في حضرة عمر المختار


(1)
صحرائي الكلام

بلا إبل ولا خيمة

ولا قبيلة أقبلُ نحوها

أو تُقبلُ نحوي

أحيا … كرمل يحار.

(2)

عندما تذهل بخطوك أرض المتحف، تتوجس رعدة تناوش الأعماق، وأنت تنتقل من مشهد لآخر يسرد لك أسرار صحراء “ليبيا”، يديم لك خوافي البعث، من تماثيل وقوارير ونقوش مغبرة بقدرتها على تدوين نفائس الوقت، احتلال سرايا المحن.

وما إن تسمع صيحة تكاد تشعل جمهرة الذاكرة، صرخة تنطلق من حنجرة صبية ليبية لم تتجاوز مهالك العمر بعد، وهي تصيح ببهجة الفخر، ببراءة اللهجة: “سيدي عمر.. هاك قاعة سيدي عمر” حتى يجرك صداها لتدلف أول الألم، ما سوف ينهال على قمة اليأس من ترامي يباس يعصف ببلوى الأمل.

أول الرواق تصطدم بصورة تحتل أغلب الحائط، يعلوها غبار الحوافر، تتوسطها صحراء يقودها أصعب المجاهدين “عمر المختار” محتملاً وعرها برفقة دمه وثلاثة من صحبة الروح، تراهم وهم يدفعون الخيل ليلاً، لكسر أغلال تاريخ لم يصغ لعذابات تكتويهم، ينحدرون لقتال عدوان أهدر شظايا نسلهم، غزو مزنر بالرصاص داهم أعمارهم بهدر القنابل، ليحتل بنير القذائف حرية صحراء لهم.

(3)

تتقدم بحذر قد يشوبه شيء من الحسرة، وأنت تراقب تفاصيل صغيرة، يصونها حزن الزجاج، آخر ما تبقى من مقتنيات فارس الصحراء “عمر المختار”: سيف متقن الوميض ينتهي بمهماز عاجي، بندقية وأخرى يعلوهما الهّم، عباءة يتداعى منها الحنين، غبار كثيف يغرق في صمت للبوح، دخان أخير ورصاص ينتظر.

على يسار أثاث الثورة، تقرأ أربع رسائل محناة بخط يد هرمت، ولم تنسى فتنة الحبر، كتابة منشاة بحب التراب، يمليها – العارف حتم الشنق – نحو صحاب يتدثرون بحسرة الروح، يتلو ما ناهز عمره الصعب، كتابة أقلها الدم، كلما قرأت حرفاً فاضت بي أحداقاً تغتم، أحسست بمصاب كتابة حريصة على ذرف وهد الجرم الذي جابه كل العمر، هكذا كان يرقش الورق بحروف تعتريه، ليتعرف على ما في النفس من صعاب لن تتأخر عن خنق كل هذا الهواء.

(4)

تتوسط تلك الكلمات، نظارة يتيمة تتململ في غلافها المفتوح بقلق يتأود، تتذكر ما رأت مع صاحب المحن “سيدها عمر” من مهاو تتحدر، كل صراع يلجم فيه الغزاة قبضة القلب، من حوافر خيل رضت دواهي صحراء “ليبيا” وهي تنهل عنف المجابهة، من سواعد عرت باذخ العضل كل رصاص اندفع، حتى جزية فادحة نالت من رهافة أنبل المجاهدين، حال الشنق والحبل يعتصر حنجرة فارهة بمعجز الكبرياء، نظرة أخيرة أرسلتها عينان للموت، طوت بجموح صارم عنف ذاكرة تؤازر شموخ الأرض، آن اشتد الخنق، ارتخت يديه، ليغادر نبض القلب عراء الجسد، وليبيح نظارته اليتيمة للفراغ، لترى الأرض دونه، ولتظل في وحشة المتحف تحدق بزائرين يكتشفون مصاب الأمل، نظارة تحدق كشاهدة تقسو على أحداقهم بزجاجها المضيء، بلمعة استدارتها المخيفة وهبات ترسل عنف الرؤى: إرثها الوحيد.

(5)

من خلف هذا كله – في صورة باهظة على النفس – يطالعنا الشيخ “عمر المختار” مكبلاً بالحديد، واقفاً يتعدى ثمانين الوقت، يتحدى نذير الغازي الإيطالي المرتبك من نظرة يرسلها الأسير لتخترق قسوة عصا التواريخ.

منتصباً بقامة تاريخه العربي، بعنف ربيب الصحراء، محاطاً بثياب الوطن يرانا مذهولاً.. نراه كأنه.. الآن.

بعد أن تفيق من جحيم ما احتواك، تواجه المشنقة التي تدلى بخنقها ذات نهار، صريع الصرخة “عمر المختار” محدقاً في حكم الموت برفقة الهتاف الذي لا يكف، زفاف العويل الذي ظل يعلو حتى اهترت السفوح وأهدرت القمم.

مشنقة لا تخجل، معلقة قرب السقف، ملفوفة بخرق مهترئة، مغبرة كأنها الرميم المؤجل، مشنقة لم تزل ترجف تحت وطأة لم تصح منها بعد أن حشرجة ألمت بحنجرة شيخ تهاوت يداه آخر الوداع، ليتداعى لصداها صريخ شعب من جياع الأرض، يرافقون عناد الموت حتى آخر الحياة.

قبل أن تمضي خارج المتحف، تتعرض لشواهد المعارك، مدافع تتأهب لصدأ لا ينسى، تسري عن قذائفها الملولة بتذكر ملامح الأيدي التي أشعلت لهب هديرها قبل أن يطويها ملح اليأس.

ترى ما تبقى من أثر لمجد غابر، بما تبقى لديك من زفير ونبض غائر.

لتخرج للهواء الأخير، مهموماً لا يسعك القلب، لا شفاء لك، محمولاً بقدمين تجتاز بهما أرض المتحف، بظل منهك تجاوز قدرك، منزوعاً عن أجلك.. تتدبر دربك، مثقلاً بتاريخ خير أمة تساق للنحر بصمت، تمشي منشرخاً بانحسارات خسائر تستولي عليك، منحدراً لا تقوى على ذاكرة إرثك، كلما دارت بك الأرض لتغريك بقراءة ما حدث فيما مضى، ليحدث الآن أشد ذلاً وأكثر جوراً، وبما لا مستطاع لك عليه ولا به.

يكفيك أن تتذكر كيف اعد الدعاة ما استطاعوا لتفجير الفنان صاحب “الرسالة” وراعي تاريخ “عمر المختار”، شهيد الابداع “مصطفى العقاد”، على غفلة منه، مضى لتراب مبجل يحتويه، ورخام شاهد يعلن مدى الذبح الذي نحياه الآن، بخجل لا يغتفر.

تمضي، تخلع خطاك من صعب الطريق، والصبية، فتنة العمر الذي يؤلمك، يأخذهم أمل غامر يتردد حولك، بصوت هائل يكاد يطيش بك وهم يتنازعون الحناجر، بذات اللهجة:

“قديش كان صعيب سيدي عمر”

لتتذكره مختالاً بحدقتين تضيقان – آن الشنق – لتتسعا نحوك.