عذراً.. فيتنام؟


(1)

كم من الاعتذارات علينا أن ننتظر بعد كتاب وزير الدفاع الأمريكي السابق “روبرت ما كنمارا” الذي أعلنه بمناسبة مرور عشرين عاما على قتل ثلاثة ملايين فيتنامي وثمانية وخمسون ألفا من الشعب الأمريكي، ناهيك عن مئات الألوف من الأسرى والجرحى والمعاقين والمفقودين وسيل المآسى التى ألمت بأبرياء خضعوا لحقد الحرب و” أخطاء” ساسة الحراب.

الآن يعلن جنرال الموت أسفه البالغ والعميق لما تكبدت به سياسته الرعناء من كوارث بشرية ما كان لها أن تحدث لو احتكم لعدالة الحق وألغى شأن وشر النفوذ الأمريكي الذي كان متيقنا من حتمية انتصار هدير الآلات على إرادة الناس.

اعتذار يبالغ في حزنه وهو يبكي أمام المشاهدين في المنازل، أولياء دم الضحايا، لأنه كمسؤول عن الدفاع كان مولع بالحساب والإحصاء وعقلانية الأرقام والتقارير التي تؤكد على خطورة استقلال فيتنام، لذا قرر التدخل العسكري وآزر حساباته العنيفة على حساب تاريخ شعب اكتوى من رعونة القرار وحرق الأبرياء في قرى فيتنام وقتل وتشريد الناس، رغما عن طرود الجثث المشفوعة بالعلم الأمريكي التي تهّل عليهم، المحمولة جوا وبحرا وأسفا وعذاباً.

يعتذر الجنرال الجريء، كأنه يحرض ذوات الأوسمة والنياشين ليقفوا على منصة الاعتراف ويعلنوا ذنوبهم لما مضى -فقط -دون الآن حتى لا يعم الغفران.

من شدة وحشية حرب فيتنام إنها خلقت ظاهرة ليس لها مثيل في تاريخ الحروب، حيث تفشت حالة من الاعتزال لدى المحاربين الأمريكيين، تجلت في نفور من الوطن والذات معاً، لإحساس بالذنب لم تنفع معه وصايا الأطباء ولا هبات العلاج النفسي، فإلتجؤا للغابات، حيث يسرحون وكلابهم الوفية، ويقيمون في أكواخ بعيدة عن المدن، منعزلين عن المجتمع بأسره، يمضون الوقت وتصاعد حالات هستيرية يتعرضون لها كلما أضاءت الذاكرة لهم – كأنها تنتقم – مشاهد الرعب والعنف والقتل الجماعي الذى أحدثوه لرعايا حقول الأرز من الفلاحين والنساء والأطفال، وما ذاقوه على أيدى “الفيتكونج” من مقاومة لم تصل إلى سادية قادتهم .

(2)

وأنا أقرأ ما كُتب عن الاعتذار، طافت بي الذاكرة، بالمعارض التي كنا نراها على حائط القاهرة، حيث الجامعة وطلابها العرب يتهافتون تضامنا وشعب فيتنام، كنا نرى ما يفعل النابالم إذ يلامس الأطفال، وكيف تتساقط القرى كل قصف لا يتوقف، كيف تحتضن النسوة ما تبقى من حريق الأعضاء، كيف القائد “جياب” يهتف بالحرية والناس، كيف تكوي القذائف أفئدة لا ذنب لها سوى دفاعها عن أرضها ضد المحتل، كنا نرى كل ذاك. حتى انتصرت فيتنام وتحولت جمرة الحرب إلى نار للذكرى انتظرت عشرون عاماً للاعتذار.

وأنا أقرأ عن الاعتذار، تاهت بي الذاكرة لتهيل المشاهد المؤلمة حد الخجل من الهوية وضراوة الانتماء العربي، صمت الحناجر والسواعد العربية التي كانت فيما مضى تلوح بقبضتها ضد الضيم، شهامة لم تقبل ما تشهده وتراه من عنف يساق نحو فيتنام، تحسرت على زمان الدم الحر والصوت الأعلى من أزيز الرصاص، وأنا أرى كما الآن:

نزيف الجنائز الملتفة بنحيب الأهل في العراق وهي تتحدر من مدن الشهداء حتى فندق الرشيد، ليصل عويلها البالغ لدعاة الحضارة المجتمعين في أروقة ترعاها الأمم المتحدة، علهم يشهدون على ما اعترك من أفئدة غادرت شر الحياة، مواكب ترفع الرضع عالياً، محفات تتدافع محمية بأذرع آلاف الثكالى من الأمهات الهادرات عويلهن الأقسى من صريخ الاحتضار الذي أدمى شغافهن طيلة وقت مضى كالموت وهن يشهدن طراوة رضع يعتصرون قلوبهن برجفة واهنة، بزرقة تغالب الأعضاء دفاعاً عن حفنة هواء، عن شهقة واحدة تعيد لهم يأس هذه الحياة، رأيت أكفاناً صغيرة بما يكفي لتفضح مدى ضمور الجثث الهانئة في نعيم الموت، ملائكة غادرت الأرض سريعاً، مطعونة بمخالب الألم، دون أن تعرف أي معنى لكل هذا العذاب الذي تضورت به واهتوت من سياط عنفه، لم تعرف بعد:

