دعوها تكتب


حوار أخبار الخليج

(1)

التحديات الكامنة أمام الإبداع تتعدد وتتوعد بذات الكاتبة التي ما أن تقارب الورقة حتى تتيقن من مدى هذا الوعيد، بالذات عندما يتقد التحدي الرؤيوي والإبداعي في كل نص لتحقيق الأمل الذي يعتريها: بلوغ كتابة تليق بخفق القلب واحتدام الذاكرة، كتابة لا تؤجل ما اعتراها من محن تتصاعد، كل عمر يمضي ليحتويها بما تستحق، بمدى قتل الوريد، نثر حبر الكتابة، ليتعالى وهو يشافه رهو الروح.

هذا هو الإشكال الأبلغ، الذي يستفحل لإهدار كل عنف جاور كتابة المرأة، كما أرى لإشعال مثل هذا الحوار، والذي نحتدم به كل ليل يطغى بنفوذ نبال الحروف، لكونه التحدي البليغ أمام كل كتابة تحتد.

ولكن لمنحى السؤال الراهن الذي يتحدر كل وقت، وهو يقلق النفس، مصراً على محاورة جلواه. السؤال الملازم لطبيعة الصعوبات التي تتعرض لها الكاتبة فيما يتعلق بشأن الأسرة ورعاية الأعباء، من هموم يومية وتفاصيل حياتية تتعلق بالبيت وحده، وما مدى اصطدام كل هذا بمدى مداومتها على الكتابة؟ هكذا يستغيث السؤال..

أبدأ مداولة هذا المحور باستنهاض ذات الهجس الذي بدأت به الحديث، لأسأل: كيف لمن تتحدى النص الشعري ذاته وتسعى كل الوقت لإتقان مدى قدرتها على نحت فرادة البوح ومكاشفة المسكوت عنه وإعلان مرام الشغاف على الورق كل ألم.. أن تُهزم أمام معترك وعبء لا بد منه، وهبته أياها الحياة كل عائلة، أسأل: كيف؟

هنالك صعوبات لا بد منها، وهذا شأن الحياة، ولكن.. لا يمكن لها- و لا أبالغ في هذا الشأن فيما رأيت من وقت صعب- أن تقف حائلاً أو أن تتحول لمسعى تدميرياً لنبض الكتابة، لكون هذا الخلل – الابتعاد عن الكتابة-لا يحدث من مداهمة التفاصيل التي تحدثها مهام العائلة و لا حتى الحياة ذاتها التي أراها تشكل أقسى التحديات – التي لا يقوى عليها الجحيم ذاته – التي تجابه الكاتبة في سعيها للشهادة على ما يهديه لها العالم من مخالب و هزائم و يأس يستبد، الخلل يتأصل و يتفعل عميقاً كالصدأ الفاعل على تفتيت حديد الروح، لإحداث القطيعة بين ذات الشاعرة و الورق لعوامل ذاتية أخرى، لا العائلة و لا الآخر و لا الأطفال ولا العالم ولا الكون كله … قادر على وأد صوتها أو كسر حرية حنجرتها، لا. ليس هو من يحدث انكساراتها، ويدعها لتنحاز لانكفاء يبتعد عن مهاتفة الذات، و لكن لحدوث قصور ذاتي، انشغال عن الكتابة،الإلتهاء بجسد بات يحتمل روحاً لا تشعل التحدي، لا تقوى على حتم التصدي و التصدع كل سطر، لا يعنيها النهل المعرفي، لا تديم إصراراً على محاورة عماء الورق بذخيرة الحبر، و لا استنهاض رجفة تنير الحواس، روح لم تعد تأبه بما يحتل غوامض الذات و لا خوافي النفس، جسد لم يعد يعتمل بجذوة الشعر كما تبتغي له حفاوة الذاكرة، التي تكاد تذبل من وطأة النسيان و سهو الغفران لهواة تدمير رهاوة الإنسان، سادة هذا العالم.

