكون الأفضل، لكنها دائماً تتعثر أمام تجارب جديدة تسعى هي الأخرى لتكون الأفضل. الأفضل بالنسبة لي يتشكل في الغياب.. لذا أتوق إليه.
لكل كتابة مذاق ورائحة ما، تؤسس دواخلها في حميمية الاتصال بي، لذا تعودت أن ألجأ دائماً لا للمفاضلة بل لأسر الوقت الذي كانت فيه التجربة تشكل الملاذ الوحيد والحضن الحنون.
2- هل تشعرين بأن هناك تمايزاً في درجة الرضا عن نتاجك؟ أي هل يوجد نتاج لك تقيمنه بأنه جميل وقوي، وآخر تقولين عنه عادي، وآخر تقولين عنه ضعيف مثلاً؟
– حتماً.. هنالك تمايز بين التجارب، عندما أعود إليها عبر قراءة نقدية، عادة ما تكون شديدة القسوة وحتماً بحساسية مختلفة، لاختلاف طبيعة اتصالي بالشعر بعد كل وقت يمضي ولا ينسى أن يدهشني بالكثير. أرى بعضها شديد التشبث بي، البعض الآخر ينزوي بعيداً..
لا أخضع لمعيار المفاضلة، ومن الصعب القبول بتقديرات مختلفة للقصائد، كأن تكون قوية أو ضعيفة..
هناك ما يشبه الحب والرغبة في إعادة قراءة بعض القصائد عن سواها.
أما الشعور بالرضا فلا أتمثله، بل أبحث عنه، ولا رغبة لي بالوصول إليه.
3- ما معيارك لأفضل نتاج لك؟ أي ما هو معيارك لنتاجك الشخصي الأدبي الابداعي؟ وما هو معيارك لإبداع الآخرين في الكتابة الأدبية؟
أن تكون الكتابة كالهواء. أراه ولا أراه.
أن تكون حنونة وقريبة، تداعب الروح والجسد، دفء لا يبتعد، مالا يوصف في حساسية الاتصال بالنص، ثمة احتضان لا يعرف الغربة ينتشل الكائن من صقيع الوقت، وقسوة ما حوله لمنتهى حافل بالغرابة، يجن فيه ويحن عليه.
في أسر هذه الحالة، عندما أقرأ لي أو ما يكتب الآخرين..
أكتشف الابداع، حرية الهواء.
4- هل يأتي النتاج الأدبي الابداعي فجأة أم يأتي على مراحل؟
في تجربة الكتابة لا مكان لنمطية التحقق، لأن الكتابة تشكل ذاتها في كل طقس بشكل مختلف، أحياناً تكتمل القصيدة في ذات الوقت بلهاث لا يهدأ.. وفي تجارب أخرى تكتمل في أوقات مختلفة، وذلك لطبيعة التجربة الفنية التي يمتثل الكاتب لمهارة تحققها
5- ماهي المراحل التي يسلكها النتاج الأدبي لكي يخرج الى الوجود؟
– لا أعرف كيف..
فالكتابة تبدأ وتستمر في تناغم وتشظي يأخذ مداه، لتنتهي ولا تنتهي، مفتوحة على الأفق، كموجة تعانق رمل الحيرة لترتد مأسورة بجلبة الأعماق وتنداح.. لتعاود العناق.
هكذا بلا مراحل..تحتدم في الروح بصمت مذهل..صمت يكتب ولا يكتب..
وفي ظل هذا التأمل.. أنجز بعض القصائد وأدونها ليراها من يراها..
لكن الأجمل يظل غائماً في الروح..أعجز عن تدوينه وأظل بانتظاره..
من الصعب تحديد مراحل لتطور العمل الفني في اللحظة الابداعية، لأنها تفترض غياباً عن الوقت والمكان والذات معاً.. لضرورة استمرار وميض الفتنة الذي يقود القول.
لقدسية وهج الخلق ونقاء الأمل الذي ينبض في رحيق الورقة.
6- ماهي أكثر مراحل النتاج الابداعي صعوبة والتي تحدد مسار العمل الأدبي
والتي تعانين فيها كثيراً؟ وما شكل المعاناة؟
وقت البدء..
لحظة اختبار الذات لقدرتها على حماية الجسد وحصانتها أيضاً.
