دون أن يراها أحد


1-

تصف الروائية الامريكية “فرجينيا وولف” من تكتب كمن تسير في حجرة مظلمة ممسكة بمصباح يضيء ما هو موجود في الحجرة بالفعل.

تشعر “مارجريت لورانس” عندما تكتب أنها يعقوب يصارع ملكه في الظلام وهو فعل يجتمع فيه الجرح والسباب والمباركة في آن واحد.

الشاعرة “ايميلي ديكنسون “، الفريدة في رؤاها العميقة والتي غيرت مسار الشعر الامريكي، كانت توصي اختها “لافينيا” بحرق اوراقها، بالرغم من استمرارها في الكتابة في سنواتها الاخيرة، وكل ما نشرته في حياتها لا يتعدى دزينة من القصائد، وبعد رحيلها اكتشفت شقيقتها ما يقارب ألف وثمانمئة قصيدة تنتظر ان يراها أحد:

” لا اسمع أبدا كلمة ” هروب”،
دون أن يفور دمي،
ويراودني تنبؤ فجائي،
وأجنحة تطير بي إلى بعيد

ما أن سمعت ُ أن جنودا،
قد حطموا سجنا ما،
إلا وقمت كالطفل بعض ّ قضباني،
فأسقط مرة أخرى!

2-

الكتابة فعل اختراق للصمت واكتشاف للذات في آن، ذاكرة ننصت للحياة من خلالها وونرصف السطور بحروف لا تنشغل الا بحوافها الصعبة وأسئلتها النادرة، حرية لا تحد، الزمان والمكان مكونان يتقاطعان ويؤثران عمقياً في أتون الموهبة، لكنهما لا يحكمان تلك الجذوة المتقدة بجرأة الكلمات وجنة الرؤى، فهي دائمة البحث عن مكان يتسع لأقاصي حريتها، وزمان يحتمل آفاق رؤيتها، الكتابة وهي تكتشف مغاوير الذات الانسانية وهمومها، تجتهد لتتقن نحتها بفرادة تدوم على الورق.

الكتابة دوماً تعبر عما يتوافد في اعماقنا من اسئلة وحوار دائم، وعما يتدافع نحونا من تجارب حياتية مكتومة بمقاديرها، عندما نكتب تتقدم تلك الاعتمالات الفكرية والفلسفية بتلقائية وتندغم في صور شعرية تتراكض نحو نهب المنتهى، ثمة تجربة شعرية تتخلق بذخائرها التي احتدت وهي تصطك في اعماق أرواحنا قبل ان ترى نور البياض.

شاعرية التأمل طريقة لاستعادة الروح لاتزانها وسكونها بعيداً عن ضجيج العالم، للعزلة بمعنى الانفراد بالروح ضرورة بالغة لتشريف الشعر لضيافة الورق، بطبعنا نحب الهدوء والصمت، الشعر يزيد من توقنا لمشاغله الذات ومحاورتها، سواء عبر الكتابة أو خارج الكتابة، ثمة عناية فائقة لترتيب المكان ليبدو أكثر ليلاً، لتهيئة الروح لتغدو اشد اشتعالاً.

الكتابة كالهواء.

كالحياة لا نشعر بصعوبة ينوعها على الأرض وهي تبدع الحدائق والغابات والأنهار والجبال العصية على التحديق، الحرف وهو يتقد على الورق لا يقل عن الفحم الذي تبلر في غوامض مناجم الروح ليضيء كالألماس واهب الرؤى.

عند الكتابة ثمة استعداد فطري يحرض المخيلة لتمد اليد بما تستهويه الروح من كلمات قادرة على تجسيد الحالة النفسية لتتخلل الصورة الشعرية بنشيج الخفايا، وتلعب القراءة – بمعنى محاذاة ابداع الآخر كتابة أو تعبيراً فنياً كتشكيل اللوحة أو هيام الموسيقى نعمة الاستغراق في تقصي الدلالات الإبداعية – دوراً في شحذ المخيلة ومدها بمعين لا ينضب من الصور الفنية والعلائق التأويلية لإثراء اللغة، وهذا ما نطمح لتحقيقه، لئلا ننساق لنمطية اللغة التعبيرية ومراودة ذات الكلمات.

كذلك تشكل الحياة شلالاً من الدفق التصويري يسعف المخيلة التي لا تنسى أن تخزن كل ما نتعرض له من ملمات لتتحول على الورق إلى كلمات تشكل طريقاً آخر أقل تعثراً وحياة أخيرة أكثر رحمة وحنواً.

من الأوهام التي عمت تجربة الشعر العربي بالتحديد خضوعها لدرامية الثنائيات التي لا تنتهي، من الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الشكل والمضمون، إلى آخر القائمة، وذلك لتفنيد الشعراء كل حسب خانة النقد، في حين تصوغ الرؤية الشعرية جماليات النص الأدبي بمعزل عن هذه التعارضات.

الكتابة لغة تعبيرية عن طريقها يتصل الكاتب بذاته ليتعرف على ما يضنيه ، لذا تتخلق الصورة الشعرية بمعزل عن وهم التضاد بين ( الخاص و العام ) لكونها تجسد ما يفيض في أعماق الشاعر من ألم التكوين و تعبر عن حساسية اتصاله بعالم شرس لا يُحتمل لما يشتعل فيه من هوى التدمير ، لذا لا لتعسف الفصل بين ( الذات و العالم ) هناك التحام بين الشاعر و الحياة لا مفر منه لتخلق الشعر ، الحديث هنا يطال الإبداع لا النظم أو التدوين .تتجسد هذه المعاناة في رؤية شعرية عندما تتجمر بالفعل في ذات الشاعر ، لا عندما يتم تصنع حضورها ، حينها يسقط الشعر و تظل الحروف بلا روح على الورق. للكتابة ضوء خفيف لا يراه الا من يرى التماع الروح في دمعة الوحيد.

3-

لها

لوردة النهر، كبرياء الكتابة

موهبة أضاءت وميض إاحتضارها

وأتقنت إيلام إمرأة إعتادت صمت إنتحارها

إلى حد،

يخجل الموت منه

تعجز الحياة عنه

وينحني له الحبر.