(1)
يا حارس النبوءة،
أنبئني
بأي ذنب صار صوتي
فدية لعداء القبائل وزند المحاربين.
(2)
كعادتي أفيق كل صباح وأعيد شتات الحلم، ما مزقه الضوء، لأمضي لنهار آخر ربما يطاق، ألملمُ الستائر، أتلهى بضيافة القهوة، أسأل الصحيفة: عما انهمر من دم، لنحصي معا، ما تصاعد من أرواح لشهداء يفرفرون كالذبائح على تراب فلسطين، عما تهجر من أجساد نحو قيد الأسر، أسألها عما أستجد من كسر لكرامة تاريخ وطني العربي، عما تصدع وأحترق وتهاوى من حضارة عواصم عربية تمتد من البحر للبحر، فتومئ الصحيفة لي، بخجل لا يغفر لي، مدى سؤالي.
بعد ذلك، أجتاح العتبات، مندفعة، في طريقي للاستبداد بعربة تسعفني لأسفح الطرق، مرورا بحديقة ساهمة في سر هرولة البشر والتهاء النظر – بالذات- عند بلوغهم فتنة إبداعها البهي، أمضي مسرعة، دون أن أري ما حققه النبات من نمو، وما تفجر من براعم طيلة ليلة غزلتها الكوابيس، لا أتريث والماء يلاغي الغصون، لا أشهد شيئا ولا…
أغادر مرأى الطبيعة بأسرع مما أحتمل، لأواجه هجمة البحر، طيلة الدرب، كان يتهامس وبياض نوارسه الفاضحة عن مبرر تلاهي قادة العربات عن رواجه المخيف، حاضناً يأس القوارب وهدأة الأشرعة.
البحر.. ويا له من مهيمن على أرخبيل من النخل نسميه البحرين، يابسة جذلى تسمى حدوداً يحفها مالح الماء من كل متاهة، البحر عاشق متيم ليابسة تتلاهى بغنج عنه، مأخوذاً بها لا يكف عن سهاوة الحب، رغما عما يكتظ في أعماقه من هدير ونزاع لا ينتهي بين كواسر الكائنات وما يصطرع هناك من خفايا تخلب ذاكرته بمرارة العنف. محب، رغم كل شيء، يهديها هدايا الحب من قواقع وأصداف وعشب طري يترامى على رملها العصي، بحر لا يمل من هديل يرسله الموج، بوح فريد لموسيقى القلب.. لغة من الصعب أن تصل لحنو الورق، لغة، شبه شهقة تنهض في شهوة الزبد وتصفع صخرة اليأس، لتصطدم بعنف موج رهيف على راحة اليابسة.. حرير همس بحب يباهي بهاء هذا الشعب.
كلاهما الحديقة والبحر يتفننان في تحدي احتمالي لبسالتهما، وأنا اتماهى بالصمت لأتحاشى مواجهة التحدي.
عندما أعود، للبيت، مثقلة بتباريح الوقت، ارمق، خلسة، أفق البحر وأتحسر، فيرسل لي، رائحة كائناتها
الرهيفة ذوات الزعانف ويرمقني بزرقة لا أحسدُ عليها، كأنه يعاتبني على اندفاعي صباحا دون تحيته، وغمره ببسمة تضاهي مرح موجاته، ولأنه يعرفني، يغفر لي مرارة شرودي عنه، يؤجل قصاصاً لا يهون عليه.
