“خلق جرحه في هذه الطبيعة الصخرية
وادياً للموت تحت سماء جامدة
وجهه الذي كان يتجه نحو زجاج النوافذ
تألق بهذه الأشجار العتيقة حيث الموت.”
إيف بونفوا
في دراسة خطها الناقد ”جان ستار وبنسكي” يستضئي القارئ بالتعرف على ملامح رؤيا بونفوا الشعرية، مكاشفة نقدية تستوقفك بعنف بالغ لا لكونها تستشف طبيعة الكتابة المذهلة لشاعرنا، لكن لكونها تحاور بداهات أودعتنا إياها تجربة الشعرية السوريالية حول الكلمات وتحديها للعالم دون أن يتعرض لنقضها أحد، “إيف بونفوا” اكتشف بصمت سر الكتابة، استطاع مساءلة العالم فأبلغ كلماته لتفضح السر، متفرداً بنصه عارض بشدة المبالغة في تغييب الأرض ـ الواقع ـ لصالح ـ ما وراء الواقع ـ أنتقد ذلك التحريض العبثي الذي احتمل تجارب شعرية وفنية يحتل فيها الإدهاش اللغوي محل الإحساس الإبداعي بالشعرية، ليكتب كل حاو قادر على رسم لغو ما، يتشبه بالحلم.. بلا روح وبلا موهبة أيضاً، كتابة وفية للذهن لا للذاكرة، تصاوير تسرف في فيض جفاف الصور، دون محاذاة لتجربة إنسانية ممسوسة بنبال الآخر، شرفة تعري العالم إذ تكاشف شروره البليغة.
“مواجهة” أنبل تعبير يسترعي فتنة العقل وملائكية المخيلة، عند الحديث عن زرقة حبر تتشكل بحرية الحرف بحراً لدى “إيف بونفوا” فهو شاعر ينبثق من ألم خاص يعتريه تجاه الأرض، رؤى تسحنها الروح، لذا يتحمل ما يلقاه منها ليواجه المصير بذات السلاح الذي وهبته الحياة: جسده: شعراً وقولاً نقدياً ونبضاً أبدياً.. هكذا يعترف:” لكن حياة الفكر لا ترتعب أبداً أمام الموت، وليست تلك التي تَعْرى منه، إنها الحياة التي تتحمله، وتستمر فيه”.
“مارس بونفوا، فترة شبابه، الرياضيات وتاريخ العلوم والمنطق، لهذا يعرف بالخبرة جاذبية الفكر التجريدي والفرح الذي يمكن أن يعيشه الفكر في بناء صرح المفهومات والعلاقات المحضة. لكنه كمثل “باشلار”، وقد اقتدى بإرشاده العلمي، يدرك أن دقة المعرفة تقتضي التضحية بالبداهات المباشرة، وإنه لا يقدر أن يكتفي بذلك، بل يحس بالحاجة إلى واقع بسيط، مليء يحمل معنى إلى الأرض”.
شاعر يمتلك ناصية القول بالتحام مخيف وعناصر الحياة كلها، حيث تتحول تفاصيل المأوى، العائلة، الحب، الغابة، السحابة، لشعر يترجم لوعة فقده وسهاد وحشته:
“أيتها الحجرة الرمادية، إن كان لك حقاً لون الدم،
تحركي بهذا الدم الذي يخترقك،
افتحي مرفأ صراخك، لأجيء فيك إليه،
هو الذي يتصنع النوم ورأسه مغلق عليك”.
بعد هذا المشهد الشفيف، يكتب “ونفوا” ليحذرنا من خطورة الارتهان للغة لا تتصل بمهمة الكشف. تمضي وحدها دون دليل جسد يفضح علاقتها المفعمة وغرور العالم، كما يدلل عن “الخطر المرتبط بممارسة اللغة حين تختار بغطرسة كمالها المستقل الخاص، منفصمه عن العالم، وبخاصة عن الآخر، وهذا ما أشار إليه غالباً هو نفسه، وأهتم به شراحه، بدءاً من “موريس بلانشو”، اهتماماً يكفي لكي نطور من جديد جميع الأدلة التي يسلح بها “بونفوا” تحذيراته ضد الإغراءات التي يمكن أن تحيد البحث عن “المكان الحقيقي” والتي قد تأسرنا في شباكها”.
