آخر القساة


في صباح نادر، بينما كنت أكدس الورق نحوي لأشتغل على صمته المعتاد، صاح الهاتف، فأصغيت رغماً عني لصوت يخاف الخبر، لبوح أغمد سيف الهمس وغاد رني، لأغادره غصباً عني، منزوية نحو الجدار، أحدق بهدوء لا يصدق، لئلا أصدق أن ثمة قريبة للقلب – بعناية – رماها الموت، لأجهل أن هناك.. الآن. امرأة فقدت ضيافة الهواء لرئتين لم تسأما يوماً من حضوره المديد.

بين الذهول والذهان أمضيت قاس الوقت وأنا أتزود بملامح حنونة تسردها لي خزائن الذاكرة، لئلا أنسى أنها غادرت قبل أن يمهلني هذا الوقت الصعب وداعها الأخير.

للموت غدرا يطاق، بغتة يدعك وحيداً وحزيناً تتسربل بحز الألم، لا ترد عنك سخونة الدمع لا تسأله – لقدسية قراره المهيب- لماذا الآن؟

لماذا له صفة الصواعق إذ تشرخ السماء فجأة لينتحب الغيم؟

بعد ما استعصت على أسئلة الموت، إلتجئت لبيت مكتظ بالسواد، ملتحفة بحزن لا يقو على رد هجمة العباءات، أحذية لا تحصى تشغل عتبات تتهامس بريب عن سر كل هذا الخطو، حشد من الأكباد ادلهم بها الألم، مقاعد لا حصر لها مثقلة بحزن كسير يستسلم لمحنة الأجساد، في غمرة السكون المبعثر بهواتك الدمع، يتهادى صدى القرآن، رتم يهاتف خشعة الروح، ترنيم يهيم بحدود مرهونة لخوف المصاب، مجابهة مشكل المجهول، كلما علا ترتيل الحنجرة، همت النفوس أكثر، مصغية لمخيلة تسرد ظلام الوحشة الغامر، كفن من كانت تحيا بشهقة العمر.

ليس غريباً أن تصاب بعزاء الفقد، الغريب ما تصاب به من أحاسيس لا طاقة لك بها، هيل من الحزن يتضامن معك، لتبدو معرضاً لملامح ترمقك وسواك بصمت واحد وأسئلة تتشابه، رغم السكون المتقطع بنحيب خافر لا مفر منه، تستنفر الحواس لتعادل غياب الحياة المؤقت عنك، لترد نظرات مربكة ترسلها نسوة مفعمات برهبة الموت وملهيات عن درسه في آن، بلا مبرر مقنع -على الأقل لك وأنت لم تزل تبكي ما راح منك- تفزع من تشبثهن العنيد بكل مكر الحياة.

نظرات يترجمها سيد المكان والزمان، الحاكم بأمره، الموت المبجل بسطوة تفتح القبر، لينحدر جسداً مرشحاً لنهايات التراب، ملفوفاً بحرير الكفن بعد آخر وداع لغمر الماء، جسد تعطر بكافور الأسى وأوراق الحناء تمجيداً له، عابقاً بزعفران يؤله الذهاب، مضمخاً بصندل العرس وعطف القطن ورعاية المسك وماء الورد كأنه لزفاف الغدر يمضي.

كل هذا الود يفيض بعناية الأقرباء، أقرباء توصوا بشموخ الجثة آن الموت، أكثر بكثير من عنايتهم، وحنوهم على الجسد الذي كان يراود حلم الحياة ليحتمل عدوانهم.

للميت حظوة أراها لا تطاق، بالذات حين هبوب الأصدقاء، لأسأل: لماذا لم يصدر عنهم كل هذا الانفعال بذات الحب والحنان وهو وديعاً بينهم يتنفس ذات الهواء؟

لماذا وهو ذاهب للموت يذهبون إليه بخشوع رأفة لا توصف؟

هل فاض الوله بهم -الآن – والقلب يلوذ بسكرة القبر؟ أم هو الندم ما لا براء منه.