هنا تتجلى- بالنسبة لي- الصعوبة التي لابد منها لاجتياز مكر البياض.. غواية الألم.
أما شكل هذه المعاناة، التي لا أفترض كونها معاناة، بل ما يشبه التحدي الممتع والغبطة المحيرة التي تستبد بالبدء..
7- بماذا تشعرين أثناء الكتابة؟ أي ما هي حالتك الجسمية والنفسية لحظة الكتابة؟
طبيعة الحالة الجسدية والنفسية أثناء الكتابة تؤسسها أيضاً طبيعة التجربة.. فكلما احتدت هذه العلاقة واتسمت بحالة عالية من النشوة والتناغم، كلما انسل الجسد بعيداً وتناهى، ليكون للكتابة حضورها المطلق.. فهي سيدة الوقت التي تحتضن دلال الجسد، لتعيد اكتشافه ومساءلته.. لتتحول الكتابة ذاتها إلى جسد آخر، أكثر رأفة، شفافية، قدرة على مواجهة الذات والآخر، من هذا الهيكل، من هذا الجسد المستباح، المباح لكل انتهاك.
هكذا.. تتحقق فعالية الذهاب في ذهب الكتابة.
من مغادرة حصار الآخرين، رفض نفوذ السطوة التي تمارسها الذات، ويمارسها الآخر على حدود الجسد.
كل هذا ما أتوق إليه دائماً.. وما أشعر به أحياناً.
8- هل تتنبأين بالنتاج القادم؟
– لا، ولكني أرى كتابة تلوح لي من شرفة الروح، وتعدني أن تكون الأبهى.
9- كيف تبقين وتحافظين على استمراريتك في النتاج الأدبي الابداعي؟
– عندما تتحول الكتابة إلى مبرر وحيد للحياة.. تتماهى بشروط الحياة ذاتها لتتحول الحياة إلى شعر والشعر إلى حياة..
حتى عندما لا أكتب الشعر، فإني أشعر بتدفق الروح وإيقاع الجسد، أرى في اليقظة والحلم ما أعجز عن تدوينه.
هو الشعر يحافظ علي ويسعى إلى استمرارية بقائي.. لا أناي. لكن أناة، لأنه الأقوى والأجمل والأعمق.
هو الحرية الوحيدة المتاحة لي..
فكيف لي أن أرعاه وأحافظ عليه، وعلى استمراريته.
فعل القراءة والتأمل لمنجزات المبدعين والحياة معاً، تزودني برغبة البقاء قربه ليغويني أكثر.
10- ما هي العوامل الأساسية التي تؤثر في النتاج الابداعي؟
– الإنتاج الإبداعي عملية معقدة تخضع لمؤثرات عديدة، من الصعب تحديد الأساسي من الثانوي فيها، هذا إن وجد مثل هذا التمايز.
هي تخضع لطبيعة الفنان ذاته، بما يشتمل برؤاه الفنية والفكرية وإرثه الثقافي وذاكرته وتجربته الإنسانية والفنية.
كل هذا وكل ما يتشكل ويحتدم في دواخله من رغبة في اكتشاف ذاته عبر كتابة ترى مالا يراه.
11- هل الابداع من وجهة نظرك مسألة فردية أم جماعية؟
– الابداع شحنة فردية وجماعية في آن، فردية عندما تتحقق التجربة في ظل ذات تكتشف فرادتها وتسعى إليها، لتضيء التجربة الفنية بملامح خاصة وذاك لتمايزها، لخصوصية اشتغالها الحثيث مع الماضي، الحاضر، المستقبل.
أما الجماعية فبمعنى حضور الفعالية الابداعية للتاريخ والحاضر، أي لكل التجليات التي تمثلها التجارب الابداعية الأخرى والتجارب الحياتية المؤثرة بالمبدع.
12- هل تنتقين فكرة معينة من عدة أفكار للكتابة عنها؟ وكيف تختارين الفكرة؟
– لا أنتقي شيئاً.
كل ما هنالك أني أكتب والتجربة نفسها تقودني لاكتشاف ما أكتب عنه.
هكذا تكون الكتابة أكثر نقاءاً وبوحاً وحرية.
إن مسألة اختيار المواضيع للكتابة تكون أقرب للكتابة الصحافية لا الابداعية.