اعترض بونفوا على “التجميد الشقي” لصالح العالم الآخر أو الإغواء الغنوصي المتمثل ب” الماوراء” “الفصل خطيئة: وهي الخطيئة التي يرتكبها “نظامو الكلمات” حين يهجرون “الواقعي” أو الوجود من أجل المفهومات، حين ينحرف الحلم نحو البعيد، حين تتفوق الصورة في مجدها على حضور الأشياء البسيط، حين ينعزل الكتاب أو العمل في كمالها المغلق على حده، في نقاء بنيتهما التجريدي، إن في اللغة قدرة قاتلة حين تحجب الواقع واضعة مكانه الصورة، الإنعاش غير الجوهري. يجب آنذاك أن ترد إلى الصمت.”
ثمة تجاهل حقيقي لعذابات الإحساس بالعالم، بالغ في سرده تغريب سوريالي جلته بعض التجارب الشعرية لتصطدم بمأوى العبث، ليتعالى الشعر بشأن هجر الواقع ويخضع لاستبداد هذيان لا كابح له، تنامى فيما بعد في حركة الشعر العربي دون الاحتكام لأية مسافة نقدية تذكر.. باستثناء بعض التجارب المؤصلة بفرادة الموهبة.
هنا لابد من توضيح التباس قد يقع كلما صار الحديث عن “الواقع ”باعتباره مصطلحاً إشكالياً رافق الإخلاف الإبداعي طويلاً في تجربة الأدب العربي وللأسف لم تزل، حتماً الحديث هنا غير معني بمفهومات الواقعية الاشتراكية ولا سذاجة المنابزة التي احتدمت حول الغموض أو الكتابة للشعب والشارع، لكنه يتعلق بطبيعة الرؤيا الشعرية وتماسها مع الحياة بشمولية وحساسية إنسانية تفوق الاحتمال، التجربة السوريالية ذاتها خضعت لكتابات فنيه اختلفت في فهمها لعلاقة المبدع بالحياة، وفقاً لطبيعة تماس كل فنان – بحرية بالغة- وعناصر العالم، منهم من استهوته لعبة الكلمات وإستيهامات المخيلة الخاضعة لسريان العقار الفكري أو الكيميائي المضاد لصحوة الجسد، ومنهم من أستطاع تخليق عالمه الإبداعي مستنيراً بتجربة جسدية استنفذت ذاتها ضد مخالب العالم، مرتكبة فتوحات نقدية وإجتهادات رؤيويه عبر عنها رواد التجديد ضمن الحلم السوريالي، “المشروع الذي عبر عنه بونفوا مراراً هو “جلاء” بضع من الكلمات “التي تساعد على الحياة”، كما كتب: ”إن عالم هذه الكلمات لا بنية له في الواقع إلا عبرنا، نحن الذين بنيناه من الصلصال والرمل الذين أخذناهما من الخارج”.
مكابدة الشعر بقربه تستهوي الغافل لا المتيقن من تأويل الألم، لأنه ببساطة يلاغى مخلوقات الحياة البكماء، يمتهن دور العراف إذ ينبئ بعتبات المعنى ويسرد ليل الجرح:
“الطائر الذي تخلص من كونه الفينيق
يسكن وحيداً في الشجرة حتى يموت
تغطى بليل الجرح
لا يحس بالسيف الذي يخترق قلبه”.
هنالك فرق بين قراءة نماذج لا تفي بحرية شاعر مثل “إيف بونفوا” والعودة لسجل حافل بالكلمات: ضد أفلاطون، دوف، حركة وثباتاً، سائدة أمس الصحراء، حجر مكتوب، في خديعة العتبة.
هل أكتب لأتوصى بشهادة كلمات أوصانا بها تراث الجسد الذي يبدو حياً أمام هجمة الجهل أم لأستدرك فن الصمت: صوت الليل، لا أعرف…؟
صوت
“كنت أتعهد ناراً في الليل الأكثر بساطة،
وأستخدم وفقاً للنار كلمات نقية
كنت أسهر قدراً، صافياً وبقدر معتم
على الفتاة الأقل اضطرابا في شاطئ الجدران
كان لدي قليل من الوقت لكي أفهم ولكي أكون،
كنت الظل، وكنت أحب أن أحرس البيت،
وكنت أنتظر وكنت صبر القاعات،
وأعرف أن النار لم تكن تشتعل عبثاً”.