(1)
“نعلمُ أنّ الرجل الأبيضَ لا يفهم طريقتنا في العيش، وايُّ جزءٍ من هذه الأرض هو بالنسبةِ له كأيِ جزءٍ آخر، لأنهُ أجنبيُّ، يجيءُ في الليل ويأخذُ من الأرضِ كلّ ما يحتاجُهُ. الأرضُ ليستْ أختهُ انما عدوه بعد أنْ يفتتحها فإنّهُ يُتابعُ طريقهُ. يتركُ قبورَ أجداده خلْفهُ، وهي لا تعني لهُ شيئاً. يسرقُ الأرضَ من أولادِهِ ولا يهتمُّ بذلك. قبرُ والده وحقوقُ أولاده منسيّةُ. يُعاملُ أُمّهُ الأرضَ وأخاهُ السماء كأشياء يستطيعُ الإنسانُ أنْ يشتريَها، يسلبها، يبيعها كغنمٍ أو كلآلئ لامعةٍ.
جوعُهُ سوف يلتهمُ الأرضَ ويتركُ وراءهُ صحراءً. لا أدري، طبيعتنُا هي غير طبيعتكم.”
الزعيم الهندي الأحمر “سياتل”
(2)
في عام 1854 عرض قائد “البيض الكبير”، في واشنطن صفقة مدمرة، مهينة لشراء أراضي الهنود الحمر، بعد أن وعدهم بأرض بديلة عن أراضيهم، كان رد الزعيم “سياتل” بالغاً، ومعبراً عن سيرة شعب ارتوى الحكمة من هذه الأرض، اكتشف معنى القداسة من حرية السماء، لم يكن رداً، بل سرداً فلسفياً عميقاً لمعنى الأرض، والنهر، والحيوان، والزرع، احتفر “سياتل” دفاعاً عن كل شيء له أن يحيا، كما يراه، ولا يستحق الحياة كما يراه القائد الأمريكي.
و انا أقرا نص الرسالة الحكيمة، المشمولة بمنظور رؤيوي رصين، يكسو الزمان والمكان، بل كل الوقت، ليأتينا محملاً بنهب مصائرنا كلها، كنت أحدق في كل حرف، لأرى مدى نزوعها الحدسي نحو ما نحياه الآن، لأتعرف على طبيعة المحتوى الرسالي بقيمته التحذيرية لنا، أولاً، قبل أن تكون للمحتل الأمريكي، لا خلاف على تاريخ الجرائم اللاإنسانية الزاخرة بها سيرة العنف الأمريكي، من تدمير فعلي للأرض والسماء والإنسان، لكن الخطاب الحكيم يجتاز مسافات فلسفية وفكرية، تشي بطبقات معرفية لا تتأسس على تحليل العدوان البشع وحده، بل تتجاوز ذلك، لتسبر أغوارها في طبيعة البشر، في سعيهم الدائب نحو الهلاك بأيديهم، هلاك الذات الذي يتعالى بنهج الطغيان المدمر.
الإدانة تتعدى قادة العنف، لتتصل بأصغر شأن تدميري، يحتمل بذرة العنف، الكل مدان بتيسير هذا النهج المخرب للحياة.
كان الهنود الحمر، وهم يؤسسون لحضارة تحترم معنى الحياة، يدركون حجم الأذى الذي يتضاعف عند اهمال تلك البذرة، كانوا يحرمون العبث بأصغر تكوين يحيا، من كسر الغصن حتى ايذاء التراب: “كل إبرة صنوبر لامعة، كل شاطئ رملي، كل ضبابة في الغابات المظلمة، كل حشرة تطفر أو تطن، مقدسة في ذاكرة شعبي وخبرته. النسغ الجاري في الأشجار يحمل ذاكرة الإنسان الأحمر… نحن جزء من الأرض وهي جزء منا. الزهرات العطرات شقيقاتنا؛ الأيِّل، الحصان، العقاب الكبير، كلُّهم أشقاؤنا. الذرى الصخرية، دَرُّ المروج، حرارة جسم المُهْر، والإنسان – كلهم ينتمون إلى الأسرة عينها.”
(3)
هذا ما حدث، منذ بدء الخليقة حتى الآن، مذ أن بدأ البشر شراكة الشر عهد القتل الطاغي على كل شيء، كل حجر يئن، كل وريد يشظى، كان بفعل تأسيس نهج التدمير، طغيان قسوة الذات تجاه ما عداها، محق الحياة على أقل تقدير.
