(1)
“عبد الحليم حافظ” النادر من المبدعين العرب الذي أتاح لنا النار، ليجتاز حريق الحياة في غناء مرير، أجهد فيه الجسد بأداء صعب طالع من بئر لا يجف كمطر الروح.
من وهيد التنهد، جاء اليتيم، ليترجم قسوة قبر أمه الذي ابتعد كثيراً عنه، بعيداً عن طفل مثله، لم يزل يتلوى في قطيفة المهد، ليحيا وحده، يكاتب كل بوح لحني ماضي القرية وبلاء الترعة التي وهبت أعضاؤه الرهيفة محنة الداء، كان يترنم سارداً برد “الملجأ” وعنف ذاكرة طفولة تقسو بإيقاع لن ننساه:
“جئت لا أعرف من أين، لكني أتيت، أين أحلامي وأنا طفل رضيع، كانت كيفما سرت تسير، كلها ضاعت، ولكن أين ضاعت لست أدري…؟ أنا لا أعرف شيئاً عن حياتي الماضية، أنا لا أعلم شيئاً عن حياتي الآتية..”.
لو لم يكتوي “عبد الحليم” بهذا السيل الجارح من رعونة الحياة، لما استطاع أن يمسد أوتار حنجرته بهذه الطاقة التعبيرية المنحدرة من أقاصي الحواس، لما تجلى بحساسية خارقة، تصقل صوته بأنين خفي يؤهله لعناق المستقبل، ثمة لمعان غريب يستبيك وأنت تنصت لخلب غناء يغويك.. كل مساء تدير فيه عتاب “عبد الحليم”:
“بتلوموني ليه، لو شفتم عينيه، حلوين قد إيه، حتقولوا إنشغالي وسهد الليالي مش كتير عليه، ليه بتلوموني…؟!”.
“عبد الحليم حافظ”: راعي الحنجرة، قاهر القاهرة، هو من أرغم تاريخ الموسيقى العربية وتراث التخت الشرقي، كما فعل خطير الطرب “سيد درويش”، لتخضع للحن الجسد الشاهر محنة تاريخه، لتصغي لحرير الآه.. وكل ما ينداح من عزف رنيم غامض لا نراه، بل يستولي علينا، كل هواء قدير بأن يراه.
لقد درس سلالم الموسيقى، بل تعلم العزف على أغلب الآلات، منذ طفولته اليتيمة حتى صار فتياً، لا ليوآزر خشب الآلة أو معدنها فحسب، بل ليوازيها برتم توتر الروح، الأكثر رقة ونصوعاً من رنين النحاس ورفيف الوتر، إيقاع باسل ترسله أعماق العاشق المكبوت بسريان الوله، المغنى المغتال بخلايا لا تستسلم سراً، بل تشعل وريد الغناء بأنينها العذب، تدفع الأنفاس عالياً.. عالياً حتى يضج الحب برائدة القلب، كل لحن تصاعد من رعدة الروح.. كاد يكسر فضاء العود، يشظي هسيس الكمان، هكذا يشدو بصوت يحتدم بشجو الغناء، كل حفل يحفل به، نراه يتقدم حتى حافة المنصة، يسرد النغم كعاشق فريد، كلما رفع مايسترو الحب “عبد الحليم” يده اليمنى، مطلقاً نهضة الآه.. آه.. ترسلها كبد تنهشها بنهم أفاع “البلهارسيا”، ذات الكبد المكلومة بعشق مؤجل، فالحب شريك لم ييأس من لوعة فقده، بل إزدان به كقلادة قلب لا بد لها من رعدة دمه.
(2)
“عبد الحليم حافظ” الوحيد الذي تعرضت جنازته لهبوب عاشقات ينتحرن من أقاصي الشرفات، مع ذلك ظل وحيداً، لسر ما، كامن في حرية الصوت، شبه تشبث عنيد بحتم حياة المبدع مع الإبداع وحده، رغم سريان وهج عشق بعيد، كان “عبدالحليم” يحيا ضد اغتيال فضة الحب بهيمنة حديد العائلة، ضد مأوى الحجر، كالنار كان ضد سطوة الرماد، صار يمضي العمر وفياً لجمرات تؤجج فحم الذاكرة، مهتاجا ببهجة حب يروي حديقة القلب، عاش وحيدا لئلا يفقد ماس الحب بحديد الحب أيضاً، هكذا تلاهى”عبدالحليم” بإبداع غناء يشف عن جسد كان يتهاوى حباً طيلة الوقت:
:” نعم يا حبيبي نعم، أنا بين شفايفك نغم، أيامي قبلك عدم وأيامي بعدك ندم، نعم يا حبيبي نعم..”.
لم تكن الحياة- تلك اللئيمة – حليمة بعصفور مرهف، حافظ كل العمر على وهب ذاته جناحاً لها، أحبها بملائكية الهواء لتحاصره بهتك الكبد، كل نزيف دم تخبط بوداعة السرير، ولمن أراد أن يرى كل ذلك، له أن يذهب للقاهرة، ليتعرف على غرفة “عبد الحليم” التي تعتبر مزاراً لأفئدة رافقت عذب عذابه، لابد له أن يتسمَّر طويلاً أمام سريره، وهو يلمح كدمة غامقة نحتتها إتكاءة رأسه من طيلة الاستناد عليه أواخر لياليه، مرتخيا على السرير، يدرس كل نوتة موسيقية سوف يحترف فيها آخر النبض والنبر.