13- كيف يأتي الإلهام أو الحدس؟ وماهي اللحظة التي تقولين عنها بأنها لحظة الإلهام؟
– لا أعرف كيف يأتي.. لكنه يأتي.. هكذا.
عندما أبدأ الكتابة، لا أعرف طبيعة الشعور الذي يقودني لهذا الفعل، ولكني أشعر بأن هنالك ما ينبغي على أن أكتبه.
ربما شحنة انفعالية لا بد لها لأن تفتح الطريق لتدفق من الصور الشعرية أشد وضوحاً منها، وقدرة على خلق القصيدة.
لا أدري.
14- كم مرة تكرر الحدس أو الإلهام في أعمالك الأدبية؟
– من الصعب الإجابة على هذا السؤال.
15- هل يمكن أن ندرب أي فرد على الكتابة الابداعية؟ وكيف؟
– الكتابة الابداعية ليست ورشة عمل ميكانيكي يتطلب لإنجازها تدريب عاملين ليتحولوا من متدربين إلى مبدعين.
هي حياة تحتمي بحريتها.
هي ذات المبدع الذي يتشبث بها لئلا يموت.
الكتابة هي الهواء الوحيد له.
16- هل تحددين لنفسك وقتاً ومكاناُ وظروفاً معينة للبدء في الكتابة؟ وماهي عاداتك المتبعة أثناء الكتابة؟
– لا توجد لي عادات محددة للكتابة، ولا أختار وقتاً أو مكاناً محدداً، الكتابة تختار وقتها ومكانها عندما تلح على بتدوينها..
حينها أحتمي بالورقة والقلم، أما الوقت والمكان فلا يشكلان عائقاً أمامي، ولا أتذرع بطقوس معينة لابد منها لأكتب، الهدوء والوحدة هما فقط ما ينبغي تحققه لأمتثل بحرية التجربة.
17- هل تمارسين أحياناً عملية التحول الفكري المتعمد؟ أي هل تتركين العمل الأدبي بتعمد وتسترخين مثلاً وتذهبين إلى عمل آخر ثم ترجعين إليه؟
– أحياناً يحدث ذلك، عندما أتعب وأشعر برغبة البعد عن الكتابة، لا للاسترخاء، لأن هذا لن يحدث إلا عندما أنتهي منها، ولكن للفرار منها لبعض الوقت والعودة إليها فيما بعد، عندما أكون قادرة على مواجهة التحديات الفنية التي تؤرجحها لي الكتابة.
18- هل لك تجربة حاضرة في الكتابة بالنسبة لك، آثار لتجربة ماضية قديمة؟
– لابد من حضور التجارب الماضية في التجارب الجديدة التي تليها، للتجربة الفنية ذاكرة تمتد لتشمل كل التجارب، ما أنجز ومالم ينجز، ولكن طبيعة هذا الحضور تختلف من كاتب لآخر ومن تجربة لأخرى.. أحياناً يتمثل هذا الحضور بتكرار في المفردات أو الصور الفنية أو الإحساس الإيقاعي والدلالي.. وأحياناً يختلف العمل الفني عما سبقه، لكن القارئ، وحده، يشعر بأن هناك تواصلاً لا يستطيع تحديد سماته مع ما سبقه من أعمال فنية للكاتب.
19- هل هناك تنافر وتباعد بينك وبين الواقع، أم هناك تقارب وما تأثير الواقع على الفعل الابداعي عندك؟
– أميل إلى استبدال تعبير الواقع بالحياة.. التي لا سبيل للتنافر أو التقارب معها، هي نبض الكتابة، أحاول فهمها واكتشافها من خلال الأسئلة التي يبتدعها النص لي.
لذا لابد أن يكون للحياة تأثير على الفعل الابداعي، لأنه يحيا بحريته من خلال فعل التماس وهذه الحياة.
ولكن إلى أي حد هو جدير بها أو هي جديرة به..
هذه الجدلية التي لا بد منها لاستمرارية فعل تحقق العمل الابداعي في الحياة،
وتحقق الحياة في العمل الابداعي.
20- ما هو هدفك من الكتابة؟
– الكتابة بالنسبة لي، ليست وسيلة. بل حياة مضاءة بحريتها.