ليست العراق وأرضها الذبيحة التي تباع وهي تذرف الدم، ولا ما تبقى من أرض العرب، ألا مشهداً صغيرا مما يحدث على هذا الكوكب المبتلى بدمار لا يتأخر، لكن السؤال: من أين لنا بصوت حكيم جارح، كصوت الزعيم “سياتل”، ليلقن “المحتل” الدرس الذي لا تغيب عنه شمس الحقيقة أبداً:
“إنني إنسانُ بريُّ ولا أفهمُ كيف يكونُ الحصانُ الحديديُّ النافثُ للدخانِ أهمَّ من الثور الذي نقتلُهُ لنستطيعَ أن نظلَّ أحياءَ. لأنَّ ما يجري للحيوانات، يجري للبشر بعد وقتٍ قصيرٍ. كلُّ الأشياء مترابطةُ ببعضها. يجبُ أن تعلموا أولادكم أن سطح الأرض تحت أقدامهم هو رمادُ أجدادنا، كي يحترموا هذه الأرض، احكوا لأولادكم أن الأرضَ ممتلئةُ بحياة أسلافنا. علموا أولادكم ما علّمناهُ أولادنا، أنَّ الأرضَ هي أمُّنا. كلُّ ما يحدثُ للأرضِ يحدثُ للذين سيأتون الى الأرضِ.”
(4)
هكذا تشكلت لديهم منظومة قيمية، ومفاهيمية، سرت في دماء أحفادهم حتى الآن، ففى “أوكلاهوما” و”أريزونا” و”نيوماكسيكو” وغيرها من الولايات، يسعى أحفادهم لإنارة الفهم البشري بتعاليم أسلافهم التي تحلق في رؤاهم دوماً.
بعد أكثر من أربعة قرون، أيلول 2003 في مدينة “سانتا فيه”، عاصمة ولاية “نيومكسيكو”، بدأ المعرض الفني” غاليري ميدسين مان” المتحف المعبر عن ابداع الهنود الحمر، حيث تحدث الفنان “مارك سابليت” صاحب الغاليري:
“بدأ الفن المعاصر يأخذ ملامح الجدية والمنافسة في أعمال الفنان “توني آبيتا”، وفي
فخاريات “راسيل سانشيز” أيضا. لقد استشرف الفنانون الشباب رموز القبيلة، الدينية منها والعقائدية والثقافية، في رؤيا فنية وإسقاط مستحدث”. “وفي حقيقة الأمر يعتبر إشراك عناصر التاريخ والطبيعة، وشخصيات الميثولوجيا من الموروث الثقافي، أهم ما يميز فن الأميركيين الأصليين الحداثي عن الفن الأميركي بعامة في القرن العشرين.”
(5)
“نعرفُ ما الذي سوف يقوله الرجلُ الأبيض ذات يوم: ربّنا هو نفس الربٍّ، والآن تعتقدون أنكم تستطيعون أن تمتلكوه تماماً كما أردتم امتلاكَ أرضنا. لكن لا تستطيعون ذلك. انهُ ربُّ البشر وشفقتُهُ هي نفسها للرجل الأحمر كما للأبيض.
إنّ هذه الأرض ثمينةُ لديه والإساءةُ لها تعني تقدير خالقها تقديراً قليلاً. البيضُ أيضاً لسوف ينتهون، لربّما أسرعَ من كلٍّ الأعراقِ الأُخرى. فلتتابعوا تلويثَ سريركم، وذاتَ ليلةٍ لسوف تختنقون في وسخكم نفسه.
وحين هلاككم لسوفً تبرقون محترقين بقوّة الربّ الذي جاءَ بكم الى هذه الأرضِ لغايةٍ مقررة وأعطاكم السيادةَ عليها وعلى الرجل الأحمر. إنّ هذا المصير لغزُ لنا، فنحنُ لا نفهمُ:
الثيرانُ ذُبحتْ كلُّها، الأحصنةُ البريّةُ مدجّنةُ، الحياةُ الغابيّةُ هامدةُ، مضغوطة بروائح البشر الكثيرين ومنظرُ التلِّ الرائع مخرّبُ بالأسلاكِ والكوابل أين هي الأجمةُ؟؟
اختفتْ. أين هو النسرُ؟؟ اختفى.
هذه هي نهايةُ الحياة وبدايةُ – البقاء على قيدِ الحياة.”