أما الحديقة فتقتص مني حال أعود، تراني متشظية الأنفاس، حافلة بالصدوع، ببساطة تلد التربة وردة تنتظر قدومي لتواجه ما تبقى منى، لأرى غصناً حالماً، يخضر كلما دنوت منه، مترف بنداوة الورق، هائم بوردة تتمايل غنجاً أعلى العرش، مليكة بيضاء تثير ألق العطر، مغمورة بحمرة صافية إلا من الكيد بي، أراها وأتمهل قبل أن يحتويني ظلها، أجلس بقربها، لأشكو لها حال النهار الذي ألّم بي، لا أتوقف عن دفع الكلمات، المشفوعة بالدمع، نحوها حتى تهمس لي والضباب يلف أسرها الناصع كمساء من بلور الضوء، هكذا:
“فوز، لا تذهبي للنوم قبل انهيال البوح كله، عما اهتواك ونال من رفيف روحك طيلة هذا النهار بالذات، لا تغفلي عن ذاكرة تحتدم بك، لئلا تفتك بك الأحلام وتغتالك الكوابيس، أنت من البشر وهكذا أنتم.. ترتهنون لخديعة النوم، تخضعون لرحى معترك الليل وقصاص النهار وبينهما قسوة كوارث الإنسان، أما نحن النبات ففي منجى منكم، لا وقت لنا ولا مكان، نحن من يتقن فن الحياة وحرية الخلق، هكذا نتعرش في كل الأنحاء بصحبة الماء والهواء، نتبرعم آن نشاء ومتى وكيف… ننهال بصراحة الكبرياء وبصيت الإبداع الكامن في ذاكرة التربة.. بجسارة لا تبارى، نعلن تاريخ البذرة.. لا ننسى شيئاً ونحن نبوح لكم عن تاريخنا، عن عتمة ضارية ومهالك تستبد بها الجذور، ظلم الظمأ وعنف التربة.. لكننا نترجم ما يحدث لنا هناك بأجمل ما نقوى عليه، نبوح لكم بكل الحب، بفتنة الورد وعطر الهواء.. هكذا نلاغي صمت الحياة نحوكم… نحيا حتى نموت بحب لهذه الحياة القليلة، بما يكفي، لنعرفها أكثر منكم، مثلا أنا وردة.. طالما ابتعدت أيديكم عنى، سأحيا بمجد التربة وفخر الجذور حتى يجف النسغ، وأتهاوى بغبطة بالغة، لأني أمضيت حياتي مزهوة بمتعة اللون وفداحة العطر، حنين النحل، نار الفراشات وحرية النبات، شهوة النسغ، لكن إذا ارتضت أظافركم، ومناجلكم، وكل ما أعددتموه من مكتشفات لخلعي، أن تكسرني عن عرش الغصن، وتغمرني في ماء آسن لتتباهوا بي، وبطاعتي لرفاهية الطاولة، فسأحيا في كأس التجربة، ما سوف يعلمني ازدراء حقدكم الأعمى، سأمضي أسيرة، حرة، حتى أخذل عفونة الماء، وأنتحر.. قتلاً، كقتيلة تقف أمام رصاص يتساقط، لأموت كوردة تجف على مهل ولا تغفر للهواء… بل سوف أواجهكم، وأراكم كقتلة، لم يكتفوا بتراث الحروب ونهب الغنائم، بل تمادوا.. ليغتالوا وردة كانت في وقت مضى دليل على براءة الأرض منكم.
تنهدتَ قليلا واسترسلت بإيجاز كلمات، أشعلت حيرتي:” يا فوز، لا تذهبي للنوم، لا تثقي به، اندفعي، كعادتك، لمشافهة الحبر وحفر بئر الروح، ليس لك النسيان.”
ابتعدت عنها قليلا، لئلا تطالها شفقتي، ولئلا ترى انكساري الموجع.
عندما إلتجئت لموهبة البيت في حماية اندلاع روحي، أغوتني صراحة الشرفة، وما أن استنجدت بسورها الأبيض حتى رأيت البحر يحدق في دهشة تنال مني، من بعيد الرمل، كان يرسل لي، كلمات تترنح كالزبد على صهوة الموج:
“انا مليك اليابسة، حارس حرية الماء، أهاتف كل شفق يقسو حزن الرمال، كل شكوى تزجها الكائنات في قناني فارغة إلا من العذاب، يا امرأتي، لا تأخذك سنة من اليأس، دام لك كل هذا البحر، صديق الأفق، خالق الطرق لجرأة القوارب، أراها تحتدم الآن، بعنف الأشرعة فأغريها بآخر المهب، لتبحر نحو جنون الريح، لتتحدي صلافة المرفأ، غرور البوصلة، قيد المرساة، خيانة اليابسة، ها أنذا، أراها تخوض مغامرة الغرق الأبهى من وهم النجاة، قوارب وحيدة تتشبث بمجاديف ترتجف. لكنها تتأهب لمغامرة تعانق فيها، كل مدِّ يندفع، بكل صرخة للموج..
لا تتأخري- يا فوز- عن نجدة المغامرة، دعي خطاك تتعثر على الرمل.. خطوة.. خطوة حتى تصل، أو لا تصل، ليس مهماً، دمت، كل حرف لا تهاب روحك ملاذ الماء.. لك أن تقرأي درس البحر، بعيداً عن يأس اليابسة.. ما لك سواي..
أنا البحر واهب “البحرين” عذب المطر، بريد الغيم، ولي كالملائكة جناحا رحيما يحن ويعصف. لئلا تنسوا زرقة المستقبل.
لتأخذك شرفة الأمل وجرأة النظر لمتاهي، فأنا عليم الأعماق أنا من صان “أوال” كل هذا الدهر من مخلب البأس، فلا تتناسوا كل ذلك، رحمة بذاكرة دم لا تندم.”
بين وصايا “الوردة وهتف “البحر”، تدافعت للوراء، لأغلق الشرفة، لأتناهب فضاء الورق وأغدق صراحة الحبر..
لأكتب “صوت”.