عندما تلتحم المرأة العربية بالكتابة كشرفة لتسريح المكبوت وكسر فخار الذاكرة، عليها ألا تتوهم بطريق كالبحر يحتفي بخطاها، ولكن لها – كما الموج-أن تحتد كل صعب، بما لم تتخيل مدى سطوة قسوته، لكونها آن الكتابة، تستطلع شأن الخافي وتدين الحاصل من نبذ، تشعل الورق بما يشهد على زمان لها حتى آخر يأس يتوصى بمستقبل للأمل.

الأمومة واحتمال عبء العائلة، أراها التزام إنساني تجاه شغاف القلب، تتعلق بأقل القليل نحو دورها الأنثوي في هذه الحياة، زهاء ينوع النبت وطلوع الورد كل طفل يتأهب لوقت قد يراه.

العائلة رغم كل المهاوي التي تعتريها والمصاعب، تظل تجربة لا تؤجل الكتابة أو تقصيها.. بل جمرة رغماً عن الرماد … تشحذها حتى آخر حرف كالفحم.

للطفولة نعمة لا يستهان بها، هي المعلم الأول لرهافة الخلق، تجربة الحمل والولادة ومراعاة براعم تشهق حتى تتورد، أراها المنهل الأهم لتخليق أتون الشعر، لبذخ حساسية للهتف، كل طفل اهتواني لأتعلم منه فداحة الشعر، حتى وإن ارتخت الأصابع عن الكتابة. وهذا ما حدث لي طيلة وقت تحصين الرحم وإشعال الحضن لصبية ثلاثة، مازالوا يراوغون حب الكتابة، طيلة ذاك التمهل العذب تجاه تدوين الشعر، لم يغادرني الوله لحنان الورق ولا خفة الحبر. لحظة واحدة، كنت أكتشف كيف يتهاطل ينوع الخلق وتبزغ الأعضاء آن الحمل، كيف تبتهل النفس وهي تشرف على براءة رضع يحترفون يباس الخطو كل أرض تبدو رحيمة بخطاهم، ثمة شعر لا يوصف، بدا ينحت لي غمر الهواء كل طفل يحبو ويلتاذ ببسمة الهمس، زخم تجربة لا أواري الدمع الذي يتأهب كلما تذكرت نقاوة وشقاوة حلولها، لذا تيقنت من أن المبتلى برحمة البوح وملاذ الشعر لا يلهيه عنه أي شيء، حتى آخر نبض يتشبث بخلعة الروح: من غير الموت، ولي أن أبعث الشك أيضاً.

ليست العائلة وحدها من يسرف في هبوب الأعباء والتفاصيل التي تزاحم وقت الشعر ولكنها الحياة ذاتها الأدهى بما لا يوصف وقدرتها على سرد كل شيء لمداهمة من توصي الوقت ليكون رئيفاً بحروف تكاد تصل الورق، لذا لابد من بلوغ الذات الشاعرة قدرة على التشبث بها وحدها، لتستحث التحدي الكامن في تاريخها وذاكرة إرثها العتي، لتجابه وحدها، مع من يستولي عليه مصاب الكتابة، مصير من يكتب في زمن عربي يمتاز بانهيال صدوعه، ورماحه التي تتصاهل كل هزم.

التحدي الكامن أمام كتابة المرأة العربية يتصف بتقصي رهان المخيلة، بالتحدي الذي يستحث كل ما يتقد آن الحياة لدوام نهضة الكتابة، تدبير الوقت الصعب عبر مفاضلة تتم بوعي صقيل، للتخلي عن زائف الهدر الاستهلاكي المتمثل بكل ما يعمل على انهمار اللغو، التغاوي عن هيمنة سيادة التسليع لكل مظاهر الزيف، وكل ما يبتغي الإسراف وهدر ما لا طائل له، من نفيس الوقت..

أخيراً تعريف الحياة والعائلة.. بأن ثمة هواء ووقت للكتابة لا ينبغي تخريب حريته، هنالك من تحدق في ليل يتيم لتحتمل فضاء الورقة، لتجفل آن سقطة الحبر كل حرف يجتبي تركة العزلة، ليدون معترك الجسد ورعدة الروح…

لا عذر لأحد ينتهك رهان وحدتها وليس لأحد أن يوقظ حلم الحرف الحاضن رؤاها، دعوها لتكتب.