من الوجيه الجالس خلف كرسي القرار الذي أراداها قتلاً بجريرة حبر، ليترنح بنخب القرن فيما بعد؟

من هم الساسة الأشاوس – أحفاد نبوخذ نصر-الذين تعاونوا تحت إمرة خليفة كالسيف سلَّ دم الشعب، استحل الأرض وظل الله، طغى واستبد ليكسر حاضراً كان لها ويلغ مستقبلاً لم يعد حتى لسواها؟

أي أمم تدعى حرية الصوت، تحوطت – كلها- حول طاولة أجازت قسوة القرار، لتقصف رهاوة أرواحها؟

أي عروبة شيدت حاضراً لا يخجل، غزلت حدوداً لا تكترث، أرست شعوباً خرساء حتى القبر، شيدت ولاة لا يتعبون من جبي الخراج، ولا يكتفون من مجد الخراب؟

ملائكة صغار ماتوا ويموتون.. فمن سيعتذر:

لشعب كالعراق تجاوز عدد قتلاه من عنف الحصار الأمريكي أكثر من مليونين عراقي منذ السادس من أغسطس عام1990 حتى أواخر أكتوبر 1991، بينهم -للألم – مليون وخمسة وعشرون ألفاً من الأطفال، وللدقة في شهر أكتوبر وحده عام1990 قتلوا سفكاً5369طفلاً، هكذا توزعوا بين خناجر للغدر: احتضر من الإسهال 1181 طفلاً، تشنج من ضيق التنفس 1506، انتحل حتى العظم من نقص التغذية2051، وللفاجعة كلهم نالوا العذاب كله، وهم أقل من الخامسة من سنوات العمر الجائر.

قفا لنسأل: كيف لإحصائية تقديرية – أكدتها أغلب المصادر الدولية حتى غير العراقية، هذا ليثق هواة التدقيق الإحصائي- قفا لنسأل: كيف لهذه الأرقام التقريبية أن تعلن لنا أن قتلى هذا الحصار البشع فاق ضحايا أعنف حرب في تاريخ البشرية، خاضتها أمريكا الواثقة من سيادتها على حرية شعب فيتنام، حرب مزنره بالنابالم والقذائف وحرق القرى وقصف المدن.. لم تصل في عداد قتلاها لضحايا هذه الحرب المسماة حصاراً، كيف لها أن تحصد من الأطفال والمسنين ما بلغ تعدادهم التقريبي أيضاً مليون وأربعون ألفاً طفلاً ومسناً عاجزاً لا الدفاع عن نفسه بل عن الحياة ذاتها.؟

(3)

هنالك العديد من قتلى العالم ينتظرون من خوذة للدفاع العسكري الأمريكي ومن سعاة الكراسي الواهبين ذاتهم شأناً يلغي – لدوام مجدهم- حرية الشعوب، ومن قادة العرب الصامتون إلى الأبد، أن يتقدموا ويعلنوا عن خطاياهم، ضحايا لا يحصون في كل العواصم، لاجئون على الحدود، أسرى في الوطن، غرباء خارج وداخل القبور.. ينتظرون.

منذ عهد “الهنود الحمر” الذين تلوعوا من نصيب الرصاص وهجمة البارود، إبادة كل جنس بشري يراه من يدعي السيادة لا يمت للحضارة بصلة… حتى الآن، هنالك مجازر لا تنته، جثثاً تنتظر وهي تقطر حيرة دم يسأل إلى متى؟

الآن:

من يجرؤ على نكران أوسمته التي نالها لقاء ما أهدر من دم حيّ، ويتقدم.. من؟

من من خلفاء الكراسي يكسر بين يديه سطوة الصولجان نادماً على ما انتهك من وطن ويغادر ريش العرش؟

هل علينا أن نتأهب عشرين عاما أخيرة، والذخيرة تستبد، ليشهد أحفادنا بكاء تراث الأخطاء.

من سيعتذر باختصار يليق لقتلى فلسطين ولبنان والعراق والجزائر واليمن والسودان والعديد من العواصم العربية المكتفية بصمت النعام لجز الأنام… عربيا على الأقل.. من؟

لست أسأل واليقين يشكو من الشك.

أي اعتذار يحلو الآن ولمن ومن؟

لست وفيتنام تحتفل بنصرها، وترسم مستقبل شعبها أسأل، لكن وأنا أرى جنائز و“مجازر” العراق تفيض بدمها الخجول على ضفاف دجلة والفرات، وأنا أصغي لمساخر التاريخ وهو يهيل نحونا الملاهي ويحذفنا بنبال العبر، لئلا نتهاون أكثر.

يعتذرون.. ربما ليثق القتلى بنصرة الحق وسماحة القاتل المدجج بالحراب، الذي سوف يتأسف بعد وقت يراه- قد-يكفي لتنسى القلوب وتبترد القبور.

يعتذرون.. فمن يقبل؟