لأستهل الحديث عن البحر، أسألني لماذا البحر؟
هل لعذر بريء يتمثل في حبي له، بالذات آن الرحيل بعيداً عنه، لأراه من خلف زجاج يطير، نافذة لا تكاد تسع الحنين له، محلقة وهو يتناهى بعيداً، ليكاد – رأفة بي- يتماهى بأزرق السماء.
ابتعد وغيم يلتف حولي، يواسيني على قسوة فقده، ولأنه البحر لا يفارق حنين روحي عليه.
بحرنا فريد بزرقته، لا يتوخى السائح الغريب عن الاعتراف بغرابة هدوءه، همس موجاته، مقارنة غير عادلة منهم وهياج شطآنهم، هكذا يتندرون: “هل بحر ما لديكم؟ لا نكاد نسمع صخبه، أو وعر صخوره والماء يصفع غرتها بالزبد، في بلادنا البحر يعلن حضوراً عتياً، محتداً، رائجاً بالملح والغدر، يؤرجح القوارب ويزف الغرقى كل رمل ساهم.”
أصغي لهم وأواسي بحرنا، لأنهم لا يعرفون عنه سوى أزرق الماء.
في هجرتنا عنه، نتعرف على مالح سواه، لا يبلغ شأنه، لأننا ببساطة، نرتمي كالرمل هناك أمام ماء لا يعرفنا ولا يدري كيف يترجم همسه، نسبح في رطب غريب لا يعنى لنا شيئاً غير بلل يسعف جفاف الجسد.
ولكن بحرنا حارس الأرخبيل، سخي على الأعضاء، هو العمر والغمر كله، ما أن نغطس في زرقته المعتادة على مخلوقات مكبوتة مثلنا، حتى يسرف في هيل السرد، يغمرنا بالأسرار، بحر ملهوف على مهاتفة الآخر، لا يكف عن الشكوى، والموج يداهم فصاحة المياه، تغرينا المراكب الخجولة لارتياد عزلتها، وهو يسترسل في الكلام، عن كل شيء، من جور ظلمة القاع وغدر الفواتك.. حتى غواية القواقع ودهاء المرجان.
بحر مفدوح بحرية أفق لا يكف عنه، يبوح وهو ينزف البكاء، مالح الأحداق من كبح يحاول أن يزدريه بهبوب أقاصي الريح ومرح الموج، لكنه ينتهز وقت انغمارنا في أعماق هاويته ليكسر الصمت كله.
من رأى جمح المحيطات، المخضبة بأعنة الزبد، الهادرة كشلال يعلن الدوي عالياً. يرأف بغبن بحر الخليج.
بحر فيروزي مائل للفضة، يتواصى بجزر لا عد لها، يحوطها برعايته، وينيب حنان المد والجزر لرعايتها، كأنه الوريث الوحيد لهذا الجفاف.
بحر عليه حديد الصمت ويومئ.. لا يكاد أن يومئ بمرارة الماء، حتى يتدافع موج رهيف، مزنر بأحلام الزبد، موج محب خجول، ما أن يمس الرمل حتى يعتذر سريعاً عن مباغتته لعذرية اليابسة وينسحب وئيداً، كأن شيئاً لم يكن، لينسى هناك، هبات الحب: من بريق الأصداف وخلوة القواقع، وأعشاب طرية لا تموت قبل أن تنسج على رهاوة الرمل لونها الأخضر الذي يحتضر.. كأنها تداوي ذاكرة تحتفي بطفولة القاع.
بحرنا: ماء مزدهر بضوء خبيء، يشبه الأزرق، لكنه يتضرج حتى آخرا لأفق بمهارة زيت المدى، لنراه ما بين ولع الأخضر وخجل الضوء وتهجد الزبرجد.
بحر حّر مغمور برهبة اللون، عليه وعد السماء، وله صبر الأرض، ماء مهموم بمحنة اليابسة.. لذا.. نادراً ما يعلن السر.
تغتال حناياه الأشرعة بجنون الريح، وتشج المراكب ماؤه الرحيم، ليبدو بحراً يداعب خشية القوارب، ليحرض على مغامرة يقودها بحارة مثقلين بصدأ السلاسل، وكل صعب يتحدى وعر السواعد.
