(1)
الصخرة: امرأة تجف على مهل
ولا تغفر للهواء
هل كانت تروي بعذب الشغاف معجز الحكايات، كل ليل يطيل العذاب، لتسري نحو غلالة الروح، تكاشف نهب المصاب، أم كانت تفر بانهيال الروي لتنجو من شهامة شهريار، هذا الأسير المتكئ على وحشة الحرير، وترف الديباج يهف له حفاوة الهواء، أمام سياف قرب العرش يتأهب سقطة العنق.
هل كادت تسرف في بدعة الوصف، لغواية المليك الذراف عنف الحواس، تبالغ في مهارة الصمت وتلاوة الخيال لاقتناص سهو الجلاد، أم لتحاكم ليل الشرق… ومن سواه أغلي بهدير القلوب وبلوى الروح.
تتفرد شهرزاد بأبهى أسطورة اختبرت متعة تتالي الكلمات، موهبة الكتابة على هواء الليل، امتحان جدوى الكلام لدرء مغبة القتل، اسطورة نالت من تاريخنا كما لم يفعل أحد، بحرية شاسعة تحكي رتم جسدها المبذول لمصير يتأرجح بين شفرة لذبح العنق أو إصغاء لسلطة لها سطوة الأمر كلاهما هلاك مؤجل، صيرورة لا منجاة منها غير تتابع الحكي.. بترف مخيلة تنضح السحر الذي لاح لها، مهب لا ينتهي رأفة بهواء يديم نهضة القلب، كتابة ضد الموت، كأنها تحكي لئلا تموت، لئلا يقتحم السيف وريد عزلتها، ويجتز دفق دم كاد يسند جسدها طيلة الحياة.
شهرزاد رمز عتيَّ، داول محنة القول الفاضح، الطالع من خفايا الذات، لذا أقل ما عليه أن يعلو بذاك الصوت: برهان الرفض: سلاح القتيل: جزية الأمل.
شهرزاد من مكانها القدير كضحية تنتظر، امرأة تقول ما تكبت، كأنها تكتب عن ضيم ذاكرة تتناسل، ضد نير طغى بحرية الإماء، جور لم ينل من القيان فحسب، بل استبد بذوات الخدور ورهافة المحصنات وراء السور، كل النسوة اللواتي تداعين لتاريخ اختض وداعة القيد، ضد وأد لم يتأخر.
(2)
الليل يلهيه السهاد، كان السيد العبد – شهريار- يذعن لقدرة خيال قادر على مشافهة رهائن الأعماق، المكنوزة بألم وذكريات تنتشل النصال لتدسها بعناية تلوب بمسراه.
كان صوتها، يرسم له حياة الحلم، يستفرد به، يؤجل تهديد الضوء، صيحة الديك المنذور لفجيعة الفجر، كان كغيره من الولاة لا يتعظ ولا يعدل، وحده يخاف فضح النهار لقتلاه المهدورين على جفوة المشانق، أسراه المغلولين برنين الحديد، زنازينه المكتظة بدواهي الصريخ، شعبه المشرأب حتى الخنق بضيق الهواء.
كان شهريار ولي الدم يهاب النهار: رادم الحكاية، لذا تمادت في الحكي، لكونها تتقن ما يفضح الصوت وما يفعل الصدى.
مثلها لا يسأم الظلام: ولي عهد المساء، لم تكن تحكي عتم النفس لتؤانس وحشة شهريار، لكن لتنتقم، كأفعى تذيع سهو السم ببطء، لتراه – وهو المليك المعتصم بنصال لا تخطيء دمها – يستنفر عتم الحواس، مشرئباً بجسد كأنه في جوي الجحيم، يتمرغ كل حادثة بخدر السرد، يلهو بحبكة تنال منه وهي تندلع هاتفة بسيرة شعب تلظى على يديه، كالبحر وهو يحذف الموج، تثير الحكايا ببراعة رياح تشبه الأمل نحو مهب صعب أوله اليأس.
جابهت شهرزاد بحكمة وعدالة الكلمات إرث كل الضحايا من عذارى وسبايا، غالبوا قدرة القتل فما استطاعوا، حتى إنهدرت ذات عرس هاوية الليل – شهرزاد – واستحثت غريزة الأنوثة الكامنة للدفاع عن حياة لا ترتضي السفك طريقاً، استنزلت صيحة تدفع الكلام ليصهل كل ثأر، في تحدي الجائر جهراً.. هكذا دوخت سلطة شهريار، دعته ليصغي -غصباً عنه- لانفلات الحكي، يفغر واه الأشداق، منصتاً لصاهلة الصوت.. شهرزاد.
(3)
هكذا عرَّت كرسي المستبد، أمام عرش مخيلة لا تأتمر إلا لمهب الكلمات، لنراها تتقن تحفة صوغ الحرف ليخترق شمع السمع لديه، مذهولاً بخطو السرد، سرها العصي على الكشف.
منذ آنذاك.. حتى الآن، كلما قرأنا قصصاً روتها له، نغور في كمائن الرواية، نحترف عصي التأويل، لنحصي عذابات امرأة شافهت بأس الحياة.
امرأة جايلت عبء تاريخنا، لا لتذود عن النساء وحدهن، لكن لتحاكم منظومة لا تمل شره القيود، شرائع استهوت نزف ضحايا يلذن بقبر البيوت، يرتهن لفتوى قبائل أرست سياطها، وتعسفت في تحوير – جنس الجسد- إلى سلطة يتباهى بها الغفلة من الذكور.
لذا لم تتعب وهي تفضح المسكوت عنه من ألم اعترى شعباً اعتاد الهمس.
(4)
كادت كالليل تفضح عناء الضوء.. حتى يدب العياء بجسد شهريار ويؤجل مرام القتل، تبوح عما أصابها من وأد جائر، ما أن تبدأ حتى تتحول سلطة التاج، سلاح الصولجان وكل ما يحتمي به شهريار إلى اسطورة من الكلمات، تزدهي بها زمردة البوح شهرزاد، يالها من سهرة مدججة بحراب الحروف.
وشيكة على الموت، لا مفر أمامها غير أن تخدش فاشية المشهد، بكلمات امرأة حاصرتها أوتاد القوم طويلاً، وآن لها كخيمة طال بها الركوع، أن تصدع حرية الصحراء بصوتها النبيل.
لنرى النقائض تروي نزاعاً مريراً، بين حنجرة تتلو المصاب بكلمات ترث الجحيم، وسيف يتغنج بعنف ذاكرته، ألف ليلة – ونكاية بهم- ليلة أخري… بينهما شهرزاد وشهريار وعبيد يؤثثون القصر بهمس للذل.
هكذا أضفت امرأة تؤجل موتها أسموها – شهرزاد – لتراثنا العربي نصاً يفوق قدرة الوصف والاحتمال، لا لجمالية تتصل بحرفة الحكايات كما ارتأى الرواة.. لكن لكنز يحتدم بحريف الحكمة، حرية الحرف، طعنة الذاكرة التي رأت ما نرى الآن، وما سوف نرى حتى.. آخر الكلام.