قراءة في مقطعين من قصيدة: ” وطن يزهو في القلب”
للشاعرة فوزية السندي
مبارك حامدي/باحث من تونس
من فضول القول التذكير بأن الحركة الشعرية البحرينية واحدة من أهم الحركات الشعرية العربية الحديثة سواء نظرنا إليها من جهة الزخم الذي تجسد في كثرة المبدعين في هذا الصقع من الوطن العربي الكبير أو من جهة عمق التجارب الفنية وتراثها، فضلا عن العراقة التي اتسمت بها مقارنة بمثيلاتها العربيات، ولعل ذلك يعود، في بعض ما يعود، إلى استناد شعراء البحرين إلى تراث شعري متصل… ويكفي أن تصفح بسيط لكتاب الدكتور علي الهاشمي: شعراء البحرين المعاصرون للتأكد مما نذهب إليه…. ولنا في تجربة الشاعرة القديرة فوزية السندي دليل قوي آخر… هذه الشاعرة التي انعقد ما بينها وبين الشعر منذالسبعينات، وسنحاول في هذا الحيز المحدود تقديم قراءة لمقطعين من قصيدة لها بعنوان: وطن يزهو في القلب، وقد وردت ضمن مجموعتها الشعرية الأولى ” استفاقات ” الصادر سنة 1984.
النص
وطن يزهو في القلب
حبيبي،
يا هذا الزهر الشوكي النابت في قلبي
في ليل يحترف الحزن
وطن يحترف العزف على أجساد الموتى
غبار الهم النازف على أجساد الموتى
غبار الهم النازف من جسدي
يا وشما محفورا كإله الخصب على الدم
يا وطني،
هذي الأرض الحبلى العطشى
المحمولة ختما في ذيل مماليك الوقت
تكاد تسمى وطني
أتحترق الدهشة في هذا الموال المأخوذ بسحر
الكلمات
دفء الجلسات
أتحترق الدهشة
وجه حبيبي حلم لاهث
عشق يجتاز ممرات الوهم المفزع
يبحث عن وقت يثمر نهر الدم
ربّ يعطي الشجر الظامئ
دفء يمتدّ ليحتضن العشاق
في وطن جلاد
يغتال حنين الشعراء لصوت الماء.
يتعالق في هذين المقطعين – كما في سائر القصيدة – الهمّ الذاتي بالهمّ الجماعي فتتعانق الشكوى من الحبيب والشكوى من الوطن في قلب الشاعرة عناقا قاتلا ، وقد خيبت الشاعرة انتظار المتلقين بعد أن وسمت القصيدة بعنوان يستدعي الفرح والنشاط إلى البهجة: وطن يزهو في القلب، وتوسّلت الاستعارة سبيلا إلى الإيقاع بهم ( أي بالمتلقين ) . كما عدلت عن مألوف الشعراء و ذائقة القراء، فتسامت بجلال القصيدة عن معاني العشق والصبابة والشوق إلى الحبيب، ولعل في الإخراج الطباعي بعض ما يمكن أن ينهض دليلا على ما نذهب إليه ، إذ جمعت الشاعرة لفظ ( حبيبي ) في سطر شعري قائم بنفسه حتى إذا حلق القارئ معتمدا على ما اعتاد من معان نزل من شاهق أوهامه على زهر شوكي نابت في القلب. فبعد اللغة الهامسة تقريبا باسم الحبيب بدون أداة نداء ، انقلب الهمس صراخا من بعيد ( يا هذا ) غير أنه صراخ تلتبس فيه اللذة بالألم والحب بضده ، إذ هو زهر ولكنه شوكي ومحله القلب كناية عن شدة الألم ، وزمانه الليل ولكنه ليس الليل المتواطئ مع العشاق بظلمته ولكنه ليل أليل يحترف الحزن ، وقد تفننت الشعرة في تصوير هذا الحزن المجلل للقصيدة فغلبت على المقطع الأول ثلاثة معاجم تلتقي جميعها في رسم معاني الحزن والألم والموت ، وهي : – معجم الموت : الموتى x 2 ، الدم
معجم الحزن : الحزن ، الهم x 2
معجم الألم : شوك نابت في القلب ، نازف x 2 ، محفور على الدم
ومما يلفت الانتباه أن الشاعرة قد نسبت إلى الحبيب أفعالا تتسم بالعنف والسادّية ( نابت في القلب / وشم محفور على الدم ) فكان النفس اتهاميا صداميا عنيفا وقد عمق المستوى التركيبي هذا الاختبار الدلالي اذ وظفت أداة النداء ( يا ) الدالة على البعد وهو هنا بعد نفسي إضافة، إلى إسقاط المنادى الموصوف ( الحبيب ) والاستعاضة عنه بالصفة ( يا وشما ) .
وبانتقالنا إلى المقطع الثاني ننتقل مع الشاعرة إلى منادى جديد هو الوطن وقد وقع الإعلان منذ البداية عن القطيعة بين الشاعرة وبين الوطن ( يا وطني ) غير أن هذه القطيعة هي قطيعة ملتبسة مترددة … مجافية وحانية في الآن ذاته إذ تسترد الشاعرة بياء النسبة ما دفعته بياء النداء مما جعل الوطن قريبا بعيدا و بعيدا قريبا في الآن ذاته ( يا وطني ) …
وقد راكمت الشاعرة الأوصاف الموصولة بالوطن في عرض هجائي يكشف عن تبرم به وتبرؤ منه، فهو ( أرض حبلى عطشى / محمولة ختما من ذيل مماليك الوقت / شجر ظامئ / وطن جلاّد … )
وتنتظم هذه الأوصاف الهجائية حول معنيين هما معنى القسوة ومعنى الحرمان ومنه مفهوم العطش ( عطشى / لاهث / ظامئ ) بكل ما يحويه غياب الماء من انعدام للحياة ، ولم يذكر الماء أو إحدى متعلقاته إلا معدولا به أو للإشارة إلى فقدانه (نهر دم/الغيم/ حنين لصوت الماء..)
هكذا يتضح أن الوطن الذي تتبرأ منه الشاعرة هو وطن مصادر لحساب المماليك عدوّ للحلم والحب ..
وخلاصة القول فإن هذه القصيدة – فضلا عن المقطعين اللذين حللنا- تتسم بتفجر عواطف الشاعرة وعنف المواجهة بينها وبين العالم ، وقد تجسّد ذلك في مستوى المعجم والإيقاع على وجه الخصوص وقد يعزى ذلك إلى أن هذه القصيدة تنتمي إلى فتوة التجربة وفتوة الشاعرة زمن الكتابة، فضلا عن أن شعراء الحداثة قد درجوا على التمرد وانتهاك الطواطم.