(1)
للشمعة حضور مخيف، يدعك تغرق في صمت عميق، كلما أزداد الليل عليك وراحت تحدق بك، كأنها وحدها تراك بوميض مهلك، يتمايل بهدوء يشاغل الهواء، سكون هائل، رائحة طفيفة لفتيل يرتعش، ظلام يحتل المكان ويحتضن عبء روحك كعباءة من حرير الغموض، تحدق بك بضراوة عاشقة تستنزف الصبر.. وحدها تترامى كمليكة تذرف هواها على مهل نحوك، وأنت كعاشق فريد تنصت لصمتك.
(2)
عشق الشمعة صاهر ذهل الطفولة، أول مساء تعرفت عليها، كانت منغرسة في قالب حلوى لعيد ميلاد بعيد، كانت تتراقص حول الهواء، فرحة ومنذهلة من قليل ضوئها الذي ألغى صخب الحضور وبما يحتمون به من ضجيج، كانت بيضاء، نحيلة، تهتز بعنف كلما راوغتها هجمة الأنفاس، تبدو وحيدة ومرعوشة دوما، بشفقة كنت أدفع فضول الأجساد بعيدا عنها…لكنهم. لم يتركوها بل هبوا معا بزفير واحد كالعصف ورمدوها كلها، لترسل خيطاً راعفاً من دخان يحتضر.
منذها لم يفارقني الولع بالشموع، فتنة لا يضاهيها غير هوى الكتابة، لتبدو كتوأم للقلم، لا أقرأ دون شمعة تشتعل، لا أكتب دون أن تترامى بظلالها على الورق، لا أعرف الليل دون غروره المتشفف بها، حتى النهار تضارعه بضوئها الأعذب من انهمار لسع أشعته الحادة، هكذا يمضي الوقت بي لتزداد رواجا وفتنة.. كونها مليكة هذا الهواء.
(3)
الشمع صنيع أرق الكائنات: نحلة ترتشف رحيق الورد، تختار منه الأبهى، تمضي النهاركله لتعرف ما تبدعه الأرض من روعة الخلق، سخاء الغيم كلما رذرذ المطر وبلور لؤلؤ الندى على حواف بتلات الزهر الساهية، حدائق في نضارة اللون والضوء، تتوازع الحقول والروابي، لينداح النحل في أغوارها، يتسامى بكل عطر يتفشى هناك..
بعد أن ينتهي النحل من جني كنوزه، ينهمر نحو خلية صاغها بمهارة بالغة، هندسة كونية، تليق ببدعة العسل، يغمر بيوتاًًً تتراص كخزائن فضية، لتصير ملاذا للذهب، موج لوني يتدرج من الأصفر حتى الغامق منه، مملكة صقيلة بتعب العمر، تتدلى بثقة الجواهر، يخفيها بين الغصون، تحت أوراق الشجر، يظل يحميها بسلاحه الوحيد، طيلة عمره يتناوب على حراسة مشددة لئلا ينتهك الناس بئر الروح.. وحدها يد الإنسان تقتحم بيت النحل، رغما عن شدة لسعته وطنينه وصرخاته الخفية، تنتهك العسل، ذخيرة قلبه، لتدخره في قناني زجاجية، وتذيب هندسة النحل، تجمد الشمع في قوالب مخترقة بفتيل مرير، وترسله للسوق لتجتبي ورق النقد. ماذا تفعل الشمعة؟!
(4)
ماذا على الشمعة أن تفعل؟!
أقل ما تفعله: ما أن تشتعل حتى تذيب حواسك كلها وتأخذك بعيداً لذاكرة البيت الأول، كأنها تنتقم منك أو ترأف بعزلتك، لا أعرف.. أيهما؟!، لكنها لا تغفل عن كل ذلك.
