صعاليك العرب شعراء لم يقتدوا بقوانين البادية وأعراف القبائل، لم يرتهنوا لغدر الأرث ولا جشع القوافل لأنهم رعاة صوت لم يقبل مهادنة الصمت، ولا استجداء ظل عشيرة تقيهم عبء الهجير وتخلعهم إذ لم يرضخوا لذل المأوى، فقيل عنهم “صعاليك “وهم صحابة روح تستنكر الضيم كلما انحدر السوط، ليسوا كما أفصح “لسان العرب “في تعريف غادروه وحدهم عندما قال: “الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك. وقال حاتم الطائي:
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى
فكلاَّ سفاناه بكأسيهما الدهر
وإلى ما هنالك من التعريفات التي لم تزد على تشبيه الصعلكة بالفقر وبضمور الحال وهزال صاحب المسلك.
ويسترعي صمتنا تعريف هائل بالمعنى، استوفاه اللغويون العرب حين صرحوا بأن “صعاليك العرب ذؤبانها “وعندما تساءلنا عن معنى ذلك، قيل لنا في الصحاح:” ذؤبان العرب أيضاً صعاليكها الذين يتلصصون “وفي القاموس المحيط ” ذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم “حتى فضح ابن أثير المعنى عندما قال: “يقال لصعاليك العرب ولصوصها ذؤبان لأنهم كالذئاب.”
ذئاب أقل توغلاً في الدم من ذويهم وسلالتهم التي أذاقتهم الحرمان كله مغموراً بالغدر، لذا خرجوا لهجير أكثر رأفة وبايعوا الموت علانية كل غزوة يتقدمها السيف وتتلوها أعنه الكلمات فيما قال “الشنفري “:
دعيني وقولي ما شئت إنني سيغدى بنعشي مرة فأغيب
سفراء المهب، نبلاء رمال لم يقبلوا ضغينة من أحد.
قال عبد الملك بن مروان: “من زعم أن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد.”
شعراء أضفوا لسيرة تاريخ الشعر العربي نهج الفرادة من بليغ القول، وهم يتأهبون لصراحة الموت لم يتأخروا عن تبليغ فداحة الشعر.
منهم عروة بن الورد سيد الصعاليك:
دعينى أطوف في البلاد لعلني
أفيد غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة
وليس علينا في الحقوق ُمعَّول
فإن نحن لم نملك دفاعاً بحادث
تلمُّ به الأيام فالموت أجمل.
والشنفري:
أديم مطال الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل
وأستف ترب الأرض كي لا يرى له
على من الطول امرؤ متطول.
والسليق بن السلكة:
وما نلتها حتى تصعلكت حقبة
وكدت لأسباب المنية أعرف
حتى رأيت الجوع بالصيف ضرني
إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف.
و أنت تقرأ في تراث الشعر العربي، تستوقفك معالم تجربة مكتنزة بالدلالات، موحية بعمق مؤلم، و هي تسجل فنياً أحاسيس بالغة الرجفة، كأنك تتعرض لها الآن، تجربة شعراء أسماهم المؤرخين المستسلمين لعبودية المصطلحات بالشعراء “الصعاليك “، ذلك التعبير الذي لا يليق بشعراء توحدوا وصمت الصحراء لنزف تجربة شعرية تلمست بعنف درب التمرد الذي ارتأوه لتأسيس رؤيا إبداعية غنية بصيت الإباء والجرأة و مجابهة المفر، فأختاروا تحدي رعونة الحياة خارج القبيلة على الخضوع لخيام تغيب فيها العدالة، كلهم تعرضوا لضيم علاة القوم و بأس العشيرة التي لم تقبل كبرياء روحهم و حداثة كلماتهم التي خرجت عن مألوف المدائح و النواح لتكابد شر الحياة و تفشي معاناة لا يرزح تحت نيرها الحجر.
قيل في أخبار الشنفري:” أن قومه قتلوا رجلاً في خفره، فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم، ولم يفدوهم “، ومن أسباب خروج الشنفرى على ظلم قومه “تلك اللطمة التي تلقاها على وجهه من الفتاة السلامية، لأنها أنكرت عليه أن يتسامى إلى مقامها الاجتماعي ويناديها بأخته.”
كالذئاب انحدروا لحرية الصحراء، ليلاقوا مصيراً وعراً، بلا سند من أحد، خلعتهم القبيلة “فلا تحتمل جريرة لهم، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليهم “، وآوتهم الكهوف والبراري ليبتهلوا بخبرة الطبيعة البعيدة عن قسوة الناس.
المريب في أمر التأريخ كونه يتآمر لنسج الحدث من رؤية ولاة الأمر دائماً، فنراه يهول من وحشية “المارقين” على مرجعية السطوة ويعدد صفات العناد والعنف ولولا الشعر لما تعرفنا على فضيحة التاريخ تلك.
تاريخ لا يرى في سيرة الشعراء غير مظاهر العصيان و التمرد المتمثل في نهب القوافل و الإغارة على القبائل، حتى يصل تشبيه بعض الرواة لهم بالمرتزقة و قطاع الطرق و يتم التعامل و شعرهم كنصوص قديمة تسرد حالهم دون التريث و التأمل لتدوين سيرة ضحايا فتكت بهم قوانين جائرة أردتهم رغماً عنهم لنيل انتقاماتهم شعراً و غدراً ضد القبيلة وحماتها معهم، لنقرأ حياة شعرية مزدحمة بالنقائض، الشجاعة حد التهور، الخوف و الغربة، من العنف حتى السماحة إتسقت ملامحهم بقسوة تنفطر لدى سماع كلماتهم و منها رثاء “ تأبط شراً “ للشنفرى حيث قال:
فلا يبعدن الشنفري وسلاحه ال
حديد، وشد خطوه متواتر
كان لتشردهم عظيم الأثر في بزوغ صور فنية فريدة، لمحاذاتهم كل عناصر الملفى الصحراوي من الضواري والجوارح والنبات والحشرات والدواب، كلها تمثلت في كتابتهم كما ترنم الشنفري:
هم عرفوني ناشئاً ذا مخيلة
أمشي خلال الدار كالأسد الورد.
تلك المؤثرات كثيراً ما نراها تتبدى في قديم الشعر ولكنها تتحقق في كلمات شعراء” الخروج “بحساسية فائقة تنم عن معايشة تلك العناصر حد القدرة على الحديث بروحها.
ومن الظواهر الغريبة في شعرهم انتشار الرجز قبيل مصرعهم واتفاقه مع حركات القتال، فقيس بن الحدادية يقاتل أعداءه وهو يرتجز الشعر حتى يقتل، والشنفري في ساعته الأخيرة حين يضرب أعداؤه يده فيقطعونها يرثيها رجزاً.
في جاهلية العرب تناهب الشعر كشكل وحيد لمكاشفة النفس، العديد من المبدعين، منهم من استبقاه لتدوين مآثر شرفاء القوم وتحبير أخبار حروبهم وأحياناً للبكاء على ما تبقى من الدار والتعريج نحو شأن القلب، ولكن من أسموهم “بالصعاليك “بددوا الفيافي كلها حين اغتنموا موهبة الروح وأسرفوا في تقصي خطى الصحراء.