للميت قداسة تتنزل على جفوة العائلة كلها وعزلة الجيران وحيرة الأصدقاء، حتى ألد الأعداء تراه يتبدل من حنق مسبق لا يفسر، إلى حب لا مبرر له، سوى ذعر الانطفاء المبكر، هيبة العزاء، ما يبعث لهواء البيت رائحة التراب وخوف النسيان.

هكذا يتوافدون والأحذية تتلاطم نحو الباب، الباب الوحيد الذي عليه مجابهة كل هذا الانتهاك، هكذا يسرفون في هجمة الوجد والتذلل نحو مآقيهم التي تعجز عن هطول الدمع، حتى تسعفهم آهة مفاجئة، يتبعها سيل النواح.

ليس الميت وحده من له زهو تفازع الناس، لكن للأقرباء الأحياء حضوراً لا بأس به من حنان الغرباء، لهم شفاعة مريرة تتجلى في خطاب ممل للمواساة، يتكرر، ليصل الآذان ممسوساً بفنون التعازي وأداء الواجب البارد، المصحوب ببكاء جاف، لا مرد له سوى شراكة النشيج.

سبعة أيام من الحزن وثقل العباءات، كل يوم يتلو ما بعده، ذات الطقس يتردد كأنه صدى انهيار النهارات، هدير الأمسيات، لا يتبدل فيه سوى رتم الألم الذي يبدأ عتياً شرساً كأنه نهاية الهواء، حتى يتلوى وهو يلملم حقائب الجزع ليبتعد رويداً، ملوناً خطاه بمشاعر تبدأ من خلجة الموت، تمر على ترانيم الخسارات، لتصل واهنة إلى شفاعة الصبر.

عناية الموت بعائلة الفقيد لا مثيل لها، تبدأ من مقبرة فارغة تكتظ فجأة بمواكب المشيعين، ليمضون وهم يحملون نعش جثة مدللة برفاهية الموت – حارسها الوحيد – محمولة على الأكتاف لآخر مرة، منذ طفولة تتذكر حنو الأكتاف جيداً.

يصطف ذوي القرابة، وهم يتكاسرون خوفاً وحزناً بليغاً يكاد يصل المثوى الأخير، حتى يستقر جسد الفقيد لدفء التراب، لنوم لا يقظة فيه، يتفازع الأهل برجفة لا تبدو لسواهم، لينهال التراب وهو يغمر هواء الفراغ بين الحجر، مغموساً بالأدعية والتراتيل التي لا بد منها لتغفو الكلمات في وداعة جسد أتعبه حديد الحياة.

سبعة أيام تتصل فيها بأهل وأصدقاء وأعداء يتجاورون كالرمل، يتعاضدون كقطرات الدم، يتوحدون لرشم الذاكرة بتفاصيل تحفر دربها الموجع – بهدوء – ضد نسيان جسد قسى عليك بذهابه المبكر.

هكذا يتآزرون لتشييع الجنازة في نهار صعب، فيه يرتلون صفات الفقيد، ويدعون ما تبقى من صور ليتكفل بها الليل الحليم، مليك الخيال، من لا يتأخر ليسرج الصفات ويرسل صعق الكوابيس التي تبالغ في نفض الأعضاء.

الموت عدو ضرير، ينتضي ضحاياه بفراسة الأعمى، مخلب غرور، لا يكتفي بما نال، منذ أول دورة ارتآها هذا الكوكب اليتيم لعبة له، ضد سأم الوقوف كسيراً في سديم الفراغات، تتربص به عداوة النجوم زاعمة انهياره الوشيك، وحيداً يتقن قدرته على البقاء بعبث الدوران، دار ثم دار حتى أحتال على الفناء، لينسى أن ثمة كائنات – كانت للحب- اقتدت بفعلته اليائسة من حتم البقاء، كائنات ظلت تدور مثله، لكنها فقدت الدليل لتدور حول سواها، لا حولها مثله، لذا لم يتأخر عنها الفناء.

وحده الموت -آخر القساة – من يتجرع قسوة الناس كل قبر، ليراهم يصطفون بذعر حوله، لرثاء جسد ليس الأخير؟