ما أن تشتعل، حتى يتماهى وميضها بنبض قلبك، دون تعب، تستميل الليل نحوك. بغربة شعلة صغيرة تتمايل وتحدق بك.. حتى تأسرك، تستحوذ على النظر، فتظل تراقب قطرات روحها، وهي تتهاطل ببطء الألم، بغتة دون أن تعي ما يحدث لك، تراك غيمة تعلو، تحلق في غياهب ذاتك، منسرحاً عن العالم، لا تصغ لأحد، مبهوتاً وهفتاناً، مرتخياً وغارقاً في خفايا التأمل المديد، تنحدر بهدوء شديد، هكذا… كأنك وحدك تهبط سلالم الذات، عتبة تلو الأخرى، بحدقتين منشدتين لغواية الألق، لا ترى أحدا، كأنك وحدك، تراها تراك، هي تنزف الدمع الذي يتحدر وأنت تستنزف ذاكرتك التي تنهمر أيضا، تتقصى خفاياك، تصغي لهمس ذاتك القصية، تبدآن معا، الشمعة تسرد صعب مواضيها قطرة قطرة وأنت تسترسل نحو عذاباً تختنق به…دمعة دمعة في غياهب ما مضى منك، ينتابك خدراً عتياً، يستبد بحواسك ويبترد في نهايات أطرافك، شبه غياب يرعى أنفاسك، ثمة غبطة بهدوء تتشجر على ملامح صمتك، لا ترى سواك، ثمة بهجة شبه نيرفانا بدت تحتل الأعماق وتزهر في رماد الروح، تنداح وتنداح وتنداح…لتفيق.. ابتعد عنها، حدق في هواء الليل.. حتى تسترد حلولك في عالم لم تنس ما فعل بك، طيلة نهار لم يشفع لك ومساء أنتابك بحزن لم تعرف كيف تسأله لماذا أنا؟!، ها أنت بنقاوة، تستعيد تماسك مع الحياة بشكل آخر، أقل قسوة عليك، لم تعد مثقلاً بعبء الحياة.. بل بحب مثقل بالحياة..
الشمعة من فعل بك كل هذا، لتتذكر.
(5)
اعتكف علماء النفس -الباراسيكولوجي بالذات- على محاولة تعريف ظاهرة الغواية هذه والحميمية التي تخلقها الشموع، كيف لها كل هذه القدرة الكامنة على غسل الروح، تحويل الذات ونبش الأعماق، لذا غزت والمرايا، أغلب الدراسات المعنية بحضور الشعرية وسهولة تغلغل مؤثرات محددة من مفردات الكون في سجلات الخافية أو ما يسمى باللاوعي.
للشمعة حضور قوي، لها من الحميمية، ما يسيطر عليك في أي مقهى ترتاده، ما أن ترى شمعة هناك حتى تتيقن من قدرتها على الاستيلاء على أحد من الحضور، فتراه بغتة يغيب عن الحديث وينسرح لهاوية التأمل الشاعري الخفي الذي لا ينتهي، إلا بحركة مفاجئة من أحد، أيضاً افتتان الأطفال الصاخب بالشموع والدهشة التي تتسع لها أحداقهم بشراسة وهم يبتسمون لمرأى الشمعة، حتى لو كانت بعيدة عن عيد الميلاد.
(6)
شاعرية الشمعة تستعصي على الوصف، فطاقتها التعبيرية غير مستمدة من شكلها أو حجمها أو لونها أو غلاء ثمنها، بل من عزلتها والليل، كالجسد عندما يصوغ الشعر من أعماق ذاته، الذات الشاعرة كالشمعة تماماً، ما تنوء به تحيله إلى وميض قد يصل للآخر، الآخر المتحصل على صفات حسية أكثر شفافية، ليسترعي انتباهه مثل هذا التماس، الآخر الذي يقدر أن يحدق بقدرة الوميض، لا الآخر الجحيم، الخالي من مرايا الذات، من لا يحتمل أن يستضيف رؤى الآخرين، الذات الشاعرة- لا أعني بهذا التوصيف من تكتب الشعر فقط، بل من تتحلى بشاعرية ما، قد لا تدونها الأصابع على الورق، لكن حتى على الهواء- تلك الذات والشمعة تكتشفان معاً شرفة صغيرة في هذا الظلام، معا يشعلان متعة للنظر ويكتبان بخفق القلب، ينتحبان على مهل، حيث لا فرق بين بكاء الشمع وبكاء الحبر، كل قطرة كلمة تفصح للآخر ما حدث لهذا الجسد، كيف يذوب فيما يكتب أو يرى، تحديق وميض الشمعة في عينيك لا يختلف عن تحديق الكلمات عبر النظر في ذاكرتك، تستمد الشمعة طاقتها من إبداع أعتزله النحل، والروح تجتث قواها من وحشة رانت للجسد، كلاهما يبدعان وهما يستبسلان دفاعاً عن بهاء الكون الذي تخدشه كل يد تطاولت ولم تزل على حرية الآخرين لتستبد بهواء الأرض.
قليل من الضوء قد يكفي ليخجل كل هذا الظلام.