هو البحر صديق اللؤلؤ، ذاك الصدفي الثمين الذي تشكل من عنف محارة كانت تداري حدود عزلتها، ضد كل رملة تداهم
مأواها الرحيم، لتنتهك عزلة الكمين، لتحيلها المحارة بإبداع مهيب إلى لؤلؤة نادرة تترجم حصانة المأوى، هذا ما أغرى جوى أسلافنا، ليهبطوا الظلام السخي بالجوارح، غاصة بواسل ارتدوا” خطاماً” يلغي الماء بعيداً عن خنقة الرئة، برفقة حبل يتدلى معهم ويزعم النجاة، غاصة ارتهنوا لتاريخ من القهر، لسطوة تنزع عنوة ثروة صيدهم من رخاء البحر، تغتصب منهم لئلئة الكنز الطافح في سلال تعانق بهجة الأعناق.
“النواخذة” تعبير لئيم صاغه تاريخنا، ليعرفنا بعتاة من البشر حصدوا حريات سواعد سمراء كانت تلهج بعطف البحر، هم قادة السفن، جباة الأرزاق، حاصدوا رفيف العضل، قراصنة يتقنون نهب الخرائط للاستحواذ على حرية الجسد، لكنه البحر لن ينسى ما حدث.
هكذا.. يترنح الماضي بنا، لنتذكر- كل درة تتسلق خاتماً أو عقداً ترفل به الأعناق- عناء الليل، زفير “غاصة” يرتمون على خشب السفن، ينهلون من جنة الحلم غصناً، ليتناسوا وعر القيد وقسوة النبذ.
لأنه البحر، بحر البحرين، جزيرتي الجميلة، يابسة صعبة بما يكفي، لتصير محاطة بمالح البحر، ومزدهاه حين الرمل بانغمار عيون عذبة، تتفجر لينوع النبت، هكذا تتصدع الآبار، لذا ليست بحراً واحداً، ولكنها بحرين، الأول مالح.. أحبه لأقاصي حرياته، والآخر عذب.. أعتب عليه، لقسوة ما يجف منه.
لأنه البحر، كليم اليابسة، لا نصغي لسواه، نحرضه ليلملم حسرة اليباس في أرواحنا، ويصغي لنا.. فما لنا إلاه.
بهاؤه يتجلى كل فجر…عندما تغطس الظلمة لمستقر العتمة، ليتبدى كعاشق في هيام ينزف حديث الليل، تتمرأى كلماته كل موج يهيم على تنهيدة الرمل، كلمات تطفو مثقلة برسيس الحب، والسراطين الفتية تتراكض لتبلغ شأن السر، عبث تثريه الطبيعة لكائنات تجف سريعاً.. من سوانا؟
هو البحر:
عاشق الأرض، لا يتعب من مكاتبة لا تنته، لا يثق بغير خفق موج لا يكف عن سريان الوله، كل عتاب وعشق ومتاه ينفض لهجة البوح.
مغرم بالنقيض، نبضه الآخر، من غيرا لأرض داهية اليباس، ذات جور الحصى واسمنت المدن وعزوف الناس اللاهون بغرور النقد، من غيرها، والهة البحر، واهبة الزرع، مليكة الكائنات، من يطير فزعاً منها ومن لا يملك جرأة الفرار عنها.
يهواها هذا المليء بغنج المياه، يتغنى بغرائب تستوطن أعماقه الغائرة، ولا يكف عن هداياه، نراها منثورة على رمل يخفق كل حب، كل شاطئ للرمل.. نمشي بوهم الغبطة، نمشي، لندرك فيما بعد، أن خطانا كانت تعبر القلب.
هو البحر.. حرية السماء، محرض الأرض لتقوى عليه
هو البحر.. كتابة الموج، كل زبد يتبدد كما الحلم
هو البحر.. العليم بحال الأعماق كل سر لا نراه
هو البحر.. الماء الوحيد المالح كالبكاء،
من يقوى على بلواه؟