أي أسير للحب نلنا، أي مبدع كالحياة تحقق لنا، كان يكتوي بشظية الحياة ليتقن نار الحب:
“نار خلتني أحب الدنيا وأعيش لياليها، نار مش عايز أطفيها ولا أخليها دقيقة تفوتني ماحسش بيها”، رغماً عن سيادة اللهجة، لم تزل أغاني عاشق النار تتحدى دواهي الحياة كلها وتترنم بعطايا مفعمة بالألم.. هكذا:
أمام الناس المنشغلين بوفير المقاعد، يتقدم “عبد الحليم” مرتدياً عنف ذاته، ملوحاً بيديه، لجمهرة شعب لا تقاوم الصرخة التي اعتادت على هرجها تحية له:” يا عُبد”، بعد قليل من الصبر، ينهال الصمت كله ليواجه والليل إنصاتهم المدمر، واقفاً على منصة تسع المسرح، خلفه يصطف قادة الوتر، وزراء الآلات، وما أن يشير لهم بعصا الروح الخفية، رافعاً يده اليمنى ليؤم اندفاع اللحن.. حتى تنهال عذوبة تضفر حرير اللحن بجنة الكلمات.. ليتصاعد صدى كل الحناجر: “الله”. ليجتاح وحده كل الفراغ، باندفاع صوته دافعاً صدح الحنجرة، ليخضب وقت الناس “بزي الهوا ”بسر النغم:” وخدتني من إيدي والفرح يضمنا، ونسينا يا حبيبي فين إنت وفين أنا..”.
(3)
“من علمنا الحب”، هكذا باحت الفنانة “يسرى” وهي تصد سؤالاً يسأل عنه، لنسمو بتعريف طاغ، منحوت لوصف المصاب الجريء لمبدع لم يعلم آه الألم وحدها، لكنه أسرف في تدريس آسر الروح، هكذا أسس “عبد الحليم” لمرجعية تامة، تستوفي شفافية البوح وشفير الوجد، تدوين لتحصيل عاطفة عمت تاريخ كل من جايلوه، بل تعدت ذلك، لتأسر شغاف صبية ترتشف المستقبل، هذا ما يفسر لنا جرأة حضور تجربته الإبداعية العصية لا على التنحي أو الانزواء، لكنها المنتابة بقدرتها المذهلة على تحدي راهن الغناء العربي وإكروباته الفضائية، لاكتنازها بطاقة الحب التي جلاها “عبدالحليم” في نتاجه الفني متقصياً سيرة عشقه كله، منذ بدء النظر.. حتى آخر الحب:
“أول مره تحب يا قلبي وأول يوم أتهنا”، كذلك لوعته:” آه ما لحب وملي جرالي وخدني إليه”، فقده:” ياما قالتي عينيه ساعة الفراق خليك شويه، ياما ناداني بدمعه ساعة الوداع وأترجى بي” حتى انكساره:” مشيت على الأشواك وجيت لأحبابك، لا عرفوا إيه وداك ولا عرفوا إيه جابك، رميت نفسك في حضن، سقاك الحضن حزن، حتى في أحضان الحبايب شوك يا قلبي”.
بدأ حياة النغم صدفة ب” صافيني مره” ليختم سيرة الإبداع النادر بحدس “قارئة الفنجان”: “قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب ياولدي”.
هكذا أخترق “عبد الحليم “بلاء الغناء المكرس للمواخير، مكثفاً أتون ذاته نحو وحشة عمره، معلماً درس الحب لكل تجربة اجترحها مكتظاً بعنف خسارات الروح، ليغني إنثياله الشقي نحو كل غادة تغاوت بعيداً عنه وأخرى أغراها الموت لدوده العدو، ليعدو وحيداً مندفعاً كبركان يهدي صهد الحمم، يدله وهاد الشغاف، ثاقباً كل قلب تبدى له الحب يوماً.
(4)
محتمياً بجنون الوتر، رافق تيه الطرب، شدخ الصمم العربي، كحصان فادح استبق الحواجز، كل لحن طهر بتقوى العاشق حديقة الغناء، مثل كهرمان عتيق تبلر بجوى التوق كل منجم قاس اهتصر بحجارته العنيدة هفو الفؤاد..
أي مبدع نلنا، بين شدو وآخر، يندفع خلف الستار ليرتمي على كرسي معد له، خاضعاً لكمامة تهيل له الهواء، مرتميا نحو موته المؤجل، يرتجى نجدة “الأوكسجين” الذي سوف يصله، ليسعف زرقة الدم، بل ليترفق بعذوبة صوته ليهبط القلب والصوت سخياً لنا.. فيما بعد.
لقد نلنا “عبد الحليم”، من علمنا كيف نصغي كل ليل لعناء اللحن وبحة حنان الصوت.. مراراً ولا نمل..
العبد الحر، الحليم المنتقم، حافظ السر
اليتيم الذي -بغتة- فاجأه الرحم بفقد صعب لحنان الحضن، لتليه الحياة بتروسها الألف وترافق ينوع موهبته بكل هذا النبذ، ليصرخ نحونا:
“قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه، دمعتي جف جفنها، ضحكتي مالها شفاه، صحوة الموت ما أرى أم أرى غفوة الحياة؟”.
“عبد الحليم حافظ” عاشق لم يجد السيف في بيته، فأشهر جسده.